الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الذّاريات
سورة الذاريات مكّيّة، وهي ألف ومائتان وسبعة وثمانون حرفا، وثلاثمائة وستّون كلمة، وستّون آية.
قال صلى الله عليه وسلم: [من قرأ الذاريات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ ريح هبّت وجرت في الدّنيا]
(1)
.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{وَالذّارِياتِ ذَرْواً} (1)؛يعني الرّياح تذروا التراب، وتهشم النبات؛ أي تفرّقه، وهي مخفوضة على القسم.
قوله تعالى: {فَالْحامِلاتِ وِقْراً} (2)؛ يعني السّحاب تحمل ثقلا من ماء المطر، فتصير كالموقدة، والوقر بكسر الواو الحمل، والوقر بفتح الواو الثّقل في الأذن.
قوله تعالى: {فَالْجارِياتِ يُسْراً} (3)؛يعني السّفن تجري في الماء جريا سهلا مع عظمها.
قوله تعالى: {فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً} (4)؛يعني الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به من الأرزاق وغيرها.
أقسم الله بهذه الأشياء لما فيها من الدّلالة على صنعته وقدرته. قوله تعالى:
{إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ} (5)؛يعني إنّ الذي توعدون من الثّواب والعقاب لصادق،
{وَإِنَّ الدِّينَ؛} أي الجزاء، {لَواقِعٌ} (6)؛كائن يوم القيامة.
(1)
ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 397.وأخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 9 ص 109 عن أبي بإسناد ضعيف.
وعن عليّ رضي الله عنه أنّه قال ذات يوم في خطبة: (سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء من القرآن إلاّ وسأخبركم به. فقال رجل: يا أمير المؤمنين؛ ما الذاريات ذروا؟ فقال: الرّياح. وقال: ما الحاملات وقرا؟ قال: السّحاب. قال: ما الجاريات يسرا؟ قال:
السّفن. قال: ما المقسّمات أمرا؟ قال: الملائكة)
(1)
.
وعن الأعرج قال: (بلغنا أنّ مساكن الرّياح تحت أجنحة الكروبيّين حملة الكرسيّ، فتهيج من ثمّ فتقع بعجلة الشّمس، ثمّ تهيج من عجلة الشّمس فتقع برءوس الجبال، ثمّ تهيج من رءوس الجبال فتقع في البرّ، وأمّا الشّمال فإنّها تمرّ بجنّة عدن، فتأخذ من عرف طيبها، فتمرّ على أرواح الصّدّيقين، ثمّ يكون مهبّها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشّمس، وتهبّ الدّبور من مغرب الشّمس إلى مطلع سهيل، وتهبّ الصّبا من مطلع الشّمس إلى مغرب بنات نعش، لا تدخل هذه في حدّ هذه، ولا هذه في حدّ هذه)
(2)
.
قوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ} (7)؛هذا قسم آخر، ومعناه:
والسّماء ذات الخلق الحسن المستوي، هذا قول عكرمة، قال:(ألم تر إلى النّسّاج إذا نسج الثّوب فأجاد نسجه، قيل: ما أحسن حبكه!)
(3)
،وبه قال ابن عبّاس وقتادة والربيع
(4)
.وقال سعيد بن جبير: (ومعناه: ذات الزّينة)
(5)
.
وقال مجاهد: (والسّماء ذات البنيان المتقن)
(6)
.وقال الضّحاك: (ذات الطّريق الّتي ترى فيها كحبك الماء إذا ضربته الرّياح، وحبك الرّمل إذا سفّته الرّيح، وحبك الشّعر الجعد، وحبك الثّوب الحسن النّسيج)
(7)
.
(1)
رواه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3788)،وقال:(هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه).وابن أبي حاتم في التفسير الكبير: ج 10 ص 3311.
(2)
أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 9 ص 109 بلاغا بإسناده عن عمر الأعرج.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24812).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الآثار (24813 - 24815).
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24810).
(6)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24817).وذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1232.
