المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المزّمّل سورة المزّمّل مكّيّة إلى قوله {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٦

[أبو بكر الحداد]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمّد صلى الله عليه وسلم

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذّاريات

- ‌سورة الطّور

- ‌سورة النّجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصّفّ

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التّغابن

- ‌سورة الطّلاق

- ‌سورة التّحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة ن (القلم)

- ‌سورة الحاقّة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجنّ

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثّر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الدّهر

- ‌سورة والمرسلات

- ‌سورة النّبأ

- ‌سورة النّازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة انشقّت (الانشقاق)

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطّارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشّمس

- ‌سورة اللّيل

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌سورة والتّين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة (القدر)

- ‌سورة لم يكن

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التّكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة (الكافرون)

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة تبّت (المسد)

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

الفصل: ‌ ‌سورة المزّمّل سورة المزّمّل مكّيّة إلى قوله {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ

‌سورة المزّمّل

سورة المزّمّل مكّيّة إلى قوله {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى .. } . إلى آخر السّورة، فإنّ ذلك نزل بالمدينة، وعدد حروف هذه السّورة ثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وسبع وعشرون آية. قال صلى الله عليه وسلم:[من قرأها رفع العسر عنه في الدّنيا والآخرة]

(1)

.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1)؛الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم نودي في حال كونه متلففا بثيابه في بعض اللّيل، وأمر بالقيام بالصّلاة وهجران النوم، والمعنى: يا أيّها المتلفّف بثيابه، يقال: تزمّل وتدثّر بثوبه إذا تغطّى به، وزمّل غيره إذا غطّاه.

قال أبو عبيد الله الجدلي

(2)

: (سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى {(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)} ما كان تزمّله؟ قالت: في مرط كان طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي. فسألتها ممّ كان؟ قالت:

والله ما كان خزّا ولا قزّا ولا

(3)

صوفا، كان سداه

(4)

شعرا ولحمته وبرا)

(5)

.قال السديّ: (معناه: يا أيّها النّائم قم فصلّ).قالت الحكماء: إنّما خوطب بالمزّمل والمدّثر

(1)

رواه الثعلبي عن أبي بن كعب، بإسناد واه.

(2)

هكذا رسمها الناسخ، فهي في المخطوط (الجدلي)،ولعله تصحيف ل (النخعي).

(3)

في المخطوط: (إلا صوفا)

(4)

سداه وسداه، قال أبو بكر الرازي:(السّدى بالضم: المهمل، يقال: إبل سدى أي مهملة، وبعضهم سدى بالفتح. وأسداها أهملها).مختار الصحاح: ص 293.

(5)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 32؛ قال القرطبي: (ذكره الثعلبي).

ص: 369

في أوّل الأمر لأنه لم يكن بلغ شيئا من الرسالة، ثم خوطب بعد ذلك: يا أيّها النبيّ، يا أيّها الرسول.

قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} (3)؛ أي قم للصّلاة؛ أي صلّ أكثر الليل أو قم نصف الليل أو انقص من النّصف قليلا، أو انقص من النصف،

{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ،} خيّره الله تعالى في قيام الليل في هذه السّاعات.

قال المفسّرون: معنى قوله {(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً)} أي انقص من النصف إلى الثّلث أو زد على النّصف إلى الثّلثين، جعل له سعة في قيام الليل وخيّره في هذه السّاعات، قال الحسن:«فرض الله على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وهم بمكّة أن يقوموا بثلث اللّيل وما زاد» .

سئلت عائشة رضي الله عنها عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «أما تقرءون هذه السّورة {(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)}؟ قالوا: بلى، قالت: فإنّ الله فرض قيام اللّيل في أوّل هذه السّورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى انتفخت قدماه، وأمسك الله خاتمة السّورة اثنى عشر شهرا، ثمّ ترك التّخفيف في آخر السّورة بعد أن قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، فصار قيام اللّيل تطوّعا بعد ذلك»

(1)

.

