الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
85 - أحمد بن هبة الله بن العلاء بن منصور المخزومىّ [1]
النحوىّ اللغوىّ، أبو العباس المعروف بابن الزاهد البغداذىّ. كان أحمد هذا أديبا فاضلا، له معرفة بالنحو واللغة والعربية وأشعار العرب وغير ذلك. قرأ على أبى الفضل الأشقر «1» النحوىّ وعلى أبى محمد بن الخشاب «2» ، ولازمه مدة، وسمع الحديث، وروى واستفاد الطلبة منه. توفّى يوم الاثنين ثالث عشر رجب، من سنة إحدى عشرة وستمائة، وقد نيّف على الثمانين، وله شعر منه:
فما رفع الهندىّ «3» وهو حديدة
…
على التّبر إلا ضربه «4» بالمطارق
ولو رمت ما راموه بالعلم لم يكن
…
وجيههم «5» فى حلبة المجد لاحقى «6»
86 - أحمد بن يحيى بن زيد بن سيّار، أبو العباس النحوىّ الشيبانىّ مولاهم المعروف بثعلب [2]
إمام الكوفيين فى النحو واللغة. سمع إبراهيم بن المنذر الحزامىّ، ومحمد بن سلّام الجمحىّ، ومحمد بن زياد الأعرابىّ، وعلىّ بن المغيرة الأثرم، وسلمة بن عاصم، وعبيد الله بن عمر القواريرىّ، والزّبير بن بكّار، وغيرهم.
[1]. ترجمته فى بغية الوعاة 172، وتلخيص ابن مكتوم 23 - 24. ومعجم الأدباء 5:
84 -
86.
[2]
ترجمته فى إشارة التعيين الورقة 11 - 12، وبغية الوعاة 172 - 174، وتاريخ بغداد 5: 204 - 212، وتاريخ أبى الفدا 2: 60، وتاريخ ابن كثير 11: 98 - 99، وتلخيص ابن مكتوم 24 - 25، وتذكرة الحفاظ 2: 214 - 215، وتهذيب الأسماء واللغات 2: 275، وابن خلكان 1: 30، وسلم الوصول 158، وشذرات الذهب 2: 207 - 208،-
روى عنه محمد بن العباس اليزيدىّ، وعلى بن سليمان الأخفش، وإبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدىّ، وأبو بكر الأنبارىّ، وعبد الرحمن بن الزّهرىّ، وأبو عمر الزاهد، وغيرهم.
وكان ثقة حجة صالحا ديّنا مشهورا بالحفظ «1» وصدق اللهجة، والمعرفة بالغريب ورواية الشعر القديم، مقدّما عند الشيوخ مد هو حدث. ويقال: إنّ أبا عبد الله الأعرابىّ كان يشكّ فى الشىء فيقول: ما عندك يا أبا العباس فى هذا! ثقة بغزارة حفظه.
ولد فى سنة مائتين. وكان يقول: طلبت العربية واللّغة فى سنة ست عشرة ومائتين، وابتدأت بالنظر فى حدود «2» الفرّاء «3» وسنّى ثمان عشرة سنة، وبلغت خمسا وعشرين سنة، وما بقى علىّ مسألة للفرّاء إلا وأنا أحفظها، وأحفظ موضعها من الكتاب، ولم يبق شىء من كتب الفرّاء فى هذا الوقت إلّا قد حفظته.
قال: سمعت من عبيد الله بن عمر القواريرىّ مائة ألف حديث. وقال: مات معروف الكرخىّ سنة مائتين، وفيها ولدت.
وقال أبو محمد الزهرىّ: كان لثعلب عزاء ببعض أهله، فتأخرت عنه إذ لم أعلم، ثم قصدته معتذرا؛ فقال لى: يا أبا محمد، ما بك حاجة إلى تكلّف عذر؛ فإنّ الصديق لا يحاسب، والعدوّ لا يحتسب له.
وكان لا يتكلّف إقامة الإعراب فى كلامه إذا لم يخش لبسا فى العبارة، وذكر ذلك لإبراهيم الحربىّ «1» رحمه الله، فقال: أيش «2» يكون إذا لحن فى كلامه! كان هشام النحوىّ يلحن فى كلامه، وكان أبو هريرة يكلّم صبيانه بالنّبطية «3» .