(7)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24818).
والحبوك في اللغة: ما أجيد عمله، وواحد الحبك حباك، مثل مثال ومثل.
ويجوز أن يكون واحدة حبيكة مثل طريقة وطرق
(1)
.وقيل: الحبك طريق الملائكة، وقال الحسن:(حبكها زيّنها بالنّجوم).وقيل: (ذات الحبك) أي ذات الخلق الشّديد، قال تعالى:{وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً}
(2)
.
وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} (8)؛هذا جواب القسم الثاني، والمعنى: إنّكم يا أهل مكّة لفي قول مختلف من بين مصدّق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ومكذّب به، ومتوقّف في أمره، وبعضكم يقول في محمّد: هو شاعر، وبعضكم يقول: مجنون، وفي القرآن يقول بعضكم: هو سحر، وبعضكم يقول: هو كهانة، وبعضكم يقول: هو أساطير الأوّلين.
قوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} (9)؛أي ينصرف عن الإيمان من صرف حتى يكذّب به، يعني بذلك من حرمه الله الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرّاصُونَ} (10)؛أي لعن الكذابون، وقال ابن عبّاس:(المرتابون)
(3)
،والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللّعن؛ لأنّ من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك، كما قال الله {قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ}
(4)
أي لعن.
والخرّاصون: هم الكذابون.
قال الفرّاء: (والمراد بهم ههنا الّذين قالوا: محمّد شاعر وكذاب ومجنون وساحر)
(5)
.والخارص: هو الذي يقطع في الأمور والحكم بمقداره بالتّخمين، يعني من غير علم، ومنه خارص الذي يقطع في مقداره بغير حقيقة.
(1)
ينظر: لسان العرب: مادة (حبك).
(2)
النبأ 12/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24827).
(4)
عبس 17/.
(5)
ينظر: معاني القرآن للفراء: ج 3 ص 83.
قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ} (11)؛نعت لهم، والغمرة هي الجهل، ومنه الغمر الجهل، والسّاهي هو الغافل عن أمر الآخرة. والمعنى: الذين هم في غفلة وعمى وجهالة عن أمر الآخرة، ساهون لاهون.
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدِّينِ} (12)؛أي يسألون متى يكون الجزاء على وجه الإنكار، يقولون: يا محمّد متى يوم الجزاء، تكذيبا منهم واستهزاء، فأجيبوا بما يسوءهم،
فقيل: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ} (13)؛أي يحرقون وينضجون ويعذبون بها.
يقال: فتنت الذهب إذا أحرقت الغشّ الذي فيه، والكفار غشّ كلّهم فيحرقون، ويقول لهم خزنة النار:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ؛} أي حريقكم وعذابكم، {هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (14)؛في الدّنيا تكذيبا به. وإنّما لم يقل:
فتنتكم هذه؛ لأنّ الفتنة ههنا بمعنى العذاب، فردّ الإشارة إلى المعنى.
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ} أي قابلين ما أعطاهم ربّهم من كرامة في الجنّة. وقيل: معناه: عاملين بما أمرهم ربّهم في الدّنيا، وقوله تعالى:{إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ} (16)؛في الدّنيا في أعمالهم.
وقوله تعالى: {كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} (17)؛أي ما ينامون، هذا بيان إحسانهم.
والهجوع: النّوم باللّيل دون النّهار، و (ما) زائدة، والمعنى: كانوا يهجعون قليلا من اللّيل ويصلّون أكثر اللّيل. وقيل: معناه: قلّ ليلة أتت عليهم هجعوها كلّها، وقال مجاهد:(كانوا لا ينامون كلّ اللّيل)
(1)
.
واختار قوم الوقف على قوله {(كانُوا قَلِيلاً)} على معنى: كانوا من الناس قليلا، وهو قول الضحّاك ومقاتل
(2)
.ثم ابتدأ فقال: {(مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ)} وهذا على نفي النوم عنهم البتّة. وقيل: معناه: كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة، وقال أنس بن
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24866).