وكان قيامه فرضا قبل أن فرض «الله» الصّلوات الخمس، ولا خلاف بين المسلمين في أنّ قيام الليل مندوب إليه مرغّب فيه، قال صلى الله عليه وسلم:[أحبّ الصّلاة إلى الله تعالى صلاة داود عليه السلام، كان ينام نصف اللّيل ويقوم ثلثه وينام سدسه. وأحبّ الصّيام إلى الله تعالى صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما]

(2)

.

(1)

في الدر المنثور: ج 8 ص 312؛ قال السيوطي: (أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ومحمد ابن نصر في كتاب الصّلاة والبيهقي في سننه عن سعد بن هشام) وذكره.

(2)

الحديث مطولا ومختصرا أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب التهجد: باب من نام عند السحر: الحديث (1131)،وأحاديث الأنبياء: الحديث (3420).ومسلم في الصحيح: كتاب الصيام: الحديث (1159/ 181) و (1159/ 189).وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وهو عند الإمام أحمد وعبد الرزاق.

ص: 370

وروي: (أنّ هذه الآيات لمّا نزلت قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان الرّجل من الصّحابة لا يدري متى ثلث اللّيل ومتى النّصف ومتى الثّلثان، فكان يقوم حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، حتّى شقّ عليهم ذلك وانتفخت أقدامهم وتغيّرت ألوانهم، فرحمهم الله تعالى وخفّف عنهم، ونسخ بقوله {(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى)}،وكان بين أوّل السّورة وآخرها سنة)

(1)

.

وقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (4)؛أي بيّنه بيانا واقرأه قراءة بيّنة. والتّرتيل: ترتيب الحروف على حقّها في تلاوتها بتبيّن وتثبّت من غير عجلة، وكذلك التّرسّل. والمعنى: تفهّم معانيه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه. وأما الحدر فهو الإسراع في القراءة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:[كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيلا] أي ترسّلا

(2)

.وقال أبو حمزة: «قلت لابن عبّاس: إنّي رجل في قراءتي وكلامي عجلة، فقال ابن عبّاس: لئن أقرأ البقرة وأرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن كلّه هذرمة» .

قوله تعالى: {إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (5)؛ليس على ثقل الحفظ، ولكن قال الحسن:«إنّهم ليهذّون هذاؤه، ولكنّ العمل به ثقيل»

(3)

.وقال قتادة:

«ثقيل والله فرائضه وحدوده»

(4)

،وقال مقاتل:«ثقيل لما فيه من الأمر والحدود»

(5)

.وقال أبو العالية: «ثقيل بالوعد والوعيد والحلال والحرام، فلا يقدر أحد أن يؤدّي جميع أوامره إلاّ بتكلّف يثقل» .

(1)

في الدر المنثور: ج 8 ص 213؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس) وذكره.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: بأسانيد (27268 - 27270) عن الحسن ومجاهد.

(3)

رواه الطبري في جامع البيان: الأثر (27274) بمعناه. والهدّ: سرعة القراءة. وفي الدر المنثور: ج 8 ص 314؛ قال السيوطي: (وأخرج العسكري في المواعظ عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً قال: [بيّنه تبيينا، ولا تنثره نثر الدّقل، ولا تهذّه هذّ الشّعر، قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السّورة].

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27275).

(5)

قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 409.

ص: 371

ويقال: معناه: كلاما محكما ليس بسفساف كما يقال: هذا كلام له وزن.

وقيل: إنما سمي ثقيلا لثقله في الميزان مع خفّته على اللسان، وعن الحسن في قوله تعالى {(إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)} قال:«العمل» ،وقيل: ثقيل لا يحمله إلاّ القلب المؤيّد بالتوفيق ونفس مؤمنة بتوحيده.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: [لقد رأيته ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الشّديد البرد فينفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصد عرقا]

(1)

.وقالت عائشة أيضا: [إن كان ليوحى إليه وهو على راحلته فتضرب بجرانها]

(2)

.

