المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النّجم سورة النّجم مكّيّة، وهي ألف وأربعمائة وخمسة أحرف، وثلاثمائة - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٦

[أبو بكر الحداد]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمّد صلى الله عليه وسلم

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذّاريات

- ‌سورة الطّور

- ‌سورة النّجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصّفّ

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التّغابن

- ‌سورة الطّلاق

- ‌سورة التّحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة ن (القلم)

- ‌سورة الحاقّة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجنّ

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثّر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الدّهر

- ‌سورة والمرسلات

- ‌سورة النّبأ

- ‌سورة النّازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة انشقّت (الانشقاق)

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطّارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشّمس

- ‌سورة اللّيل

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌سورة والتّين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة (القدر)

- ‌سورة لم يكن

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التّكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة (الكافرون)

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة تبّت (المسد)

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

الفصل: ‌ ‌سورة النّجم سورة النّجم مكّيّة، وهي ألف وأربعمائة وخمسة أحرف، وثلاثمائة

‌سورة النّجم

سورة النّجم مكّيّة، وهي ألف وأربعمائة وخمسة أحرف، وثلاثمائة وستّون كلمة، واثنان وستّون آية.

قال صلى الله عليه وسلم: [من قرأ سورة النّجم، فله من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بمحمّد صلى الله عليه وسلم وكذب به]

(1)

.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} (1)؛اختلفوا في القسم الذي في أوّل هذه السّورة، وقال بعضهم-وهو الأظهر-:أنّ النجم اسم جنس أريد به النّجوم كلّها إذا هوت للأفول.

فائدة القسم بها ما فيها من الدلالة على وحدانيّة الله تعالى؛ لأنه لا يملك طلوعها وغروبها إلاّ الله عز وجل، فالقسم قسم بربها. وجواب القسم:{ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى} (4) يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي ما ضلّ عن طريق الهدى وعن الصّواب فيما يؤدّيه عن الله تعالى.

وعن مجاهد: (أنّه أراد بالنّجم الثّريّا إذا سقطت وغابت)

(2)

،والعرب تسمّي الثّريا نجما وإن كانت في العدد نجوما، قال أبو بكر الدينوري:(هي سبعة أنجم، فستّة ظاهرة، وواحد منها خفيّ يمتحن النّاس فيه أبصارهم).

(1)

ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 431 من غير إسناد. وأصله عند الثعلبي كما في الكشف والبيان: ج 9 ص 134.وابن مردويه والواحدي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، وإسناده لا يصح.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25090).

ص: 133

وقال الضحّاك: (معناه: والقرآن إذا نزل ثلاث آيات أو أربع آيات وسورة، كان أوّل القرآن وآخره ثلاث وعشرين سنة، أقسم الله بالقرآن إذ نزل نجوما متفرّقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذلك: أنّ كفّار مكّة قالوا: إنّ محمّدا يقول القرآن من تلقاء نفسه، فأقسم الله بالقرآن ونزوله نجما بعد نجم، أنّ محمّدا لم ينطق إلاّ عن وحي يوحى، وإنه لم ينطق به من هوى نفسه.

وقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى} (5)؛يعني جبريل عليه السلام هو شديد البنية والخلقة، ومن قوّة جبريل: أنه أدخل جناحه تحت قريات قوم لوط فقلعها من الماء الأسود ورفعها إلى السّماء، ثم قلبها فأقبلت تهوي من السّماء إلى الأرض، وكان من شدّته أيضا أنه أبصر إبليس وهو يكلّم عيسى عليه السلام على بعض أعتاب الأرض المقدّسة، فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وكان من شدّته أيضا أنه أهلك بصيحته ثمود فأصبحوا جاثمين.

قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى} (6)؛أي جبريل عليه السلام ذو قوّة وشدّة في خلقه. وقيل: ذو منظر حسن، قال قطرب:(يقول العرب لكلّ جزل الرّأي حصيف العقل: ذو مرّة).قال الشاعر:

قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة

عندي لكلّ مخاصم ميزانه

وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله إنّ الله تعالى ائتمنه على تبليغ وحيه إلى جميع رسله.

وقوله تعالى {(فَاسْتَوى)} يعني جبريل، وقيل: المعنى: (ذو مرّة) أي ذو مرور في الجوّ منحدر أو صاعد على السّرعة. وقوله تعالى (فاستوى) أي فانتصب واقعا على صورة الملائكة التي خلقه الله عليها، فرآه النبيّ صلى الله عليه وسلم منتصبا في السّماء بعد أن كان مسرعا، فاستوى في أفق المشرق في رأي العين، كما روي في الحديث: [أنّه طبق الأفق

ص: 134

كلّه بكلكله، له ستّمائة جناح فيها ألوان زاهرة، وتتنافر منه الدّرر]

(1)

.

وذلك قوله تعالى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى} (7)؛يعني جانب المشرق وهو فوق جانب المغرب.

