الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الدّهر
سورة الدّهر مكّيّة، إلاّ قوله {(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ
…
)} إلى آخر السّورة، فإنّها نزلت في المدينة، وهي ألف وأربعمائة وخمسون حرفا، ومائتان وأربعون كلمة، وإحدى وثلاثون آية، قال صلى الله عليه وسلم:[من قرأها كان جزاؤه على الله جنّة وحريرا]
(1)
.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ؛} أي قد أتى على آدم أربعون سنة التي مرّت به وهو بصورة الإنسان قبل أن ينفخ فيه الروح، {لَمْ يَكُنْ؛} يذكر اسمه، ولا يدري ما يراد به، كان {شَيْئاً؛} ولم يكن، {مَذْكُوراً} (1)؛ لأنه كان ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح. ومعنى الآية: قد أتى على آدم أربعون سنة ملقى بين مكّة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح لم يكن شيئا مذكورا، لا يذكر ولا يعرف
(2)
ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به.
(3)
أي ليته بقي على ما كان لا يلد.
وقرأ رجل عند ابن مسعود {(لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)} فقال: «ليت ذلك لم يكن»
(4)
.
ولفظ (هل) بمعنى (قد)؛لأنه لا يجوز على الله أن يستفهم؛ لأنه لم يزل عالما بالأشياء كلّها، ولا يزال عالما.
(1)
هو الحديث عن أبي، رواه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 10 ص 93 بإسناد واه.
(2)
في المخطوط: (إلا يعرف ويذكر) وهو غير مناسب.
(3)
في الدر المنثور: ج 8 ص 366؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن المبارك وأبو عبيد في فضائله وعبد ابن حميد وابن المنذر).
(4)
في الدر المنثور: ج 8 ص 366؛ قال السيوطي: (وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن مسعود) وذكره.
قوله تعالى: {إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ؛} يعني نسل آدم خلقه الله من نطفة أمشاج؛ أي أخلاط واحدها مشيج، وهو شيئان مخلوطان، يعني اختلاط نطفة الرّجل بنطفة المرأة، أحدهما أبيض والآخر أصفر، فما كان من عصب وعظم وقوّة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن نطفة المرأة. وتمّ الكلام، ثم قال:{فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (2)؛معناه: جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.
والأمشاج الاختلاط، يقال: مشجت هذا بهذا؛ أي خلطته به فهو ممشوج؛ أي مخلوط، وقال ابن عبّاس والحسن وعكرمة ومجاهد:«يعني ماء الرّجل وماء المرأة يختلطان في الرّحم، فيكون منهما جميعا الولد، فماء الرّجل أبيض غليظ يجري من الصّلب، وماء المرأة أصفر رقيق يجري من التّرائب، ثمّ يختلطان فأيّهما علا ماؤه ماء صاحبه كان الشّبه له» .ويقال: جعل الله في النّطفة أخلاطا من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وقال الحسن:«نعم والله خلق الإنسان من نطفة مشجت بدم الحيض، فإذا حلّت النّطفة ارتفع الحيض» .
قوله تعالى: {إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ؛} أي بيّنّا له طريق الهدى وطريق الضّلالة، فمكنّاه من الكفر والشّكر، ثمّ إنه يكون بعد الابتلاء:{إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً} (3)؛أي إما موحّدا طائعا، وإما مشركا كافرا، والمعنى: إمّا أن يختار طريق الإسلام، وإمّا أن يختار طريق الكفر. ومعنى (نبتليه) أي نتعبّده فيظهر ما علمنا منه، ولا يقع الابتلاء إلاّ بعد تمام الخلقة.
قوله تعالى: {إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} (4)، بيّن الله بهذا ما أعدّ في الآخرة للكافرين وما أعدّ للمؤمنين، والمعنى: إنّا هيّأنا في جهنّم لكلّ كافر سلسلة في النار طولها سبعون ذراعا، يسلك فيها وقرناؤه من الشّياطين، وقوله تعالى {(وَأَغْلالاً)} أي أغلالا من حديد تغلّ بها أيديهم إلى أعناقهم من ورائهم. وقوله {(وَسَعِيراً)} أي ونارا موقدة يعذبون بها.
