المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المجادلة سورة المجادلة مدنيّة، وهي ألف وتسعمائة واثنان وتسعون حرفا، - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٦

[أبو بكر الحداد]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمّد صلى الله عليه وسلم

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذّاريات

- ‌سورة الطّور

- ‌سورة النّجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصّفّ

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التّغابن

- ‌سورة الطّلاق

- ‌سورة التّحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة ن (القلم)

- ‌سورة الحاقّة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجنّ

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثّر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الدّهر

- ‌سورة والمرسلات

- ‌سورة النّبأ

- ‌سورة النّازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة انشقّت (الانشقاق)

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطّارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشّمس

- ‌سورة اللّيل

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌سورة والتّين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة (القدر)

- ‌سورة لم يكن

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التّكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة (الكافرون)

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة تبّت (المسد)

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

الفصل: ‌ ‌سورة المجادلة سورة المجادلة مدنيّة، وهي ألف وتسعمائة واثنان وتسعون حرفا،

‌سورة المجادلة

سورة المجادلة مدنيّة، وهي ألف وتسعمائة واثنان وتسعون حرفا، وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة، واثنتان وعشرون آية.

قال صلى الله عليه وسلم: [من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة]

(1)

.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1)؛هذه الآيات نزلت في خولة بنت ثعلبة، وهي امرأة من الخزرج من بني عمرو بن عوف، وفي زوجها أوس ابن الصّامت، وكان أوس بن الصّامت وعبادة بن الصّامت أخوين، وكانت خولة حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة في صلاتها، فنظر إلى عجزها، فلمّا فرغت من صلاتها راودها فأبت، فغضب عليها، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمّي، وندم بعد ذلك على ما قال، وكان الظّهار طلاقا في الجاهليّة.

فمضت خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عائشة تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنّ زوجي أوس بن الصّامت تزوّجني وأنا شابّة غنيّة ذات مال وأهل، حتّى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرّق أهلي وكبر سنّي ظاهر منّي، وقد ندم على ذلك، فهل شيء يا رسول الله يجمعني وإيّاه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:[ما أراك إلاّ قد حرمت عليه] فقالت: يا رسول الله والّذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، وإنّه أبو ولدي وأحبّ النّاس إليّ، فقال صلى الله عليه وسلم:[حرمت عليه].فقالت: أشكوا الله تعالى.

(1)

ذكره ابن حجر في تخريج الكشاف: ج 4 ص 497 وعزاه إلى الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبي بن كعب. وأخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 9 ص 252.

ص: 218

ثمّ جعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: [حرمت عليه] فقالت: أشكوا إلى الله فاقتي وشدّة حالي. فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا قضى الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ادعي زوجك] فتلا عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: {(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)}

(1)

.

وروي: أنّ خولة لمّا أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة مرغوب فيّ، فلمّا خلا سنّي ورقّ عظمي ونثرت ذا بطني جعلني عليه كأمّه، ثمّ ندم على قوله، ولي منه صبية صغار؛ إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، فقال صلى الله عليه وسلم:[ما عندي في أمرك شيء] فقالت: زوجي وابن عمّي وأبو أولادي وأحبّ النّاس إليّ، وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يخدم نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم:[ما أراك إلاّ قد حرمت عليه].

فقالت: يا رسول الله لا تقل ذلك؛ إنّه ما ذكر طلاقا وإنّما قال كلمة، فقال صلى الله عليه وسلم:[ما أمرت في شأنك بشيء، وإن نزل في شأنك شيء بيّنته لك] فهتفت وبكت وجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قالت: اللهمّ إنّي أشكو إليك شدّة وجدي وما يشقّ عليّ من فراقه، ورفعت يدها إلى السّماء تدعو وتتضرّع.

فبينما هي كذلك، إذ تغشّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فلمّا سرى عنه قال:[يا خولة قد أنزل الله فيك وفي زوجك القرآن]

(2)

ثمّ تلا {(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ)} .