(2)
ينظر: تفسير مقاتل: ج 3 ص 276.
مالك رضي الله عنه: (يصلّون ما بين المغرب والعشاء)
(1)
.وعن جعفر بن محمّد أنه قال: (من لم يهجع ما بين المغرب والعشاء فهو منهم)،عن أبي ذرّ
(2)
قال: سألت رسول الله:
أيّ صلاة اللّيل أفضل؟ قال: [نصف اللّيل وقليل فاعله]
(3)
.
قوله تعالى:
{وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (18)؛قال الحسن: (كانوا يمدّون الصّلاة إلى العصر ثمّ يأخذون في الاستغفار بالأسحار)
(4)
.
وقوله تعالى: {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (19)؛يعني بذلك الحقّ الزكاة، فليس عليهم من سواها، والسائل: هو الذي يسأل الناس، والمحروم: هو الذي لا يسأل، يحرم نفسه بترك سؤاله، ويحرمه الناس بترك إعطائه.
وقال إبراهيم: (المحروم: هو الّذي لا سهم له في الغنيمة)
(5)
،وقال زيد بن أسلم:(هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته)
(6)
،ويقال: هو صاحب الحاجة بذهاب ماله بدليل قوله {إِنّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}
(7)
.
عن أبي قلابة قال: (كان رجل من أهل اليمامة له مال، فجاء سيل فذهب ماله، فقال رجل من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المحروم فأقسم له)
(8)
.وقال قتادة
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24857).ورواه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3789).
(2)
في المخطوط: (أبي الدرداء) وهو تحريف من الناسخ، والصحيح كما أثبتناه.
(3)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى: كتاب قيام الليل: باب أي صلاة الليل أفضل: الحديث (1308) وإسناده صحيح. واختلفوا في (مهاجر) من رواته. وابن المبارك في الزهد: ص 428: الحديث (1217).وابن حبان في الإحسان: كتاب الصلاة: الحديث (2564).والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الصلاة: الحديث (4768) وإسناده حسن.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الآثار (24871) بلفظ: (نشطوا فمدّوا إلى السّحر)(ومدوا في الصلاة ونشطوا، حتى كان الاستغفار بسحر) وهو كذلك في الأثر (24883).
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24900).
(6)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24902).
(7)
الواقعة 66/-67.
(8)
في الدر المنثور: ج 7 ص 617؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن المنذر).وأخرجه الطبراني في جامع البيان: الأثر (24891).
والزهري: (هو المتعفّف الّذي لا يسأل)
(1)
،وقد ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:[لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن لحاجته فيتصدّق عليه]
(2)
.
وعن عبد الله بن عمر والشعبيّ والحسن ومجاهد أنّهم قالوا: (في المال حقّ واجب سوى الزّكاة)
(3)
،وهي الحقوق الّتي تلزم عند ما يعرض من الأموال من النّفقة على الوالدين إذا كانا فقيرين، وعلى ذي الرّحم المحرم، وما يجب من إطعام المضطرّ وحمل المنقطع وغير ذلك.
قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (20)؛آيات الأرض جبالها وأنهارها واختلاف نباتها وبحارها وأشجارها، بذلك كلّه دلائل توحيد الله لمن أيقن.
قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (21)؛معناه: وفي أنفسكم آيات إذ كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى نفخ الروح.
وقال عطاء: (يعني اختلاف الألسنة والصّور والألوان والطّبائع).وقال ابن الزّبير: (هو أن يأكل ويشرب من مكان واحد، ثمّ يخرج بعد ذلك من مكانين، مكان الغائط ومكان البول، حتّى أنّه لو شرب لبنا محضا خرج ماء)
(4)
.وقوله تعالى {(أَفَلا تُبْصِرُونَ)} أي أفلا تنظرون بقلوبكم نظر من كان يرى الحقّ بعينه.