قرأ نافع وعاصم والأعمش والكسائي وأيوب «(سلاسلا)» بالتنوين
(1)
،وكذلك {قَوارِيرَا،} ووجهان: أحدهما: أنّ من العرب من يصرف جمع ما لا ينصرف.
والثاني: أنّ هذا الجمع أشبه الآحاد؛ لأنّهم قالوا صواحبات يوسف في جمع صواحب، وكذلك مواليات في جمع موالي، فإذا كان صواحب في معنى الواحد، فكذلك سلاسلا.
قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً} (5) يعني بالأبرار المطيعين لله الصّادقين في إيمانهم في الدّنيا. وقيل: هم الذين يبرّون الآباء والأمّهات من المؤمنين. وقيل: هم الذين لا يؤدون الذرّ
(2)
ولا يرضون بالشرّ. وقوله تعالى {(مِنْ كَأْسٍ)} أي من خمر، وقوله تعالى {(كانَ مِزاجُها كافُوراً)} أي كان مزاج الخمر التي كانت في الكأس كافورا.
قال بعضهم: أراد بذلك ما يشمّ من ريحها من جهة طعمها، كما روي عن مجاهد أنه قال «يمزج شرابهم بالكافور وريح المسك وطعم الزّنجبيل، ليس ككافور الدّنيا ولا كمسكها وزنجبيلها، ولكن وصف الله ما عنده بما عندنا لتهتدي له القلوب» .ويقال: يغيّر الله طعم الكافور إلى نهاية ما يشتهى، فيجتمع طيب الرائحة مع لذة الطّعم.
وقوله تعالى: {عَيْناً؛} منصوب على البدل من (كافورا)،ويقال في معنى (يشربون
…
عينا) أي من عين فوّارة في أرض الجنة، وقوله تعالى:{يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً} (6)؛يجوز أن يكون معناه: يشربها، يقال: شربت بماء كذا؛ أي شربته، ويجوز أن يكون معناه: يشرب بالجنّة أو بالأرض التي بها العين، كما يقال: شربنا كذا شرابا صافيا.
(1)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 123،وقال:(وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر) وذكره. وينظر أيضا: الكشف والبيان: ج 10 ص 95.
(2)
الذرّ: جمع ذرّة، وهي أصغر النمل. وحكاه القرطبي من كلام الحسن رحمه الله. في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 125.
قوله {(عِبادُ اللهِ)} أي أولياؤه، يفجّرون تلك العين، ويسوقونها إلى حيث شاءوا لمن دون هم من أهل الجنّة، بخلاف عيون الدّنيا وأنهارها. والتفجير: تشقيق الأرض بجري الماء. وقيل: معنى (يفجّرونها) أي يقودون تلك العين حيث شاءوا من منازلهم ودورهم وحيث شاءوا.
قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ؛} يعني الأبرار هذه صفاتهم في الدّنيا، كانوا يوفون بطاعة الله من الصلاة والحجّ، ومعنى (النّذر) في اللغة: الإيجاب، ومعنى الوفاء بالنذر إتمام العهد والوفاء به وإقامة فروض الله تعالى. قوله تعالى:{وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (7)؛معناه: ويخافون من نقض العهد عذاب يوم كان شرّه ممتدّا فاشيا. يقال: استطار الخير إذا فشا وظهر. وعن قتادة قال: «استطاروا لله شرّ ذلك اليوم حتّى ملئت السّماوات والأرض منه»
(1)
نحو انشقاق السّماء، وانتثار الكواكب، ونسف الجبال، وخسوف الشّمس والقمر، وفزع الملائكة.
قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ؛} أي على حب الطعام وقلّته على أشدّ ما يكونون محتاجين إليه، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ويقال: على حب الله لطلب مرضاته، وقوله تعالى:{مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (8) فالمسكين هو الذي يسأل، وقيل: هو المتعفّف الذي لا يسأل.
واليتيم: الذي لا أب له من يتامى المسلمين. والأسير: الكافر المأسور في أيدي المؤمنين.
قال قتادة: «كان أسيرهم يومئذ من المشركين، فو الله لأخوك المسلم أعظم حرمة وحقّا عليك»
(2)
.ويقال: الأسير العبد، ويستدلّ من هذه الآية على أنّ في إطعام أهل الجوع ثوابا جزيلا من الله تعالى، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ما من مسلم أطعم مسلما على جوع إلاّ أطعمه الله من ثمار الجنّة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرّحيق].
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27723).وعزاه السيوطي إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة. في الدر المنثور: ج 8 ص 369.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27726 و 27727).
قوله تعالى: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً} (9)؛ قال مجاهد: «أما والله نعم؛ لم يتكلّموا بذلك ولكن علم الله ما في قلوبهم فأثنى عليهم خيرا»
(1)
.والمعنى: أنّهم يقولون في أنفسهم وفيما بينهم وبين ربهم: إنما نطعمكم لطلب ثوابه. وقوله {(لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً)} أي لا نريد منكم مكافأة ولا محمدة.
وقوله (شكورا) مصدر مثل القعود والخروج. وفي هذه الآية دليل على أنّ من أطعم غيره للمكافأة أو لكي يمدحه ويشكره لا يستحقّ بذلك الثواب، وإنما يستحقّه إذا فعله خالصا لله لا يريد شيئا من الدّنيا.
قوله تعالى: {إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} (10)؛معناه: إنا نصنع ما نصنع خوفا من عذاب ربنا وطمعا في رحمته، اليوم العبوس: هو الذي تعبس فيه الوجوه من هوله فلا تنبسط، والقمطرير: الشديد الغليظ العصب، يقال: يوم قمطرير وطر إذا كان عظيم الشّرّ طويل البلاء.
وعن ابن عبّاس قال: «العبوس: الضّيّق، والقمطرير: الطّويل»
(2)
.وقال مجاهد: «القمطرير: الّذي يقلّص الوجه ويقبض الجبهة، وما بين الأعين من شدّته»
(3)
.قال ابن عبّاس: «يعبس الكافر يومئذ حتّى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران سحّا»
(4)
،قال الحسن:«سبحان الله! ما أشدّ اسمه وهو أشدّ من اسمه» .
قوله تعالى: {فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ؛} أي دفع الله عنهم شرّ ذلك اليوم، {وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} (11)؛أي حسنا في الوجوه وسرورا في القلوب لا انقطاع له.
قوله تعالى: {وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} (12)؛أي
(1)
في الدر المنثور: ج 8 ص 370؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن مجاهد) وذكره. وأخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27734).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27744).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27742).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (27736).
جزاهم بما صبروا في الدّنيا على طاعة الله، وعلى ما أصابهم من الشّدائد في ذات الله جنّة يسكنونها وحريرا يلبسونه في الجنّة.
قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ؛} نصب على الحال فيها؛ أي في الجنّة «متكئين» على الأرائك؛ أي على السّرر في الحجال، ولا تكون أريكة إذا اجتمعا، قال مقاتل:«الأرائك: السّرر في الحجال من الدّرر والياقوت، موضونة بقضبان الدّرّ والذهب والفضّة وألوان الجواهر. والحجال: شبه القباب فوق السّرر»
(1)
، {لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} (13)؛لا يصيبهم في الجنّة شمس ولا زمهرير؛ أي لا يصيبهم حرّ الشمس ولا برد الزّمهرير، البرد الشديد الذي يحرق ببرودته إحراق النار.