معناه: قد سمع الله قول المرأة التي تسائلك وتخاصمك في أمر زوجها، وترفع إلى الله ما بها من المكروه، والله يسمع تحاوركما ومراجعتكما، إنّ الله سميع لمقالتكما عليم بأمرها وأمر زوجها. والتّحاور: تراجع الكلام.

(1)

ذكر البخاري شطرا منه معلقا في الصحيح: كتاب التوحيد: الحديث (7385).وأخرج بعضه ابن ماجة في السنن: كتاب السنة: الحديث (188)،وكتاب الطلاق: الحديث (2063).والحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3843).وأخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (26108 - 26120) بأسانيد عديدة وألفاظ. والإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 46،وإسناده صحيح. وبطوله ذكره الثعلبي في الكشف والبيان: ج 9 ص 253.

(2)

ينظر ما قبله.

ص: 219

قوله تعالى: {(تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها)} وهو أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كلّما قال لها [قد حرمت عليه] قالت: والله ما ذكر طلاقا، فكان هذا جدالا، وقوله تعالى {(وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ)} وهو قولها: أشكوا إلى الله فاقتي ووحدتي وإنّ لي صبيانا صغارا إذا ضممتهم إليه ضاعوا، واذ ضممتهم إليّ جاعوا.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ؛} أي ليس هنّ بأمّهاتهم، وما هنّ كأمّهاتهم في الحرمة، وقرأ عاصم «(ما هنّ أمّهاتهم)» بالرفع، كما يقال: ما زيد عالم. قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ؛} معناه: وإنّ المظاهرين ليقولون، {مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً؛} أي قبيحا من حيث يشبهوا المرأة التي هي في غاية الإباحة بما هو في غاية الحرمة وهو ظهر الأمّ، والمنكر الذي هو الذي لا يعرف في الشّرع، والزّور الكذب.

قوله تعالى: {وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (2)؛أي لكثير العفو عن ذنوب عباده، كثير الغفران والسّتر عليهم، عفا عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفّارة عليهم.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا؛} اختلف المفسّرون في معنى العود المذكور في الآية

(1)

،فذهب أصحاب الظّواهر إلى أنّ المراد به إعادة كلمة الظّهار، وهذا قول مخالف لقول أهل العلم، وقد أوجب النبيّ صلى الله عليه وسلم الكفارة على أوس حين ظاهر من امرأته، ولم يسأل أكرّر الظهار أم لا؟.

وذهب مالك إلى أن العود هو العزم على الوطء، قال:(وإذا عزم على وطئها بعد الظّهار فعليه الكفّارة، سواء أمسكها أو أبانها أو عاشت أو ماتت).وقال الشافعيّ: (العود هاهنا هو الإمساك على النّكاح، إذا أمسكها عقيب الظّهار ولم يطلّقها، فعليه الكفّارة ولا تسقط عنه تلك الكفّارة وإن أبانها بعد ذلك.

(1)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 280؛ ذكر القرطبي قال: (وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على سبعة أقوال) وذكرها.

ص: 220

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنّ معنى العود هو أن يعود المقول فيه فيستبيح ما حرّمه بالظهار، وقد يذكر المصدر ويراد به المقول كما قال صلى الله عليه وسلم:[العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه]

(1)

وإنّما هو عائد في الموهوب. ويقال: اللهمّ أنت رجاؤنا؛ أي مرجوّنا، وقال تعالى:{حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}

(2)

أي الموقن به، والعود في الشّيء هو فعل ما يناقض ذلك الشيء، وحروف الصّفات يقوم بعضها مقام بعض كما في قوله تعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}

(3)

،فيكون المعنى: ثمّ يعودون فيما قالوا.

والإمساك على النّكاح عقيب الظّهار لا يكون عودا على وجه التّراخي ولا يناقض لفظ الظّهار، فإنّ الظهار لا يوجب تحريم العقد حتى يكون إمساكها على النكاح عودا، ثم على مذهب أبي حنيفة: إذا قصد أن يستبيحها ثم أبانها سقطت الكفارة عنه.

