الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة التّغابن
سورة التّغابن مدنيّة، وهي ألف وسبعون حرفا، ومائتان وواحد وأربعون كلمة، وثماني عشرة آية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من قرأ سورة التّغابن رفع الله عنه موت الفجاءة]
(1)
.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؛} قد تقدّم تفسيره.
وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ؛} أي له الملك الدائم الذي لا يزول، وله الحمد في السّماوات والأرض، {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ؛} من أمور الدّنيا والآخرة، {قَدِيرٌ} (1).
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2)؛ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ؛} أي صوّركم في أرحام الأمّهات، فجعل صوركم أحسن من صور سائر الحيوانات، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (3)؛في الآخرة، وباقي الآيتين،
{يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} (4)،ظاهر المعنى.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (5)؛أي ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبلكم من الأمم الخالية كيف أذاقهم الله عقوبة تكذيبهم في الدّنيا ولهم في الآخرة عذاب.
جميع، {ذلِكَ؛} العذاب، {بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ؛} أي بالمعجزات، {فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا،} فقالوا آدميّ مثلنا يدعونا إلى خلاف دين آبائنا، {فَكَفَرُوا؛}
(1)
أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 9 ص 325.
بالكتب والرّسل وأعرضوا عن القبول منهم، {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ؛} عن إيمانهم وطاعتهم، {وَاللهُ غَنِيٌّ؛} عن أفعال العباد، {حَمِيدٌ} (6)؛في إنعامه عليهم.
ومعنى قوله {(وَبالَ أَمْرِهِمْ)} أصل الوبال من الثّقل، يقال: أمر وبيل؛ أي ثقيل، يسمى جزاء المعصية وبالا لثقله.
قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا؛} أي قال كفار مكّة قولا بالظنّ غير يقين أنّهم لا يبعثون بعد الموت، {قُلْ؛} لهم يا محمّد:{بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ؛} بعد الموت، {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ؛} في الدّنيا {وَذلِكَ؛} الجزاء والبعث، {عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} (7)؛أي سهل هيّن،
{فَآمِنُوا؛} يا أهل مكّة، {بِاللهِ وَرَسُولِهِ؛} محمّد صلى الله عليه وسلم، {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا؛} يعني القرآن، {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (8).
قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ؛} يعني يوم القيامة يجمع فيه الأوّلون والآخرون، {ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ؛} يغبن فيه أهل الحقّ أهل الباطل، وأهل الإيمان أهل الكفر، فلا غبن أبين منه، هؤلاء يدخلون الجنة وهؤلاء يدخلون النار.
والغبن: فوت الحظّ والمراد.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ما من مؤمن يدخل الجنّة إلاّ وقد رأى مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكرا. وما من عبد كافر يدخل النّار إلاّ وقد رأى مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة]
(1)
.
فالمغبون من غبن أهله ومنازله من الجنّة، ويظهر يومئذ غبن كلّ كافر بترك الإيمان، وغبن كلّ كافر بتقصيره في الأحسن وتضييعه الأيام. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (10).
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولعله من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في العبد إذا وضع في قبره. أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الجنائز: الحديث (1338).
قوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ؛} أي ما أصاب أحدا في البدن والأهل والمال إلاّ بعلم الله وقضائه، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ؛} أي من يصدّق بأنّ المصيبة من الله، {يَهْدِ قَلْبَهُ،} للرّضا والصبر، ويقال: يوفّقه للاسترجاع.
وقرأ السّلميّ: «(يهد قلبه)» على ما لم يسمّ فاعله، وقرأ طلحة بن مصرّف بالهمز والرفع في قوله (يهدئ قلبه) على معنى يسكن قلبه. {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (13).
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ؛} وذلك أنّ الرجل كان لا يستطيع أن يهاجر مع أزواجه وأولاده، وكان إذا أراد أن يهاجر بنفسه تعلّقت به امرأته وأولاده وقالوا له: إلى من تدعنا؟ ننشدك الله أن تجلس وتدع الهجرة، فأنزل الله هذه الآية بالمدينة، ينهاهم عن ذلك ويحذّرهم طاعة الأزواج والأولاد في معصية الله، وذلك قوله تعالى:{(إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)} .