قوله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ؛} يعني المطر الذي هو سبب النبات، والنبات هو مما قسمه الله تعالى للعباد وكتبه في السّماء، أخبر الله تعالى أنّ أرزاق العباد حيث لا يأكله السّوس ولا تناله اللّصوص، فقال تعالى {(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ)} .
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24897 و 24895) عن قتادة، و (24895 و 24896).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان مرسلا: الحديث (24896): (عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
…
) وذكره.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: ج 10 ص 3311:الأثر (18653) عن ابن عباس. ونقله السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 616؛وقال: (أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد).ونقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 38.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24907).وابن أبي حاتم في التفسير الكبير: ج 10 ص 3312.
وعن واصل الأحدب
(1)
أنّه قرأ هذه الآية فقال: (إنّي أرى رزقي في السّماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خربة فمكث فيها ليالي لا يصيب شيئا، فلمّا كان يوم الرابع إذ هو خوص صرّة من دوخلّة رطب
(2)
،فلم يزل كذلك حتّى مات)
(3)
.
قوله تعالى: {وَما تُوعَدُونَ} (22)؛قال عطاء: (معناه: وفي السّماء ما توعدون من الثّواب والعقاب مكتوب)،وقال الكلبيّ:(وما توعدون من الخير والشّرّ)،وقال مجاهد:(الجنّة والنّار).
قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (23) أقسم الله تعالى بنفسه، والذي بيّنه من أمر الرّزق وغيره (لصدق) كان نطقكم الذي هو الصدق من كلمة التّوحيد ونحوها حقّ قرأه أهل الكوفة «(مثل ما أنّكم)» برفع (مثل) على أنّه صفة لقوله (لحقّ).وقرأ الباقون بالنصب على الترك على معنى إنه يحقّ حقّا {(مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)}؛وقيل: تقديره: كمثل ما أنّكم تنطقون.
وقال بعض الحكماء: معنى قوله: {(مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)} أي كما أنّ كلّ إنسان لا ينطق بلسان غيره، كذلك لا يأكل إنسان رزق غيره والذي قدّر له، ولا يأكل إلاّ رزق نفسه، كما لا يتكلّم إلاّ بلسان نفسه.
قال الحسن: (بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [قاتل الله أقواما أقسم لهم ربّهم بنفسه فلم يصدّقوه]
(4)
،وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أنّ أحدكم فرّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت]
(5)
،قال الشاعر
(6)
:
(1)
في المخطوط: (فاضل بن الحدب) وضبطت الاسم كما في جامع البيان للطبري.
(2)
دوخلّة: مشددة اللام سفيفة من خوص يوضع فيها التمر والرطب، وهي كالزنبيل، والقوصرة يترك فيها الرّطب. لسان العرب:(دخل):ج 4 ص 310.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24915).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (24919).وابن أبي حاتم في التفسير الكبير: ج 10 ص 3312.
(5)
ذكره الديلمي في الفردوس: الحديث (5092).وأخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 9 ص 116.
(6)
دعبل الخزاعي (148 - 246 هـ).
أسعى لأطلبه والرّزق يطلبني
…
والرّزق أكثر لي منّي له طلبا
قوله تعالى: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (24)؛أي قد أتاك يا محمّد أضياف إبراهيم عليه السلام الذي أكرمهم بخدمته وقيامه بين أيديهم، قال ابن عبّاس ومقاتل:(معنى الآية: قد أتاك ولم يكن إذ ذاك آتاك إيّاه)
(1)
،وقوله تعالى (المكرمين) يعني عند الله.
وذكر ابن عبّاس: (أنّ أضياف إبراهيم: إسرافيل وجبرائيل وميكائيل)
(2)
.وقال مقاتل: (يعني بقوله (المكرمين) أي أكرمهم إبراهيم فأحسن عليهم القيام، وكان لا يقوم على رأس ضيف، فلمّا رأى هيئتهم حسنة قام هو وامرأته سارة لخدمتهم)
(3)
.
وقال الكلبيّ: (أكرمهم بالعجل).قال صلى الله عليه وسلم: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت]
(4)
.
قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ؛} وهم جبرائيل ومعه من الملائكة، قال ابن عبّاس ومقاتل:(كانوا اثنى عشر ملكا)
(5)
،وقال محمّد بن كعب:(كانوا سبعة ما خلا جبرائيل)،وقال عطاء:(كانوا ثلاثة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل)
(6)
.
قوله تعالى: {فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} (25)؛معناه: سلّموا عليه سلاما. وقيل: قالوا أسلم سلاما؛ كأنّهم آنسوه من الوجل. فقال سلام منكم؛ أي أمنت بما جاءني من السّلام. قوله تعالى: {(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)} أي إنه لم يعرفهم لأنه ظنّ أنّهم من الإنس.
(1)
في التفسير: ج 3 ص 277؛قال مقاتل: (يعني قد أتاك يا محمد حديث ضيف إبراهيم).
(2)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 277.وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 44؛ قال القرطبي: (زاد عثمان بن حصين: وروفائيل عليهم السلام.
(3)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 277.
(4)
تقدم وهو حديث صحيح.
(5)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 624.
(6)
هذه الأقوال أيضا ذكرها البغوي في معالم التنزيل: ص 624.
قوله تعالى: {فَراغَ إِلى أَهْلِهِ؛} أي عدل ومال إلى سارة من حيث لم يعلم أضيافه لأيّ شيء عدل، {فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} (26)؛أي كثير الشّحم فوضعه بين أيديهم، قال قتادة:(وكان عامّة مال إبراهيم البقر)
(1)
{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ؛} ليأكلوه، فلم يأكلوا، {قالَ أَلا تَأْكُلُونَ} (27)؛من طعامي،
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً؛} أي فأضمر في نفسه خيفة منهم حيث لم يأكلوا من طعامه، ظنّ أنّهم يريدون به سوء، فلمّا علموا خوفه، {قالُوا لا تَخَفْ؛} إنّا رسل ربك، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} (28)؛حليم في صغره، عليم في كبره وهو إسحاق عليه السلام.
قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ؛} أي في ضجّة وصيحة؛ أي أخذت تولول؛ أي تقول: يا ويلتا. وقيل: الصّرّة جماعة النساء، مأخوذ من الصّرّة التي هي مجمع الدراهم، ومنه الشّاة المصراة، وقوله تعالى:{فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (29)؛قال مقاتل والكلبي: (جمعت أصابعها فضربت جنبيها تعجّبا)
(2)
.
ومعنى الصّكّ: الضرب للشيء بالشيء العريض، والصّرة مأخوذ من الصّرّ وهو الصوت، كأنّها جاءت بشدّة الصياح فلطمت وجهها وهي تقول: أألد وأنا عجوز عاقرة، وكانت يوم البشرى بنت ثمان وتسعين سنة، وكان إبراهيم أكبر منها بسنة.
ومعنى قوله تعالى: {(وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)} ؛تقديره: أتلد عجوز عقيم، وكانت سارة لم تلد قبل ذلك، وكان بين البشارة والولادة سنة، فولدت سارة وهي بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة.
قوله تعالى: {قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ؛} أي كما قلنا لك إنّك ستلدين غلاما عليما، {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (30)؛الحكيم من العقيم بالولد
(1)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 624.
(2)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1235.ومقاتل في التفسير: ج 3 ص 278.
وغير العقيم، العليم بمصالح العباد. والعقيم في النّساء هي التي لا تأتي بالولد، وفي الرّياح هي التي لا تأتى بالمطر، ولا يكون فيها الخير.
قوله تعالى: {*قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} (31)؛أي قال إبراهيم: ما شأنكم وفيما أرسلتم،
{قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} (32)؛ كافرين لنهلكهم بكفرهم وعملهم الخبيث، أرادوا بذلك قوم لوط.
قوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ} (33)؛
أراد به الحجارة المطبوخة كالآجرّ، {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} (34)،والمسوّمة المعلّمة.