وفي قوله تعالى {(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا)} دليل على أنّ هذه الكفارة إنما شرعت لدفع الحرمة في المستقبل، وفيه دليل تحريم التّقبيل واللّمس قبل التكفير؛ لأنّ قوله تعالى {(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا)} يتناول جميع ضروب المسيس.

وفي قوله تعالى {(مِنْ نِسائِهِمْ)} دليل على أنّ الظّهار لا يكون في الإماء إلاّ إذا كنّ زوجات؛ لأنّ إطلاق لفظ النساء ينصرف إلى الحرائر كما في قوله تعالى {أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ}

(4)

.وفي قوله تعالى {(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)} دليل على جواز إعتاق الرّقبة الكافرة في الظّهار؛ لأن ذكر الرّقبة مطلق في الآية، بخلاف كفّارة القتل.

والأصل في الظّهار أنه إذا ذكر في المرأة ما يجمعها مثل الجسد والبدن والرأس والرّقبة ونحوها، والظهر والبطن والفرج والفخذ وشبّهها بمحارمه كان مظاهرا. وإن

(1)

إسناده صحيح، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 10 ص 290:الحديث (20692 و 10693).والإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 280 و 342.والبخاري في الصحيح: كتاب الهبة: باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته: الحديث (2621).

(2)

الحجر 99/.

(3)

طه 71/.

(4)

النور 31/.

ص: 221

قال: أنت عليّ كيد أمّي أو رجلها، أو قال: يدك عليّ أو شعرك عليّ كظهر أمي كان باطلا.

وقال مالك: (يصحّ الظّهار بالتّشبيه بالأجنبيّة).وقال الشعبيّ: (لا يصحّ الظّهار إلاّ بالأمّ)،وقال الشافعيّ:(إذا قال: يدك، أو قال: أنت عليّ كيد أمّي، فهو ظهار).

{ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (3).

قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا؛} أي فمن لم يجد من المظاهرين الرقبة ولا قيمتها، فعليه أن يصوم شهرين متتابعين قبل المسيس. وهذا يقتضي أنه إذا أفطر فيهما لمرض أو غيره كان عليه استقبال الصّوم أيضا، وكذا إذا قدر على الرقبة في خلال الصّوم فلم يعتقها حتى عجز عنها كان عليه الاستقبال أيضا في قول أبي حنيفة ومحمّد، سواء كان المسيس بالليل أو بالنهار. وقال أبو يوسف:(إذا مسّها باللّيل عامدا أو بالنّهار ناسيا لم يستقبل).

قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً؛} إذا عجز عن الصّوم لكبر أو مرض فكفّارته أن يطعم ستّين مسكينا، وإن مسّها المظاهر بعد ما أطعم بعض الطعام لم يستقبل الإطعام؛ لأنه ليس في ذكر الإطعام في هذه الآية من قبل أن يتماسّا، إلاّ أنّا إنما أمرناه بالإطعام قبل المسيس؛ لأنّا لو لم نأمره بذلك لم يؤمن أن يمسّها فقدر على العتق قبل الإطعام أو يقدر على الصّوم قبل الإطعام فيحصل أو الصوم بعد المسيس، وذلك خلاف ما أوجبه الله تعالى.

قوله تعالى: {ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ؛} أي ذلك الذي أمركم الله به لتستديموا الإيمان بالله ورسوله، وتصدّقوا أنّ الله أمر بذلك. قوله تعالى:{وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ؛} أي التي شرّعها الله تعالى في الظّهار أحكام الله وفرائضه، {وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ} (4)،وللجاحدين لحدود الله عذاب جهنم.

