الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الطّور
سورة الطّور مكّيّة، وهي ألف وخمسمائة حرف، وثلاثمائة واثنتي عشرة كلمة، وتسع وأربعون آية.
قال صلى الله عليه وسلم: [من قرأ سورة الطّور كان حقّا على الله أن يؤمّنه من عذابه وأن ينعّمه من جنّته]
(1)
.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ} (2)؛الطور هو الجبل الذي كلّم الله موسى وهو بمدين بالأرض المقدّسة، واسمه زبير، وكلّ جبل فهو طور بالسّريانية، قال أبو عبيدة: (الطّور الجبل بالعربيّة؛ لأنّ الله تعالى قال: {وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ}
(2)
).والكتاب المسطور: هو اللّوح المحفوظ المتضمّن كلّ الأمور.
وقوله تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} (3)؛يعني اللّوح أيضا تنشره الملائكة للدراسة وليعلموا ما فيه. وقيل: الكتاب المسطور: صحائف أعمال بني آدم يوم القيامة، فيعطى كلّ واحد كتابه بيمينه أو بشماله، ونظيره {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}
(3)
وقوله تعالى: {نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً}
(4)
.
(1)
هو الحديث في فضائل القرآن سورة سورة، أخرجه الثعلبي بسنده عن أبي بن كعب، وهو إسناد باطل. ينظر: الكشف والبيان للثعلبي: ج 9 ص 123.
(2)
النساء 154/.
(3)
التكوير 10/.
(4)
الاسراء 13/.
قوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (4)؛هو بيت في السّماء الرابعة بحيال الكعبة، معمور لحسن الثناء وزيارة الملائكة، حرمته في السّماء كحرمة الكعبة في الأرض، ما بينه وبين الكعبة إلى نجوم الأرض السابعة حرم يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه أبدا، لو سقط منه حجر لوقع على ظهر الكعبة. ويقال:
البيت المعمور هو الكعبة، معمور بزيارة الناس إياه.
قوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} (5)؛يعني السّماء، قال الله تعالى:
{وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً}
(1)
سمّاها سقفا؛ لأنّها للأرض كالسّقف للبيت.
قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (6)؛يعني الموقد المحميّ، بمنزلة التّنّور المسجور، كأنه قال: والبحر المملوء بالنّار الموقدة، كما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال:(هو بحر حارّ يفتح يوم القيامة في جهنّم)،وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:[لا يركب البحر إلاّ حاجّ أو معتمر أو مجاهد في سبيل الله، فإنّ تحت البحور نار]
(2)
.
وقال قتادة: (المسجور: المملوء)،وفي الحديث:[أنّ الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلّها نارا، فيسجرها في جهنّم].وعن ابن عبّاس أنه قال: (المسجور المحبوس).
وعن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: (البحر المسجور بحر فوق السّماء السّابعة تحت العرش، عمقه كما بين السّماء السّابعة إلى الأرض السّابعة وهو بحر غليظ، سمّي الحيوان يحيي به الله الخلائق يوم القيامة يوم البعث تمطر أربعين صباحا فينبتون به في قبورهم).
أقسم الله بهذه الأشياء لما فيها من الدّلالة الواضحة على وحدانيّة الله تعالى وعظم قدرته على أنّ تعذيب المشركين حقّ،
وهو قوله تعالى: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ} (7)؛أي كائن في الآخرة واقع بأهله،
{ما لَهُ مِنْ دافِعٍ} (8)؛ يدفعه عنهم.
(1)
الأنبياء 32/.
(2)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الجهاد: باب في ركوب البحر في الغزو: الحديث (2489). ورواه البزار وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. قاله الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 5 ص 282.
ثم بيّن متى يقع بهم ذلك العذاب فقال: {يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً} (9) أي تدور دورانا وتضطرب وتتحرّك، والمور في اللغة: الذهاب والمجيء والتردّد والدوران. قيل: إنّها تدور كما تدور الرّحى، ويموج بعضها في بعض.
