الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدّمة المحقق
(1) ترجمة المؤلف [1]
حياته:
قفط بلدة بالصعيد الأعلى بمديرية قنا، تبعد قليلا عن الشاطئ الشرقى للنيل، شمالى قوص. وكانت معروفة فى التاريخ المصرى القديم، ودار حولها كثير من القصص والأساطير. ولما كان الفتح الإسلامىّ وارتبطت مصر ببلاد العرب ارتباطا وثيقا صار لها شأن خاص، وأصبحت ممرّا للتجار والرّحالين والحجاج، فى طريقهم ذاهبين إلى عيذاب وجدّة فبلاد العرب والهند، أو عائدين من هذه البلاد إلى مصر والمغرب وبلاد الأندلس. فأثرى أهلها، وحفلت أسواقها، واستفاض العمران بها، واجتذبت إليها كثيرا من العلماء ممن كان يذهب إلى مكة للحج أو يعود. وأقيمت بها حلقات الدروس، وامتلأت مساجدها ونواديها بأفضل العلماء، وجهابذة الأدباء، ونشطت فيها الحركة العلمية؛ كما نشطت فى قنا وقوص وأدفو وأسوان وغيرها من بلاد الصعيد.
[1]. مصادر الترجمة:
إعلام النبلاء 4: 414 - 426 بغية الوعاة 358 تاريخ علم الفلك عند العرب لنلينو 50 - 64 حسن المحاضرة 1: 238 شذرات الذهب 5: 236 الطالع السعيد 237 - 238 عيون التواريخ (مخطوط) وفيات سنة 646 فوات الوفيات 2: 121 معجم الأدباء 15: 175 - 204 معجم البلدان 3: 55 - 56.
فى هذه البلدة ولد الصاحب جمال الدين أبو الحسن على بن يوسف بن إبراهيم ابن عبد الواحد الشيبانىّ، ونسب إليها، وصار يعرف بالقفطىّ فيما بعد، ويلقب بالقاضى الأكرم.
وكان مولده فى أحد ربيعى سنة 568 على ما ذكر أخوه إبراهيم مؤيد الدين «1» ، وقضى بها شطرا من طفولته، ثم ذهب إلى القاهرة، وتعلم بمدارسها، وأخذ عن شيوخها وعلمائها، ثم عاد إليها فى ربيع شبابه، وقضى بها حقبة من الزمن، نهل من موارد العلم، وقبس من ضياء المعرفة، وتخرّج على من كان بها من العلماء.
وهو عربىّ صريح النسب، كريم النبعة، ينتمى قومه إلى شيبان. وقد نزحوا من الكوفة مع القبائل العربية التى توافدت على مصر بعد الفتح أرسالا، وهاجر إليها أفرادها جماعات، ثم انتشروا فى شمال الوادى وجنوبه، وطاب لهم العيش، وامتدّت بهم أسباب الحياة.
وأبوه يوسف بن إبراهيم الملقب بالقاضى الأشرف. كان كاتبا ناصع البيان، متصرفا فى ضروب الإنشاء، حسن الترسل، مليح الخط. ولد بقفط سنة 548، وقضى بها صدرا من حياته، نابه الذكر، مرعىّ المكانة، سامى الرتبة. ولما نشبت الفتنة «2» بها، وأعلن أهلها خروجهم على السلطان صلاح الدين الأيوبىّ نزح عن البلاد
طلبا للعافية، وإيثارا للسلامة. ثم ذهب إلى القاهرة، واتصل بالملوك الأيوبيين، فأنزلوه منزلة كريمة، وولوه أعمالا بالصعيد ثم بلبيس وبيت المقدس، وناب عن القاضى الفاضل بحضرة صلاح الدين. ولما ملك العادل الشام لم تطب للقاضى الأشرف الإقامة ببيت المقدس، وغادرها إلى حرّان. وهناك استوزره الملك الأشرف موسى بن العادل، ثم استأذنه فى الحج فأذن له على أن يعود؛ ولكنه امتنع من العود، وذهب إلى اليمن، فاستوزره أتابك سنقر، وأقام فى الوزارة زمنا؛ ثم بدا له أن ينقطع عن خدمة الملوك، فذهب إلى ذى جبلة «1» ، وآثر العزلة عن الناس، والإخلاد إلى الوحدة. فأقام بها منفردا بنفسه، بعيدا عن الخاصة والعامّة إلى أن توفى سنة 624.
