الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى النحو وغيره، وغيرهما. وولّى أحمد بن عبد الله بن قتيبه قضاء مصر، وأقام بها إلى أن وافاه أجله.
ذكر أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرّزاذ النّجيرمىّ النحوىّ اللغوىّ، أديب مصر ونزيلها: أن أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة حدّث بكتب أبيه كلها بمصر، ولم يكن معه كتاب، روى ذلك عن أبى الحسن المهلّبىّ، وكان المهلّبىّ يروى عن ابن قتيبة. ورد مصر قاضيا فى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وتوفّى بمصر وهو على القضاء فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة- رحمه الله.
29 - أحمد بن عبد الله بن سليمان أبو العلاء المعرىّ [1]
كتب إلىّ أبو اليمن «1» زيد بن الحسن بن زيد الكندىّ- رحمه الله: أخبرنا القزّاز «2» ، أخبرنا أحمد بن على «3» فى كتابه قال «4»:
[1]. ترجمته فى الأنساب 110 ا- 110 ب وبغية الوعاة 136 - 137، وتاريخ بغداد 4: 240 - 241، وتاريخ أبى الفدا 2: 176 - 177، وتاريخ ابن كثير 12:
72 -
76، وتتمة اليتيمة 1: 9، وابن خلكان 1: 33 - 35، ودمية القصر 50 - 52، وروضات الجنات 37، وسلم الوصول 89، وشذرات الذهب 3: 28، وكشف الظنون 992، 1272، 1548. واللباب 1:184. ومعاهد التنصيص 1: 136 - 145، ومعجم الأدباء 3: 107 - 218، والنجوم الزاهرة 5: 61 - 62، ونزهة الألباء 425 - 427، ونكت الهميان 101 - 110 وهو فيما سقط من تلخيص ابن مكتوم. والمعرّى: منسوب إلى معرّة النعمان، وهى مدينة قديمة مشهورة من أعمال حمص، بين حلب وحماة. معجم البلدان (8: 6).
«أحمد بن عبد الله بن سليمان، أبو العلاء التّنوخىّ «1» الشاعر، من أهل معرّة النعمان.
كان حسن الشعر، جزل الكلام، فصيح اللسان، غزير الأدب، عالما باللغة حافظا لها.
وذكر لى القاضى أبو القاسم التّنوخىّ «2» ، أنه ورد بغداذ فى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وأنه قرأ عليه دواوين الشعراء ببغداذ.
وقال لى التّنوخىّ: هو أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد ابن سليمان بن داود بن المطهّر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور ابن أسحم بن أرقم بن النّعمان بن عدىّ بن غطفان بن عمرو بن بريح بن جذيمة بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
أنشدنى القاضى أبو القاسم على بن المحسّن قال: أنشدنا أبو العلاء المعرّى لنفسه يرثى بعض أقاربه «3» :
غير مجد فى ملّتي واعتقادى
…
نوح باك ولا ترنّم شاد
وشبيه صوت النعىّ إذا قس
…
ت «4» بصوت البشير فى كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غنّ
…
ت على فرع غصنها الميّاد
صاح هذى قبورنا تملأ الأر
…
ض «5» فأين القبور من عهد عاد
خفّف الوطء ما أظن أديم ال
…
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العص
…
ر «1» هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعت فى الهواء رويدا
…
لا اختيالا على رفات «2» العباد
ربّ لحد قد صار لحدا مرارا
…
ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين
…
فى طويل الزّمان «3» والآباد
فاسأل الفرقدين عمن أحسّا
…
من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار
…
وأنارا لمدلج فى سواد
تعب كلّها الحياة فما أع
…
جب إلا من راغب فى ازدياد
إنّ حزنا فى ساعة الموت «4» أضعا
…
ف سرور فى ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاء فضلّت «5»
…
أمّة يحسبونهم للنّفاد
إنما ينقلون من دار أعما
…
ل إلى دار شقوة أو رشاد
والقصيدة طويلة.
حدّثنى أبو الخطّاب العلاء بن حزم الأندلسىّ «6» قال: ذكر لى أبو العلاء المعرّى أنه ولد فى يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
وكان أبو العلاء ضريرا، عمى فى صباه، وعاد من بغداذ إلى بلده معرّة النعمان وأقام بها إلى حين وفاته، وكان يتزهّد ولا يأكل اللحم، ويلبس خشن الثياب، وصنّف
كتابا فى اللغة، وعارض سورا من القرآن. وحكى عنه حكايات مختلفة فى اعتقاده، حتى رماه بعض الناس بالإلحاد. وبلغنا أنه مات فى يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأوّل، سنة تسع وأربعين وأربعمائة».
انقضى كلام أحمد بن على فى كتابه.
وذكر غيره أن أبا العلاء جدر فى السنة الثالثة من عمره، وكفّ من الجدرىّ.
وقال: لا أعرف من الألوان إلا الأحمر، فإننى ألبست فى مرض الجدرىّ ثوبا مصبوغا بالعصفر، فأنا لا أعقل غير ذلك، وكل ما أذكره من الألوان فى شعرى ونثرى إنّما هو تقليد الغير، واستعارة منه.