وروي أنّ هذه الآيات نزلت في عليّ وفاطمة وجارية لهما يقال لها فضّة
(2)
،قال ابن عبّاس: «مرض الحسن والحسين، فعادهما جدّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر عمر، فقالوا لعليّ:[لو نذرت على ولديك نذرا؟] فقال عليّ رضي الله عنه: إن برأ ولداي ممّا بهما صمت ثلاثة أيّام، فقالت فاطمة كذلك، وقالت جاريتهما كذلك، فوهب الله لهما العافية.
فانطلق عليّ رضي الله عنه إلى سمعون اليهوديّ فاستقرض منه ثلاثة أصع من شعير، فطحنت الجارية صاعا، وخبزت منه خمسة أقراص، لكلّ واحد منهم قرص، وصلّى عليّ مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم المغرب ثمّ أتى المنزل، فوضع الطّعام بين يديه، إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب وقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين
(1)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 429.
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 130؛ قال القرطبي: (ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصّة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصحّ ولا يثبت، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس) وذكره. قلت: لا يخفى ما فيها، فهي ظاهرة الاختلاق، وفيها أشعار للمسكين واليتيم يخاطبون بيت النبوة، وأشعار لفاطمة عليها السلام تخاطب كل واحد منهم، وهي أقرب إلى الأدب المسرحيّ المعاصر، ومما لا شكّ فيه أن فاطمة وعلي رضي الله عنهما أرفع مما ذكر في هذا الشعر والبلاغة، بل لا يقاس؛ لسفساف ألفاظ ما ذكر وسخف معناه.
المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فسمعه عليّ رضي الله عنه فأنشأ يقول:
فاطم ذات المجد واليقين
…
يا بنت خير النّاس أجمعين
أما ترين البائس المسكين
…
قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى الله ويستكين
…
يشكو إلينا جائع حزين
كلّ امرئ بكسبه رهين
…
وفاعل الخيرات يستبين
موعده في جنّة علّين
…
حرّمها الله على الضّنين
وللبخيل موقف مهين
…
تهوي به النّار إلى سجّين
شرابه الحميم والغسلين
فأنشأت تقول:
أمرك يا ابن عمّ سمع وطاعه
…
ما بي من لوم ولا وضاعه
غديت في الخبز له صناعه
…
أطعمه ولا أبالي السّاعه
أرجو إذا أطعمت ذا المجاعه
…
أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل الجنّة ولي شفاعة
فأعطوه طعامهم ولم يذوقوا ليلتهم إلاّ الماء. فلمّا كان اليوم الثّاني أصبحوا صياما، فطحنت الجارية الصّاع الثّاني، وخبزت منه خمسة أقراص، فصلّى عليّ مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ أتى المنزل فوضع الطّعام بين يديه، وإذا بيتيم قد وقف على الباب، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد، أنا يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فسمعه عليّ رضي الله عنه فأنشأ يقول:
فاطم بنت السّيّد الكريم
…
بنت نبيّ ليس باللّئيم
(1)
قد جاءنا الله بذي اليتيم
…
من يرحم اليوم يكن رحيم
(1)
في الكشف والبيان: ج 10 ص 100،والجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 132: (بنت نبيّ ليس بالزّنيم).