روي: أنّها كانت مخطّطة بسواد في حمرة، وكان على كلّ حجر اسم من جعل إهلاكه. والمسرف هو الخارج من الحقّ، والشّرك أسرف الذنوب وأعظمها.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (35)؛أراد به لوطا ومن كان معه آمن وهما ابنتاه، وهما زعورا وريثا، أمرهم الله تعالى بأن يخرجوا بقطع من الليل، ومعنى قوله تعالى {(مَنْ كانَ فِيها)} أي في قرية لوط، وذلك قوله {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}
(1)
أمر الله لوطا بأن يخرج هو ومن معه من المؤمنين لئلاّ يصيبهم العذاب.
قوله تعالى: {فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (36)؛أي غير أهل بيت من المسلمين، يعني لوطا وبنتيه، وصفهم الله بالإيمان والإسلام جميعا؛ لأنه ما من مؤمن إلاّ وهو مسلم، والمراد بالإسلام ههنا الإيمان.
قوله تعالى: {وَتَرَكْنا فِيها آيَةً؛} أي وتركنا في مدينة قوم لوط عليه السلام علامة، {لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ} (37)؛تدلّهم على أنّ الله أهلكهم فيخافون مثل عذابهم، فإن اقتلاع البلدان لا يقدر عليه أحد إلاّ الله.
قوله تعالى: {وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} (38)؛ أي وفي خبر موسى عليه السلام وقضيّته مع فرعون آية أيضا، وقوله تعالى {(بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)} أي بحجّة ظاهرة وهي العصا واليد.
(1)
هود 81/.
قوله تعالى: {فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ؛} أي أعرض فرعون عن الإيمان به بجمعه وجنده الذين كان يتقوّى كالرّكن الذي يتقوّى به البنيان، {وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (39)،ونسب موسى إلى السّحر والجنون مع ظهور حجّته عليه.
قوله تعالى: {فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ؛} أي فعاقبناه وجموعه فطرحناهم في البحر وأغرقناهم، {وَهُوَ مُلِيمٌ} (40)؛أي وهو مستوجب الملامة؛ لأنه أتى بما يلام عليه حين ادّعى الرّبوبيّة وكذب الرّسل.
قوله تعالى: {وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (41)؛أي وفي خبر قوم هود آية أيضا، حين أرسلنا عليهم الدّبور والعقيم التي لا خير لهم فيها ولا بركة ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، إنما هي ريح الهلاك، وكانت تلك الريح التي أهلكت بها عاد ريح الدّبور، قال صلى الله عليه وسلم:[نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور]
(1)
.
وقوله تعالى: {ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (42)؛ معناه: ما تترك من شيء مرّت عليه من أنفسهم وأنعامهم إلاّ جعلته كالحطيم البالي المنسحق. ويقال: الرّميم: هو الورق اليابس المتحطّم مثل الهشيم الذي يسير كالهباء بأيسر ما تجري عليه.
قال قتادة: (معناه: إلاّ جعلته كالرّميم الشّجر)،وقال أبو العالية:(كالتّراب المدقّق)،وقال ابن عبّاس:(كالشّيء الهالك)
(2)
،وفي الحديث:[أنّ تلك الرّيح كانت تتبع مسافريهم وما شدّ من متاعهم فتحمله فتلقيه في وادي صنعاء، ولم تضرّ غريبا ليس منهم]
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب بدء الخلق: الحديث (3205).ومسلم في الصحيح: كتاب صلاة الاستسقاء: الحديث (900/ 17).الصّبا: ريح الشرق تهبّ من مطلع الشمس. والدّبور: عكس الصّبا تهبّ من الغرب.
(2)
أخرج هذه الآثار الطبري في جامع البيان: الآثار (24953 - 24955).
(3)
في الدر المنثور: ج 7 ص 141؛ قال السيوطي: (أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى عن أبي سعيد، وأخرجه الدارقطني في الافراد عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه الخطيب عن أبي سعيد الخدري).