ودخل عليه رجل جاهل، فقال له: يا أبا العباس، قد هجاك المبرّد، فقال:
بماذا؟ فأنشد:
أقسم بالمبتسم العذب
…
ومشتكى الصّبّ إلى الصبّ
لو كتب النحو عن الرّبّ
…
ما زاده إلا عمى القلب
قال الرازىّ: فقال أبو العباس: أنشدنى من أنشده أبو عمرو بن العلاء:
شاتمنى عبد بنى مسمع
…
فصنت عنه النّفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقارى به
…
ومن يعضّ الكلب إن عضا «4»
قال أبو العباس محمد بن عبيد «5» الله بن عبد الله بن طاهر: [قال لى أبى «6»]: حضرت مجلس أخى محمد بن عبد الله بن طاهر، وحضره أبو العباس أحمد بن يحيى،
وأبو العباس محمد بن يزيد النحوىّ، فقال أخى: قد حضر هذان الشيخان، وإنى أودّ أن أعلم أيّهما أعلم، فاجلس فى الدار الفلانية، واجمع بينهما، واسمع كلامهما.
قال: ففعلت ذلك، وتناظرا، ثم عدت إلى أخى، فسألنى عن أمريهما، فقلت:
لمّا شرعا فى النظر شاركتهما فى فهم ما قالا، ثم دقّقا، فلم أفهم من كلامهما الدقيق شيئا، وما يعلم أيّهما أفضل إلا من هو أعلم منهما «1». فقال أخى: إنصافك أدقّ من كلامهما.
وسئل أبو بكر بن السّراج- رحمه الله: أيّهما أعلم؟ فقال: ما أقول فى رجلين، العالم بينهما! ولما مات المبرّد- رحمه الله وقف رجل على حلقة أبى العبّاس أحمد ابن يحيى ثعلب، وأنشد:
بيت من الآداب أصبح نصفه
…
خربا وباقى نصفه فسيخرب
مات المبرّد وانقضت أيامه
…
ومع المبرّد سوف يذهب ثعلب
وأرى لكم أن تكتبوا ألفاظه
…
إذ كانت الألفاظ فيما تكتب «2»
وذكر أن رجلا سأل ثعلبا عن مسألة فقال: لا أدرى، فقال: مثلك يقول: لا أدرى! فقال: لو أنّ لأمّك عدد ما للا أدرى بعرا لاستغنت «3» .
وقال ابن عبد الملك التاريخىّ «4» : ثعلب فاروق النحويين، والمعاير على اللّغويين من الكوفيين والبصريين؛ أصدقهم لسانا، وأعظمهم شأنا، وأبعدهم ذكرا؛
وأرفعهم قدرا، وأصحّهم علما، وأوسعهم حلما، وأثبتهم «1» حفظا، وأوفرهم حظا فى الدين والدنيا.
وقال المفضّل «2» بن سلمة بن عاصم الضبىّ: رأس أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب النحوىّ، واختلف الناس إليه فى سنة خمس وعشرين ومائتين.
وقال ابن عبد الملك التاريخىّ: سمعت إبراهيم الحربىّ- وقد تكلم الناس فى الاسم والمسمّى- يقول: بلغنى أن أبا العباس أحمد بن يحيى النحوىّ قد كره الكلام فى الاسم والمسمّى، وقد كرهت لكم ما كره أحمد بن يحيى؛ ورضيت لكم ولنفسى ما رضى.
قال: وسمعت المبرّد يقول: أعلم الكوفيين ثعلب. فذكر له الفرّاء، فقال: لا يعشره «3» .
قال التاريخىّ: وكان [أبو الصّقر]«4» إسماعيل بن بلبل الوزير الشيبانىّ «5» قد ذكر أبا العباس أحمد بن يحيى للناصر لدين الله الموفّق بالله «6» ، فأخرج له رزقا سنيّا سلطانيّا، فحسن موقع ذلك من أهل العلم والأدب، وقال قائلهم لأبى الصّقر [و]«7» أبى العباس، فى أبيات ذكرها:
فيا جبلى شيبان لازلتما لها
…
حليفى «1» فخار فى الورى وتفضّل
فهذا ليوم الجود والسيف والقنا
…
وأنت لبسط العلم غير مبخّل
عليك أبا العبّاس «2» كلّ معوّل
…
لأنك بعد الله خير معوّل
فككت حدود النحو بعد انغلاقه
…
وأوضحته شرحا وتبيان مشكل
فكم ساكن فى ظلّ نعمتك التى
…
على الدهر أبقى من ثبير ويذبل «3»
فأصبحت للإخوان بالعلم ناعشا
…
وأخصبت منه منزلا بعد منزل
وقال بعض الطاهرية «4» يوما لثعلب: لو علمت ما لك من الأجر فى إفادة الناس العلم لصبرت على أذاهم؛ فقال: لولا ذاك ما تعذّبت، ثم أنشد بعد هذا:
يعابثن «5» بالقضبان كلّ مفلّج
…
به الظّلم «6» لم يفلل لهنّ غروب «7»
رضابا كطعم الشّهد يجلو متونه
…
من الضّرو «8» أو غصن الأراك قضيب
أولئك لولا هنّ ما سقت نضوة «9»
…
لحاج ولا استقبلت برد جنوب «10»
وقال أبو بكر بن مجاهد «11» المقرئ- رضى الله عنه وأرضاه: قال لى أبو العباس ثعلب: يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه
ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعرى ماذا يكون حالى فى الآخرة! فانصرفت من عنده، فرأيت تلك الليلة النبىّ صلى الله عليه وسلم فى المنام، فقال لى: أقرئ أبا العباس عنى السّلام، وقل له:
إنك صاحب العلم المستطيل.