موعده في جنّة النّعيم
…
قد حرّم الخلد على اللّئيم
يساق في العقبى إلى الجحيم
فأنشأت فاطمة تقول:
إنّي سأعطيه ولا أبالي
…
وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعا وهم أشبالي
…
أصغرهم يقتل في القتال
بكربلا يقتل باغتيال
…
للقاتل الويل مع الوبال
تهوي به النّار إلى سفال
…
مقيّد اليدين بالأغلال
كبولة زادت على الأكبال
فأعطوه الطّعام وباتوا على الماء، فلمّا كان اليوم الثّالث، طحنت الجارية الصّاع الثّالث وصنعته خمسة أقراص، فصلّى عليّ مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ أتى المنزل فوضع الطّعام بين يديه، فإذا بأسير قد وقف بالباب، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد، تأسروننا وتشدّوننا ولا تطعموننا! أطعموني فإنّي أسير أطعمكم الله من موائد الجنّة!! فسمعه عليّ فأنشأ يقول:
فاطم يا بنت النّبيّ أحمد
…
بنت نبيّ سيّد مؤيّد
هذا أسير للنّبيّ المهتد
…
مكبّل في غلّه مقيّد
من يطعم اليوم يجده في غد
…
عند العليّ الواحد الموحّد
فأطعم من غير منّ أنكد
…
حتّى تجازى بالنّعيم السّرمد
فأنشأت فاطمة تقول:
لم يبق ممّا جبت غير صاع
…
قدّمته بالكفّ والذّراع
أطعمته لله في الجياع
…
وما على رأسي من قناع
فأعطوه طعامهم وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء. فلمّا أصبحوا اليوم الرّابع، أخذ عليّ رضي الله عنه الحسن بيده اليمنى، والحسين بيده اليسرى، ومضى بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يرتعشان من شدّة الجوع، فلمّا رآهما قال:[ماذا أرى بكم؟ انطلقوا بنا إلى فاطمة] فانطلقوا إليها فوجدوها في محرابها وهي قد لصق بطنها بظهرها
وغارت عيناها من شدّة الجوع، فقال صلى الله عليه وسلم:[وا غوثاه يا الله، أهل بيت محمّد يموتون جوعا؟].
فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمّد خذ ما أعطيت، هنّاك الله في أهل بيتك، فقال:[وما آخذ؟] فقال: {(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً. يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً
…
)} إلى قوله: (و {كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)}.»
(1)
.
قوله تعالى: {وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها؛} نعت للجنّة
(2)
؛أي وجزاهم بما صبروا جنّة دانية ظلالها؛ أي قريب ظلال أشجارها عليهم، دانت دانية؛ لأن الظّلال جمع. وفي قراءة عبد الله «(ودانيا عليهم)» .
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 134؛ قال القرطبي: (قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول: فهذا حديث مزوّق مزيّف، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبّه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعضّ شفتيه تلهفا أن لا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم؛ وقد قال الله تعالى في تنزيله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك، وجرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بأن [خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنى]. [وابدأ بنفسك ثمّ بمن تعول].وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت].فيحسب عاقل أن عليا جهل هذا الأمر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ستّ على جوع ثلاثة أيام ولياليهنّ؟ حتى تضوروا من الجوع، وغارت العيون منهم؛ لخلاء أجوافهم، حتى أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد. هب أنه آثر على نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك؟! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي، فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟! ما يروّج مثل هذا إلا على حمقى جهّال؛ أبى الله لقلوب متنبّهة أن تظنّ بعلي مثل هذا. وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة؟! فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى. بلغني أن قوما يخلّدون في السجون فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة رموا بها وزيّفوها، وما من شيء إلا له آفة ومكيدة، وآفة الدين وكيده أكثر).
(2)
في المخطوط: (نعت الجنة) وتقديره: (انتصبت نعتا للجنة).
قوله تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً} (14)؛أي وسخّرت وقرّبت ثمارها تسخيرا، لا يمنعهم عنها شوك ولا بعد، ينالها القائم والقاعد والمضطجع يتناولونها كما شاءوا، فإذا كان الرجل قائما تطاولت له الشجرة على قدر قيامه، وإن كان قاعدا ومتّكئا أو مضطجعا انخضعت له على قدر ذلك. ومثله قوله تعالى:
{قُطُوفُها دانِيَةٌ}
(1)
.
(2)
.
قوله تعالى: {وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ،} أي بأقداح من فضّة، {وَأَكْوابٍ،} أي كيزان لا عرى لها ولا خراطيم، {كانَتْ قَوارِيرَا} (15)؛ أي كانت تلك الأكواب من فضّة، وهي في صفاء القوارير، يرى من خارجها ما في داخلها من الأشربة، قال ابن عبّاس:«لو أخذت من فضّة أهل الدّنيا فضربتها حتّى صارت مثل جناح الذّباب لم يبصر ما فيها من رآها، ولكنّ قوارير الجنّة في بياض الفضّة وفي صفاء القوارير» .