قوله تعالى: {وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً} (10)؛أي تسير الجبال على وجه الأرض كما يسير السّحاب في الدّنيا فيستوي بالأرض. وقيل: معناه: تزول الجبال عن أماكنها وتصير هباء منثورا،
{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (11)؛أي فشدّة العذاب يومئذ للمذنبين،
{الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} (12)؛يخوضون في حديث محمّد بالتّكذيب والاستهزاء، يلهون بذكره.
قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} (13)؛أي يدفعون إلى نار جهنّم دفعا على وجوههم يحفّونه
(1)
،قال مقاتل:(تغلّ أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثمّ يدفعون إلى نار جهنّم دفعا على وجوههم، حتّى إذا دنوا منها قال لهم خزنتها: ذوقوا عذاب النّار الّتي كنتم بها تكذّبون في الدّنيا)
(2)
.
والدّعّ: هو الدفع بشدّة وعنف، تدفعهم الملائكة فيلقونهم في النار على وجه الاستخفاف، ويقولون لهم:{هذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ} (14).
قرأ أبو رجاء العطاردي: «(يوم يدعون إلى نار جهنّم دعا)» بالتخفيف من الدّعاء.
وتقول لهم ملائكة العذاب: {أَفَسِحْرٌ هذا؛} كما كنتم تزعمون في الدّنيا وتنسبون الأنبياء عليهم السلام إلى ذلك، {أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} (15)،أي قد غطّى على أبصاركم، وهذا على وجه التّوبيخ، والمعنى: أتصدّقون الآن أنّ عذاب الله واقع،
ويقال لهم: {اِصْلَوْها؛} أي اصلوا النار، الزموها وقاسوا شدّتها، {فَاصْبِرُوا؛} على العذاب، {أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ؛} الصبر والجزع، {إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (16)؛من الكفر والتكذيب.
(1)
حفّوا حوله: أي أطافوا به واستداروا.
(2)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 283.
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ؛} أي فاكهين؛ أي ذووا فاكهة كثيرة، وفكهين متعجّبين ناعمين، {وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} (18)؛أي ضرّه عنهم،
يقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (19)؛أي كلوا أكلا هنيئا، واشربوا شربا هنيئا، مأمون العافية من التّخمة والسّقم.
وقيل: انتصب قوله تعالى: (هنيئا) لأنه في صفة المصدر؛ أي هنئتم هنيئا، وهو أن يكون خالصا من جميع الآفات وأسباب التّنغيص.
قال زيد بن أرقم: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم؛ تزعم أنّ أهل الجنّة يأكلون ويشربون. فقال: [والّذي نفسي بيده؛ إنّ الرّجل منهم ليؤتى قوّة مائة رجل في الأكل والشّرب والجماع] قال الرّجل: فإنّ الّذي يأكل ويشرب يكون منه الغائط؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [ذاك عرق يفيض مثل ريح المسك، فإذا كان ذلك ضمر له بطنه]
(1)
.
قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ؛} في ذكر حالهم معناه: جالسين جلسة الملوك على سرر قد صفّ بعضها إلى بعض، وقوبل بعضها ببعض، {وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (20)؛الحور: البيضاء نقيّة البياض من الحسن والكمال، والعين: الواسعات الأعين.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ؛} يعني أولادهم الصّغار والكبار؛ لأن الكبار يتبعون الآباء بإيمانهم منهم، والصغار يتبعون الآباء بإيمان من الآباء، والولد يحكم له بالإسلام تبعا للوالد، {أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ؛} يرفعون إليهم لتقرّ بهم أعينهم وإن كانوا دونهم في العمل تكرمة لآبائهم.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 5 ص 177 - 178:الحديث (5004 - 5008).والإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 367 و 381.وفي مجمع الزوائد: ج 10 ص 216؛قال الهيثمي: (رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح غير ثمامة بن عقبة وهو ثقة).