قوله تعالى: {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً؛} معناه: إنّ القيام في ساعات الليل أثقل وأشدّ على القائم من القيام بالنّهار؛ لأن الليل إنما خلق للرّاحة والسّكون، ففعل الطاعة فيه أشدّ من فعلها بالنهار، وقال ابن مسعود:«إنّ ناشئة اللّيل قيام اللّيل» .وقالت عائشة: «النّاشئة القيام بعد النّوم» ،وعن ابن الأعرابيّ:«إذا نمت من أوّل اللّيل، ثمّ قمت فتلك النّاشئة» ومنه ناشئة اللّيل.

وقيل: ناشئة الليل ساعتها كلّها، وكلّ ساعة منه فهي ناشئة، سميت بذلك؛ لأنّها تنشئ، ومنه نشأت السّحابة إذا بدت، وجمعها ناشئات، وعن حاتم بن أبي صغيرة قال:«سألت ابن أبي مليكة عن ناشئة اللّيل فقال: على اللّبيب سقطت، سألت ابن عبّاس فزعم أنّ اللّيل كلّه ناشئة، وسألت الزّبير عنها فأخبرني مثل ذلك»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب بدء الوحي: الحديث (2).

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 118.وفي الدر المنثور: ج 8 ص 316؛ قال السيوطي: (أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة) وذكره. وأخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3919)؛وقال: حديث صحيح الإسناد.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27279).

ص: 372

وقال ابن جبير: «أيّ ساعة قام من اللّيل فقد نشأ»

(1)

،وقال قتادة:«ما كان بعد العشاء فهو ناشئة»

(2)

.وقال عبيد بن عمير لعائشة رضي الله عنها: «رجل قام من أوّل اللّيل أيقال له ناشئة؟ قالت: لا؛ إنّما النّاشئة القيام بعد النّوم» .وقال ابن كيسان: «هي القيام من آخر اللّيل» .وعن ابن عبّاس قال: «إذا نشأت قائما فهو ناشئة»

(3)

،وعن مجاهد أنه قال:«إذا قام الإنسان اللّيل كلّه فصلّى فهو ناشئة، وما كان بعد العشاء الأخيرة فهو ناشئة» .

قوله تعالى: {(هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)} أي أثقل على المصلّي من ساعات النّهار، من قول العرب: اشتدّت على القوم وطأة السّلطان؛ إذا ثقل عليهم ما يلزمهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:[اللهم اشدد وطأتك على مضر]

(4)

.

وقرأ أبو عمرو وابن عامر «(وطئا)» بكسر الواو والمدّ على معنى المواطأة والموافقة، ومنه قوله تعالى:{لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ}

(5)

،قال ابن عبّاس:«يواطئ السّمع القلب» ،والمعنى: أنّ صلاة ناشئة الليل يواطئ السمع والقلب فيها أكثر مما يواطئ في ساعات النّهار؛ لأن الليل أفرغ للانقطاع عن كثر ما يشغل بالنهار. ويقال:

واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطأة؛ إذا وافقته عليه.

قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ قِيلاً} (6)؛أي أبين قولا بالقرآن، وقيل: أستر استقامة وأطرب قراءة، وعبادة الليل أشدّ نشاطا وألذّ إخلاصا وأكثر بركة.

قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً} (7)؛أي إنّ لك في النهار تصرّفا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك، وسعة لتصرّفك وقضاء حوائجك، والمعنى: إنّ لك في النّهار فراغا للنّوم والتصرّف في الحوائج، فصلّ من الليل.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27280).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27290).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27286).

(4)

تقدم.

(5)

التوبة 37/.