ولما كبر أبو العلاء، [و] وصل إلى سنّ الطلب، أخذ العربية عن قوم من بلده، كبنى كوثر، أو من يجرى مجراهم من أصحاب ابن خالويه وطبقته، وقيّد اللّغة عن أصحاب ابن خالويه أيضا. وطمحت نفسه إلى الاستكثار من ذلك، فرحل إلى طرابلس الشام، وكانت بها خزائن كتب قد وقفها ذوو اليسار من أهلها، فاجتاز باللّاذقيّة «1» ، ونزل دير الفاروس «2» ، وكان به راهب يشدو شيئا من علوم الأوائل، فسمع منه أبو العلاء كلاما من أوائل أقوال الفلاسفة، حصل له به شكوك لم يكن عنده ما يدفعها «3» به، فعلق بخاطره ما حصل به بعض الانحلال، وضاق عطنه عن كتمان ما تحمّله من ذلك، حتى فاه به فى أول عمره، وأودعه أشعارا له، ثم ارعوى ورجع، واستغفر واعتذر، ووجّه الأقوال وجوها احتملها التأويل.
ولم يكن من ذوى الأحوال «4» فى الدنيا، وإنما خلّف له وقف يشاركه فيه غيره من قومه. وكانت له نفس تشرف عن تحمّل المنن، فمشى حاله على قدر الموجود،
فاقتضى ذاك خشن الملبوس والمأكل، والزهد فى ملاذّ الدنيا. وكان الذى يحصل له فى السنة مقدار ثلاثين دينارا، قدّر منها لمن يخدمه النّصف، وأبقى النّصف الآخر لمؤونته؛ فكان أكله العدس إذا أكل مطبوخا، وحلاوته التّين، ولباسه خشن الثياب من القطن، وفرشه من لبّاد فى الشتاء، وحصيره من البردىّ فى الصيف، وترك ما سوى ذلك. ولما عورض فى الوقف المذكور بيد بعض نوّاب حلب سافر إلى العراق شاكيا ذلك فى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة.
واشتهر ذكره ببغداذ، وقرئ عليه كتابه سقط الزّند، واجتمع بالشريف الرضىّ والمرتضى، ولدى أبى أحمد، وشهدا بفضله وفطنته وفرط ذكائه.
وحضر خزانة الكتب التى بيد عبد السلام البصرىّ، وعرض عليه أسماءها، فلم يستغرب فيها شيئا لم يره بدور العلم بطرابلس، سوى ديوان تيم اللّات، فاستعاره منه، وخرج عن بغداذ، وقد سها عن إعادته، ولم يذكره حتى صار بالمعرّة، فأعاده إليه، وفى صحبته القصيده التائية التى أوّلها «1»:
هات الحديث عن الزّوراء أوهيتا
…
وموقد النار لا تكرى بتكريتا «2»
يقول فيها:
اقر السّلام على عبد السّلام فلى
…
جيد إلى نحوه ما زال «3» ملفوتا
وذكر فيها ديوان تيم اللات فقال:
[سألته قبل يوم السّير مبعثه
…
إليك ديوان تيم اللّات ماليتا «1» ]
ولما عاد إلى المعرّة فى سنة أربعمائة لازم منزله، وشرع فى التّصنيف، وأخذ عنه الناس، وسار إليه الطّلبة من الآفاق، وقدّر له ابن أبى «2» هاشم، فكتب عنه تصانيفه من غير أجرة.
وكاتبه العلماء والوزراء والفضلاء وأهل الأقدار، واختاروا عليه التصنيفات ففعل، وكان نادرة زمانه.
ولما دخل إلى العراق قصد من أكابرها الإعانة بجاههم على بلوغ أغراضه؛ من كف من تطرق أذاه إليه فى أمر وقفه، فلم يجد منهم ذلك.
أنبأنا أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهانىّ، «3» أذننا إذنا عاما، قال فى كتابه:
أخبرنا أبو محمد عبد الله «4» بن الوليد بن غريب الإيادىّ، بالإسكندرية- وأبو محمد هذا، على ما حكاه لى ولد بالمعرّة، ودخل أصبهان وغيرها من بلاد الشرق، ثم استوطن مصر، وقد حج ورأى نفرا من أدباء بلده، وكان يحفظ من شعرهم يسيرا، من جملتهم أبو العلاء التّنوخىّ- سمعته يقول:
دخلت على أبى العلاء وأنا صبىّ مع عمى أبى طاهر، نزوره، فرأيته قاعدا على سجادة لبد، وهو شيخ، فدعا لى ومسح على رأسى، وكأنى أنظر إليه الساعة، وإلى عينيه: إحداهما نادرة»
، والأخرى غائرة جدا، وهو مجدّر الوجه، نحيف الجسم.
وذكر لى أحد نقلة العلم مذاكرة: أن مشايخ الأدب باليمن يذكرون أنّ أبا العلاء كان يحفظ ما يمرّ بسمعه، وكان عنده من الطلبة من يطالع له التصانيف الأدبية، لغة وشعرا وغير ذلك، وكان لا يكاد ينسى شيئا مما يمرّ بسمعه.
ويذكرون أن رجلا منهم وقع إليه كتاب فى اللغة، سقط أوّله، وأعجبه جمعه وترتيبه، فكان يحمله معه ويحجّ، فإذا اجتمع بمن فيه أدب أراه إياه، وسأله عن اسمه، واسم مصنّفه، فلا يجد أحدا يخبره بأمره، واتفق أن وجد من يعلم حال أبى العلاء، فدلّه عليه. فخرج الرجل بالكتاب إلى الشام، ووصل إلى المعرّة، واجتمع بأبى العلاء، وعرّفه ما حاله، وأحضر الكتاب، وهو مقطوع الأوّل. فقال له أبو العلاء: اقرأ منه شيئا. فقرأه عليه. فقال له أبو العلاء: هذا الكتاب اسمه كذا، ومصنّفه فلان، ثم قرأ عليه من أوّل الكتاب إلى أن وصل إلى ما هو عند الرجل، فنقل عنه النقص، وأكمل عليه تصحيح النّسخة، وانفصل إلى اليمن، فأخبر الأدباء بذلك.
