المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الجنّ سورة الجنّ مكّيّة، وهي ثمانمائة وتسعون حرفا، ومائتان وخمس - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٦

[أبو بكر الحداد]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمّد صلى الله عليه وسلم

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذّاريات

- ‌سورة الطّور

- ‌سورة النّجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصّفّ

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التّغابن

- ‌سورة الطّلاق

- ‌سورة التّحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة ن (القلم)

- ‌سورة الحاقّة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجنّ

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثّر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الدّهر

- ‌سورة والمرسلات

- ‌سورة النّبأ

- ‌سورة النّازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة انشقّت (الانشقاق)

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطّارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشّمس

- ‌سورة اللّيل

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌سورة والتّين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة (القدر)

- ‌سورة لم يكن

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التّكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة (الكافرون)

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة تبّت (المسد)

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

الفصل: ‌ ‌سورة الجنّ سورة الجنّ مكّيّة، وهي ثمانمائة وتسعون حرفا، ومائتان وخمس

‌سورة الجنّ

سورة الجنّ مكّيّة، وهي ثمانمائة وتسعون حرفا، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثمان وعشرون آية. قال صلى الله عليه وسلم:[من قرأها أعطي بعدد كلّ جنّيّ وشيطان صدّق بمحمّد صلى الله عليه وسلم وكذب به عتق رقبة]

(1)

.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً} (1)؛وذلك أنّ السماء لم تكن تحرس فيما بين عيسى ومحمّد صلوات الله عليهما، فلمّا بعث الله محمّدا نبيّنا حرست السماء ورميت الشياطين بالشّهب، فلم يبق صنم إلاّ خرّ لوجهه.

فقال إبليس للجنّ: لقد حدث في الأرض حدث لم يحدث مثله، ولا يكون هذا إلاّ عند خروج نبيّ، ففرّق جنده في الطلب وأمرهم أن يضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وبعث تسعة نفر من أشراف جنّ نصيبين إلى أرض تهامة، وكان رئيسهم يسمّى عمروا، فلما انتهوا إلى بطن نخلة وجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما يصلّي بأصحابه صلاة الفجر.

فلمّا سمعوا القرآن رقّت له قلوبهم، ودنا بعضهم من بعض حبّا للقرآن حتى كادوا يتساقطون على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السّماء، فذلك قوله تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}

(2)

(1)

أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 10 ص 49،وإسناده ضعيف، بل واه.

(2)

الأحقاف 29/.

ص: 360

فآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى قومهم منذرين، ولم يأتوا إبليس

(1)

.

وقالوا لقومهم: {(إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً)} أي بليغا ذا عجب يعجب من بلاغته وحسن نظمه،

{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ؛} أي يدعو إلى الصّواب من التوحيد والإيمان، {فَآمَنّا بِهِ؛} وصدّقنا به أنّه من عند الله، {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً} (2)؛من بعد هذا اليوم، كما أشرك إبليس.

فاستجاب لهم جماعة من الجنّ فجاءوا بهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأقرأهم القرآن فآمنوا به، وقالوا: يا رسول الله إنّ الأرض بيننا وبينك حجل ليس لنا فيه شيء، فقال صلى الله عليه وسلم:[لكم الرّوث وكلّ أرض سبخة تنزلون بها تكون مكلّبة لكم، ولكم العظم، وكلّ عظم مررتم عليه تجدون عليه اللّحم حيث يكون]

(2)

.

ثم يكره أن يستنجى بالعظم والرّوث. ثم انصرفت الجنّ عنه، فأوحى الله إليه بهذه الآيات لبيان أنّ الجنّ لمّا ظهر لهم الحقّ اتبعوه، فالإنس أولى بذلك لأنّهم ولد آدم، فكان المخالف منهم ألوم.