وعن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ المؤمنين وأولادهم في الجنّة، والمشركين وأولادهم في النّار]
(1)
.وروي: أنّ خديجة بنت خويلد سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهليّة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[هما في النّار]
(2)
.
قوله تعالى: {وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ؛} أي لم ننقص الآباء من الثواب حين ألحقنا بهم ذرّيّتهم.
قرأ أبو عمرو «(وأتبعناهم)» بالألف والنّون «(ذرّيّاتهم)» بالألف وكسر الياءين لقوله (ألحقنا) و (ما ألتنا) لئلا يكون الكلام على نسق واحد. وقرأ الباقون «(واتّبعتهم)» بالتاء من غير ألف.
واختلفوا في قوله «(ذرّيّاتهم)» بالتاء فقرأ نافع الأول «(ذرّيّتهم)» بالتاء وضمّها بغير ألف، وقرأ الثاني «(ذرّيّاتهم)» بالألف وكسر التاء. وقرأ ابن عامر «(ذرّيّاتهم)» بالألف فيهما وكسر التاء، وقرأ الباقون بغير ألف فيهما وفتح الثانية.
قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} (21)؛أي كلّ امرئ كافر بما عمل من الشّرك مرتهن في النار، والمؤمن لا يكون مرتهنا لقوله:{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلاّ أَصْحابَ الْيَمِينِ}
(3)
واستثنى المؤمنين.
قوله تعالى: {وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمّا يَشْتَهُونَ} (22)؛معناه:
نزيدهم في كلّ وقت من ألوان الفاكهة، ومن كلّ لحم مما يشتهون من الأنعام والطّيور المطبوخ والمشويّ.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3796).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 114؛ قال الهيثمي: (رواه البزار وفيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري وفيه ضعف).وليس في إسناد الحاكم قيس هذا، وفي إسناده عمرو بن مرة، وثقه ابن معين وغيره.
(2)
في مجمع الزوائد: ج 7 ص 217:باب ما جاء في الأطفال؛ قال الهيثمي: (رواه الطبراني وأبو يعلى ورجالهما ثقات إلا عبد الله بن الحارث وابن بريدة لم يدركا خديجة).
(3)
المدثر 38/-39.
قوله تعالى: {يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً؛} أي يتعاطون ويتناولون فيها آنية مملوءة من الخمر، هذا من يد ذاك، وذاك من يد هذا، ولا يكون الكأس في اللغة إلاّ إذا كان مملوءا، فإذا كان فارغا فليس بكأس.
قوله تعالى: {لا لَغْوٌ فِيها؛} أي لا يجري بينهم كلام لغو ولا باطل، ولا تخاصم، {وَلا تَأْثِيمٌ} (23)؛أي لا يكون منهم في حال شربها ما فيه إثم كما يكون في خمر الدّنيا، وقال ابن قتيبة:(معناه: لا تذهب بعقولهم فيلهوا ويرفثوا كما يكون من خمر الدّنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم)،والمعنى: أنّ تلك الكأس لا تجعلهم آثمين.
قوله تعالى: {*وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ؛} أي يطوف عليهم الخدمة بالفواكه والأشربة وصفاء {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ؛} في الحسن والبياض، {مَكْنُونٌ} (24)؛مصون لا تمسّه الأيدي.
قال قتادة: (ذكر لنا: أنّ رجلا قال: يا نبيّ الله؛ هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: [والّذي نفسي بيده؛ إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب])
(1)
.قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ أدنى أهل الجنّة من ينادي الخادم من خدمة، فيجيبه ألف يقولون كلّهم: لبّيك لبّيك لبّيك]
(2)
.
قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} (25)؛أي أقبل بعضهم على بعض في الزّيادة يتحدّثون في الجنّة، ويتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدّنيا، ويتساءلون عن أحوالهم التي كانت في الدّنيا.
وقوله تعالى: {قالُوا إِنّا كُنّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ} (26)؛معناه:
إنّهم يقولون إنّا كنّا من قبل أن ندخل الجنّة خائفين في الدّنيا من القيامة وأهوالها، ومن النار وعذابها بمعصية وقعت منّا أو تقصير في طاعتنا،
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (25054).