وقد قيل إن هذا الكتاب هو ديوان الأدب للفارابىّ «1» اللغوىّ، وهو مضبوط على أوزان الأفعال، ومصنّفه كان يسكن ما وراء النهر. ويقال: إنه خال الجوهرىّ، مصنف كتاب الصحاح. وقيل إن الجوهرىّ خاله، والأوّل أشبه. والله أعلم.
وقرأت على نسخة من هذا الكتاب وردت من ترمذ، «2» بخط خطيب ترمذ، أن الفارابىّ مصنفه مات فى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة «3» . وأهل اليمن يهمون «4» فيه،
ويقولون: مات بعد سنة أربعمائة، ويزعمون أنه دخل اليمن. «1» وكأنهم خلطوا، وظنوا أن الذى دخل به من عند أبى العلاء هو المصنّف، وليس كذلك، وإنما هو المصحّح، ولم يحققوا أمره لغفلتهم.
ولأهل اليمن بهذا [الكتاب] عناية تامة: يقرءونه، وينسخونه ويتكلمون على فوائده، حتى شرحه منهم القاضى نشوان بن سعيد، «2» فجاء كتابه فى شرحه كبيرا حسنا، كثير الفوائد، وسماه إعلام العلوم وشفاء كلام العرب من الكلوم.
وشاهدت على ظهر جزء من ديوان الأعشى بخط ابن وداع، «3» وحواشيه بخط أبى عبد الله بن مقلة، فى شهور سنة تسع «4» وثمانين بقفط: أن صالح بن مرداس صاحب حلب، خرج إلى المعرّة وقد عصى عليه أهلها، فنزل عليها، وشرع فى قتالها، ورماها بالمجانيق «5» . فلما أحسّ أهلها التغلّب سعوا إلى أبى العلاء، وسألوه الخروج إليه والشفاعة فيهم عنده، فخرج متوكّئا على يد قائد له. وقيل لصالح: إن باب المدينة قد فتح، وخرج منها رجل يقاد كأنّه أعمى. فقال صالح: هو أبو العلاء! بطّلوا القتال، إلى أن نرى فى أى أمر جاء. فلما وصل إلى الخيمة أذن له، وأكرمه عند دخوله عليه، وعرّفه شوقه إلى نظره. ولما استقر بمجلسه قال له: ألك حاجة؟
فقال له أبو العلاء: الأمير- أطال الله بقاه- كالسيف القاطع، لان متنه
وخشن حدّاه، وكالنهار الماتع، «1» قاظ وسطه وطاب أبرداه «2» . خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
فقال صالح: قد وهبتها لك يا أبا العلاء. ثم قال له صالح: أنشدنا شيئا من شعرك يا أبا العلاء، لنرويه عنك. فأنشد ارتجالا فى المجلس:«3»
تغيّبت فى منزلى برهة
…
ستير العيوب فقيد الحسد
فلمّا مضى العمر إلا الأقلّ
…
وحمّ «4» لروحى فراق الجسد
بعثت شفيعا إلى صالح
…
وذاك من القوم رأى فسد
فيسمع منّي سجع الحمام
…
وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبنّى هذا النّفاق «5»
…
فكم نفّقت محنة ما كسد
فقال صالح: بل نحن الذين تسمع منا سجع الحمام، وأنت الذى نسمع منك زئير الأسد. ثم أمر بخيامه فوضعت، وبأثقاله فرفعت، ورحل عنها. فرجع أبو العلاء إلى المعرّة، وهو ينشد:«6»
نجّى المعرة من براثن «7» صالح
…
ربّ يداوى كلّ داء معضل
ما كان لى فيها جناح بعوضة
…
الله ألحفهم «8» جناح تفضّل
ولما صنف أبو العلاء كتاب اللامع العزيزى فى شرح شعر المتنبى، وقرئ عليه، أخذ الجماعة فى وصفه. فقال أبو العلاء: رحم الله المتنبىّ! كأنما نظر إلىّ بلحظ الغيب، حيث يقول:«9»
كأنّما نظر الأعمى إلى أدبى
…
وأسمعت كلماتى من به صمم
وسمع الجماعة يوما يذكرون بطّيخ حلب، فتكلّف وسيّر من ابتاع له منه حملا، وأحضرهم إيّاه، فأفردوا له منه عددا يسيرا، وتركوه فى سرداب له كان إذا أراد الأكل نزل إليه وأكل مستترا، ويقول: الأعمى عورة، والواجب استتاره فى كلّ أحواله.
ولما كان بعد أيام نزل خادمه إلى تفقّد المغارة؛ [و]«1» وجد البطّيخ بحاله لم يعرض له وقد فسد، فراجعه فى ذلك فلم يجبه. واستدل الجماعة بذلك على أنه ما كان يتفكّه. وربّما كان يتناول ما يقوم بالأود من أيسر الموجودات.
وذكر أنّه نزل إلى السّرداب، وأكل شيئا من ربّ أو دبس، «2» ونقط على صدره منه يسير وهو لا يشعر به. فلما جلس للإقراء لمحه بعض الطلبة فقال:
يا سيّدى، أكلت دبسا! فأسرع بيده إلى صدره ومسحه، وقال: نعم، لعن الله النّهم! فاستحسن منه سرعة فهمه بما على صدره، وأنه الذى أشعر به.