قوله تعالى: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى} (8)؛أي دنا جبريل عليه السلام بعد استوائه بالأفق الأعلى،

{فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} (9)،قال المفسّرون: وذلك أنّ جبريل كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميّين، فسأله النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فأراه نفسه مرّتين، مرّة في الأرض ومرة في السّماء.

فأمّا في الأرض ففي الأفق الأعلى، يعني أفق المشرق، وذلك أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مغشيّا عليه، فنزل جبريل عليه السلام في صورة الآدميّين وضمّه إلى نفسه، وهو قوله {(ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى)} أي قرب بعد بعده وعلوّه في الأفق الأعلى.

والمعنى: نزل جبريل عليه السلام بعد استوائه، فدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدلّى اليه بأن نكّس رأسه فرآه النبيّ صلى الله عليه وسلم متدلّيا كما رآه منتصبا حتى بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم قدر قاب قوسين من قسيّ العرب أو أدنى، معناه: وأقرب في رأي العين.

قال الزجّاج: (كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين، وإنّما خصّ القوس في الآية؛ لأنّ مقدارها في الأغلب لا يتفاوت بزيادة ولا نقصان).ويقال: إنّ المراد بالقوس هنا الذراع، وسمي الذراع قوسا لأنه تقاس به الأشياء، قال ابن مسعود:

(معناه: فكان قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين)

(2)

.

وأما دخول (أو) ههنا في قوله: (أو أدنى) معناه: أو أدنى فيما تقدّرون أنتم والله تعالى عالم بمقادير الأشياء، ولكنّه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (25133).وفي الدر المنثور: ج 7 ص 644؛ قال السيوطي: (أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود) وذكره.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25115).

ص: 135

ومعنى قوله تعالى {(قابَ قَوْسَيْنِ)} أي قدر قوسين، يقال {(قابَ قَوْسَيْنِ)} وقيب قوسين وقيد قوسين، كلّ بمعنى واحد. والتّدلّي في اللغة: هو الامتداد إلى جهة الأسفل، ومنه تدلّى القبر، ومنه إدلاء الدّلو وهو إرسالها في البئر.

ومن الدليل على أنّ المراد بشديد القوى جبريل عليه السلام، قوله تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}

(1)

{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}

(2)

وهو مطلع الشّمس.

قوله تعالى: {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى} (10)؛أي فأوحى جبريل عليه السلام إلى عبد الله محمّد صلى الله عليه وسلم ما أمره الله أن يوحيه إليه، ويجوز أن يكون معناه: فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، قال سعيد بن جبير: (أوحي إليه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى} .

{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى .. } . إلى قوله تعالى {وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ}

(3)

).وقيل: أوحى إليه (أنّ الجنّة محرّمة على الأنبياء حتّى تدخلها، وعلى الأمم حتّى تدخلها أمّتك)

(4)

.

قوله تعالى: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} (11)؛أي ما كذب فؤاد محمّد صلى الله عليه وسلم فيما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، ومن عجائب السّماوات؛ يك قبل القلب ذلك

(5)

،وأيقن أنّ ما رآه حقّ، كما هو لم يشكّ فيه ولا أنكره ولم يعتقد عن تخيّل ولا أخبر عن توهّم. وقرأ الحسن وأبو جعفر وقتادة وابن عامر:«(ما كذّب الفؤاد)» بالتشديد؛ أي ما كذّب قلب محمّد ما رأى بعينه تلك الليلة، بل صدّقه وحقّقه.

وقيل: هذا إخبار عن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ربّه! قال ابن عبّاس: (رأى محمّد ربّه بفؤاده ولم يره بعينه، ويكون ذلك على أنّ الله جعل بصره في فؤاده أو

(1)

التكوير 19/-20.

(2)

التكوير 23/.

(3)

الانشراح 4/.

(4)

ذكره الثعلبي في الكشف والبيان: ج 9 ص 139.

(5)

هكذا العبارة في المخطوط، وهي مضطربة غير واضحة. وحاولت أن أقربها من معنى يفيده رسم الحرف.

ص: 136

خلق لفؤاده بصرا حتّى رأى ربّه رؤية غير كاذبة كما يرى بالعين)

(1)

.وقال عكرمة:

(إنّه رأى ربّه بعينه!) وكان يحلف بالله لقد رأى محمّد ربّه.

ومذهب ابن مسعود وعائشة في هذه الآية: (أنّه رأى جبريل في صورته الّتي خلق عليها).والفؤاد دعاء القلب، فما ارتياب الفؤاد فيما رأى الأصل وهو القلب.

قوله تعالى: {أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى} (12)؛من آيات الله، قرأ عليّ وابن مسعود وابن عبّاس وعائشة ومسروق والنخعيّ وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب:

(أفتمرونه) بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه، تقول العرب: مريت الرّجل حقّه إذا جحدته.

وقرأ سعيد بن جبير وطلحة وابن مصرف «(أفتمرونه)» بضمّ التاء من غير ألف؛ أي تشكّكونه. وقرأ الباقون «(أفتمارونه)» أي أفتجادلونه. وفي الحديث: [لا تماروا في القرآن، فإنّ المراء فيه كفر]

(2)

.