(2)
ذكره الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب: الحديث (831).
بالمغفرة وقبول الطاعة، {وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ} (27)؛أي دفع عنّا عذاب سموم جهنّم،
{إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ؛} أي نوحّده ونعبده في الدّنيا، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (28)؛أي هو اللّطيف بعباده، الرّحيم بهم.
والسّموم: من أسماء جهنّم في قول الحسن، وقال الكلبيّ:(عذاب النّار)،وقال الزجّاج:(هو لفح جهنّم وحرّها).ومن قرأ «(إنّه هو)» بكسر الهمز فإنه استأنف الكلام.
قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} (29) أي فعظ بالقرآن أهل مكّة، ولا تترك وعظهم لنسبتهم إياك إلى الكهانة والجنون، فلست بحمد الله كما يقولون.
والكاهن هو المبتدع القول الذي يقول: معي تابع من الجنّ، والمعنى فما أنت بنعمة ربك بإنعامه عليك بالنبوّة بكاهن، وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر بما في غد من غير وحي؛ أي لست تقول ما تقوله كهانة ولا تنطق إلاّ بالوحي.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} (30)؛أي بل يقولون هو شاعر ننتظر به نوائب المنون فنستريح منه، وريب المنون: حوادث الدّهر وصروفه؛ أي ننتظر به حدثان الموت وحدثان الدّهر، فيهلك كما هلك من قبله من الشّعراء.
وفي اللغة: مننت الجبل؛ أي قطعته ومننت الشيء إذا أنقضته، والموت يقطع الأجل فسمّي المنون، والدهر ينقض فسمي المنون، وقد يكون المنون بمعنى المنيّة.
قوله تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُوا؛} أي انتظروا فيّ الموت، {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} (31)؛أي من المنتظرين عذابكم، فعذّبوا يوم بدر بالسّيف. وقيل:
معناه: قل تربّصوا بي الدوائر، فإنّي معكم من المتربصين بكم.
فأهلك الله القوم الذين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم هذا القول قبل قبضه عليه السلام وكان منهم أبو جهل، وكانوا يعلمون أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر كما علموا أنه صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون.
قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا؛} معناه: أم تأمرهم عقولهم بهذا، وذلك أنّ قريشا كانوا يعدّون في الجاهليّة أهل الأحلام ويوصفون بالعقل، فأزرى الله بحلومهم حيث لم يثمر لهم معرفة الحقّ من الباطل. وقيل لعمرو بن العاص:(ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقول؟ فقال: تلك عقول لم يصحبها التّوفيق)
(1)
.
وقوله تعالى: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} (32)؛أي بل هم قوم طاغون حملهم الطّغيان على تكذيبك يا محمّد، وكانوا يزعمون أنّ محمّدا كان لا يوازيهم في عقولهم وأحلامهم، فقيل لهم على وجه التعجّب: أتأمرهم أحلامهم بهذا الذي يفعلونه أم طغيانهم وإفراطهم في الكفر.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؛} معناه: يقولون إنّ محمّدا اختلق القرآن من تلقاء نفسه، والتّقوّل: تكلّف القول، لا يستعمل إلاّ في الكذب، بل ليس كما يقولون، {بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} (33)؛استكبارا. ثم ألزمهم الحجّة فقال تعالى:
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ؛} أي مثل القرآن في نظمه وحسن بنائه، {إِنْ كانُوا صادِقِينَ} (34)؛أن محمّدا تقوّله في نفسه، فإنّ اللسان لسانهم وهم مستوون في السّربة
(2)
.
قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ} (35)؛ معناه: أخلقوا من غير ربّ، وتكوّنوا من ذات أنفسهم؟ أم هم الخالقون فلا يسألون عن أعمالهم؟ قال ابن عبّاس:(معناه: أخلقوا من غير أمّ وأب فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجّة، أليسوا خلقوا من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة).