وكان الطّلبة إذا قصدوه أنفقوا على أنفسهم من موجودهم، ولم يكن له من السّعة ما يبرّهم به. وأهل اليسار من أهل المعرّة يعرفون بالبخل، فكان- رحمه الله يتأوّه من ذلك، ويعتذر إلى قاصديه.
ولقد قصده من الطلبة رجل أعجمى يعرف بالكردانىّ، وكتب عنه فيما كتب ذكرى حبيب. فتقدم أبو العلاء إلى بعض نسبائه بما كتبه له على الكتاب المذكور وهو:
«قال أحمد بن عبد الله بن سليمان التّنوخىّ، من أهل معرة النعمان: قرأ علىّ هذا الجزء، وهو الجزء الثانى من الكتاب المعروف بذكرى حبيب الشيخ الفاضل
أبو الحسن يحيى بن محمد الرازىّ، أدام الله عزّه، من أول الجزء إلى آخره، ووقع الاجتهاد منى فى تصحيح النسخة، وكان ابتداؤه بقراءته لسبع بقين من شعبان سنة ست وأربعين وأربعمائة، وفرغ من قراءته لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وأجزت له أن يرويه عنى على حسب ما قرأه. ويشهد الله أنى معتذر إلى هذا القارئ من تقصيرى فيما هو علىّ مفترض من حقوقه، والاعتراف بالمعجزة تمنع من اللائمة المنجّزة. وكتب جابر بن زيد بن عبد الواحد ابن عبد الله بن سليمان، بإذن أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرىّ، فى المحرم سنة ثمان وأربعين وأربعمائة».
وأحضرنى بعض البغداذيين بالبلاد الشامية أوراقا تشتمل على ذكر تصانيف أبى العلاء، وتقادير أكثرها، فنقلتها على فصّها، وهى:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) *
«أسماء الكتب التى صنّفها الشيخ أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان- رحمه الله.
قال الشيخ أبو العلاء رضى الله عنه: لزمت مسكنى منذ «1» سنة أربعمائة، [واجتهدت]«2» أن أتوفّر على تسبيح الله وتحميده، إلا أن أضطرّ إلى غير ذلك، فأمليت أشياء تولى نسخها الشيخ أبو الحسن على بن عبد الله بن أبى هاشم، أحسن الله معونته، ألزمنى بذلك حقوقا جمّة، وأيادى بيضاء؛ لأنه أفنى [معى] زمنه، ولم يأخذ عما صنع ثمنه، والله يحسن له الجزاء، ويكفيه حوادث الزمان والأرزاء.
وهى على ضروب مختلفة، فمنها ما هو فى الزهد والعظات، وتمجيد الله سبحانه، من المنظوم والمنثور. فمن ذلك: الكتاب المعروف بالفصول والغايات. وهو كتاب
موضوع على حروف المعجم، ما خلا الألف؛ لأن فواصله مبنية على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألفا، ومن المحال أن يجمع بين ألفين، ولكن تجىء الهمزة وقبلها ألف، مثل: الغطاء وكساء؛ وكذلك السراب والشباب، فى الباء، ثم على هذا الترتيب.
ولم يعتمد فيه أن تكون الحروف التى بنى عليها مستوية الإعراب، بل تجىء مختلفة.
وفى الكتاب قواف تجىء على نسق واحد، وليست الملقّبة بالغايات؛ وإنما سميت بغاية البيت، وهى قافيته. ومجيئها على قرىّ «1» واحد؛ مثل أن يقال: لهامها وغلامها، وأمرا وتمرا، وما أشبهه. وفيه فنون كثيرة من هذا النوع. ومقدار هذا الكتاب مائة كراسة.
كتاب أنشئ فى غريب هذا الكتاب وما فيه من اللّغة، وهو كتاب مختصر لقبه السادن «2» . ومقدار عشرون كراسة.
وكتاب آخر لطيف مقصور على تفسير اللغز، لقبه إقليد الغايات. ومقداره عشر كراريس.
وكتاب يعرف بالأيك والغصون. وهو كتاب كبير يعرف بكتاب الهمز والرّدف، بنى على إحدى عشرة حالة من الحالات: الهمزة فى حال انفرادها وإضافتها، وتمثال ذلك: السماء، بالرفع، والسماء، بالنصب، والسماء، بالخفض، سماء، يتبع الهمزة التنوين، سماؤه، مرفوع مضاف، سماءه، منصوب مضاف، سمائه، مجرور مضاف، ثم سماؤها [وسماءها]«3» وسمائها، على التأنيث، ثم همزة بعدها [هاء]«4» ساكنة، مثل: عباءة وملاءة. فإذا ضربت أحد عشر فى حروف المعجم الثّمانية والعشرين
خرج من ذلك [ثلاثمائة فصل وثمانية فصول]«1» . وهى مستوفاة فى كتاب الهمز والرّدف.
وذكرت فيه الأرادف الأربعة بعد ذكر الألف، وهى الواو المضموم ما قبلها، والواو التى قبلها فتحة، والياء المكسور ما قبلها، والياء التى قبلها فتحة. ويذكر لكلّ جنس «2» من هذا أحد عشر وجها، كما ذكر للألف «3» . ويكون مقدار هذا الكتاب ألفا ومائتى كراسة.
والكتاب المعروف بالفصول «4» . ومقدار هذا الكتاب أربعمائة كراسة.
والكتاب المعروف بتاج الحرة. وهو فى عظات النّساء خاصّة، وتختلف فصوله. ويكون مقدار هذا الكتاب أربعمائة كراسة.