وعن الشعبيّ عن عبد الله بن الحارث قال: (اجتمع ابن عبّاس وكعب، فقال ابن عبّاس: أمّا نحن بنو هاشم فتقول: إنّ محمّدا رأى ربّه عز وجل مرّتين، وقال ابن عبّاس: أتعجبون أن تكون الخلّة لإبراهيم والكلام لموسى والرّؤية لمحمّد صلى الله عليه وسلم.

وقال الشعبيّ: (فأخبرني مسروق أنّه قال لعائشة: يا أمّاه؛ هل رأى محمّد ربّه عز وجل قط؟ قالت: إنّك لتقول قولا ليقف منه شعري، قال: قلت: رويدا فقرأ عليها {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى .. } . إلى قوله {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} . فقالت: أين يذهب بك! إنّما رأى جبريل في صورته، من حدّثك أنّ محمّدا رأى ربّه فقد كذب، قال الله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ}

(3)

.

(1)

هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25130) مطولا.

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 5 ص 152:الحديث (4916).وفي مجمع الزوائد: ج 1 ص 157؛قال الهيثمي: (رجاله موثوقون).

(3)

الانعام 103/.

ص: 137

وفي الرؤية قالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أنّ محمّدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل، ومن حدّثك أنّه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب، قال الله تعالى:{إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ}

(1)

،ومن حدّثك أنّ محمّدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب)

(2)

،قال عبد الرزاق:(فذكرت هذا الحديث لمعمّر فقال: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عبّاس)

(3)

.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى} (14)؛ أي رأى محمّد جبريل مرّة أخرى، فسمّاها (نزلة أخرى) على الاستعارة، وذلك أنّ جبريل رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلق عليها مرّتين، مرّة في الأرض بالأفق الأعلى، ومرّة في السماء عند سدرة المنتهى، ولأنه قال (نزلة أخرى) تقديره: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى.

والسّدرة: هي شجرة النّبق، وههنا شجرة في السّماء السابعة، قيل: إنّها شجرة طوبى، وقال الكلبيّ: (هي شجرة عن يمين العرش فوق السّماء السّابعة، نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة، يخرج من باطنها نهران باطنان ونهران ظاهران.

أمّا الباطنان ففي الجنّة، وهما التّسنيم والسّلسبيل-وقيل: التّسنيم والكوثر.

وأمّا الظّاهران فالنّيل والفرات، وهي تحمل لأهل الجنّة الحليّ والحلل وجميع الثّمار، وسمّيت المنتهى؛ لأنّه ينتهي إليها كلّ ملك مقرّب ونبيّ مرسل، لا يعلم ما وراءها إلاّ الله سبحانه).

وقال ابن مسعود: (سمّيت المنتهى؛ لأنّه ينتهي إليها ما يصعد به من الأرض فيقبض فيها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض فيها)

(4)

.والمنتهى: موضع الانتهاء.

(1)

لقمان 34/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (25137 و 25138) و (25144)،وإسناده صحيح.

(3)

تفسير عبد الرزاق: ج 3 ص 252: النص (3032).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25150).

ص: 138

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [لمّا أسري بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم فانتهى به إلى السّدرة، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أربعة أنهار: نهر من ماء غير آسن، ونهر من لبن لم يتغيّر طعمه، ونهر من خمر لذة للشّاربين، ونهر من عسل مصفّى. وهي شجرة يسير الرّاكب في ظلّها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة الواحدة منها تغطّي الأمّة كلّها]

(1)

.

وعن أسماء بنت أبي بكر؛ قالت: سمعت رسول الله يذكر سدرة المنتهى قال:

[يسير الرّاكب في ظلّها مائة عام]

(2)

.وقال مقاتل: (هي شجرة لو أنّ ورقة منها وضعت في الأرض أضاءت لأهل الأرض كلّهم، تحمل الحليّ والحلل والثّمار وجميع الألوان، وهي طوبى الّتي ذكرها الله في سورة الرّعد)

(3)

.

قوله تعالى: {عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى} (15)؛معناه: عند سدرة المنتهى جنة المأوى، وهي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة، وقال مقاتل والكلبي:(جنّة تأوي إليها أرواح الشّهداء والصّالحين)

(4)

.

قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى} (16)؛أي يغشى السّدرة من النور والبهاء والحسن والصّفاء ما ليس لوصفه منتهى. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يغشى السّدرة فقال: [يغشاها جراد من ذهب] وروي [فراش من ذهب]

(4)

.وعن ابن عبّاس: (أنّه يغشاها ملائكة أمثال الغربان حتّى يقعن على الشّجرة).قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رأيت على كلّ ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله عز وجل]

(5)

.وقيل:

يغشى من جهة الله عز وجل فاستنارت.

قوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى} (17)؛أي ما مال بصر النبيّ صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا ولا طغى ولا تجاوز ما رأى، وهذا وصف أدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا، ولم يمل بصره ولم يمدّه أمامه إلى حيث ينتهي.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25156).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (25158).

(3)

قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 290.