ومعنى الآية: قل يا محمّد لأهل مكّة: أوحي إليّ أنه استمع إلى القرآن طائفة من الجنّ، فلمّا رجعوا إلى قومهم قالوا: يا قومنا {(إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً)} بعد هذا اليوم؛ أي لا نتّبع إبليس في الشّرك،

{وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً} (3)؛هذا من قول الجنّ لقومهم، معطوف على قوله {(إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً)} وإنّه تعالى جدّ ربنا وعظمته عن أن يتّخذ صاحبة أو ولدا، وهذا كما يقال: فلان أعظم وأجلّ من أن يفعل كذا وكذا،

(1)

أصله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 12 ص 41 - 42:الحديث (12449).والطبري في جامع البيان: الحديث (27167).ومخرج في الصحيحين أيضا عند البخاري في الصحيح: كتاب الأذان: باب الجهر بقراءة صلاة الفجر: الحديث (773)،وفي تفسير سورة الجن: الحديث (4921).

(2)

جزء من حديث طويل، عن ابن مسعود في القراءة على الجن، أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الصلاة: باب الجهر بالقراءة في الصبح: الحديث (450/ 150).والترمذي في الجامع: أبواب التفسير: باب تفسير سورة الأحقاف: الحديث (3258) وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 361

فالجدّ: العظمة، وقال الحسن:(معنى الجدّ في هذه الآية الغنى)

(1)

ومنه قولهم في الدّعاء: [ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ] أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه.

قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً} (4)؛والمراد بالسّفيه في هذه الآية إبليس، وقيل: من كان لا يؤمن من الجنّ، وسفهه أن جعل لله صاحبة وولدا. والشّطط: السّرف في الخروج عن الحقّ، وسمي القول البعيد من قولهم: شططت الدّار إذا بعدت. وقيل: الشّطط: الكذب والجور، وهو وصفه بالشريك والولد.

قوله تعالى: {وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً} (5)؛أي قالت الجنّ: إنا ظننّا أنّ الإنس والجنّ كانوا لا يكذبون على الله بأنّ له شريكا وصاحبة وولدا حتى سمعنا القرآن وتبيّنا الحقّ منه.

قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً} (6)؛معناه: إنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نزلوا بواد، أو بأرض فأمسوا هنالك، قالوا: نعوذ بسيّد هذا الوادي من سفهاء قومه، أرادوا بذلك سيّد الجنّ، فيبيتون في جوار منهم يحفظونهم حتى يصبحوا، وقالت الجنّ: قد سدنا الجنّ والإنس حتى بلغ سؤددنا الإنس فزادهم تعوّذ الإنس لهم رهقا؛ أي كبرا وعظمة في نفوسهم وسفها وطغيانا وظلما.

وعن كردم بن أبي السّائب الأنصاريّ

(2)

قال: (خرجت مع أبي إلى المدينة وآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلمّا انتصف اللّيل جاءنا ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الرّاعي فنادى: يا عامر الوادي جارك! فنادى مناديا لا نراه: يا سرحان أرسله. فأتى الحمل يشتدّ حتّى دخل بين الغنم لم يصبه شيء، فأنزل الله تعالى على

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27177).

(2)

في المخطوط: (كرم بن السائب)،والصحيح كما أثبتناه. ترجم له ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة: الرقم (7394).وابن عبد البر في الاستيعاب: الرقم (2208) وذكره (كردم بن أبي السنابل الأنصاري).واختلفوا باسمه وصحبته، والغالب أنه ممن لحق بالصحبة صغيرا، وتابع الصحابة وأخذ عنهم، والله أعلم.

ص: 362

رسوله بمكّة (وأنّه كان رجال من الإنس يعودون برجال من الجنّ فزادوهم رهقا»

(1)

.قال ابن عبّاس: (يعني زادوهم بهذا التّعوّذ طغيانا حتّى قالوا: سدنا الإنس والجنّ).والرّهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم.

قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً} (7)؛ معناه: أنّ كفار الجنّ ظنّوا كما ظننتم يا أهل مكّة، أن لن يبعث الله رسولا، ويقال:

أن لن يبعث الله أحدا من قبره بعد الموت. والمعنى: أنّهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، كما أنّكم أيّها المشركون لا تؤمنون.

قالت الجنّ: {وَأَنّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} (8)؛هذا إخبار «عن»

(2)

قول الجنّ الذين سمعوا القرآن وآمنوا به ورجعوا إلى قومهم منذرين. والمعنى: إنّا صعدنا السّماء وأتيناها للطّلب كما كنّا نسمع إلى الملائكة من قبل، فوجدناها ملئت حفظة أقوياء من الملائكة، ونيرانا مضيئة يرمون بها إلينا ويزجرونا عن الاستماع. والحرس: جمع الحارس وهو الحافظ.