فلمّا نزلت هذه الآية قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأوس بن الصّامت: [هل تستطيع أن تعتق رقبة؟] قال: فإنّي قليل المال، قال:[فهل تستطيع أن تصوم شهرين؟] قال: والله يا رسول الله إنّي إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرّات كلّ بصري وخشيت أن تعشو عيني، قال:[فهل تستطيع أن تطعم ستّين مسكينا؟] قال: لا والله إلاّ أن تعينني يا رسول

ص: 222

الله، فقال صلى الله عليه وسلم:[إنّي معينك بخمسة عشر صاعا وأدعو لك بالبركة] فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وروي: أنّ خولة لمّا ظاهر منها أوس بن الصّامت، خرج فجلس في قومه، ثمّ رجع إليها فراودها عن نفسها، فقالت: كلاّ؛ والّذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ حتّى يحكم الله فيّ وفيك. ثمّ مضت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليه قصّتها، فأنزل الله هذه الآيات.

فقال صلى الله عليه وسلم: [مريه أن يعتق رقبة] فقالت: والله ما عنده ذلك، قال:[مريه فليصم شهرين متتابعين] قالت: يا نبيّ الله إنّه شيخ كبير ما به من صوم، قال:[مريه فليطعم ستّين مسكينا] قالت: والله ما يجد ما يطعم، قال:[إنّا سنعينه بعرق من تمر]-وهو مكتل سبع وثلاثين صاعا-قالت: أنا أعينه يا رسول الله بعرق آخر

(2)

.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} معناه: إنّ الذين يخالفون الله ورسوله في الدّين، ويصيرون في حدّ غير الحدّ الذي فيه أولياء الله، أذلّوا وأخزوا بالعذاب كما أذلّ الذين أشركوا من قبل أهل مكّة، من الذين خالفوا الأنبياء صلوات الله عليهم.

والكبت في اللغة: الكبّ، ومنه كبت الله عدوّك. وقيل: معناه: كبدوا أي ضربوا على أكبادهم، فقلبت الدال تاء.

قوله تعالى: {وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ؛} أي فرائض معروفة، {وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ} (5)؛أي ولمن لم يعمل بها ولم يصدّق بها عذاب مهين.

ثم بيّن ذلك العذاب فقال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا؛} ويجزيهم عليه، وقوله تعالى:{أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ؛} مما يجب لهم وعليهم، {شَهِيدٌ} (6)؛عالم.

(1)

أخرجه الدارقطني في السنن: كتاب النكاح: باب المهد: ج 3 ص 316:الحديث (259) عن أنس بن مالك.

(2)

أخرجه أيضا البغوي في معالم التنزيل: ص 1285.

ص: 223

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ؛} معناه: إنّ الله يعلم بكلّ ما في السّماوات وكلّ ما في الأرض مما ظهر للعباد، {وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ}

(1)

.

وقوله تعالى {(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ)} يعني المسّار؛ ما تناجي به صاحبك من شيء إلاّ هو رابعهم بالعلم، يعني نجواهم معلومة عنده كما تكون معلومة عند الرابع الذي هم معهم، {وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا،} ولا أقلّ من ثلاثة ولا أكثر من الخمسة إلاّ وهو عالم بهم وقادر عليهم في أيّ موضع كانوا، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} عند الجزاء والحساب، {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (7)؛وهذه الآية نزلت في اليهود والمنافقين لمّا أعياهم الإسلام وظهوره وجعلوا يتناجون فيما بينهم فيوهمون المؤمنين أنّهم يتناجون فيما يسوءهم.

وكانوا إذا خرجت سريّة من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى هؤلاء رجالا ممّن خرج لهم في السريّة صديق أو قريب تناجوا فيما بينهم ليظنّ الرجل أنه حدث بصاحبه حادث فيحزن عليه لذلك. فلمّا كثر ذلك وطال شكوا ذلك إلى رسول صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن المناجاة دون المسلمين، فلم ينتهوا وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ؛} معناه: ألم تر إلى هؤلاء الذين نهاهم الله عن مناجاة بعضهم بعضا دون المؤمنين في الآية التي قبل هذه، ثم عادوا إليها مغايظة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشاورون فيما بينهم بالكذب والاعتداء، ويوصي بعضهم بعضا بمخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، {وَإِذا جاؤُكَ؛} يا محمّد، {حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ؛} أي سلّموا عليك بما لم يسلّم به الله عليك.