قال أبو عبد الله الروذبارىّ «1» ، العبد الصالح، رضى الله [عنه]: أراد أنّ الكلام به يكمل، والخطاب به يجمل، وأنّ جميع العلوم مفتقرة إليه.
مات أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب- رحمه الله يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكان مولده سنة مائتين، ودفن فى مقبرة باب الشام، وقبره هناك ظاهر معروف.
وسئل الرياشىّ حين انصرف من بغداذ إلى البصرة فقال: ما رأيت فيهم أعلم من الغلام المنبّز «2» (أعنى ثعلبا).
وكان ثعلب يدرس كتب الفرّاء والكسائىّ درسا، فلم يكن يعلم مذهب البصريين، ولا مستخرجا للقياس، ولا طالبا له؛ وكان يقول: قال الفرّاء، وقال الكسائىّ؛ فإذا سئل عن الحجة والحقيقة لم يأت بشىء.
وكان ختنه أبو علىّ «3» الدينورىّ زوج ابنته يخرج من منزله وهو جالس على باب داره يتخطّى أصحابه، ويمضى ومعه محبرته؛ يقرأ كتاب سيبويه على المبرّد فيعاتبه ثعلب على ذلك ويقول له: إذا رآك الناس تمضى إلى هذا الرجل وتقرأ عليه يقولون ماذا؟ فلم يكن يلتفت إلى قوله.
وكان أبو علىّ هذا حسن المعرفة؛ قال له إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم المصعبىّ: يا أبا علىّ، كيف صار محمد [بن] يزيد النحوىّ أعلم بكتاب سيبويه من أحمد بن يحيى ثعلب؟، فقال: لأنّ محمد بن يزيد قرأه على العلماء، وأحمد بن يحيى قرأه على نفسه.
وكتب أبو نصر الطوسىّ «1» إلى أبى أحمد «2» من سرّ من رأى يقول: شككا فى حرف كذا وكذا، فصر إلى أبى العبّاس فسله عنه، فإنّه كان أحفظ لما سمعه منا.
وكان أبو العباس مع سعة رزقه، وكثرة موجوده ضيّق النفقة، مقتّرا على نفسه، ولم يكن مع علمه موصوفا بالبلاغة، وكان إذا كتب كتابا إلى أحد لم يخرج عن طباع العوام فى كتبهم، فإذا سئل عن علم الكسائىّ والفرّاء نقل العجب.
وكان هو ومحمد بن يزيد المبرّد شيخى وقتهما، وكان المبرّد يودّ الاجتماع به والمذاكرة، فيمتنع ثعلب من ذلك. وسئل ختنه الدّينورىّ عن ذلك، فقال: المبرّد حسن العبارة؛ فإذا اجتمعا حكم للمبرّد؛ فإن مذهب ثعلب مذهب المعلمين.
قال ثعلب: دخلت يوما إلى محمد بن عبد الله بن طاهر وعنده أبو العباس محمد بن يزيد- وكان محمد بن عيسى وصفه له- فلما قعدت قال لى محمد بن عبد الله:
ما تقول فى بيت امرئ القيس: «3»
له متنتان خظاتا كما
…
أكبّ على ساعديه النّمر
قال ثعلب: فقلت يقال: خظابظا، إذا كان صلبا مكتترا، وصف فرساء وقوله:
«كما أكبّ» ؛ أى فى صلابة ساعد النّمر إذا اعتمد على يده، والمتن: الطريقة «1» الممتدّة عن يمين الصّلب وشماله. والذى فيه من العربية أنه قال: خظتا، فلما تحرّكت التاء أعاد الألف من أجل الحركة والفتحة.