وقال ابن كيسان: (معناه: أخلقوا عبثا فيتركون سدى، لا يؤمرون ولا ينهون، أم هم الخالقون لأنفسهم؟ فلا يجب لله عليهم أمر)
(3)
.
(1)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 73.
(2)
السّرب-بالكسر-:النّفس، يقال: فلان آمن في سربه؛ أي في نفسه. مختار الصحاح: ص 293.
(3)
نقل البغوي هذه الأقوال في معالم التنزيل: ص 1240.والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 74.
قوله تعالى: {أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؛} فيكونوا هم الخالقون، بل ليس الأمر على هذا، {بَلْ لا يُوقِنُونَ} (36)؛بالحقّ وهو توحيد الله وقدرته على البعث.
قوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (37)؛معناه:
أبأيديهم مفاتيح ربك بالرّسالة، فيضعونها حيث شاءوا؟ وقيل: معناه: أبأيديهم مقدورات ربك. وقال الكلبيّ: (معناه: خزائن المطر والرّزق)
(1)
.
قوله: {(أَمْ هُمُ} المسيطرون) أي أم هم المسلّطون على الناس، فلا يكونوا بحيث أمر ولا نهي يفعلون ما شاءوا. ويقرأ «(المصيطرون)» بالصاد، والأصل فيه السّين، إلاّ أنّ كلّ سين بعدها (طاء)
(2)
يجوز أن تقلب صادا. وفي هذه الآية تنبيه على عجزهم وتلبيس لسوء طريقتهم.
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ؛} أي لهم مصعد ومرقاة يرتقون بها إلى السّماء يستمعون فيه الوحي ويعلمون أنّ ما هم عليه حقّ، {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ؛} إن كان لهم مستمع، {بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} (38)،بحجّة ظاهرة.
قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (39)؛هذا إنكار عليهم وتسفيه لأحلامهم، ومبالغة لتجهيلهم حيث يصفون البنات إلى الله بقولهم: بنات الله، ويضيفون البنين إلى أنفسهم.
وقوله تعالى: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً؛} معناه: أتسألهم يا محمّد على ما جئتهم من الدّين والشريعة أجرا؛ أي جعلا، {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} (40)؛أي أثقلهم ذلك الغرم الذي سألتهم، فمنعهم ذلك عن الإسلام. والمعنى: أسألتهم أجرة تثقلهم وتجدهم وتمنعهم عن الاستماع إلى ذلك.
(1)
ذكره القرطبي عن ابن عباس كما في الجامع لأحكام القرآن: ج 17 ص 74.
(2)
في المخطوط: أسقط (الطاء) وجعلها (فلا).وضبط النص كما في معاني القرآن وإعرابه للزجاج: ج 5 ص 53.
قوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} (41)؛قال قتادة: (هذا جواب لقولهم: نتربّص به ريب المنون. فقال الله تعالى: أعندهم الغيب حتّى علموا أنّ محمّدا يموت قبلهم فهم يكتبون).وقيل: معناه: أعندهم علم الغيب حتى علموا أنّ ما يخبرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمر القيامة والبعث والحساب والثواب والعقاب باطل غير كائن.
قوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} (42)؛أي بل يريدون بك كيدا ومكرا ليهلكوا بذلك المكر، وهو كيدهم به في دار النّدوة، فالذين كفروا هم المجازون على كيدهم، ويحيق ذلك الكيد والمكر بهم، فقتلوا يوم بدر وأسروا.
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ؛} يمنعهم من مكر الله وعذابه ويحفظهم وينصرهم، {سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ} (43)؛به من آلهة، وسبحانه عن أن يكون له ولد.