(4)

أخرجهما الطبري في جامع البيان: الحديث (25169)؛قال: (عن ابن زيد قال

) وذكره.

(5)

بمعناه ذكره الطبري في جامع البيان: الحديث (25173) عن أبي هريرة، وفي إسناده شك.

ص: 139

قوله تعالى: {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} (18)؛لقد رأى تلك الليلة من عجائب ربه عجيبة عظماء، وهي جبريل على صورته، وقال ابن مسعود:

(رأى رفرفا من الجنّة أخضر قد سدّ الأفق)

(1)

.وقيل: هي الآيات العظمى التي رآها تلك الليلة.

قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى (19) وَمَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى} (20) قرأ مجاهد وأبو صالح «(اللاّتّ)» بتشديد التاء، وقالوا: كان رجلا يلتّ السّويق للحاجّ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه. وروى السديّ عن أبي صالح:(أنّه كان رجلا بالطّائف يقوم على آلهتهم ويلتّ لهم السّويق بالزّيت، فلمّا مات عبدوه)

(2)

.وقال الكلبيّ: (هو رجل من ثقيف يقال له صرمة بن عمر، كان يسلي السّمن فيضعه على صخرة، فتأتي العرب فتلت به أسوقتهم).

وأما العزّى فقال مجاهد: (شجرة لغطفان يعبدونها) وهي الّتي بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، وجعل خالد يضربها بالفأس ويقول: يا عزّى كفرانك لا سبحانك، إنّي رأيت الله قد أهانك. فخرجت من تحتها شيطانة عريانة ناشرة شعرها، داعية بويلها، واضعة يدها على رأسها، فقتلها خالد ثمّ رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال:[تلك العزّى، ولن تعبد أبدا]

(3)

.

وأما مناة فهو صنم لخزاعة، وقال الضحّاك:(معناه: صنم لهذيل)،وقال:(إنّ مناة صنم كانت لهذيل وخزاعة يعبدونها من دون الله).وقال بعضهم: اللاّت والعزّى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة.

والمعنى: أخبرونا عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله، هل لها قدرة توصف بها كما يوصف الله بالقدرة والعظمة، وهي أسماء أصنام يعبدونها، وانتقوا لها اسما

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (25176).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: عن ابن عباس ومجاهد وأبي صالح في الآثار (25180 و 2581 و 25182).

(3)

في مجمع الزوائد: ج 8 ص 176؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني وفيه يحيى بن المنذر وهو ضعيف).

ص: 140

من أسماء الله تعالى، فقالوا: من الله اللاّت، ومن العزيز العزّى، ومن المنّان مناة بالهاء.

وقال الزجّاج: (الوقف عليها بالتّاء لاتّباع المصحف)

(1)

،وكان ابن كثير يقول:

(ومنأة) بالمدّ والهمزة

(2)

،والصحيح: قراءة العامّة بالقصر، و (الثّالثة) نعت لمناة، يعني الثالثة للصّنمين في الذّكر، والأخرى نعت لها أيضا.

قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى} (21)؛هذا إنكار عليهم في أنّهم كانوا يزعمون أنّ هذه الأصنام بنات الله، فقيل لهم: كيف جعلتم هذه الأشياء المؤنّثة أولاد الله وأنتم لا ترضون لأنفسكم الإناث وتكرهونها؟

وقوله تعالى: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} (22)؛أي قسمة جائرة غير عادلة، يقال: ضازه يضيزه إذا نقصه حقّه.

قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ؛} معناه: وما هذه اللاّت والعزّى ومناة إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم الذين مضوا قبلكم، {ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ؛} وبرهان؛ أي لم ينزل كتابا لكم حجّة بما تقولون أنّها آلهة، والمعنى: ما أنزل الله بعبادتها من سلطان، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ؛} في قولهم: إنّها آلهة، وقولهم: هذه بنات الله.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى} (23)؛معناه: ولقد جاء هم من ربهم الكتاب والرسول والبيان أنّها ليست بآلهة، وأنّ العبادة لا تصلح لها، وإنما تصلح لله عز وجل. والمعنى: أنّهم يعقلون ذلك بعد أن جاءهم الهدى، وذلك أبلغ في الذمّ.

(1)

في معاني القرآن وإعرابه: ج 5 ص 59؛قال الزجاج: (والأجود في هذا اتباع المصحف والوقف عليها بالتاء).

(2)

قال ابن عادل في اللباب: ج 12 ص 180: (فأما قراءة ابن كثير، فاشتقاقها من النّوء، وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء، ووزنها حينئذ (مفعلة) فألفها عن واو وهمزتها أصلية وميمها زائدة).

ص: 141

قوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنّى} (24)؛أي ما اشتهى، والمراد بالإنسان الكافر، وكان الكفّار يعبدون الأصنام، ويزعمون أنّها تشفع لهم عند الله، ويتمنّون على الله الجنّة. والمعنى: أيظنّون أنّ لهم ما يتمنّون من شفاعة الأصنام، وليس كما يظنّون ويتمنون،

بل {فَلِلّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى} (25)؛لا يعطي أحدا شيئا بالتمنّي، وإنما يعطي بالحكمة وعلى سبيل الاستحقاق، فيزيد من فضله من يشاء. وقيل: معناه {(فَلِلّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى)} أن لا يملك فيهما أحد شيئا إلاّ بإذنه، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء.