قال الكلبيّ: «إنّ الله جعل قوارير كلّ قوم من تراب أرضهم، وإنّ أرض الجنّة من فضّة، فجعل من تلك الفضّة قوارير يشربون فيها» .وفي قوله تعالى (قوارير) قراءتان، من لم ينوّنهما فهو لا يصرف، ومن صرفهما فعلى اتّباع رءوس الآي.
قوله تعالى: {قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً} (16)؛أي قدّرها الملائكة قبل مجيئهم لها تقديرا، فجاءت على ما قدّروا، كما روي:«أنّ المؤمن لا يحدّث نفسه بشيء من شراب الجنّة إلاّ أتاه الملك بالشّراب الّذي اشتهى في قدح من فضّة- على صفة الفضّة الّتي ذكرنا-على مقدار ريّ الشّارب وشهوته من غير زيادة ولا نقصان حتّى يستوفي الكمال من غير أن يتكلّم به» .
(1)
الحاقة 23/.
(2)
في الدر المنثور: ج 8 ص 374؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد) وذكره.
وألذّ الشّراب ما لا يكون فيه فضل ولا عجز عن الرّي، ويقال في معناه: إنّها تكون على قدر كفّ الخدم، وريّ المخدوم ولم يثقل حملها على أحد منهم.
قوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً} (17)؛أي يسقون في الجنّة بآنية مملوءة من الخمر كان مزاجها زنجبيلا لا يشبه زنجبيل الدّنيا، لكن سمّاه الله باسمه ليعرف؛ لأن العرب تستطيب رائحة الزنجبيل في الدّنيا، وأمّا هذا الزنجبيل المذكور في الآية فهو زنجبيل الجنّة يشوّق ويطرب من غير حرق ولدغ، وإنما قال ذلك؛ لأنّ العرب كانت تضرب المثل بالخمر الممزوجة بالزنجبيل، قال الشاعر
(1)
:
كأنّ القرنفل والزّنجبي
…
ل باتا بفيها وأريا مشورا
قوله تعالى: {عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً} (18)؛معناه تمزج الخمر بالزّنجبيل، والزنجبيل من عين في الجنّة تسمّى تلك العين سلسبيلا، والمعنى: من عين فيها تسمّى سلسبيلا، قال مقاتل:«السّلسبيل عين من الخمر تنبع من تحت العرش من جنّة عدن إلى أهل الجنان»
(2)
.
قوله تعالى: {*وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ؛} أي يطوف عليهم بالخدمة وصفاء خلقوا للخلود، ولا يتغيّرون عن سنّهم وشبابهم. وقيل: معنى (مخلّدون) مسوّرون مقرّطون، يقال لجماعة الحليّ الخلد، {إِذا رَأَيْتَهُمْ؛} يا محمّد، {حَسِبْتَهُمْ؛} لصفائهم وحسن ألوانهم، {لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} (19)؛أي كاللّؤلؤ المنثور، فإن على البساط كان أحسن منه منظوما.
قوله تعالى: {وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ؛} إذا نظرت إلى الجنّة، {رَأَيْتَ نَعِيماً؛} لا يوصف، {وَمُلْكاً كَبِيراً} (20)؛أي وملكا عظيما لا يلحقه الزوال والعزل، فقال مقاتل: «الملك الكبير استئذان الملائكة، لا يدخل رسول رب العزّة من الملائكة عليهم إلاّ بإذنهم، ولا يدخل إلاّ بالهدايا من الله تعالى، والسّلام من الله تعالى كما قال تعالى:{سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}
(3)
.
(1)
نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن من شعر الأعشى. والأرى: العسل.
(2)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 429.
(3)
يس 58/.