قوله تعالى: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ} (43)؛أي في خبر ثمود وإهلاكهم آية أيضا، إذ قيل لهم تمتّعوا إن أطعتم الله إلى آجالكم،
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ،} فأعرضوا عن قبول أمر الله، فأخذهم العذاب المحرق وهم ينظرون إلى أنفسهم وإلى قومهم يحترقون في العذاب. وقيل: معناه: لما عقروا الناقة قال لهم صالح: تمتّعوا ثلاثة أيام، وهو قوله {(حَتّى حِينٍ)} ،والتّمتّع: التّلذّذ بأسباب اللّذة من المناظر والروائح الطيّبة وأشباه ذلك.
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ؛} يعني بعد مضيّ ثلاثة أيّام. والصّاعقة: كلّ عذاب مهلك، وقرأ الكسائيّ «(الصّعقة)» وهي الصوت الشّديد، {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (44)؛ذلك عيانا،
{فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ؛} ما قدروا على النّهوض من مقامهم حين غشيهم العذاب فيردّوه، {وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ} (45)؛أي ما كانت لهم قوّة يمتنعون بها منّا، ولا كانوا طالبين ناصرا لهم يمنعهم من عذاب الله.
قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ؛} فيه قراءتان، قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف «(وقوم)» بالخفض؛ أي وفي قوم نوح وهلاكهم بالطّوفان آية أيضا، وقرأ الباقون بالنّصب على معنى: وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود. وقيل: نصب على تقدير: واذكر قوم نوح من قبل عاد وثمود وقوم فرعون، {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} (46)؛أي خارجين من طاعة الله. وقيل: انتصب قوله {(وَقَوْمَ نُوحٍ)} على قراءة النصب عطفا على الهاء والميم في قوله {(فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ)} كأنه قال وأغرقنا فرعون وجنوده، وأغرقنا قوم نوح من قبل
(1)
.
قوله تعالى: {وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ؛} أي بقدرة وقوّة، {وَإِنّا لَمُوسِعُونَ} (47)؛في السّماء على الأرض في كلّ جهات، ونحن نقدر على أكثر من ذلك، ولم يكن هذا جهد قوّتنا، وقال الحسن:(وإنّا لموسعون الرّزق على من فوقها ومن تحتها).
(1)
ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 4 ص 165 - 166.
قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْناها؛} أي بسطناها على الماء، {فَنِعْمَ الْماهِدُونَ} (48)؛الفارشون، والماهد في اللغة: هو الموظّب للشّيء المهيّئ لما يصلح الاستقرار عليه.
قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ؛} أي ومن كلّ شيء خلقنا من الحيوان ذكرا أو أنثى، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (49).وقيل: المراد بالزّوجين صنفين ولونين من حلو وحامض وأبيض لكي يعتبروا ويتّعظوا بذلك، ويعلموا أنه ليس مع الله تعالى إله غيره.
قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ؛} أي اهربوا من عقابه إلى رحمته بالإخلاص في طاعته وترك ما يشغلكم عن أوامره. وقيل: معناه: ففرّوا إلى الله من ذنوبكم واهربوا من الكفر إلى الإسلام، ومن العصيان إلى الطاعة، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (50)؛أنذركم العقاب على الكفر والمعصية وأخوّفكم عذاب الله بلغة تعرفونها متى تركتم الفرار إلى الله من الله،
{وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ؛} أي تصفوه بالشّريك والولد، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (51)؛رسول أخوّفكم لتمتنعوا أن تجعلوا مع الله إلها آخر غيره.
قوله تعالى: {كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (52)؛أي كما نسبك قومك إلى السّحر مرّة والجنون أخرى، هكذا ما أتى الذين من قبل قومك من رسول دعاهم إلى الله إلاّ قالوا لذلك الرسول: هو (ساحر أو مجنون).