قال: فأقبل محمد بن عبد الله بوجهه على محمد بن يزيد، فقال له: أعز الله الأمير! إنما أراد فى «خظاتا» «2» الإضافة؛ أضاف خظاتا إلى «كما» . فقلت له:
ما قال هذا أحد. فقال محمد بن يزيد: بل سيبويه يقوله، فقلت لمحمد بن عبد الله:
لا والله، ما قال هذا سيبويه قطّ، وهذا كتابه فليحضر، ثم أقبلت على محمد بن عبد الله؛ فقلت: ما حاجتنا إلى كتاب سيبويه! أيقال: مررت بالزيدين صديقى «3» عمرو، فيضاف نعت الشىء إلى غيره؟ فقال محمد بن عبد الله- بصحة طبعه: لا، والله ما يقال هذا- ونظر إلى محمد بن يزيد- فأمسك ولم يقل شيئا. وقمت، ونهض المجلس.
قال البصريون: والقول ما قاله المبرّد، وإنما ترك الجواب أدبا مع محمد بن عبد الله بن طاهر لمّا تعجّل اليمين وحلف: لا يقال هذا. وهذا مما يدلّك على أنّ المبرّد كان خبيرا بمجالسة الأجلاء والخلفاء والملوك وآداب صحبتهم.
وقال ثعلب: صحبت أحمد بن سعيد بن سلم- وكان ظريفا يشبه الناس- فى سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وفارقته سنة خمس وعشرين ومائتين، وصحبت العباس بن بوكردان «4» إلى سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وصحبت محمد بن عبد الله
ابن طاهر فى هذه السنة أوّل يوم من المحرّم، وصحبته ثلاث عشرة سنة إلى أن توفّى- رحمه الله.
وقال: أقعدنى محمد بن عبد الله بن طاهر مع ابنه طاهر، وأفرد لى دارا فى داره، وأقام لنا وصيفة، وكنت أقعد معه إلى أربع ساعات من النهار، وأنصرف إذا أراد الغداء، فنمى ذلك إليه، فوجّه فكسا البهو والأروقة والمجالس الخيش «1» ، وأضعف ما كان يعدّ من الألوان والثلج والفاكهة والخوان «2» ، فلما حضر وقت الانصراف انصرفت، فنمى ذلك إليه، فقال للخادم الموكّل بطاهر: نمى إلىّ انصراف أحمد بن يحيى فى وقت الطعام والفاكهة، فظننت أنه استقلّ ما كان نحضره، وأنه لم يستطب الموضع، فأضعفنا ما كان يقام، وزدنا «3» فى الخيش، ثم نمى إلىّ أنه قد انصرف بعد ذلك، فتقول له عن نفسك: بيتك أبرد من بيتنا! أو طعامك أطيب من طعامنا! وتقول له عنّى: انصرافك إلى منزلك فى وقت الغداء هجنة «4» علينا.
فلما عرّفنى الخادم ذلك أقمت، فكنت على هذا الحال ثلاث عشرة سنة، وكان يتغدّى معنا من يحضر من خاصّته، مثل أبى عون وغيره، وكان يقيم لى مع ذلك كل يوم سبع وظائف «5» من الخبز الخشكار «6» ، ووظيفة من الخبز السّميذ «7» ، وتسعة
أرطال من اللحم، وعلوفة رأس «1» ، وأجرى لى فى الشهر ألف درهم، وكان يتفقّد من يجرى عليه القوت من الخبز واللحم؛ حتى يصل ذلك إليه فى وقته، ولا يتأخر عنه.
خلّف ثعلب- رحمه الله أحدا وعشرين ألف درهم وألفى دينار، ودكاكين بباب الشام؛ قيمتها يومئذ ثلاثة آلاف دينار، فردّ ماله على ابنه وابنته.
وأوصى إلى علىّ بن محمد الكوفىّ من تلاميذه، وتقدّم إليه فى دفع كتبه إلى أبى بكر أحمد بن إسحاق بن سعيد القطربّلىّ، فقال إبراهيم الزجّاج للقاسم بن عبيد الله:
هذه كتب جليلة فلا تفوتنّك، فأحضر خيران الورّاق، فقوّم ما يساوى عشرة دنانير بثلاثة دنانير، فبلغت أقلّ من ثلاثمائة دينار، [فأخذها القاسم بها]«2» .
وكان أبو سعيد السكرىّ كثير الكتب جدا، وكتب بخطه [ما] لم يكتبه أحد، وكان إذا لقى الرجال لا يفارقه كتاب، وكان أحمد بن يحيى ثعلب لا يرى بيده كتاب، ويتّكل على حفظه.