قوله تعالى: {*وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى} (26)؛جمع الكناية لأن المراد بقوله {(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ)} الكثرة، والمعنى: لا تغني شفاعتهم أحدا إلاّ من بعد أن يأذن الله لهم في الشّفاعة، ويرضى بشفاعتهم. ويقال: ويرضى المشفوع له، وهذا كقوله {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى}

(1)

.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى} (27) يعني أنّهم قالوا: إنّ الملائكة بنات الله، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا.

قوله تعالى:

{وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؛} أي ما لهم بتلك التّسمية من علم وما يستبقون أنّهم إناث، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (28)؛أي لا يقوم الظنّ مقام الحقّ، وهذا يدلّ على أن الظّانّ غير عالم، وأنّ العبادة بالظنّ لا تدفع من عذاب الله شيئا.

قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنا؛} أي أعرض يا محمّد عمّن أعرض عن القرآن، {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا} (29)،أي ولم يرد بعلمه إلاّ الحياة الدّنيا وزينتها، وهذا مما نسخته آية القتال،

وقوله تعالى: {ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ؛} أي لم يبلغوا من العلم إلاّ ظنّهم أنّ الملائكة بنات الله، وأنّها تشفع لهم، فاعتمدوا ذلك وأعرضوا عن القرآن.

(1)

الأنبياء 28/.

ص: 142

وقيل: معناه: أنّ غاية علمهم أن آثروا الدّنيا على الآخرة، وهذا غاية الجهل.

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ؛} أي إنه عالم بهم، فهو يجازيهم، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى} (30)؛أي إنه عالم بالفريقين.

قوله تعالى: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؛} إخبار عن قدرته وسعة ملكه، ليجزي في الآخرة المحسن والمسيء، معناه:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا؛} أي أشركوا، {بِما عَمِلُوا؛} من الشّرك، {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا؛} أي وحّدوا ربّهم، {بِالْحُسْنَى} (31)؛أي بالجنّة.

ثم نعتهم فقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ؛} فكبائر الإثم وهو كلّ ذنب ختم بالنار، والفواحش: كلّ ذنب فيه حدّ. قوله تعالى: {إِلاَّ اللَّمَمَ؛} هذا استثناء منقطع ليس الكبائر والفواحش.

وقال ابن عبّاس: (أشبه شيء باللّمم ما قاله أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [إنّ الله كتب على ابن آدم حظّه من الزّنى، وهو الله يدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النّظر، وزنى اللّسان النّطق، وزنى الشّفتين التّقبيل، وزنى اليدين البطش، وزنى الرّجلين المشي، والنّفس تتمنّى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك كلّه أو يكذّبه، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا وإلاّ فهو اللّمم])

(1)

.

وفي هذا دليل أن الأشياء إذا وجدت على التعمّد لم تكن من اللّمم، واللّمم ما يكون من الفلتات النادرة التي لا يملكها ابن آدم من نفسه؛ لأنّ الأمّة اجتمعت على أنّ متعمّد النظر إلى ما لا يحلّ فاسق.

واللّمم في اللغة: هو مقاربة الشّيء من غير دخول فيه، يقال: ألمّ بالشّيء يلمّ إلماما إذا قاربه. وعن هذا يقال: صغائر الذّنوب كالنّظرة والقبلة والغمزة، وما كان

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الاستئذان: باب زنا الجوارح دون الفرج: الحديث (6243).ومسلم في الصحيح: كتاب القدر: باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا: الحديث (2657/ 20) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25203) وذكر الزيادة فيه.

ص: 143

دون الزّنى، وقال ابن عبّاس:(اللّمم: النّظرة من غير تعمّد وهو مغفور، فإن أعاد النّظر فليس بلمم وهو الذنب)

(1)

.

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ؛} أي إنّ رحمة ربك تسع جميع الذّنوب، {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ} معناه: هو أعلم بكم من أنفسكم إذ خلق أباكم آدم من التراب. والجنين: ما كنتم صغارا في أرحام أمّهاتكم علم عند ذلك ما يستحصل منكم، والأجنّة: جمع جنين، والمعنى: علم الله من كلّ نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة، {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ؛} بما ليس فيها ولا تبرّءونها من العيوب التي فيها.

وقيل: معناه: لا تزكّوا أنفسكم بما عملتم، لا يقولنّ رجل: عملت كذا، وتصدّقت بكذا؛ ليكون أبلغ بالخضوع وأبعد من الرّياء. وقيل: معناه: لا تبرّءوا أنفسكم من الآثام وتمدحونها بحسن عملها، {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى} (32)؛ الشّرك وآمن وأطاع وأخلص العمل.

قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى} (34)؛ يعني الوليد بن المغيرة، أعرض عن التصديق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأعطى قليلا من الحقّ بلسانه ثم قطع، وكان الوليد قد اتّبع النبيّ صلى الله عليه وسلم على دينه، فغيّره بعض المشركين فترك دينه، فقال: إنّي خشيت من عذاب الله، فضمن الذي عاينه إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه، أن يتحمّل عنه العذاب، ففعل. يعني رجع إلى الشّرك وأعطاه ذلك الرجل بعض ما كان ذكر له من المال ومنعه تمامه، فأنزل الله هذه الآية:{(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلّى، وَأَعْطى قَلِيلاً)}

(2)

أي أدبر عن إيمانه وأعطى صاحبه قليلا من المال الذي وعده به (وأكدى) أي بخل بالباقي.

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1248 من كلام الحسين بن الفضل.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25226 - 25227).وذكره مقاتل في التفسير: ج 3 ص 298.

ص: 144

قال المفسّرون: (أكدى) أي قطعه ولم يتمّ عليه، وأصله من الكدية، وهو حجر يظهر في البئر ويمنع من الحفر ويؤس من الماء، قال الكلبيّ:(يقال: أكدى الحافر وأجبل؛ إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل).

قوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى} (35)؛أي يعلم أن صاحبه يتحمّل عنه عذابه.

قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى} (37)؛معناه: ألم يخبر بما كان مكتوبا في صحف موسى؛ يعني التوراة، وما في صحف إبراهيم {(الَّذِي وَفّى)} أي تمّم وأكمل ما أمر به. وقيل:

معناه: وإبراهيم الذي بلّغ قومه وأدّى إليهم ما أمر به.

وقيل: أكمل ما يجب لله عليه من الطاعة في كلّ ما أمر به وامتحن به كما في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}

(1)

.وقيل: معنى ذلك: أنّه كان عاهد أن لا يسأل مخلوقا قطّ خوفا بذلك، حتى قال له جبريل في الوقت الذي أراد قومه أن يلقوه في النار: هل لك حاجة؟ أجابه: أمّا إليك فلا. وقيل: معناه: وفي رؤياه وقدم بذبح ابنه. وقيل: أدّى الأمانة ووفّى شأن المناسك.

قوله تعالى: {أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} (38)؛هذا بيان لما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى، ومعناه: لا تحمل حاملة حمل أخرى؛ أي لا تعذب نفس بذنب غيرها، هذا إبطال لقول من ضمن الوليد أن يحمل عنه الإثم، وهذا عامّ في كلّ شريعة.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنه أنه قال: (كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرّجل بذنب غيره، ويأخذون الوليّ في القتل بابنه وأخيه وأبيه وعمّه وخاله، والزّوج يقتل بامرأته، والسّيّد بعبده، فلمّا بعث محمّد صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك وبلّغهم أن لا تزر وازرة وزر أخرى)

(2)

.

(1)

البقرة 124/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25234).وذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1249. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 113.

ص: 145

يقال: وزرت الشّيء آزره إذا حملته، والأوزار: الأحمال، ويسمّى الإثم وزرا؛ لأن الإثم يثقل صاحبه، كما قال تعالى {وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}

(1)

.ويسمّى الوزير وزيرا ليحمل ثقل الملك في قيامه بالتدبّر.

قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى} (39)؛أي ليس له إلاّ جزاء ما عمل من خير وشرّ، وهذا عطف على قوله تعالى {(أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ)} وهو أيضا مما في صحف موسى وإبراهيم.

وقوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى} (40)؛معناه: وإنّ عمله سوف يرى في الأخرى في ديوانه وميزانه،

{ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى} (41)؛لا ينقص من ثواب عمله شيء.

قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى} (42)؛أي منتهى العباد ومصيرهم، وهو مجازيهم بأعمالهم. وقيل: منه ابتداء المنّة وإليه انتهاء الآمال.

وعن أبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى)} قال:

[لا فكر في الرّب]

(2)

.والشاهد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: [إذا ذكر الله فانتهوا]

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكّرون، فقال:[فيم أنتم تتفكّرون؟] قالوا: نتفكّر الخالق، فقال: [تفكّروا في الخلق ولا تتفكّروا في الخالق، فإنّه لا يحيط به الفكر، تفكّروا في أنّ الله خلق السّماوات سبعا والأرض سبعا ثخانة؛ كلّ أرض خمسمائة عام، وما بين كلّ أرضين خمسمائة عام، وما بين السّماء والأرض خمسمائة عام، وثخانة كلّ سماء خمسمائة عام، ما بين كلّ

(1)

الانشراح 2/ و 3.

(2)

في الدر المنثور: ج 7 ص 662؛ قال السيوطي: (أخرجه الدارقطني في الافراد والبغوي في تفسيره عن أبي بن كعب) وذكره. وقال: (وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان).وذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1250.وأبو الشيخ في العظمة: الأثر (6/ 6 و 9/ 9):ص 19 عن سفيان الثوري.

(3)

أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء: ج 4 ص 396،وفيه عبيد الله بن أبي حميد، أجمعوا على ضعفه.