وكانت القاهرة حين وفد القفطىّ إليها معمورة بالمدارس، مأهولة بالعلماء، زاخرة بالكتب، فأخلى ذرعه للدرس، وقصر نفسه على العلم، وأحاط منه بقدر صالح كبير. ولقى كثيرا من العلماء وأخذ عنهم؛ وكان ممن لقيه محمد بن محمد بن بنان الأنبارىّ، وكان شيخا فاضلا عالما، تصدّر للإقراء، فلزمه وأخذ عنه سماعاته، وأجازه فى رواياته، وسمع منه كتاب الصّحاح للجوهرىّ.
وترامت إليه أخبار أبى طاهر السّلفىّ نزيل الإسكندرية وعالمها فى ذلك الحين، فارتحل إليه، وانتظم فى حلقة الطلاب الذين وفدوا عليه من أطراف البلاد، وكان صغيرا فى ذلك الحين؛ إلا أنه أفاد منه، وتحدّث عنه فى كتاب الإنباه.
ثم عاوده الحنين إلى وطنه، واشتاق إلى ملاعب طفولته، ومنبت أهله وعشيرته، فسافر إلى قفط، وكان قد اكتمل عقله، وأوفى على الغاية استعداده.
وهناك خالط علماءها، وناظر أدباءها، والتقى بصالح بن عادى العذرىّ نزيلها.
وكان ابن عادى ممن حذق النحو، وتقصّى مسائله، وجمع أشتاته، وأحاط بأصوله وفروعه، ونقّب عن مقيسه وشاذه. فلزمه واستفاد منه، وحمل عنه علما كثيرا.
ثم عاد إلى القاهرة ليقضى بها مدة قصيرة ويرحل عنها فلا يعود. ففى سنة 591 سافر أبوه إلى بيت المقدس واليا عليها من قبل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين، فصحبه فى سفره، ونزل معه ببيت المقدس، وطاب له المقام فيها زمانا؛ وهناك عايش أهلها، ولابس رجالها، ولقى عندهم جوارا كريما، ومنزلا طيبا، ولقوا منه رجلا محمود الصحبة، جميل العشرة، لطيف الطبع، أديبا بارعا عذب الموارد، وعالما فاضلا جمّ الفوائد، يتجمّل بالخلق الكريم، والطبع السرىّ النبيل، فأحبهم وأحبوه، واطمأنّ إليهم واطمأنوا إليه. ثم رغبوا إليه فى أن يتولى شيئا من أمور الملك فأبى عليهم، وآثر أندية العلم، ومجامع الأدب والفضل، وزهد فى مجالس الحكم وديوان السلطان.
وعصفت ببيت المقدس أقدار، وتقلبت عليها أهوال، وانتهت إلى أن دخلت فى حوزة الملك العادل ووزيره ابن شكر. ولم يكن أبوه القاضى الأشرف من شيعة العادل، ولا ممن يوادّون ابن شكر، فتوجس منهما خيفة، وخرج منها بليل، وذهب إلى حرّان. وعندئذ تعذّر على القفطى المقام بعد أبيه، ونبا به المنزل، فترك بيت المقدس، وقصد إلى حلب مع من قصد إليها.
وكان السلطان صلاح الدين قد أعطى ولاية حلب لابنه الملك غازى المعروف بالظاهر «1» فى حياته، ثم ظلت فى حكمه بعد وفاة أبيه، وتوارثها أولاده من بعده،
فكانت بعيدة عن الفتن التى شجرت بين خلفاء صلاح الدين، والحال فيها خير من الحال فى مصر والعراق وبقية بلاد الشام؛ فازدهرت فيها الآداب، وأينعت العلوم، ورحل إليها العلماء؛ ممّا طابت له نفس القفطىّ، ووافق هواه، ووجد المكان الذى يطمئن له العيش فيه.