فأما إقتاره على نفسه، فإنّه كان غاية فيه. قال بعض أصحابه: دخلت عليه يوما، وقد احتجم، وبين يديه طبق فيه ثلاثة أرغفة وخمس بيضات وبقل وخلّ، وهو يأكل؛ فقلت له: يا أبا العباس، قد احتجمت؛ فلو أخذ لك رطل واحد من لحم، فأصلحت به قديرة «3» لكان أصلح، فقال: رطل لحم، وثمن توابل، ومثله أيضا للعيال، ما له معنى! قال ثعلب: دخلت على يعقوب بن السّكّيت، وهو يعمل بعض كتبه، فسألنى عن شىء من الإعراب، فتكلمت فيه، فلم يقع له فهمه، فصحت، فقال:
لا تصح، فإنما أريد أن أتعلّم، فاستحييت.
وكان محمد بن عبد الله بن طاهر قد أجرى على ثعلب كما ذكرنا فى كلّ شهر ألف درهم، وعلى خليفته خمسمائة درهم، وعلى ختنه ثلاثمائة درهم.
قال ثعلب: سألنى محمد بن زياد الأعرابىّ- رحمه الله: كم لك من الولد؟
فقلت: ابنة، وأنشدته «1»:
لولا أميمة لم أجزع من العدم
…
ولم أجب فى الليالى حندس الظّلم «2»
تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا
…
والموت أكرم نزّال على الحرم
وكان ثعلب لا يكاد يجتمع مع المبرّد فى مجلس، للسبب الذى تقدّم ذكره، فإذا تلاقيا فى الطريق تواقفا وتساءلا- رحمهما الله.
وكانت بنت أبى العباس قد استهلكت له ألف دينار من ألفى دينار، فطالبها بذلك أشدّ مطالبة، وأغلظ لها، وجمع عليها أصحابه، وناظرها بحضرتهم، فقالت له من وراء السّتر: أنت أعرف بموضع الدنانير، كان الوقت صيفا كما علمت، وكنت تخرج عنا بكرا «3» ؛ فإذا انتصف النهار ترجع إلينا؛ فتخلع ثيابك، وتقول: عندكم شىء نأكله؟ فتخرج إليك الجارية مائدة، عليها أرغفة سميذ؛ وقطعة من جدى أو دجاجة، أو بذج «4» ، وفضلة من جام «5» ، حلواء، فتأكل من ذلك، ولا تقول: من أين لكم هذا، فلا يزال ذلك دأبك، ولا تسأل عمّا يقدّم إليك، ولا عمّا ترى من الفاكهة والطّيبات؛ يا أصحابه، قولوا له: تلك الدنانير ذهبت فيما كنت تأكله ولا تسأل عنه؛ نأكل ونطعمك. فافترقا، وقد أوجبت عليه الحجّة، ولم يصل منها إلى درهم واحد.
وكان أبو العباس فى آخر عمره قد ثقل سمعه، وساء خلقه، ولمّا مات دفن فى باب الشام، فى حجرة اشتريت له، وبنيت بعد ذلك. وكان سبب وفاته- كما شاء الله- أنه كان يوم جمعة قد انصرف من الجامع بعد صلاة العصر، وكان يتبعه جماعة من أصحابه إلى منزله، فلما صار إلى درب بناحية باب الشام اتّفق أن ابنا لإبراهيم بن أحمد البادرانىّ «1» يسير على دابة، وخلفه خادم على دابة، وقد قلق واضطرب، وكان أبو العباس هذا قد صمّ، ما يكاد يسمع الكلام إلا بعد تعب، وكان فى يده دفتر ينظر فيه، وقد شغله عما سواه، فصدمته دابّة الخادم، وهو لا يسمع حسّها لصممه، فسقط على رأسه فى هوّة من الطريق قد أخذ ترابها، فلم يقدر على القيام، فحمل إلى منزله، وهو كالمختلط يتأوّه من رأسه، وكان سبب وفاته من ذلك- رحمه الله.
قال ثعلب- رحمه الله: رأيت المأمون لمّا قدم من خراسان، وذلك سنة أربع ومائتين، وقد خرج من باب الحديد، وهو يريد قصر الرّصافة، والناس صفان إلى المصلّى. قال: فحملنى أبى على يده، فلما مر المأمون رفعنى على يده، وقال لى: هذا المأمون، وهذه سنة أربع، فحفظت ذلك عنه إلى الساعة، وكان سنى يومئذ أربع سنين.
وله من الكتب والتصنيف: كتاب المصون. كتاب اختلاف النحويين «2» . كتاب معانى القرآن. كتاب الموفّقى «3» فى مختصر النحو.
كتاب ما تلحن فيه العامة. كتاب القراءات. كتاب معانى الشعر.