ودخول (من) هنا يدلّ على أنه ليس جميع الأزواج والأولاد عدوّا، وإنما منهم من يحبّ هلاككم ليرث مالكم، وأيّ عدوّ أعدى ممن يحبّ موتك لمنفعة نفسه، ومنهم من يحملوكم على أن تعصوا الله بأخذ غير الواجب، ويمنع الواجب لمنفعة ترجع إليهم، ومعنى قوله تعالى (فاحذروهم) أي فاحذروا أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (14) وذلك أنّ الرجل كان إذا أراد الجهاد والهجرة عرض على امرأته وقرائبه إذا أبوا عليه أقسم أن لا ينفق عليهم، فإذا عاد كفّ عن النفقة ليمينه، فقيل لهم:{(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا)} أي وإن تعفوا عنهم وتجاوزوا عن صدّهم إياكم، وتغفروا ذنوبهم بعد ما رجعتم وبعد ما اجتمعتم في دار الهجرة، ولم تكافئوهم عن سوء ما فعلوه، {(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)} يغفر لكم كذلك كثيرا من ذنوبكم.
وقيل: معنى الآية: إنّ الرجل من هؤلاء إذا رأى الناس قد سبقوه إلى الهجرة وتفقّهوا في الدّين همّ أن يعاقب زوجته وأولاده الذين يبطئونه عن الهجرة، وإن لحقوا
به في الهجرة لم ينفق عليهم، فأنزل الله تعالى {(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)} .
قوله تعالى: {إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ؛} أي بلاء وشغل عن الآخرة، والإنسان بسبب المال والولد يقع في العظائم ويتناول الحرام إلاّ من عصمه الله، {وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (15)؛إن لم يشغله ماله وولده عن طاعة الله.
وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه، ثمّ قال:[صدق الله عز وجل {(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)} نظرت إلى هذين الصّبيّين يمشيان ويعثران، فلم أصبر عنهما حتّى قطعت حديثي ورفعتهما] ثمّ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته
(1)
.
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛} أي اتّقوا الله جهدكم وقدّروا سعيكم باجتناب محارمه وأداء فرائضه وجميع طاعاته، {وَاسْمَعُوا؛} ما تؤمرون به، {وَأَطِيعُوا؛} أمر رسوله، {وَأَنْفِقُوا؛} من أموالكم في طاعة الله يكن ذلك، {خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ؛} لأنّ نفع الآخرة أعظم، ويقال: الخير هاهنا المال، كأنّه قال: أنفقوا مالا من أموالكم، وهذه الآية نسخت قوله تعالى {اِتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ}
(2)
.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (16)؛أي من يدفع عنه بخل نفسه فأولئك هم المزكّون لطلبتهم. والشّحّ الذي في اللغة: منع الواجب، ومن الشّحّ أن يعمد الرجل إلى مال غيره فيأكله.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: ج 6 ص 382:الحديث (3579).والإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 354.وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب قطع الخطبة للأمر يحدث: الحديث (1109).وابن ماجة في السنن: كتاب اللباس: باب لبس الأحمر: الحديث (3600).وابن حبان في الإحسان: كتاب الفرائض: باب ذوي الأرحام: الحديث (6038).وقال الشيخ شعيب: (إسناده حسن: مؤمل بن إهاب: روى له أبو داود والنسائي وهو حسن الحديث وقد توبع عليه: ومن فوقه من رجال الصحيح).
(2)
آل عمران 102/.
قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ؛} معناه: إن تعطوا في الصّدقة مالا عن حسبة صادقة من قلوبكم، يقبله منكم ويضاعفه لكم ويغفر لكم ذنوبكم، {وَاللهُ شَكُورٌ؛} يقبل اليسير ويعطي الجزيل من الثواب، {حَلِيمٌ} (17)؛لا يعجّل بالعقوبة على من بخل بالصّدقة، واستحقّ العقوبة على ذنوبه،
{عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ؛} أي يعلم ما تكنّه صدوركم مما لا تعلمه الحفظة، ويعلم كلّ ما ظهر مما سقط من ورقة، وما قطر من قطر المطر، وهو، {الْعَزِيزُ؛} في ملكه وسلطانه، {الْحَكِيمُ} (18)؛في أمره وقضائه.
تم تفسير سورة (التغابن) والحمد لله رب العالمين.