وكتاب يعرف بسيف الخطب «5» المشتمل على الخطب الست. وفيه: خطب الجمع، والعيدين، والخسوف، والكسوف، والاستسقاء، وعقد النكاح. وهى مؤلفة على حروف من حروف المعجم، وفيها خطب عمادها الهمزة، وخطب بنيت على الباء، وخطب على التاء، والدال، وعلى الزاى، وعلى اللام، والميم، والنون، وتركت «6» الجيم والحاء وما جرى مجراهما؛ لأن الكلام المقول فى الجماعات ينبغى أن يكون سجيحا «7» سهلا. مقداره أربعون كراسة.
وكتاب تسميته: خطب الخيل. يتكلم [فيه] على ألسنتها. مقداره عشر كراريس.
وكتاب يعرف بخطبة الفصيح. يتكلم فيه على أبواب الفصيح. مقداره خمس عشرة كراسة.
وكتاب يشرح فيه ما جاء فى هذا الكتاب من الغريب، يعرف بتفسير خطبة الفصيح.
وكتاب يعرف برسيل الراموز «1» . مقداره ثلاثون كراسة.
وكتاب يعرف بلزوم ما لا يلزم. وهو فى المنظوم، بنى على حرف المعجم، ويذكر كل حرف سوى الألف بوجوهه الأربعة، وهى الضم، والفتح، والكسر، والوقف. ومعنى لزوم ما لا يلزم أن القافية يردّد فيها حرف لو غيّر لم يكن ذلك مخلّا بالنظم، كما قال كثيّر:«2»
خليلىّ هذا ربع عزّة فاعقلا
…
قلوصيكما «3» ثم انزلا حيث حلّت
فلزم اللام قبل التاء، وذلك لا يلزمه. ولم يفعل كما فعل الشنفرى فى قصيدته على التاء، لأنه لم يلتزم قبلها حرفا واحدا، ولكنه خالف بين الحروف التى قبل الروىّ، فقال:«4»
أرى أمّ عمرو أزمعت فاستقلّت «5»
…
وما ودّعت جيرانها يوم ولّت
وقال فيها:
بريحانة من نبت حلية «6» نوّرت
…
لها أرج من حوله غير مسنت «7»
وقال فيها:
لها وفضة فيها ثلاثون سيحفا
…
إذا آنست أولى العدىّ اقشعرّت «1»
مقدار هذا الكتاب أربعة أجزاء، مائة وعشرون كراسة.
وكتاب فيما يتعلق بهذا الكتاب اسمه زجر النابح «2» . مقداره أربعون كراسة.
وكتاب يتعلق به أيضا، تسميته نجر الزجر «3» . مقداره كذا «4» .
وكتاب يعرف براحة اللزوم. يشرح فيه ما فى كتاب لزوم ما لا يلزم من الغريب. «5» مقداره مائة كراسة.
كتاب لطيف يعرف بملقى السبيل. مقداره أربع كراريس.
وكتاب آخر يعرف بخماسيّة الراح فى ذم الخمر خاصة. ومعنى هذا الوسم أنه بنى على حروف المعجم، فذكر لكلّ حرف يمكن حركته خمس سجعات مضمومات، وخمسا مفتوحات، وخمسا مكسورات، وخمسا موقوفات. يكون مقداره عشر كراريس.
وكتاب لطيف يعرف بمواعظ الستّ «6» . ومعنى هذا اللقب أن الفصل الأول منه فى خطاب رجل، والثانى فى خطاب اثنين، والثالث فى خطاب جماعة،
والرابع فى خطاب امرأة، والخامس فى خطاب امرأتين، والسّادس فى خطاب نسوة. مقداره خمس عشرة كراسة.
كتاب يعرف بتظلّم السّور «1» . مقداره ست كراريس.
وكتاب يعرف بالجلّىّ والحلّىّ. عمل لرجل من أهل حلب يعرف بأبى الفتح ابن الجلّىّ «2» . مقداره عشرون كراسة.
كتاب يعرف بسجع الحمائم. مقداره ثلاثون كراسة.
كتاب يعرف بجامع الأوزان الخمسة التى ذكرها الخليل بجميع ضروبها، ويذكر فيه قوافى كلّ ضرب. مثال ذلك أن يقال: للضرب الأول من الطويل أربع قواف: المطلقة المجردة، مثل قول القائل:«3»
ألا يا اسلمى يا هند هند بنى بدر
…
وإن كان حيّانا عدى آخر الدّهر
والقافية المردفة، مثل قول امرئ القيس:«4»
ألا انعم صباحا أيّها الطّلل البالى
والمقيّدة المجرّدة، وذلك مفقود فى الشعر القديم والمحدث، وإنما جاء به المحدثون على النحو الذى يسمى مقصورا، كما قال ابن عبد القدّوس، «5» وهو فى السجن:
إلى الله أشكو إنه موضع الشّكوى
…
وفى يده كشف المصيبة والبلوى
خرجنا من الدّنيا ونحن من اهلها
…
فما نحن بالأحياء فيها ولا الموتى
إذا ما أتانا زائر متفقّد
…
فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ويعجبنا الرّؤيا فجلّ حديثنا
…
إذا نحن أصبحنا- الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطأت
…
وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى
ثم [القافية المقيدة المؤسسة، مثل أن]«1» يكون العادل والقائل، وذلك مرفوض متروك. [ثم] على هذا النحو إلى آخر الكتاب. ومقدار هذا الكتاب ستون كراسة.
وتكون عدد أبيات الشعر المنظومة نحوا من تسعة آلاف بيت.
كتاب لطيف يشتمل على شىء نظم قديما فى أول العمر يعرف بسقط الزّند.