يقول الله تعالى: {أَتَواصَوْا بِهِ؛} معناه: أتواصوا بهذا القول فتوافقوا عليه وأوصى كلّ قوم من بعدهم أن يقولوا مثل هذا لرسولهم، هذا اللفظ لفظ الاستفهام، ومعناه: التوبيخ والإنكار. قوله تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} (53)؛يعني أهل مكّة قوم طاغون.
قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ} (54)؛أي أعرض يا محمّد عن هؤلاء المشركين، فما أنت عندنا بملوم، فأنّك قد بلّغت وأنذرت،
بالقرآن تنفع المؤمنين وتزيدهم صلاحا، يعني تنفع من علم الله أن يؤمن منهم. وقال الكلبيّ:(معناه: عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين)
(1)
.
قوله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} (56)؛يعني:
ما خلقتهم لجرّ منفعة ولا لدفع مضرّة ولا الاستكثار بهم من قلّة، وما خلقتهم إلاّ لآمرهم بعبادتي وأنهاهم عن معصيتي، ولو أنّهم خلقوا لعبادة ربهم لما عصوا ربّهم طرفة عين. وقال ابن عبّاس: (هذه الآية خاصّة لأهل طاعة الله لأنّه تعالى قال:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}
(2)
).
وقرأ ابن عبّاس: «(وما خلقت الجنّ والإنس من المؤمنين إلاّ ليعبدون)» ،وقال عليّ بن أبي طالب:(معنى الآية: ما خلقتهم إلاّ لآمرهم ليعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي)
(3)
.
قوله تعالى: {ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (57)؛أي لم يكلّفهم أن يرزقوا أنفسهم، ولا أحدا من خلقي، ولم أكلّفهم أن يرزقوني، ولا يعينوني على عطاء الرزق لعبادي.
والمعنى: ما أريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقي، ولا أن يرزقوا أنفسهم، وما أريد أن يطعموا أحدا من خلقي، ولا أن يطعموا أنفسهم، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه؛ لأن الخلق عيال الله، فمن أطعم عيال أحد فقد أطعمه.
قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (58)؛معناه: إنّ الله هو الرزّاق جميع خلقه، ذو القوّة والاقتدار على جميع ما خلق، (المتين) يعني القويّ. قرأ العامّة «(المتين)» بالرفع (ذو) أو هو الله سبحانه
(4)
،وقرأ الأعمش «(المتين)»
(1)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1236.
(2)
الأعراف 179/.
(3)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1236.
(4)
المعنى: أو (ذو) من قوله: ذُو الْقُوَّةِ أو يكون خبر ابتداء محذوف. قاله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 56.
بالخفض على نعت القوّة، وكان من حقّه أن يقول: المتينة، وإنما ذكره لأنه ذهب به إلى الشيء المبرم المحكم
(1)
.
قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} (59) أخبر الله تعالى بهذا أن لمشركي مكّة من العذاب مثل ما لغيرهم من الأمم الكافرة.
والمعنى: فإنّ للذين كفروا نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا نحو قوم نوح وعاد وثمود.
وأصل الذنوب الدّلو المملوءة بالماء، قال ابن قتيبة:(كانوا يسقون فيكون لكلّ واحد ذنوب)
(2)
،فجعل الذنوب مكان الحظّ والنصيب، قال الشاعر:
لنا ذنوب ولكم ذنوب
…
فإن أبيتم فلنا القليب
وقال آخر
(3)
:
لعمرك والمنايا طارقات
…
لكلّ بني أب منها ذنوب
وقوله تعالى {(فَلا يَسْتَعْجِلُونِ)} أي لا يستعجلوني بالعذاب، فإنّي قد أخّرتهم إلى يوم القيامة، يدلّ عليه قوله تعالى:
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} (60)؛يعني يوم القيامة.
آخر تفسير سورة (والذاريات) والحمد لله رب العالمين
(1)
ذكره أيضا القرطبي عن الفراء في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 56 - 57.
(2)
في غريب الحديث: ج 1 ص 388؛قال ابن قتيبة: (الذّنوب: الدّلو).
(3)
قائله: أبو ذؤيب.