(1)

يونس 61/.

ص: 224

وذلك أنّ اليهود دخلوا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: السّام عليك! وكانت عائشة من وراء ستر فلعنتهم، فقال صلى الله عليه وسلم:[مهلا يا عائشة] فقالت: أما سمعت ما قالوا؟ قال:

[أوما سمعت كيف أجبتهم؟] ثمّ قال: [إذا سلّم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت].والسّام هو الموت

(1)

.

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ؛} معناه: أنّهم كانوا يقولون في أنفسهم: ألا ينزّل الله العذاب بنا بما نقول لنبيّه إن كان نبيّا كما يزعم، فلو كان محمّد نبيّا لعذبنا الله بما نقول، فقال الله تعالى:{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها؛} أي كافيهم جهنم عذابا لهم يلزمونها ويقاسون حرّها، {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (8)؛أي فبئس المرجع يرجعون إليه.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ؛} معناه: يا أيّها الذين آمنوا إذا تجالستم للسرّ فيما بينكم، فلا تجالسوا وتخالفوا بالمعصية والظّلم ومخالفة الرسول، ولا تكونوا كاليهود والمنافقين، {وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى؛} أي بفعل ما أمرتم به، وترك ما نهيتم عنه، {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (9)،واتّقوا عذاب الله الذي إليه ترجعون في الآخرة.

قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ؛} معناه: إنما النّجوى الذي يفعله اليهود والمنافقون من عمل الشّيطان ووساوسه ليحزن به الشيطان الذين آمنوا وأخلصوا، وليس تناجيهم يضرّ المؤمنين شيئا إلاّ بعلم الله وقضائه، {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (10)؛ ويستعيذوا به من الشّيطان. ويقرأ «(ليحزن)» بضمّ الياء وهما لغتان.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ؛} قال مقاتل: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف: ج 10 ص 392:كتاب الجامع: باب السّلام على أهل الشرك: الحديث (19460).والإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 37 و 58.والبخاري في الصحيح: كتاب استتابة المرتدين: الحديث (6927).

ص: 225

المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر ومنهم ثابت بن قيس بن شمّاس وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته، فردّ عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك، فردّوا عليهم.

فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما لحقهم من ضرر القيام، فشقّ عليه، وقال لمن حوله لمن لم يكن من أهل بدر:[قم يا فلان وأنت يا فلان] فأقام من المجلس بقدر النّفر الّذين قاموا بين يديه من أهل بدر.

فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين النّاس؟ فو الله ما عدل على هؤلاء إنّ قوما أخذوا مجالسهم، وأحبّوا القرب من نبيّهم فأقامهم وأجلس غيرهم، فأنزل الله هذه الآية)

(1)

.

قوله تعالى: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ)} أي أوسعوا في المجلس (فافسحوا) أي أوسعوا على من حضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبّ سماع كلامه؛ لتشتركوا في سماع الدّين منه، وهذا أمر لهم بالتأديب كي لا يؤذي أحد جليسه بفعل الزّحام، ولئلاّ يكون غرضهم إلاّ التواضع لله تعالى وللدّين، وذلك أنّهم كانوا قد جلسوا متضايقين حول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يتنحّوا عنه في الجلوس ويتوسّعوا المجلس غيرهم معهم. قوله تعالى:{(يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ)} أي يوسّع مجالسكم في الجنّة.

قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا؛} معناه: وإذا قيل: انهضوا إلى صلاة أو أمر بمعروف ونودي للصّلاة فانهضوا. وقيل: معناه: وإذا قيل لكم اخرجوا إلى الجهاد فاخرجوا يرفع الله درجاتكم في الجنّة، ويرفع الله الذين أوتوا العلم درجات فوق درجات الذين أكرموا بالإيمان بغير علم.