وفى صدر أيامه بحلب كان مصاحبا لميمون القصرىّ صديق أبيه، ورفيقه فى الرحلة إلى حلب، وأحد الولاة الذين صار لهم نصيب من السلطان. فلازمه على سبيل الصداقة والمودّة، لا على سبيل العمل والخدمة. وفى هذه المدّة اجتمع بجماعة من العلماء المقيمين بحلب والواردين عليها، واستفاد بمحاضرتهم، وفقه بمناظرتهم. ثم جدّ فى شراء الكتب وسعى فى اقتنائها وجلبها، واستطارت شهرته بذلك فى الآفاق، وتوافد عليه الورّاقون والناسخون وباعة الكتب، كما توافد عليه العلماء والشعراء وذوو الفضل. وكان ممّن وفد إليه فى ذلك الحين ياقوت ابن عبد الله الحموىّ صاحب معجم الأدباء. فآواه إلى ظله، وأنزله فى داره، وأفرد له مكانا من مجلسه. وعرف فيه ياقوت الفضل والعلم؛ فأذاع بفضله فى كل محفل، وروى عنه فيما صنف من الكتب، وأهدى إلى خزانته كتابه معجم البلدان.
وبينما كان القفطىّ مطمئنا إلى هذه الحياة الهادئة الخصيبة، يجالس العلماء، ويأخذ عنهم ويأخذون عنه، ويقتنى الكتب ويقرؤها ويستوعب ما فيها، ويحصّل العلوم ويؤلف فى شتى نواحيها؛ وإذا بميمون القصرىّ يموت وزيره فيلزمه أن يحل مكانه؛ فيقبل على كره، وفى ذلك يقول ياقوت «1»:
«ألزمه ميمون القصرىّ خدمته، والاتّسام بكتابته، ففعل ذلك على مضض واستحياء، ودبّر أموره أحسن تدبير، وساس جنده أحسن سياسة، وفرغ بال
ميمون من كل ما يشغل به بال الأمراء، وأقطع الأجناد إقطاعات رضوا بها، وانصرفوا شاكرين له، لم يعرف عنه- منذ تولى أمره إلى أن مات ميمون القصرىّ- جندىّ اشتكى أو تألم. وكان وجيها عند ميمون المذكور، يحترمه ويعظم شأنه، ويتبرك بآرائه إلى أن مات ميمون سنة 610».
وعندئذ عاد إلى منزله، والتزم العزلة أكثر من عام، يطالع وينسخ ويستفيد.
ولكنه ألزم بالخدمة مرّة أخرى، فظل متوليا أمور الديوان حتى مات الملك غازى سنة 613، وتولى الملك ابنه العزيز «1» ، فعاد إلى داره، ومكث ملتزما الخلوة والبعد عن السلطان. وشهاب الدين طغريل وزير العزيز يجرى عليه رزقا يستعين به على الانقطاع والخلوة، إلى أن كانت سنة 616؛ حيث ألزمه الأمير تولى أمور الديوان، فلم يجد من قبول ذلك بدّا.
وطالت أيامه فى هذه المدّة؛ فإنه ظل من سنة 616 إلى سنة 628، يسوس الأمور أحسن سياسة، وينصح للأمير، ويرعى مصالح الرعية. روى عنه ياقوت: «أنه مر فى طريقه بصعلوك شكا إليه أنه قد اتهم بسرقة الملح، وأخذت دابته، ثم طولب بجباية. فلم يكد يستمع إلى شكواه حتى ذهب إلى شهاب الدين طغريل، وقال له: أيها الأمير، روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
ثلاثة أشياء مباحة، الناس مشتركون فيها: الكلأ والماء والملح، وقد جرى كيت وكيت، ولا يليق بمثلك وأنت عامّة وقتك جالس على مصلّاك أن تكون مثل هذه الأشياء فى بلدك!».
ولا تكتب بكفّك غير شىء
…
يسرّك فى القيامة أن تراه
وكأنه رأى أن طول هذه المدّة قد أقصاه عن المطالعة، وصرفه عن التأليف، وحال بينه وبين الانقطاع إلى مدارس العلم، فأعفى نفسه من تكاليف السلطان، وخلع عن عنقه ربقة الإمارة، و «انقطع «1» فى داره مستريحا من معاناة الديوان، مجتمع الخاطر- على شأنه- للمطالعة والفكرة وتأليف الكتب، منقبضا عن الناس، محبا للتفرّد والخلوة، لا يكاد يظهر لمخلوق».
ولكن الملك العزيز حينما جاوز حداثته، واستقل بالملك وحده لم يلبث أن دعاه إليه، واتخذه وزيره، وألقى إليه زمام أموره؛ مطمئنا إلى نفاذ بصيرته، وأصالة رأيه. فأصفى له النصح، واجتهد فى المشورة، وتوخى مناهج الرشد، والتزم القصد والسداد.
ومات العزيز وتولى بعده ابنه الناصر «2» ، لم تجاوز سنه سبع سنوات، فاستمرّ