والشّهب: جمع الشّهاب، وهو الشعاع الذي يحدث من النجم ويستنير في الهواء، تسميه العامّة: الكوكب المنقضّ.

قوله تعالى: {وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ؛} روي عن ابن عبّاس أنه قال: (لم تكن قبيلة من الجنّ إلاّ ولها من السّماء مقاعد للسّمع، فكان إذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيت على الصّفا، فإذا سمعته الملائكة خرّوا لها سجّدا، ثمّ تقول الملائكة بعضهم لبعض: ماذا قال ربّكم؟ فإن كان ممّا يكون في السّماء قالوا: الحقّ وهو العليّ الكبير، وإذا كان ممّا يكون في الأرض من عيب أو موت تكلّموا به، فتسمعه الشّياطين فينزلون به على أوليائهم من الإنس. فلمّا بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم زجروا بالنّجوم) فذلك قوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ}

(1)

في الدر المنثور: ج 8 ص 298؛ قال السيوطي: (وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن عساكر عن كردم بن أبي السائب رضي الله عنه

) وذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الحديث (19002).

(2)

(عن) سقطت من المخطوط.

ص: 363

{الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً} (9)؛أي من يحاول الاستماع الآن يجد له كوكبا قد أرصد له يرميه بناره.

قوله تعالى: {وَأَنّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} (10)؛معناه: أنّهم قالوا: لا ندري أنّا رمينا بالشّهب أنّ الله تعالى أراد إنزال العذاب بالناس لمعاصيهم، أو أراد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّ السماء لم تحرس قطّ إلاّ لنبوّة، أو لعقوبة عاجلة عامّة.

قوله تعالى: {وَأَنّا مِنَّا الصّالِحُونَ وَمِنّا دُونَ ذلِكَ؛} أي منّا المطيعون له في أمره ونهيه، ومنّا أهل المعاصي، {كُنّا طَرائِقَ قِدَداً} (11)؛أي كنا أهل ملك شتّى مؤمنين وكافرين. وقيل: كنّا جماعات متفرّقين وأصنافا مختلفة. والقدّة: القطعة من الشّيء، يقال: صار القوم قددا إذا تفرّقت حالاتهم، قال الحسن:(الجنّ أمثالكم، منهم مرجئة وقدريّة ورافضيّة وشيعة)

(1)

.

وقال الأخفش: (معنى قولهم (كنّا طرائق) أي ضروبا).وقال أبو عبيد:

(أصنافا)،وقال المؤرج

(2)

: (أجناسا).وقال ابن كيسان: (شيعا وفرقا لكلّ فرقة هوى).وقال ابن المسيّب: (كنّا مسلمين ويهودا ونصارى).ويقال: فلان طريقة قومه؛ أي سيّد مطاع فيهم.

قوله تعالى: {وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ؛} أي إنّا علمنا أن لن نعجز الله في الأرض إذا أراد بنا أمرا، {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} (12)؛أي إنّه يدركنا حيث كنّا.

قوله تعالى: {وَأَنّا لَمّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنّا بِهِ؛} أي لما سمعنا القرآن آمنّا به؛ وصدّقنا أنه من عند الله، {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً؛} أي لا يخاف نقصانا من ثواب عمله، {وَلا رَهَقاً} (13)؛أي ولا ظلما ولا مكروها يخشاه.

(1)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 15 ذكره القرطبي وعزاه عن السدي.

(2)

في المخطوط: (المؤرخ) والصحيح (المؤرج) وسيأتي ذكره.

ص: 364

قوله تعالى: {وَأَنّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ؛} أي ومنّا الجائرون الظّالمون، قال ابن عبّاس:(القاسطون هم الّذين جعلوا لله ندّا)،فالقاسط: هو العادل عن الحقّ، والمقسط: هو المعدل إلى الحقّ، ونظيره: ترب الرجل إذا افتقر، وأترب إذا استغنى، فالأول هو الذي ذهب ماله حتى قعد على التّراب، والثاني كثر ماله حتى صار كالتّراب.