وفي الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ العالم يستغفر له كلّ شيء حتّى الحيتان في الماء والطّير في جوّ السّماء، وفضل العالم على الّذي ليس بعالم سبعون درجة،

(1)

قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 333.

ص: 226

الله أعلم ما بين كلّ درجتين]

(1)

.وقال صلى الله عليه وسلم: [فضل العالم على العابد كفضلي على سائر أمّتي]

(2)

،وقال صلى الله عليه وسلم:[يؤتى بالعالم يوم القيامة والعابد، فيقال للعابد: أدخل الجنّة، ويحبس الفقيه فيقول: فبم حبستموني؟! فيقال له: اشفع].

قرأ أهل المدينة والشام وعاصم «(انشزوا فانشزوا)» بضمّ الشين، وقرأ الآخرون بكسرها، وهما لغتان، ومعناهما: إذا قيل لكم: تحرّكوا وقوموا وارتفعوا وتوسّعوا لإخوانكم فافعلوا. وقيل: معناه: إذا قيل لكم انهضوا إلى الصّلاة والذّكر وعمل الخير، فانشزوا ولا تقصّروا.

وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ؛} يعني يرفعهم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم من مجالسهم وتوسعهم لإخوانهم، {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11)؛منهم بفضل عملهم، قال صلى الله عليه وسلم:[من جاءت منيّته وهو يطلب العلم، فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة]

(3)

.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ؛} وذلك أنّ الأغنياء كانوا يستخلون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فيشاورونه بما يريدون ويلحّون عليه بالحاجات والمسائل، ويشغلون بذلك أوقاته التي كانت مستغرقة بالعبادة والإبلاغ إلى الأمة، وكان الفقراء لا يتمكّنون من النبيّ صلى الله عليه وسلم كتمكّن الأغنياء منه.

(1)

معنى الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 196.وأبو داود في السنن: كتاب العلم: الحديث (3641)،وإسناده ضعيف، وله شواهد يتقوى بها. وفي موارد الضمآن: الحديث (80)؛قال ابن حبان: (حسن).

(2)

أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح: أبواب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة: الحديث (2685) عن أبي أمامة الباهلي، وقال: حسن صحيح. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 8 ص 233:الحديث (7911)،وإسناده صحيح. وفي مجمع الزوائد: ج 1 ص 124 - 125؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الكبير وفيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد).

(3)

أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: ص 115:الحديث (537) وفيه علي بن زيد الجدعاني.

ص: 227

فأمر الله الناس بتقديم الصّدقة على نجواهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إعظاما له وتوقيرا لمقام مناجاته، ونفعا للفقراء بتلك الصّدقة، وبيّن أنّ ذلك خير لهم من الكفّ عن الصدقة وأصلح لقلوبهم وقلوب الفقراء، ورخّص من لم يجد ما يتصدّق به أن يكلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما شاء من غير صدقة، وهو قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (12).

فلمّا علم الله ضيق صدر كثير منهم من ذلك الوجوب نسخ الله ذلك الحكم بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؛} معناه: أبخلتم يا أهل الميسرة، وثقل عليكم تقديم الصّدقة بين نجواكم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ؛} وخفّف الله عنكم بإسقاط تلك الصّدقة، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ؛} أي داوموا عليها، يعني الصّلاة المفروضة، {وَآتُوا الزَّكاةَ؛} المفروضة، {وَأَطِيعُوا اللهَ؛} في الفرائض، {وَرَسُولَهُ؛} في السّنن، {وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} (13) من الخير والشرّ.

وعن عليّ رضي الله عنه قال: (إنّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية النّجوى، كان لي مثقال فبعته بعشرة دراهم، فكلّما أردت أن أناجي رسول الله قدّمت درهما، فقدّمت هذه الصّدقات بين يدي نجواي، ثمّ نسخت)

(1)

.قال مجاهد: (نهوا عن مناجاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى يتصدّقوا، فلم يناجه إلاّ عليّ كرّم الله وجهه، قدّم دينارا فتصدّق به، فنزلت الرّخصة)

(2)

.