و (أم) في هذه السّورة في خمسة عشر موضعا، عشرة منها ليست إلاّ على وجه الإنكار، وفي الخمسة ما يحتمل الإنكار ويحتمل غيره.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ} (44) معناه: إنّ هؤلاء لا يؤمنون حتى لو رأوا قطعا من العذاب ساقطا عليهم لطغيانهم وعتوّهم، يقولوا سحاب مركوم، قد ركم بعضه على بعض، فيلبسوا على أنفسهم بغاية جهلهم ما يشاهدون.
قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ؛} أي اتركهم، {حَتّى يُلاقُوا؛} يعاينوا، {يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} (45)؛أي يهلكون، والصّعق: الهلاك بما يصدع القلب، وقيل: المراد بالصّعق ههنا اليوم الذي فيه النفخة الأولى. قرأ الأعمش وعاصم وابن عامر «(يصعقون)» بضمّ الياء؛ أي يهلكون من أصعقهم الله إذا أهلكهم،
{يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (46)؛وذلك اليوم لا ينفعهم كيدهم ولا يمنعهم من العذاب مانع.
قوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ؛} معناه: إنّ لهؤلاء الكفّار عذابا دون عذاب الآخرة، يعني القبر. وقيل: معناه: إنّ لكفّار مكّة عذابا في الدّنيا قبل عذاب الآخرة، يعني القتل ببدر، وقال مجاهد:(الجوع والقحط)
(1)
، {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (47)؛ما هو نازل بهم.
قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ؛} أي اصبر لحكم ربك إلى أن يقع بهم العذاب، وقيل: اصبر على تبليغ الوحي والرسالة إلى أن يقضي لك ذلك ربّك فيهم، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا؛} أي فإنّك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، وإنّهم لا يصلون إلى مكروهك.
قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (48)؛يعني تقوم من النّوم، كما روي: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا انتبه قال: [الحمد لله الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور]
(2)
.
وعن الربيع بن أنس: (أنّ المراد به القيام في الصّلاة، وهو ما يقال عند تكبيرة الافتتاح [سبحانك اللهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك])
(3)
.
وقيل: المراد بهذه الآية صلاة الفجر عند القيام من النّوم، ويقال: المراد منه التسبيح عند القيام من كل مجلس، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [كفّارة المجالس كلمات جاءني جبريل بهنّ: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25077).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 397 و 407.والبخاري في الصحيح: كتاب الدعوات: باب ما يقول إذا نام: الحديث (6312).وابن حبان في الصحيح: كتاب الزينة والتطيب: الحديث (5532).
(3)
الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 50 و 69.وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب من رأى الاستفتاح بسبحانك: الحديث (775) ووهنه، وعن عائشة في الرقم (776) ووهنه أيضا. وأخرجه الترمذي في الجامع: أبواب الصلاة: الحديث (242) عن أبي سعيد وضعفه، ونقل عن الإمام أحمد قوله:(لا يصح هذا الحديث)،وفي الرقم (243) عن عائشة وضعفه أيضا.
أنت، أستغفرك وأتوب إليك. فإن كان مجلس ذكر، كان كالطّابع عليه إلى يوم القيامة، وإن كان مجلس لغو، كان كفّارة لما كان قبله]
(1)
.
والأقرب إلى الظاهر من هذه التّأويلات: أنه صلاة الفجر؛ لأنّ الله تعالى عقّبه بقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ؛} والمراد به صلاة المغرب والعشاء، وأما، {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} (49)؛فركعتان قبل فريضة الفجر، كما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال:
(إدبار السّجود الرّكعتان بعد المغرب، وإدبار النّجوم الرّكعتان قبل الفجر)
(2)
.وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [ركعتا الفجر خير من الدّنيا وما فيها]
(3)
.
آخر تفسير سورة (الطور) والحمد لله رب العالمين.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 369.والطبراني في الأوسط: الحديث (77 و 6850)، وفي الكبير: الحديث (1586).والترمذي في الجامع: أبواب الدعوات: الحديث (3433).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (25086 و 25087).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 50 و 51.ومسلم في الصحيح: كتاب صلاة المسافرين: باب استحباب ركعتي الفجر: الحديث (69 و 725/ 97).