الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانتظر من ابن أسد إتمام البيت، فلم يتمّه، وسار فى قصده، فخرج ابن أسد يخبّ فى الطين والظلمة، والمزاريب على رأسه، وهو يسير خلفه يسمع تمام البيت، فسار طويلا. واتفق أن السّكران زلق [و] وقع، فقال عند وقوعه:
مشيه يعجب وخطوه، زلق وقع فى الطين
فقال له: يا ظالم! كنت قلت هذا من قريب. ثم رجع.
191 - الحسن بن رشيق القيروانىّ [1]
الفاضل الأديب، الجليل القدر، مصنّف كتاب العمدة فى صناعة الشعر، وغيره. ووجدت له ما صورته:
هو الحسن بن رشيق الإفريقىّ المعروف بالقيروانىّ. من أهل مدينة من مدن إفريقية، تعرف بالمحمّدية «1» . وأبوه رشيق، مملوك رومىّ لرجل من أهل المحمّدية، من الأزد.
ولد الحسن بن رشيق بالمحمّدية فى شهور سنة سبعين وثلاثمائة، ونشأ بها، وعلّمه أبوه صنعته، وهى الصياغة. وقرأ الأدب بالمحمّدية، وقال الشعر قبل أن يبلغ الحلم، واشتاقت نفسه إلى التزيّد من ذلك وملاقاة أهل الأدب، فرحل إلى
[1]. ترجمة فى إشارة التعيين الورقة 14، وبغية الوعاة 220، وتلخيص ابن مكتوم 54 - 55، والحلل السندسية 100 - 102، وابن خلكان 1: 133، وروضات الجنات 217 - 218، وشذرات الذهب 3: 297 - 298، وطبقات ابن قاضى شهبة 1: 301، وكشف الظنون 185، 301، 973، 1029، 1169، 1907، 1918، ومعجم الأدباء 8: 110 - 121. وألف الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب رسالة سماها: «بساط العقيق فى حضارة القيروان وشاعرها ابن رشيق»، والأستاذ عبد العزيز الميمنى رسالة سماها: «ابن رشيق»، وأخرى سماها:
«النتف من شعر ابن رشيق وابن شرف» . وانظر فوات الوفيات 2: 255.
القيروان، وعمره ستّ عشرة سنة، وامتدح بها. واشتهر بجودة الخاطر، وصدق الفريحة، وحسن المحاضرة. وامتدح صاحب القيروان ابن باديس «1» فى سنة سبع عشرة وأربعمائة بقصيدة، ذكر فيها بناء ابتناه فى منزله «2» بصبرة، وهى منظرة جليلة أنيقة.
أوّلها:
ذمّت لعينك أعين الغزلان
…
قمر أقرّ لحسبها القمران
ومشت فلا والله ما حقف النّقا «3»
…
مما أرتك ولا قضيب البان «4»
يقول فيها:
وثن الملاحة غير أنّ ديانتى
…
تأبى علىّ عبادة «5» الأوثان
يابن الأعزّة من أكابر حمير
…
وسلالة الأملاك من قحطان
من كلّ أبلج آمر بلسانه
…
يضع السيوف مواضع التيجان
وذكر بناء المنظرة بصبرة- وهى محلة الملك بالقيروان- فقال:
وحللت من علياء صبرة موضعا
…
أكرم به من موضع ومكان
زادت بناه على الخورنق بسطة
…
وحوت أعزّ حمى من النعمان «6»
وغدا ابن ذى يزن بسفل «7» دونه
…
همما نزلن به على غمدان «8»
ولما تحقّق ابن باديس مكانته من الأدب ومحلّه من قول الشعر قرّبه، فامتدحه بقصيدة صاربها فى جملته، ونسب لأجلها إلى خدمته، ولزم ديوانه وأخذ الصلة منه، وحمل على مركب يميّز به، فمن قوله فى مديحها:
لدن الرماح لما تسقى أسنتها
…
من مهجة القيل أو من مهجة البطل «1»
لو أورقت من دم الأعداء سمرقنا
…
لأورقت عنده سمر القنا الذّبل
إذا توجّه فى أولى كتائبه
…
لم تفرق العين بين السّهل والجبل
فالجيش ينفض حوليه أسنّته
…
نفض العقاب جناحيها من البلل
يأتى الأمور على رفق وفى دعة
…
عجلان كالفلك الدّوار فى مهل
ومن قوله من قصيدة فى العتاب:
أجدّك لم أجد للصّبر بابا
…
فتدخله على سعة وضيق
بلى وأقلّ ما لاقيت يسلى
…
ولكن لا أرى عتب الصديق
نهضت بعبء إخوانى فزادوا
…
وأثقل ما يرى حمل المطيق
ولكن ربّ إحسان وبرّ
…
دعا بعض الرجال إلى العقوق
فإن أصبر فعن إفراط جهد
…
وإن أقلق فحسبك من قلوق
يقول فيها:
حصلت من الهوى فى لجّ بحر
…
بعيد القعر منخرق عميق
سأعرض عنك إعراضا جميلا
…
وأبدى صفحة الوجه الطّليق
ولا ألقاك إلا عن تلاق
…
بعيد العهد بالذكرى سحيق
لتعلم أننى عفّ السجايا
…
عزوف النفس متّبع البروق
وأنى مذ قصرت يدىّ طالت
…
إليك يد العدوّ المستفيق
وله فى الرثاء قصيدة يرثى بها قاضى بلدة المحمّدية طاهر بن عبد الله، وقد بلغته وفاته بالقيروان، منها:
العفر «1» فى فم ذاك الصارخ النّاعى
…
ولا أجيبت بخير دعوة الدّاعى
فقد نعى ملء أفواه وأفئدة
…
وقد نعى ملء أبصار وأسماع
أما لئن صحّ ما جاء البريد «2» به
…
ليكثرنّ من الباكين أشياعى
يا شؤم طائر أخبار مبرّحة
…
يطير قلبى لها من بين أضلاعى
مازلت أفزع من يأس إلى طمع
…
حتى تربّع يأسى فوق أطماعى
فاليوم أنفق كنز العمر أجمعه
…
لمّا مضى واحد الدّنيا بإجماع
توفّى الطاهر القاضى فوا أسفا
…
إن لم يوفّ تباريحى وأوجاعى
فللديانة فيه لبس ثاكلة
…
وللقضاء عليه قلب ملتاع
وله فى الهجو أبيات يهجو بها رجلا اسمه فرات- وأحسن فيها- وهى:
قالوا رأينا فراتا ليس يوجعه
…
ما يوجع الناس من هجو به قذفا
فقلت: لو أنه حىّ لأوجعه
…
لكنّه مات من جهل وما عرفا
وما هجوت فراتا غير تجربة
…
وذو الرماية من يستصغر الهدفا
وكان بين ابن رشيق وبين محمد بن شرف «3» الشاعر مباينة بعد مواصلة، وذلك أنهما كانا شاعرى ابن باديس، ودخلا إليه، واتّصلا بخدمته فى وقت واحد. وكان
ابن شرف ممن لا ينكر حدقه، ولا يدفع فى هذا النوع صدقه، ولم يزل بينهما مكاتبات ومخاطبات. فمن شعر ابن شرف قصيدة كتب بها إلى ابن رشيق، وهو بالمهديّة يتشوّقه، أولها:
عدمناك من بعد وإن زدتنا قربا
…
على أنّ فيما بيننا سبسبا سهبا «1»
وكتب إليه ابن رشيق جوابا عنها قصيدته التى أوّلها:
عتابا عسى أنّ الزمان له عتبى «2»
…
وشكوى فكم شكوى ألانت لنا قلبا
إذا لم يكن إلّا إلى الدمع راحة
…
فلا زال دمع العين منهملا سكبا «3»
وكانت القصيدة التى تقدم بها ابن شرف، واتصل بخدمة ابن باديس:
قفا فتنسما عطر النسيم
…
برسم الدار من بعد الرّسيم «4»
أنيخا الناعجين «5» ولا تروما
…
فما السلوان بالأمر العظيم
قفا تريا السبيل إلى التصابى
…
لمغناها وكيف صبا الحليم
يقول- حين وصل إلى مدحه- فيها:
هو الشرف الذى نسب المعالى
…
إليه وهو ذو الشّرف القديم
شهاب الحرب يهلك كلّ باغ
…
ومحرق كلّ شيطان رجيم
تقطّع دونه البيض المواضى
…
وتجفل عنه إجفال الظّليم «6»
ويجلو عنه ليل النّقع وجه
…
كبدر التّم فى الليل البهيم
ثم إن المنافسة أوقعت بينهما، وتخارجا فى الهجاء، وعمل ابن رشيق عدة تصانيف «1» فى الردّ عليه وإخراج معايب أقواله، سأستوفى لمحها وملحها فى كتابى الذى أسميه الأنيق فى أخبار ابن رشيق بمشيئة الله وعونه.
ولم يزل ابن رشيق على ما هو عليه من إقامة سوق الأدب، والتنبيه على فضل لغة العرب، بما يصنّفه فيها ويؤلفه، ويحرّره ويرصفه، مرة فى لغتها، ومرة فى معانيها الواردة فى أشعارها وأمثالها وأخبارها إلى أن هجم العرب على القيروان «2» ، وقتلوا من بها، وخرّبوا منازلها، وانتهبوا أموالها؛ فعند ذلك فرّ عنها إلى ساحل البحر المغربىّ، ولم يمكنه المقام هناك، فعدّى البحر إلى جزيرة صقلّيّة، ونزل بمازر «3» إحدى مدنها على أميرها ومتوليها ابن مطكود «4» ، فأكرمه واختصّه، وقرأ عليه كتبه. ومن جملة ما رأيته من قراءاته عليه كتاب العمدة فى صنعة الشعر، وهو أجلّ كتبه وأكبرها. ورأيت خطّ ابن رشيق على نسخة منها، ولم يزل عنده إلى أن مات بمازر فى حدود سنة خمسين «5» وأربعمائة- رحمه الله تعالى.