ص: 373

والسّبح: التقلّب، ومنه السّابح في الماء لتقلّبه بيديه ورجليه. وقيل: معناه: إنّ لك في النهار تصرّفا واشتغالا في حوائجك حيث لا تتفرّغ لصلاة النّفل، فخذ حظّك من قيام الليل، وكان شغل النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنّهار ما كان عليه من تبليغ الوحي والرّسالة وتعليم الناس الفرائض والسّنن، وقيامه بأدائها وأمور معاشه ومعاش عياله.

قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (8)؛معناه: واذكر اسم ربك بالتوحيد والتعظيم. ويجوز أن يكون المراد به الذّكر المشروع لافتتاح الصّلاة، ويجوز أن يكون المراد به كثرة ذكر الله في الصّلاة وخارج الصلاة.

قوله تعالى: {(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)} أي انقطع إلى الله في العبادة، وتأميل الخير منه دون غيره. ومن هذا سمّيت فاطمة البتول؛ لأنّها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة، والبتل في اللغة: القطع وتميّز الشيء من الشيء، ومنه صدقة بتلة؛ أي منقطعة من مال صاحبها، وطلقة بتلة: قاطعة للزّوجة.

وإنما قال (تبتيلا) ولم يقل تبتّلا على معنى تبتّل لنفسك إليه تبتيلا. وقال ابن عبّاس: «معنى {(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)} أي أخلص إليه إخلاصا»

(1)

.وقال الحسن:

«اجتهد اجتهادا» .وقال شقيق: «توكّل عليه توكّلا» .وقال زيد بن أسلم:

«التّبتّل: رفض الدّنيا وما فيها، والتماس ما عند الله»

(2)

.

قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ؛} قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو ونافع وحفص «(ربّ المشرق)» بالرفع على معنى: هو ربّ المشرق، وقرأ الباقون بالخفض على معنى نعت الرب في قوله (اسم ربك).وقيل: على البدل منه، ويجوز أن تكون قراءة الرفع على الابتداء، وخبره {(لا إِلهَ إِلاّ هُوَ)}.وقوله تعالى:

{فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} (9)؛أي اتّخذه حافظا لك، وكفيلا فيما وعدك من النصر والثواب لك ولأمّتك.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27238).

(2)

نقله أيضا الثعلبي في الكشف والبيان: ج 10 ص 63.

ص: 374

قوله: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ؛} يعني: واصبر يا محمّد على ما يقوله الكفّار والمنافقون من التكذيب، {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} (10)؛أي لا جزع فيه؛ أي اصطبر اقتصر على إظهار الوحي من غير خصومة، وهذا قبل الأمر بالقتال.

قوله عز وجل: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ؛} أي كل أمرهم إليّ ولا تهتمّ بهم، فإنّي أكفيكهم. يقال: ذرني وزيدا؛ أي دعني وزيدا؛ أي لا تهتمّ به فإنّي أكافيه. وقوله تعالى {(أُولِي النَّعْمَةِ)} أي ذووا النعمة ذوو الغنى وكثرة المال.

قالت عائشة رضي الله عنها: «لمّا نزلت هذه الآية إلى قوله: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} (11)؛لم يكن إلاّ يسيرا حتّى وقعت وقعة بدر»

(1)

.والنّعمة بفتح النون التّنعّم، والنّعمة بالكسر المال والغنى، والنّعماء: قرّة العين بضمّ النون.

قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً} (12)؛أي إنّ عندنا في الآخرة لهم قيودا وأغلالا، واحدها نكل؛ وهو القيد من الحديد لا يحلّ. وقوله تعالى {وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ} أي لا يسوع في الحلق، يعني الزّقّوم. وقال عكرمة:«شوك يأخذ بالحلق، لا يدخل ولا يخرج»

(2)

،وقال الزجاج:«يعني الضّريع»

(3)

.وقيل:

طعام يأخذ بحلوقهم لخشونته وحرارته، لا ينزل فيها بل تضيق أنفاسهم عنها فيختنقون بها.

