الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[التراجم]
ذكر أول من وضع النحو وما قاله الرواة فى ذلك
الجمهور من أهل الرواية على أنّ أوّل من وضع النحو أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه- قال أبو الأسود الدّؤلىّ رحمه الله:
دخلت على أمير المؤمنين علىّ- عليه السلام فرأيته مطرقا مفكّرا؛ فقلت: فيم «1» تفكر يا أمير المؤمنين؟ فقال: سمعت ببلدكم لحنا، فأردت أن أصنع كتابا فى أصول العربيّة. فقلت له: إن فعلت هذا أبقيت فينا «2» هذه اللغة العربية، ثم أتيته بعد أيام، فألقى إلىّ صحيفة فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام كلّه اسم وفعل وحرف؛ فالاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل.
ثم قال: تتّبعه وزد فيه ما وقع لك. واعلم أن الأشياء «3» ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشىء ليس بظاهر ولا مضمر؛ وإنما يتفاضل العلماء فى معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر.
فجمعت أشياء وعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت منها: إنّ، وأنّ، وليت، ولعلّ، وكأنّ. ولم أذكر لكنّ، فقال: لم تركتها؟
فقلت: لم أحسبها منها. فقال: بلى هى منها، فزدها فيها.
هذا هو الأشهر من أمر ابتداء النحو. وقد تعرّض الزجّاجىّ أبو القاسم إلى شرح هذا الفصل من كلام علىّ، كرم الله وجهه.
ورأيت بمصر فى زمن الطلب بأيدى الورّاقين جزءا فيه أبواب من النحو، يجمعون على أنها مقدّمة علىّ بن أبى طالب التى أخذها عنه أبو الأسود الدّؤلىّ.
وروى أيضا عن أبى الأسود قال: دخلت على أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب- عليه السلام فأخرج لى رقعة فيها: الكلام كلّه اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. قال: فقلت: ما دعاك إلى هذا؟ قال: رأيت فسادا فى كلام بعض أهلى؛ فأحببت أن أرسم رسما يعرف به الصواب من الخطأ. فأخذ أبو الأسود النحو عن على- عليه السلام ولم يظهره لأحد.
ثم إن زيادا سمع بشىء مما عند أبى الأسود، ورأى اللحن قد فشا؛ فقال لأبى الأسود: أظهر ما عندك ليكون للناس إماما. فامتنع من ذلك، وسأله الإعفاء، حتى سمع أبو الأسود قارئا يقرأ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَرَسُولِهِ بالكسر؛ فقال: ما ظننت أمر الناس آل إلى هذا. فرجع إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير؛ فليبغنى «1» كاتبا لقنا «2» يفعل ما أقول، فأتى بكاتب من عبد القيس «3» ، فلم يرضه، فأتى بكاتب آخر- قال المبرّد: أحسبه منهم- فقال له أبو الأسود:
إذا رأيتنى قد فتحت فمى بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممت فمى فانقط نقطة بين يدى الحرف، وإن كسرت فاجعل نقطة من تحت الحرف، وإن مكّنت «4» الكلمة بالتنوين فاجعل أمارة ذلك نقطتين. ففعل ذلك، وكان أوّل ما وضعه لهذا السبب.
وقد قيل: إن الذى رآه أبو الأسود ونكره، أنه مرّ به سعد- وكان رجلا فارسيّا من أهل نوبندجان «1» - كان قدم البصرة مع جماعة [من] أهله، فادّعوا لقدامة «2» بن مظعون أنهم أسلموا على يديه؛ فإنّهم بذاك من مواليه. ولما مرّ سعد بأبى الأسود- وكان يقود فرسا له- قال له أبو الأسود: ما لك لا تركبه يا سعد؟
قال: «إن فرسى ظالعا» . وأراد أن يقول: «ظالع» «3» قال: فضحك به بعض من حضر، فقال أبو الأسود: هؤلاء الموالى قد رغبوا فى الإسلام ودخلوا فيه، فصاروا لنا إخوة، فلو علّمناهم الكلام! فوضع باب الفاعل والمفعول.