قوله تعالى: {فَمَنْ أَسْلَمَ؛} معناه: فمن أخلص بالتوحيد، {فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} (15)؛أي العادلون عن طريقة الإسلام، فأولئك بمنزلة الحطب في النار تشتعل النار في أبدانهم، إلى هنا كلام الجنّ وانقطع.

قوله تعالى: وألو {اِسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً} (16)؛ أوحى إلى أنه لو استقام أهل مكّة على طريقة الهدى، لوسّعنا عليهم أرزاقهم بالمطر والنبات والماء. والغدق: الكثير، قال مقاتل:(معناه: لأسقيناهم ماء كثيرا من السّماء بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين) ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ}

(1)

،وقوله تعالى:{لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}

(2)

،ويقال: مكان غدق بكسر الدال إذا كان كثير النّداء، وعيش غدق أي واسع، والغدق بفتح الدال مصدر.

قوله تعالى: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ؛} أي لنتعبّدهم بالشّكر، وذهب الكلبيّ إلى أنّ معنى الآية لو استقاموا على طريقة الكفر والضّلال فكانوا كفّارا كلّهم لأعطيناهم ماء كثيرا ووسّعنا عليهم وأرغدنا عيشهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجا حتى يفتنوا بهذا فنعذّبهم، قال عمر رضي الله عنه:(أين ما كان المال كانت الفتنة)

(3)

ودليل هذا

(1)

الأعراف 60/.

(2)

المائدة 66/.

(3)

نقله أيضا الثعلبي في الكشف والبيان: ج 10 ص 53.والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 18.وتمامه: (أينما كان المال كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة).

ص: 365

التأويل قوله تعالى: {فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ}

(1)

.

والقول الأوّل أولى؛ لأنّ الطريقة معرّفة بالألف واللاّم، ولا تذكر الاستقامة إلاّ على الحقّ.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً} (17)؛ يعني من يعرض عن القرآن ندخله عذابا شاقّا ذا صعد؛ أي ذا مشقّة، والصّعد:

الشّاقّ الشديد، ومنه قولهم: تنفّس الصّعداء، وفي الحديث:[صخرة ملساء في جهنّم يكلّف الكافر صعودها، يجذب من لقامه بالسّلاسل، ويضرب من خلفه بالمقامع، فإذا انتهى إلى أعلاها ولا يبلغه في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، فكان دأبه هذا أبدا]

(2)

.ويقال: سلكت الشّيء أو أسلكته بمعنى واحد وهو الإدخال. قرأ كوفي ويعقوب «(يسلكه)» بالياء، وقرأ مسلم بن جندب «(نسلكه)» بنون مضمومة وكسر اللام.

قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} (18)؛يعني هذه المساجد المغلوقة لم تبن إلاّ لذكر الله، فلا تدعوا مع الله فيها أحدا غير الله كما تدعوا النّصارى في بيعهم، وكما دعا المشركون في كعبة ربهم، وعن الحسن قال:(من السّنّة أنّه إذا دخل المسجد أن يقول: لا إله إلاّ الله لا أدعو مع الله أحدا).وقيل: إنّ المساجد ما يسجد الإنسان عليه من جبهته ويديه وصدور قدميه، فلا تضعوا هذه الآراب

(3)

في التراب لغير خالقها.

قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ؛} معناه: وأنّه لمّا قام النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويقرأ القرآن في الصّلاة ببطن نخلة بين مكّة والطائف إذ أتى تسعة من الجنّ، {كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} (19)،أي كادوا يسقطون عليه رغبة في القرآن وتعجّبا منه وحبّا لاستماعه.

(1)

الأنعام 44/.

(2)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 20؛ قال القرطبي: (وقال عكرمة) ثم ساقه عن الكلبي وقال: (يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد

).

(3)

في المخطوط: (الآداب) والمناسب الآراب، وهي (الأعضاء) كما في قول طلق بن حبيب. ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 20.