ص: 146

سماءين خمسمائة، وفي السّماء السّابعة بحر عمقه مثل ذلك كلّه، فيه ملك قائم لم يجاوز الماء كفّيه]

(1)

.

قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى} (43)؛أي أضحك من شاء من خلقه، وأبكى من شاء منهم، وقال الكلبيّ:(أضحك أهل الجنّة فيها، وأبكى أهل النّار فيها).وقال عطاء: (معناه: وإنّه هو أفرح وأحزن).وقال الضحّاك: (أضحك الأرض بالنّبات، وأبكى السّماء بالمطر).وقيل: أضحك الأشجار بالأثمار، وأبكى السّحاب بالأمطار).

وقال ذو النّون: (أضحك قلوب العارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب العاصين بظلمة نكرته ومعصيته).وقال سهل: (أضحك المطيع بالرّحمة، وأبكى العاصي بالسّخط).وسئل ظاهر المقدسيّ: أتضحك الملائكة؛ فقال: (ما ضحكت من دون العرش منذ خلق الله جهنّم).

وقيل لعمر رضي الله عنه: هل كان أصحاب رسول الله يضحكون؟ قال: (نعم، والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرّواسي)

(2)

.وقال محمّد بن علي الترمذي: (معنى الآية: هو أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدّنيا، وأضحك الكافر في الدّنيا وأبكاه في الآخرة)

(3)

.

قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا} (44)؛أي أمات في الدّنيا وأحيا في البعث للجزاء. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: أمات الكافر بالنكدة والقطيعة، وأحيا المؤمن بالمغفرة والوصلة، قال الله {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ}

(4)

.

(1)

لم أجده بهذا اللفظ، وروى الطبراني في الأوسط: ج 6 ص 6315 عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تفكّروا في آلاء الله ولا تفكّروا في الله].ورواه أبو الشيخ في العظمة: ص 17.

(2)

ذكر هذه الآثار البغوي في معالم التنزيل: ص 1250.والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 116 - 117.

(3)

ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 117.

(4)

الانعام 122/.

ص: 147

قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى} (46)؛أي خلق الصّنفين الذكر والأنثى من كلّ حيوان من نطفة إذا تقذف في الرّحم لتقدير الولد، والمعنى: ما يقدّر منه الولد.

قوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى} (47)؛يعني بالنّشأة الأخرى الخلق الثاني للبعث يوم القيامة يعيدهم أحياء.

قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى} (48)؛قال الضحّاك: (معناه: أغنى بالذهب والفضّة وصنوف الأموال كالإبل والبقر والغنم)

(1)

.وقال الحسن وقتادة:

(أغنى وأخدم)

(2)

.

وقال ابن عبّاس رضي الله عنه: (أغنى وأرضى بما أعطى)

(3)

.وقيل: معناه: أغنى وأفقر، وقيل: أغنى؛ أي أكثر، وأقنى أي أقلّ، ونظيره قوله تعالى:{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ}

(4)

.

وقال الأخفش: (أقنى: أفقر وأجوع)،وقيل: أقنى بأرباح الأموال وفروعها، وأقنى بأصولها، فالأولى: مثل الذهب والفضّة، يتصرف بهما ويربح عليهما، والثانية:

مثل الضّياع والأنعام، يستبقي الإنسان أصولها وينتفع بما يحصل له منها.

قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى} (49)؛وهو كوكب خلف الجوزاء، كان يعبده أناس من خزاعة، قال الله: أنا ربّ الشّعرى فاعبدوني، يقال للشّعرى: مرزم الجوزاء

(5)

.وهما شعرتان؛ أحدهما: العبور؛ والأخرى: الغميصاء، وأراد ههنا الشّعرى العبور، أعلم الله تعالى أنه ربّ الشّعرى وخالقها، وأنه هو المعبود لا معبود سواه.

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1250.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25251 - 25252).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25255).

(4)

الروم 37/.

(5)

في المخطوط: (مريم الحوري) والصحيح كما أثبتناه. ينظر: جامع البيان: مج 13 ج 26 ص 101: الأثر (25260) عن مجاهد، والأثر (25262) عن ابن زيد.

ص: 148

قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى} (51)؛ معناه: وأنه أهلك قوم هود بريح صرصر، وهم أوّل عاد كانوا، وأوّل عاد الأخرى فاقتتلوا فيما بينهم فتفانوا بالقتل، وكانت عاد الأخرى من نسل عاد الأولى.

وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب: «(عادا الأولى)» مدغما، وهمز الواو نافع، وقرئ بإسكان اللام وإثبات الهمز وهي الأصل في الكلام

(1)

.

قوله تعالى: {(وَثَمُودَ فَما أَبْقى)} وأهلك قوم صالح بالصّيحة فما أبقى منهم أحدا.

قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ؛} أي وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود، {إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى} (52)؛من غيرهم، لأنّ نوحا عليه السلام لبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما فما آمن منهم إلاّ أنفس يسيرة.

قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى} (53)؛معناه: وقرى قوم لوط الأربع رفعها جبريل إلى السّماء الدنيا فأسقطها إلى الأرض. والمعنى: أهواها جبريل إلى الأرض بعد ما رفعها، وأتبعهم الله الحجارة، فذلك

قوله تعالى: {فَغَشّاها ما غَشّى} (54)؛يعني الحجارة والجزاء والنّكال. وسميت المؤتفكة من قولهم:

أفكته؛ أي قلبته، والمؤتفكة هي المنقلبة.

قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى} (55)؛أي فبأيّ نعم ربك أيّها الإنسان تتشكّك وترتاب، قال ابن عبّاس:(يريد: فبأيّ نعم ربك الّتي تدلّ على وحدانيّته تشكّك وتكذّب يا وليد) يعني الوليد بن المغيرة.

وذلك أنّ الله تعالى لمّا عدّد ما فعله مما يدلّ على وحدانيّته قال {(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى)} .فإن قيل: ما معنى ذكر النّعم ههنا وقد تقدّم ذكر الإهلاك؟ قلنا: إنّ النّعم التي عدّت قبل هذه نعم علينا لما نالنا فيها من المزاجر، كيلا يسلك منا أحد مسالكها.

(1)

ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 4 ص 908.

ص: 149

قوله تعالى: {هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى} (56)؛يعني محمّد صلى الله عليه وسلم من النّذر الأولى من الرّسل قبله، والمعنى: هذا الرسول نذير لكم مجراه في الإنكار مجرى من تقدّمه من الأنبياء عليهم السلام.

وقوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} (57)؛أي دنت القيامة واقتربت.

قوله تعالى: {لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ} (58)؛أي ليس للقيامة إذا غشيت الخلق شدائدها أحد يكشف عنهم، وهذا قول عطاء والضّحاك

(1)

وقتادة وثابت، (كاشفة) على تقدير: ليس لها نفس كاشفة، ويجوز قوله (كاشفة) مصدرا كالجاثية والعاقبة؛ أي (ليس لها من دون الله كاشفة) أي لا يكشف عنها غيره، ولا يعلم متى هو إلاّ هو، وهذا كقوله {لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ}

(2)

.

قوله تعالى: {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} (60) الخطاب لمشركي قريش، والمعنى: أفمن هذا القرآن الذي يتلى عليكم تعجبون من إنزاله على محمّد تكذيبا، وتضحكون استهزاء ولا تبكون مما فيه من الوعيد والزّواجر والتخويف.

قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سامِدُونَ} (61)؛أي لاهون غافلون عنه، يقال: دع عنك سمودك؛ أي لهوك، قال أميّة:

ألا أيّها الإنسان إنّك سامد

لا تفنى ولا أنت هالك

والسّمود: هو الغفلة والسّهو عن الشيء، وقال الكلبيّ: (السّامد: الجدّ

(3)

بلسان قريش، وبلسان اليمن: اللاّهي)،قال الضحّاك:(سامدون: أي أشرون بطرون)

(4)

، وقال مجاهد:(سامدون؛ أي مبرطمون)

(5)

،والبرطمة: أن يدلي الإنسان شفته من الغضب، وفي لغة اليمن: أسمد لنا؛ أي أعن لنا.

(1)

في الدر المنثور: ج 7 ص 666؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن المنذر عن الضحاك) وذكره.

(2)

الأعراف 187/.

(3)

في المخطوط: (الجدر).

(4)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1251.

(5)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25285).

ص: 150

وعن أبي هريرة قال: لمّا نزلت هذه الآية {(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ)} بكى أهل الصّفّة حتّى جرت دموعهم على خدودهم، فلمّا سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا، فقال صلى الله عليه وسلم:[لا يلج النّار من بكى معهم من خشية الله، ولا يدخل الجنّة مصرّ على معصية الله، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم]

(1)

.

قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَاعْبُدُوا} (62)؛أي اخضعوا له بالتوحيد واعبدوه ولا تعبدوا أحدا غيره. ويجوز أن يكون السّجود ههنا كناية عن الصّلاة.

وعن ابن عبّاس قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النّجم فسجد فيها معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس)

(2)

.

آخر تفسير سورة (والنجم) والحمد لله رب العالمين

(1)

رواه البيهقي في شعب الإيمان: ج 1 ص 489؛الحديث (798).وفي الدر المنثور: ج 7 ص 667 عزاه السيوطي إلى البيهقي في شعب الإيمان.

(2)

رواه البخاري في الصحيح: كتاب سجود القرآن: باب سورة النجم: الحديث (1071)،وفي كتاب التفسير: الحديث (4862).وفي فتح الباري: ج 8 ص 790؛قال ابن حجر: (روى النسائي بإسناد صحيح عن المطلب بن أبي وداعة؛ قال: [قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم، فسجد وسجد من عنده، وأبيت أن أسجد] ولم يكن يومئذ أسلم، وقال المطلب: فلا أدع السجود فيها أبدا).وأخرجه النسائي في السنن الكبرى: كتاب افتتاح الصلاة: باب السجود في النجم: الحديث (1/ 1030) بإسناد صحيح رجاله ثقات.

ص: 151