وأهل مصر قاطبة يرون بعد النقل والتصحيح أنّ أوّل من وضع النحو علىّ بن أبى طالب- كرّم الله وجهه- وأخذ عنه أبو الأسود الدّؤلىّ، وأخذ عن أبى الأسود الدّؤلىّ نصر بن عاصم البصرىّ، وأخذ عن نصر أبو عمرو بن العلاء البصرىّ، وأخذ عن أبى عمرو [الخليل بن أحمد، وأخذ عن الخليل]«4» سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر «5» ، وأخذ عن سيبويه أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط، وأخذ عن الأخفش أبو عثمان بكر بن محمد المازنىّ الشيبانىّ وأبو عمر الجرمىّ، وأخذ عن المازنىّ والجرمىّ أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد، وأخذ عن المبرّد أبو إسحق الزجّاج وأبو بكر بن السرّاج، وأخذ عن ابن السّراج أبو على الحسن ابن عبد الغفار الفارسىّ؛ وأخذ عن الفارسىّ أبو الحسن على بن عيسى الرّبعىّ؛ وأخذ عن
الرّبعىّ أبو نصر القاسم بن مباشر الواسطىّ؛ وأخذ عن ابن المباشر طاهر بن أحمد ابن بابشاذ «1» المصرىّ. وأخذ أيضا عن الزجّاج أبو جعفر النحّاس أحمد بن إسماعيل المصرىّ؛ وأخذ عن النحّاس أبو بكر الأدفوىّ «2» ، وأخذ عن الأدفوىّ أبو الحسن على ابن إبراهيم الحوفىّ؛ وأخذ عن الحوفىّ طاهر بن أحمد بن بابشاذ «3» النحوىّ؛ وأخذ عن ابن بابشاذ أبو عبد الله محمد بن بركات النحوىّ المصرىّ، وأخذ عن ابن بركات وعن غيره أبو محمد بن برّىّ، وأخذ عن ابن برّىّ جماعة من علماء أهل مصر، وجماعة من القادمين عليه من المغرب وغيرها؛ وتصدّر فى موضعه بجامع عمرو بن العاص تلميذه الشيخ أبو الحسين النحوىّ المصرىّ المنبوز بخرء الفيل. ومات فى حدود سنة عشرين وستمائة.
ومن الرواة من يقول: إنّ أبا الأسود هو أوّل من استنبط النحو، وأخرجه من العدم إلى الوجود، وإنه رأى بخطه ما استخرجه، ولم يعزه إلى أحد قبله.
فممّن قال ذلك محمد بن إسحاق أبى يعقوب أبو الفرج المعروف بابن النديم «4» ، وكان كثير البحث والتفتيش عن الأمور القديمة، كثير الرغبة فى الكتب وجمعها وذكر أخبارها وأخبار مصنّفيها، ومعرفة خطوط المتقدمين، قال «5»:
«كان بمدينة الحديثة «6» رجل يقال له محمد بن الحسين، ويعرف بابن أبى بعرة، جمّاعة للكتب، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة، تحتوى على قطعة من الكتب العربية
فى النحو واللغة والأدب والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات، فأنس بى- وكان نفورا ضنينا بما عنده، خائفا عليها من بنى حمدان- فأخرج لى قمطرا كبيرا، فيه نحو ثلاثمائة رطل؛ جلود وصكاك «1» ، وقرطاس مصرىّ، وورق صينىّ، وورق تهامىّ وجلود أدم «2» وورق خراسانىّ، فيها تعليقات لغة عن «3» العرب، وقصائد مفردات من أشعارهم، وشىء من النحو والحكايات والأخبار والأنساب والأمهات، وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم. وذكر أن رجلا من أهل الكوفة، ذهب عنى اسمه، كان مستهترا «4» بجمع الخطوط القديمة، وأنه لما حضرته الوفاة خصّه بذلك لصداقة كانت بينهما، وإفضال من محمد بن الحسين عليه، ومجانسته بالمذهب، فإنه كان شيعيا».
قال ابن النديم: «فرأيتها وقلّبتها فرأيت عجبا! إلا أن الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملا؛ درسها «5» وأحرفها «6» . وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرجة «7» توقيع بخطوط العلماء؛ واحدا بعد واحد، يذكر فيه خط من هو، وتحت كل توقيع توقيع آخر، خمسة وستة من شهادات العلماء على خطوط بعض لبعض، ورأيت فى جملتها مصحفا بخط خالد بن أبى الهياج، صاحب على عليه السلام «8» . ورأيت فيها بخطوط الأئمة «9» من [آل] الحسن وآل الحسين- عليهم السلام ورأيت عنده
أمانات وعهودا بخط أمير المؤمنين علىّ- عليه السلام، وبخط غيره من كتّاب النبى صلى الله عليه وسلم. ورأيت من خطوط العلماء فى النحو واللغة، مثل أبى عمرو بن العلاء، وأبى عمرو الشيبانىّ، والأصمعىّ، وابن الأعرابىّ [و] سيبويه، والفرّاء، والكسائىّ، ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عيينة وسفيان الثّورىّ والأوزاعىّ وغيرهم.
ورأيت ما يدل على أن النحو من «1» من أبى الأسود، ما هذه حكايته، وهى أربع أوراق، وأحسبها من ورق الصين. ترجمتها: هذه فيها كلام فى الفاعل والمفعول من أبى الأسود- رحمة الله عليه- بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق: هذا خط علّان النحوىّ، وتحته: هذا خط النّضر بن شميل».
قال ابن النديم: «ثم لما مات هذا الرجل فقدنا القمطر وما كان فيه، فما سمعنا له خبرا، ولا رأيت منه «2» غير المصحف؛ هذا على كثرة بحثى عنه».
فقد تعيّن إذا ذكر أمير المؤمنين على بن أبى طالب- كرم الله وجهه- وذكر مختصر من خبره؛ ثم أتبعه بذكر أبى الأسود الدؤلىّ وشىء من أخباره، ثم أذكر النحاة بعد ذلك على حروف المعجم؛ ليسهل تناول أخبارهم لطالب ذلك. وإذا ذكرت الشخص منهم فى بابه علم من خبره وزمانه من أىّ الطبقات هو؟
والله الموفّق؛ إنه على كل شىء قدير؛ وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.