مقداره خمس عشرة كراسة، تزيد الأبيات المنظومة فيه عن ثلاثة آلاف بيت.
وكتاب فيه تفسير ما جاء فى هذا النظم [من] الغريب، يعرف بضوء السّقط.
مقداره عشرون كراسة «2» .
وكتاب يعرف برسالة الصّاهل «3» والشّاحج. يتكلم فيه عن لسان فرس وبغل.
مقداره أربعون كراسة.
وكتاب لطيف فى تفسير المقدّم ذكره بالصاهل والشّاحج يعرف بلسان الصاهل والشاحج. وكان الذى عمل له الكتاب يدعى عزيز الدولة «4» .
وكتاب يعرف بالقائف على معنى كليلة ودمنة؛ ألّفت منه أربعة أجزاء، ثم انقطع تأليفه بموت من «1» أمر بعمله، وهو عزيز الدولة المقدّم ذكره. ومقدار هذا الكتات ستّون كراسة.
وكتاب يعرف بمنار القائف فى تفسير ما جاء فيه من اللّغز والغريب.
مقداره عشر كراريس.
كتاب يعرف بالسّجع السّلطانى. يشتمل على مخاطبات الجنود والوزراء وغيرهم من الولاة. ومقداره ثمانون كراسة.
كتاب يعرف بسجع الفقية. ومقداره ثلاثون كراسة.
كتاب يعرف بسجع المضطرّين. وهو كتاب لطيف عمل لرجل تاجر يستعين به على شؤون دنياه.
كتاب يعرف برسائل المعونة.
كتاب يعرف بذكرى حبيب. تفسير شعر أبى تمام «2» حبيب بن أوس الطائىّ. مقداره ستون كراسة.
كتاب يتصل بشعر البحترىّ يعرف بعبث الوليد. وكان سبب إنشائه أن بعض الرؤساء «3» أنفذ نسخة ليقابل له بها، فأثبت ما جرى من الغلط ليعرض ذلك عليه. مقداره عشرون كراسة.
كتاب يعرف بالرياشىّ المصطنعىّ «1» . فى شرح مواضع من الحماسة الرياشية.
عمل لرجل يلقب بمصطنع «2» الدولة. مقداره أربعون كراسة.
كتاب يعرف بتعليق الخلس. مما يتصل بكتاب أبى القاسم الزجّاجىّ عبد الرحمن بن إسحاق، المعروف بالجمل.
كتاب يتعلق بهذا الكتاب أيضا يعرف بإسعاف الصديق.
كتاب يتصل بالكتاب المعروف بالكافى الذى ألفه أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس، ولقبه قاضى الحق.
كتاب يعرف بالحقير النافع فى النحو. مقداره حمس كراريس.
كتاب يتصل به يعرف بالظّل الطّاهرىّ. عمل لرجل يكنى أبا طاهر «3» ، من أهل حلب.
كتاب يتصل بكتاب محمد بن سعدان «4» ، لقبه المختصر الفتحىّ «5» . عمل لولد كاتبه أبى الفتح محمد بن على بن أبى هاشم.
كتاب «1» يعرف بالّلامع العزيزىّ فى شرح غريب شعر أبى الطيّب أحمد بن الحسين المتنبىّ. عمل للأمير عزيز الدولة أبى الدوام ثابت «2» [بن]«3» الأمير تاج الأمراء معزّ الدولة أبى العلوان ثمال بن نصر بن صالح بن مرداس. مقداره مائة وعشرون كراسة.
كتاب فى العظة والزهد والاستغفار، يعرف بكتاب استغفر واستغفرى منظوم. مقداره مائة وعشرون كراسة، يشتمل على نحو من عشرة آلاف بيت.
كتاب ديوان الرسائل، وهو ثلاثة أقسام: الأول رسائل طوال تجرى مجرى الكتب المصنّفة، مثل رسالة الملائكة، والرسالة السّندية، «4» ورسالة الغفران، ورسالة الغرض «5» ، ونحو ذلك. والثانى دون هذه فى الطول مثل رسالة المنيح «6» ورسالة الإغريض «7» . والثالث رسائل قصار، كنحو ما تجرى به العادة فى المكاتبة. ومقداره ثمانمائة كراسة.
كتاب يعرف بخادم الرسائل. فيه تفسير بعض ما جاء فيها من الغريب.
دعاء يعرف بدعاء ساعة.
دعاء الأيام السبعة.
رسالة على لسان ملك الموت.
كتاب جمع فيه بعض فضائل علىّ عليه السلام.
رسالة تعرف بأدب العصفورين.
كتاب لطيف يعرف بالسجعات العشر، موضوع على كل حرف من حروف المعجم عشر سجعات فى الوعظ.
كتاب يعرف بعون الجمل فى شرح شئ من كتاب الجمل. شرحه لمحمد ابن على بن أبى هاشم، وهو آخر شىء أملاه.
كتاب يعرف بشرف السيف. عمل لأمير الجيوش «1» . مقداره عشرون كراسة.
كتاب يشرح فيه كتاب سيبويه، غير كامل. مقداره خمسون كراسة.
ومن الأمالى التى لم تتمّ، ولم يفرد لها اسم ما مقداره مائة كراسة.
فذلك الجميع خمسة وخمسون مصنّفا. العدد بتقريب، سوى ما لم يذكره.
«أربعة آلاف ومائة وعشرون كراسة» .
قلت: وأكثر كتب أبى العلاء هذه عدمت، وإنما يوجد منها ما خرج عن المعترة قبل هجم «2» الكفار عليها، وقتل من قتل من أهلها، ونهب ما وجد لهم.