ص: 366

ومعنى (لبدا) كاد يركب بعضهم بعضا في الازدحام، وقرأ «(لبدا)» وهي قراءة مجاهد، فهي بمعنى الكثير من قوله {أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً}

(1)

،وقال الحسن وقتادة:(لمّا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبّدت الإنس والجنّ على أن يطفئوا نور الله، فأبى الله إلاّ أن ينصره ويظهره على من ناوأه)

(2)

.

ويقال: لمّا قام صلى الله عليه وسلم في عبادته بمكّة، كاد مشركو مكّة بشدّة كيدهم له أن يكونوا عليه متكاتفين بعضهم فوق بعض ليزيلوه بذلك عن دعوته إلى الله.

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} (20)؛أي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل مكّة حيث قالوا له: إنّك جئت بأمر عظيم فارجع عنه، فقال:{(إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي)} أي أعبده وأدعو الخلق إليه {(وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً)} .

قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً} (21)؛أي قل لأهل مكّة: لا أملك تغيير نعم الله عليكم، ولا أجبركم على العبادة، ولا يملك ضرّكم ورشدكم إلاّ الله،

{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ؛} وإنما أنا عبد خاضع، إن غضب فلا مجير لي ولا ناصر، {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} (22)؛أي مدخلا في الأرض، ولا ملجأ ألجأ إليه، ولا حوزا أقبل إليه. واشتقاق الملتحد من اللّحد.

قوله تعالى: {إِلاّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ؛} أي لا ينجيني من عذاب الله إلاّ أن أبلّغ عن الله ما أرسلت به، وبذلك أرجو النجاة، ونيل الكرامة. قوله تعالى:

{وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً} (23)؛معناه:

ومن يعص الله ورسوله من الأمم بعد البلاغ فلم يؤمن، فإنّ له نار جهنّم. جواب الشرط بالفاء ولذلك لا يجوز بالكسر (خالدين فيها) نصب على الحال.

قوله تعالى: {حَتّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ؛} ابتداء كلام، والعرب تبتدئ ب (حتى) والمعنى: إذا رأى الكفار الذين يستطيلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم العذاب إمّا في الدّنيا

(1)

البلد 6/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27235) عن قتادة.

ص: 367

أو في الآخرة، {فَسَيَعْلَمُونَ؛} عند ذلك، {مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} (24) أي من أضعف مانعا وأقلّ جندا، أهم أم المؤمنون؟

فلمّا سمعوا هذا قال النّضر بن الحارث: متى هذا الوعد الذي تعدنا به؟ فأنزل الله: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ؛} من العذاب؛ أي ما أدري أقريب هذا العذاب، {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} (25)؛أي غاية وبعدا، قال عطاء:

(يعني أنّه لا يعلم يوم القيامة إلاّ الله تعالى وحده)

وهو قوله تعالى: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً} (26)؛أي لا يطلع على غيبه أحدا من خلقه،

{إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ؛} فإنه إذا أراد اطلاعه بالوحي على ما يشاء على الغيب، {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (27)،أي جعل من بين يدي الرسول ومن خلفه حفظة من الملائكة ليحيطوا به، ويحفظونه، ويحفظوا الوحي من أن تسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكهنة.

وذلك أنّ الله تعالى كان إذا أنزل جبريل بالوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، أرسل ملائكة يحيطون به وبالنبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ من وجهه، كيلا يقرب منه شيطان ولا جانّ يذهبون به إلى كهنتهم حتى يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أوّل من تكلّم به؛ ليكون ذلك دليلا على نبوّته.

قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ؛} أي ليعلم محمّد صلى الله عليه وسلم أنّ الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم، وأنّ الرسالة لم تصل إلى غيره. وقيل: ليعلم الجنّ والإنس أنّهم قد أبلغوا. وفي قراءة ابن عبّاس «(ليعلم)» بضم الياء. وهذه الآية تدلّ على أنه يعلم بالنجوم ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك، فهو كافر بالقرآن وبما فيه.

قوله تعالى: {وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ؛} أي أحاط علمه بما عندهم، يعني أحاط علم الله بما عند الرّسل فلم يخف عليه شيء، {وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (28) أي علم عدد الأشياء وأوقاتها كلّها مع كثرتها على تفاصيلها، لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذرّ والخردل.

آخر تفسير سورة (الجن) والحمد لله رب العالمين

ص: 368