قوله تعالى: {*أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ؛} نزلت هذه الآية في قوم من المنافقين كانوا يتولّون اليهود وينقلون أسرار المسلمين إليهم مغايظة لهم، ولم يكونوا من المؤمنين ولا من اليهود، وكانوا يحلفون للمؤمنين بأنّا مؤمنون مصدّقون، وهم يعلمون أنّهم كاذبون في حلفهم، قال الله

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: سورة المجادلة: الحديث (3846)،وقال:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين) وليس فيه علي بن علقمة الأنماري.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (26169) بأسانيد.

ص: 228

تعالى: {(ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ)} أي ولا من اليهود، {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (14)؛أنّهم كذبة.

وقال السديّ ومقاتل: (نزلت هذه الآية في عبد الله بن نبتل المنافق، كان يجالس النّبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ قال:[يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار، وينظر بعيني الشّيطان] فدخل عبد الله بن نبتل، وكان أزرقا.

فقال صلى الله عليه وسلم: [علام سببتني أنت وأصحابك؟] فحلف بالله ما فعل، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[وقد فعلت] فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله هذه الآية):{(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)}

(1)

{أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً؛} أي هيّأ لهم عذابا شديدا في قبورهم، {إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (15)؛في الدّنيا من موالاة اليهود وكتمان الكفر والحلف الكاذب مع العلم به.

وقوله تعالى: {اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً؛} أي اتّخذوا أيمانهم الكاذبة ترسا من القتل وجعلوها عدّة ليدفعوا عن أنفسهم التهمة، وقرأ الحسن «(إيمانهم)» بكسر الألف، وقوله تعالى:{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ؛} أي صرفوا الناس عن ذكر الله وطاعته بإلقاء الشّبهة عليهم في السرّ. وقيل: فصدّوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل، {فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} (16)؛يهينهم في الآخرة.

قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً؛} أي لن يدفع عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا، {أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (17).

(1)

ذكره مقاتل في التفسير: ج 3 ص 334 مختصرا. وأخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3847) من غير ذكر الاسم، وقال:(حديث صحيح على شرط مسلم).والطبراني في المعجم الكبير: الحديث (12307).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 122؛قال الهيثمي: (رجاله رجال الصحيح).والطبري في جامع البيان: الحديث (26180 و 26182).

ص: 229

قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً؛} انتصب على الظّرفية من قوله (أولئك أصحاب النّار){فَيَحْلِفُونَ لَهُ؛} أي يحلفون لله يومئذ أنّهم كانوا مخلصين في الدّنيا، {كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ؛} يومئذ؛ {أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ؛} على صواب، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ} (18)؛عند الله في حلفهم.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ينادي مناد يوم القيامة: أين خصماء الله، فيقوم القدريّة مسودّة وجوههم مزرقة أعينهم، مائلة أشداقهم يسيل لعابهم، يقولون: والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا ولا اتّخذنا من دونك إلها].

قال ابن عبّاس: (صدقوا والله؛ أتاهم الشّرك من حيث لا يعلمون) ثمّ تلا ابن عبّاس هذه الآية {(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ)} هم والله القدريّون، هم والله القدريّون)

(1)

.

وقوله تعالى: {اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ؛} أي غلب عليهم واستولى عليهم وحولهم، {فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ؛} أي شغلهم عن ذكر الله وعن طاعته حتى تركوه وصاروا إلى الخسران، {أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ؛} أي جنده، {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ} (19).

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ؛} أي يخالفون الله ورسوله، {أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} (20)؛أي في المغلوبين المقهورين، ومن جملة من يلحقهم الذلّ في الدّنيا والآخرة.

قوله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي؛} أي كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وقال الحسن:(ما أمر نبيّ بحرب فغلب قطّ، وإنّ الرّسل على نوعين: منهم من بعث بالحرب، ومنهم من بعث بغير حرب، فهو غالب بالحجّة)

(2)

،وقال تعالى:

(1)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز: ص 1837 وعزاه للثعلبي. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 305.وأخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 9 ص 263.