فأما الكتب الكبار التى لم تخرج عن المعترة فعدمت، وإن وجد شىء منها فإنّما يوجد البعض من كل كتاب.
فمن ذلك كتاب الأيك والغصون. ولم أجد أحدا يقول رأيته، ولا رأيت شيئا منه، إلى أن نظرت فى فهرست وقف نظام الملك الحسن بن إسحاق الطّوسىّ، الذى وقفه ببغداذ، فرأيت فيه من كتاب الأيك والغصون ثلاثة وستّين مجلدا.
وأما إسعاف الصديق وقاضى الحق فإننى رأيت أجزاء من الإسعاف من تجزئة ما؛ أرانيها أحد بنى حرب الحلبيّين، ومن قاضى الحق من تجزئة سبعة مجلدات، أرانيها المذكور. ثم سألت عنها بعد مدة، فذكر أنها أحرقت فى مقام إبراهيم عند ما احترق، فذهبت، ولم أر بعدها من الكتابين سواهما.
فأما الذى رأيته أنا من كتبه فهو ما أنا ذاكره:
لزوم ما لا يلزم. وزجر النابح. وملقى السبيل. وخماسيه الراح فى ذم الراح، هو الذى ذكره ابن الخطيب [أبى] هاشم، وهو خماسية الراح.
كتاب جامع الأوزان. سقط الزّند. الصاهل والشاحج. لسان الصاهل والشاحج، ذاكرنى به ولد أبى هاشم خطيب حلب، وذكر أنه عنده.
كتاب القائف. كتاب السجع السلطانى. كتاب سجع الفقيه.
ذكرى حبيب. عبث الوليد. الرياشىّ «1» المصطنعىّ. إسعاف الصّديق. قاضى الحق. الحقير النّافع. الظل الطّاهرىّ. اللّامع العزيزىّ. استغفر واستغفرى. كتاب فى الرسائل يعرف بالسجع السلطانى «2» . رسالة الغفران. رسالة التعزية إلى بعض الحلبيّين فى ولد له مات. الرسالة السّندية. رسالة الملائكة. رسالة المنيح. رسالة الإغريض. كتاب السادن. كتاب الإقليد.
…
ورأيت فى أوراق منقولة عن المعرّيين أنه مات- سامحه الله- فى يوم الجمعة لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل من سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
كتب إلىّ أبو الضياء شهاب بن محمد بن منصور المروزىّ الشّيبانىّ رحمه الله، من خراسان: أخبرنا عبد الكريم بن محمد بن منصور المروزىّ، رحمه الله، فى كتابه بقراءة أبى النصر الفامىّ عليه ونحن نسمع، أنشدنا أحمد بن المبارك بن عبد العزيز الأرجىّ من لفظه إملاء، أنشدنى أبو زكريا يحيى بن على الخطيب الشيبانىّ، أنشدنى أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرىّ لنفسه، بمعرة النعمان؛ من شعره «1»:
منك الصّدود ومنّى بالصّدود رضا
…
من ذا علىّ بهذا فى هواك قضى
بى منك ما لو غدا بالشّمس ما طلعت
…
من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
جرّبت دهرى وأهليه فما تركت
…
لى التجارب فى ود امرئ غرضا
وقد غرضت «2» من الدنيا فهل زمنى
…
معطى حياتى لغرّ بعد ما غرضا
إذا الفتى ذمّ عيشا فى شبيبته
…
فما يقول إذا عصر الشباب مضى
وقد تعوّضت عن كلّ بمشبهه
…
فما وجدت لأيام الصّبا عوضا
أنبأنا الشيبانىّ قال: أخبرنى المروزىّ، أنشدنى أبو عثمان المبارك بن أحمد ابن عبد العزيز الأنصارىّ إملاء من حفظه، أنشدنا أبو زكريا يحيى بن على الشيبانىّ التّبريزىّ، أنشدنا أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرّى لنفسه «3»:
وصفراء لون التبر «4» مثلى جليدة
…
على نوب الأيام والعيشة الضّنك
تريك ابتساما دائما وتجلّدا
…
وصبرا على ما نابها وهى فى الهلك
ولو نطقت يوما لقالت أظنّكم
…
تخالون أنى من حذار الرّدى أبكى
فلا تحسبوا دمعى «5» لوجد وجدته
…
فقد تدمع الأحداق من كثرة الضّحك
شاهدت على نسخة من كتاب إصلاح المنطق، يقرب أن يكون بخط المعرّيين، أن الخطيب أبا زكريا يحيى بن على بن الخطيب التّبريزىّ قرأه على أبى العلاء، وطالبه بسنده متصلا، فقال له: إن أردت الدّراية «1» فخذ عنى ولا تتعدّ، وإن قصدت الرّواية فعليك بما عند غيرى.
وهذا القول من أبى العلاء يشعر أنه قد وجد من نفسه قوة على تصحيح اللّغة، كما وجدها ابن السّكيت مصنّف الإصلاح، وربما أحسّ من نفسه أوفر من ذلك، لأن ابن السّكيت لم يصادف اللغة منقّحة مؤلّفة، قد تداولها العلماء قبله، وصنّفوا فيها وأكثروا، كما وجدها أبو العلاء فى زمانه.