قوله تعالى: {وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ؛} أخبر الله تعالى أنّ هذا العذاب المذكور يكون في يوم ترجف الأرض والجبال؛ أي تزلزل وتحرّك، وهو يوم القيامة. والرّاجفة: من أسماء القيامة.

وقوله تعالى: {وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً} (14)؛أي رملا سائلا، يقال: تراب مهيل ومهيول؛ أي

(1)

في الدر المنثور: ج 8 ص 318؛ قال السيوطي: (أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن عائشة) وذكره. وأخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (27316).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27322) عن عكرمة عن ابن عباس وذكره.

(3)

قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 5 ص 188: (طعامهم الضريع).

ص: 375

مصبوب ومرسل. والكثيب: القطعة العظيمة من الرّمل إذا حرّك أسفلها انهال أعلاها.

قوله تعالى: {إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ؛} أي بعثنا إليكم محمّدا يا أهل مكّة رسولا شاهدا عليكم بالتبليغ، وشهيد عليكم بأعمالكم يوم القيامة، {كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} (15)؛يعني موسى عليه السلام،

{فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ؛} أي موسى ولم يجبه إلى ما دعاه {فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً} (16) أي عاقبنا فرعون عقوبة عظيمة، يعني الغرق الوبيل الثّقيل جدّا، ومنه الوبال لثقله، ويقال للمطر العظيم: الوابل، وطعام وبيل؛ أي ثقيل واخم.

قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً؛} أي بأيّ شيء تتحصّنون من عذاب يوم القيامة إن كفرتم في الدّنيا ولم تؤمنوا برسولكم. قوله تعالى: {يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً} (17)؛معناه: فكيف تتّقون إن كفرتم عذاب يوم يجعل الولدان شيبا؛ أي تشيب الصّغار في ذلك اليوم، وذلك حين يسمعون النداء:[يا آدم ابعث بعثك من ذرّيّتك إلى النّار، من كلّ ألف واحد إلى الجنّة والباقي إلى النّار، فعند ذلك يشيب الصّغير] فقالوا: يا رسول الله أيّنا ذلك الواحد؟ فقال: [إنّي أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة] فكبّروا وحمّدوا، فقال:[إنّي أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة] فكبّروا وحمّدوا، فقال:[ما أنتم في النّاس إلاّ كالشّعرة البيضاء في جلد الثّور الأسود]

(1)

.

قوله تعالى: {السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ؛} أي السّماء منشقّة بذلك اليوم، وذكر السّماء؛ لأن معناها السّقف كما في قوله {سَقْفاً مَحْفُوظاً}

(2)

.وقوله عز وجل:

{كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} (18)؛أي كان وعد الله من البعث وأهوال يوم القيامة كائنا لا شكّ فيه.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (27333) عن ابن عباس مختصرا. وفي الدر المنثور: ج 8 ص 331 عزاه إلى ابن المنذر عن ابن مسعود.

(2)

الأنبياء 32/.

ص: 376

وقوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ؛} أي إنّ هذه السّورة عظة للناس، وقيل: معناه: إن آيات القرآن موعظة، {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً} (19) أي طريقا.

قوله تعالى: {*إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ؛} معناه: إنّ ربّك يا محمّد يعلم إنّك تقوم أقلّ من ثلثي الليل في بعض اللّيالي، وأقلّ من نصف اللّيل في بعض اللّيالي، وأقلّ من الثّلث في بعضها. قوله تعالى:{وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ؛} يعني: المؤمنون كانوا يقومون معه.

قرأ الكوفيّون وابن كثير «(ونصفه وثلثه)» بالنصب فيهما على معنى: ويقوم نصفه وثلثه. وقال الحسن: «لم يقم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قطّ أقلّ من ثلثي اللّيل، وإنّما قال:

(أدنى) في الطّائفة الّذين معه» ولفظة (أدنى) تعقل منها القلّة، لا يقال: عندي دون العشرة إلاّ والنّقصان منها قليل.