فإذا انتهى الملك إلى الباب قال للحاجب الّذي على الباب: ائذن لي بالدّخول، فيقول الحاجب: لا أستطيع أن آذن لك على وليّ الله، ولكن أخبر الّذي يليني، فيخبر الّذي يليه فيقول الثّاني كذلك، فلا يزال هكذا حتّى يأتيه الخبر في سبعين بابا، فذلك هو الملك الكبير، فإذا دخل عليه الملك قال له: إنّ الله يقرؤك السّلام، فيضع الهديّة بين يديه «فيها» ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثمّ يقول له الملك: إنّ الله عنك راض، فهذا القول عنده أكبر من السّلام والهديّة والنّعيم الّذي هو فيه» فذلك قوله تعالى:{وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ}
(1)
.
قوله تعالى: {عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ؛} قرأ قتادة ومحمّد وابن سيرين ونافع وحمزة والأعمش وأيوب «(عاليهم)» بإسكان الياء، وهي في موضع رفع بالابتداء، والمعنى: الذي يعلوهم من الثياب، ويقال: الذي يعلوهم على حجالهم، وقرأ الباقون «(عاليهم)» بنصب الياء على الظّرف؛ أي فوقهم، ويجوز أن يكون نصبا على الحال؛ أي يطوف على الأبرار ولدان مخلّدون في هذه الحالة؛ أي في حال علوّ ثياب السّندس عليهم.
وقوله تعالى (خضر) قرأ ابن كثير «(خضر)» بالخفض على نعت السّندس و (إستبرق) بالرّفع على نعت الثياب، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «(خضر)» بالرفع على نعت الثياب، و «(إستبرق)» بالخفض على معنى ثياب من سندس ومن استبرق. وقرأ نافع وأيوب «(خضر وإستبرق)» كلاهما بالرّفع عطفا للإستبرق على قوله (خضر)، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف كلاهما بالخفض.
قوله تعالى: {وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ؛} أي حليّ أهل الجنّة أساور من فضّة، وفي آية أخرى {يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً}
(2)
فاقتضت «دلالة» الآيتين أنّ كلاّ منهم يحلّى ثلاثة أسورة: سوار من ذهب وسوار من فضّة وسوار من لؤلؤ. قال بعضهم: الضمير في قوله تعالى (وحلّوا) راجع إلى ال (ولدان).
(1)
التوبة 72/.
(2)
فاطر 33/.
وقوله تعالى: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً} (21)؛أي شرابا من خمر ليس بنجس، كما كانت خمر الدنيا نجسة. وقيل: شراب من خمر لا يخالطه شيء من الفساد والقبائح ولا ينقلب إلى التغيّر، بل هو من عين على باب الجنّة، من شرب منها نزع الله من قلبه الغلّ والحسد والغشّ، قال أبو العالية:«معناه: أنّه لا يصير بولا نجسا، ولكنّه يصير رشحا في أبدانهم كريح المسك» .
قوله تعالى: {إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً؛} أي يقال لهم هذا الثواب والكرامة كان لكم جزاء لأعمالكم في الدّنيا، {وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} (22)؛أي وكان عملكم في الدنيا مقبولا، هذا معنى الشّكر؛ لأنه لا يكون لأحد على الله منّة يستحقّ بها عليه الشّكر، ولكنّ شكره لعباده قبول طاعاتهم ومغفرة ذنوبهم.
قوله تعالى: {إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} (23)؛أي إنا نحن نزّلنا عليك القرآن يا محمّد متفرّقا آية وآيتين وثلاث آيات وسورة، وفصّلناه في الإنزال ولم ينزله جملة واحدة.
قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ؛} أي اصبر على قضائه، على تبليغ الرسالة، {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} (24)؛أي لا تطع من مشركي مكّة آثما؛ أي كذابا فاجرا ولا كفورا؛ أي كافرا بنعم الله.