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1289،وعزاه للزجاج.

ص: 230

{وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ}

(1)

.وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (21)؛أي مانع حزبه من أن يذلّ، عزيز غالب لمن نازع أولياءه.

قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ؛} نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنّه كتب إلى أهل مكّة: أنّ محمّدا يريد أن يغزوكم فاستعدّوا له، فأعلم الله تعالى نبيّه عليه السلام بذلك. فقال صلى الله عليه وسلم:[ما دعاك يا حاطب إلى ما فعلت؟] فقال: أحببت أن أتقرّب إلى أهل مكّة لمكان عيالي فيهم، ولم يكن على عيالي ذابّ هنالك. فأنزل الله هذه الآية

(2)

.

ومعناها: لا تجد قوما يصدّقون بوحدانيّة الله تعالى وبالبعث بعد الموت يناصحون ويطلبون مودّة من خالف الله ورسوله في الدّين، ولو كانوا أقاربهم في النّسب، فإن البراءة واجبة من المحادّين لله. وسنذكر هذه القصّة أول سورة الممتحنة إن شاء الله تعالى.

أخبر الله تعالى بهذه الآية: أنّ إيمان المؤمنين يفسد بمودّة الكفّار، وإنّ من كان مؤمنا لا يوالي من كفر، وإن كان أباه أو ابنه أو أخاه أو أحدا من عشيرته. وعن عبد الله بن مسعود في هذه الآية أنّه قال:(قتل أبو عبيدة أباه يوم أحد)

(3)

،فمعنى قوله {(وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ)} .

وقوله {(أَوْ أَبْناءَهُمْ)} يعني أبا بكر رضي الله عنه دعا ابنه يوما إلى البراز وقال: (دعني يا رسول الله أكرّ عليه) فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [متّعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنّك عندي بمنزلة سمعي وبصري]

(4)

.

(1)

الصافات 173/.

(2)

قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 336.

(3)

في الكشف والبيان: ج 9 ص 264؛ قال الثعلبي: (وروى مقاتل بن حيان عن مرّة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية).

(4)

ذكره الواحدي في أسباب النزول: ص 278.وعزاه ابن حجر في تخريج الكشاف: ج 4 ص 497 إلى الثعلبي في تفسيره. وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 307 - 308.وعزاه الثعلبي إلى مقاتل بن حيان كما في الكشف والبيان: ج 9 ص 264.

ص: 231

وقوله تعالى: {(أَوْ إِخْوانَهُمْ)} يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير بأحد. وقوله تعالى {(أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)} يعني عمر رضي الله عنه قتل خالد العاصي بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وكذلك عليّ رضي الله عنه قتل شيبة بن ربيعة، وكذلك حمزة رضي الله عنه قتل عتبة.

قوله تعالى: {أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ؛} يعني الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله أثبت الله في قلوبهم حبّ الإيمان كأنّه مكتوب في قلوبهم {(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)} أي قوّاهم بنور الإيمان حتى اهتدوا للحقّ وعملوا به. وقيل: المراد بالرّوح جبريل عليه السلام يعينهم في كثير من المواطن. وقيل:

معناه: وأيّدهم بنصر منه في الدّنيا على عدوّهم؛ لأنّهم عادوا عشيرتهم الكفار وقاتلوهم، غضبا لله ولدينه.

وقوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها؛} ظاهر المعنى. وقوله تعالى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ؛} بإخلاصهم في التوحيد والطاعة، ورضوا عنه بما أعدّ لهم من الثّواب والكرامة في الآخرة.

قوله تعالى: {أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (22)؛ أي يا أهل هذه القصّة جند الله وأولياؤه، ألا إنّ جند الله هم الفائزون بالبقاء الدائم والنعيم المقيم.

آخر تفسير سورة (المجادلة) والحمد لله رب العالمين.

ص: 232