قوله تعالى: {وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ؛} أي يعلم مقاديرهما وساعاتهما على الحقيقة، {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ؛} أي علم أنّكم لم تعلموا حقيقة قدرهما، يعني أنّكم ما تعرفون مقادير اللّيل والنهار، ولذا لم تعلموا حقيقة المقدار الذي أمركم بالقيام فيه لم تطيقوه إلاّ بمشقّة، {فَتابَ عَلَيْكُمْ؛} أي فتجاوز عنكم قيام الليل بالتخفيف عنكم، {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ؛} في صلاة اللّيل.

قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى؛} لا يقدرون على قيام اللّيل بقراءة السّور الطّوال، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ؛} أي وآخرون يسافرون لطلب رزق الله فلا يطيقون ذلك، {وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛} أي وعلم أنّ فيكم من يجاهد في سبيل الله، يعني يقاتل أعداء الله لا يطيقون قيام الليل، {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ؛} أي من القرآن في الصّلاة.

قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ؛} أي وأقيموا الصّلوات الخمس بشرائطها وما يجب من حقّ الله فيها، فنسخ قيام الليل بالصّلوات الخمس على المؤمنين، وثبت على النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة. قوله تعالى:{وَآتُوا الزَّكاةَ؛} يعني المفروضة، {وَأَقْرِضُوا}

ص: 377

{اللهَ قَرْضاً حَسَناً؛} من الصّدقة سوى الزكاة من صلة الرّحم، وقرى الضيف، وصدقة التطوّع.

قوله تعالى: {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ؛} أي ما تفعلوا من صدقة فريضة أو تطوّع أو عمل صالح تجدوا ثوابه عند الله، {هُوَ خَيْراً؛} لكم، {وَأَعْظَمَ أَجْراً؛} من الذي تؤخّرونه إلى الوصيّة عند الموت.

وإنما انتصب (خيرا) لأنه المفعول الثاني، وأدخل (هو) فصل

(1)

،ويسمّيه الكوفيّون العماد، {وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ؛} لما مضى من الذّنوب والتقصير في الطاعة، {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ؛} لمن استغفر، {رَحِيمٌ} (20)؛لمن مات على التوبة.

وقد تضمّنت هذه الآية معان: أحدها: أنه نسخ بها فريضة قيام الليل. الثاني:

أنّها تدلّ على لزوم فرض القراءة في الصّلاة؛ لأن القراءة لا تلزم في عين الصّلاة.

والثالث: دلالة جواز الصّلاة بقليل القراءة. والرابع: أنّ ترك قراءة الفاتحة في الصّلاة لا تمنع جوازها إذا قرأ فيها غيرها.

فإن قيل: هذه الآية نزلت في قيام الليل وذلك منسوخ، فكيف تستدلّون بها على هذه الأحكام؟ قلنا: المراد بقوله تعالى {(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)} أمر بالقراءة بعد ذكر النّسخ، ثم نسخ فرض الصلاة لا يوجب نسخ شرائطها وسائر أحكامها.

فإن قيل: المراد بقوله {(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ)} في صلاة التطوّع. قلنا: إذا ثبت وجوب ذلك وحكمه في التطوّع فالفرض مثله؛ لأن أحدا لا يفرّق بينهما في هذه الأحكام، وصلاة التطوّع وإن لم تكن فرضا لكن إذا شرع فيها يلزمه إقامتها بجميع أركانها كما لزمه إقامتها بجميع شرائطها من الطّهارة وستر العورة ونحو ذلك.

آخر تفسير سورة (المزمل) والحمد لله رب العالمين

(1)

في المخطوط: (فضلا) والصحيح كما أثبتناه، ومعناه: نصب (خيرا) و (أعظم) على المفعول الثاني ل (تجدوه) و (هو) فصل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الإعراب و (أجرا) تمييز. نقله أيضا الثعلبي في الكشف والبيان: ج 10 ص 66.وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 59.

ص: 378