ويعني بقوله (آثما):عتبة بن ربيعة، ويعني بالكفور: الوليد بن المغيرة. وقيل:
الآثم الوليد، والكفور عتبة بن ربيعة، كانا قالا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتّزويج، وكان عتبة قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت هذا من أجل النّساء! فلقد علمت قريش أنّ بناتي من أجملها بنات، فأنا أزوّجك بنتي وأسوقها إليك بغير مهر، فارجع عن هذا الأمر. وكان الوليد قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت هذا يا محمّد من أجل المال! فلقد علمت قريش بأنّي من أكثرهم من المال، فأنا أعطيك من المال حتّى ترضى، فارجع عن هذا الأمر. فأنزل الله تعالى:{(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)}
(1)
.
(1)
نقله أيضا الثعلبي في الكشف والبيان: ج 10 ص 106،وذكره القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن: ج 19 ص 149.
قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (25)؛أي صلّ لله تعالى صلاة الفجر وصلاة الظّهر والعصر،
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ؛} أي فصلّ له المغرب والعشاء. قوله تعالى: {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} (26)؛أي صلّ له في الليل الطويل، يعني: التطوّع بعد المكتوبة، وكان على النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقوم كلّ الليل، ثم نسخ بقوله {قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً}
(1)
.
قوله تعالى: {إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ؛} يعني كفار مكّة يحبّون الدار العاجلة وهي الدّنيا، {وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} (27)؛أي يتركون العمل للآخرة، وسمّي يوم القيامة يوما ثقيلا؛ لشدّة أهواله، وقد يذكر الوراء بمعنى قدّام، قال الله تعالى:{وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ}
(2)
.
قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ؛} أي نحن خلقنا أهل مكّة وجميع الناس، وقوّينا خلقهم بعد أن خلقوا من ضعف. وقيل: شددنا مفاصلهم؛ لئلا يسترخي منها شيء؛ أي شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقيل: يعني موضع البول والغائط، شددناهما بحيث إذا خرج الأذى منهما ينقبضا. قوله تعالى:
{وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً} (28)؛أي وإذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم.
قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ؛} أي إنّ هذه السورة موعظة من الله، {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً} (29)؛أي طريقا بالعمل الصالح.
قوله تعالى: {وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً} (30)؛أي ما يشاءون اتخاذ السّبيل إلاّ بمشيئة الله ذلك لكم، وقوله تعالى {(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)} أي عليما قبل خلقكم بمن يتّخذ سبيلا ومن لا يتّخذ، حكيما فيما أمركم به.
واختلفوا في تفسير هذه الآية، والصحيح: أنّ معناها: وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله لكم أن تشاءوا، ودليل ذلك أنه لمّا نزل قوله تعالى:{لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ}
(1)
المزمل 2/.
(2)
الكهف 79/.
{يَسْتَقِيمَ}
(1)
قالوا: قد جعلت المشيئة لنا ولا نشاء، فشقّ ذلك على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل {(وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ)} .
ومن نفى المشيئة قال: إنّ هؤلاء مخصوصون لا يشاءون إلاّ أن يشاء الله أن يكرههم عليه، قال الحسن:«ما شاءت العرب أن يبعث الله محمّدا رسولا، فشاء الله ذلك وبعثه على كره منهم).وعن النّضر بن شميل أنه قال: «لا تمضي مشيئة إلاّ بمشيئة الله تعالى، ولا تمضي مشيئة من العبد إلاّ بعلم الله، فمن علم الله منه خيرا شاء الإيمان، ومن شاء الإيمان شاء الله له أن يوفّقه، ومن شاء الكفر شاء الله أن يخذله» .
قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ؛} أي يكرم من يشاء بدين الإسلام بتوفيقه من كان أهلا لذلك، وقوله تعالى:{وَالظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} (31)؛نصب (الظالمين) على المجاورة؛ ولأنّ ما قبله منصوب، والمعنى: ويعذب الظالمين، أعدّ لهم عذابا أليما، ويعني بالظّالمين مشركي مكّة.
آخر تفسير سورة (الدهر) والحمد لله رب العالمين
(1)
التكوير 28/.