وقد روى أبو العلاء، ولم يكن مكثرا، وذلك أننى شاهدت بخط ابن كهبار الفارسىّ، صاحب الخطيب أبى زكريا التبريزىّ، والآخذ عنه- وكان ذكيا فاضلا محققا لما ينقله، حاكيا عن صاحبه فى تصنيفه لتهذيب غريب الحديث لأبى عبيد:
قال الخطيب التّبريزىّ: وكنت قرأت هذا الكتاب، سنة خمس وأربعين وأربعمائة، على أبى العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخىّ المعرىّ، قال: قرأ علينا سنة خمس وثمانين وثلاثمائة كتاب غريب الحديث القاضى أبو عمرو عثمان ابن عبد الله الكرجىّ، وذكر أنه سمعه من أبى عمير عدىّ بن عبد الباقى، وسمعه أبو عمير من علىّ بن عبد العزيز صاحب أبى عبيد.
كنت «2» فى سن الصبا- وذلك فى حدود سنة خمس وثمانين وخمسمائة- أقدح فى اعتقاد أبى العلاء؛ لما أراه من ظواهر شعره، وما ينشد له فى محافل
الطلب، فرأيت ليلة فى النوم، كأننى قد حصلت فى مسجد كبير، فى شرقيّه صفّة «1» كبيرة، وفى الصّفة سلّ الحصر مفروش من غير نسج، وعليه رجل مكفوف سمين متوسّط البياض، ورأسه مائل إلى جهة كتفه الأيسر، وهو مستقبل القبلة فى جلسته، وإلى جانبه طفل، وكأننى فهمت أنّه قائده، وكأنّنى واقف أسفل الصّفة، ومعى ناس قليل، ونحن ننظر إليه، وهو يتكلّم بكلام لم أفهم منه شيئا.
ثم قال فى أثناء كلامه مخاطبا لى: ما الذى يحملك على الوقيعة فى دينى؟ وما يدريك لعل الله غفر لى؟! فخجلت من قوله، وسألت عنه من إلى جانبى، فقال لى أحدهم: هذا أبو العلاء المعرّىّ. فابتسمت متعجّبا للرؤيا، واستغفرت الله لى وله، ولم أعد إلى الكلام فى حقّه إلا بخير.
ومرت على ذلك سنون، فلما كان فى سنة خمس وستمائة، أرسلنى من كنت فى صحبته بحلب، إلى القوم المقيمين فى جبل بهراء «2» فى حصونهم، لإصلاح ما بينهم وبين أمير من أمراء الدولة، يعرف بأحمد بن على بن أحمد، وكان قد خشى عاديتهم، فلمّا عدت اجتزت بالمعرّة، فدخلت للصلاة فى جامعها. وعند ما شاهدته رأيته قريبا مما رأيته فى المنام، فأذكرنى من ذلك ما أنسيته على طول المدة، ونظرت فإذا الصّفّة إلى جانبه الشرقىّ، وهى قريب مما رأيته، وإذا فيها رجل عليه هيئة الرّهبان؛ وبيده قشّ يفتله، فقصدته وسألته عما يفعله، فقال: إن هذا الجامع إذا احتاج إلى حصر حصّل له النوّاب هذا البردىّ، وعلى رهبان الدّير الذين أنا منهم عمل ذلك، وقد آلت النوبة إلىّ، فحضرت لذلك. فعجبت من أمر الرؤيا، وقربها مما رأيته من الصحة بعد حين.
وسألته عن قبر أبى العلاء، فقال: لا أعرفه، ولم أعلم حال المقبره ومن بها. وبينما أنا معه فى الحديث إذ حضر رجل من أهل المعرّة يعرف بساطع، كنت أعرفه بحلب قبل ذاك، فسألته عن قبر أبى العلاء، فقصدت إليه، وإذا هو فى ساحة من دور أهله، وعلى الساحة باب، فدخلنا إليه، فإذا القبر لا احتفال لأهله به، ورأيت على القبر خبّازى قد طلعت «1» وجفّت، والموضع على غاية ما يكون من الشّعث والإهمال، فزرته وقرأت عنده، وترحمت عليه، واعتذرت إليه مما تقدم- رحمه الله.
وذكر أنه قرئ بحضرته يوما أن الوليد لما تقدّم بعمارة جامع دمشق، أمر المتولين بعمارته ألّا يصنعوا حائطا إلا على جبل، فامتثلوا، وتعسّر عليهم وجود جبل لحائط جهة جيرون، وأطالوا الحفر امتثالا لمرسومه، فوجدوا رأس حائط مكين العمل، كثير الأحجار، يدخل فى عملهم، فأعلموا الوليد أمره، وقالوا: نجعل رأسه أسّا، فقال: اتركوه واحفروا قدامه، لتنظروا أسه وضع على حجر أم لا. ففعلوا ذلك، فوجدوا فى الحائط بابا عليه حجر مكتوب بقلم مجهول، فأزالوا عنه التراب بالغسل «2» ، ونزّلوا فى حفره «3» لونا من الأصباغ، فتميّزت حروفه، وطلبوا من يقرؤها، فلم يجدوا ذلك، وتطلّب الوليد المترجمين من الآفاق، حتى حضر منهم رجل يعرف بقلم اليونانية الأولى، المسمّى ليطين، فقرأ الكتابة الموجودة فكانت: «باسم الموجد الأوّل أستعين.
لمّا أن كان العالم محدثا، لاتّصال أمارات الحدوث «4» به، وجب أن يكون له محدث، لا كهؤلاء كما قال ذو السّنّين وذو اللّحيين وأشياعهما، [فوجبت عبادة خالق المخلوقات «5»].
حينئذ أمر بعمارة هذا الهيكل، من صلب ماله، محبّ «1» الخيل، على مضىّ ثلاثة آلاف وسبعمائة عام لأهل الأسطوان «2» . فإن رأى الداخل إليه ذكر بانيه عند باريه بخير، فعل، والسلام».
فأطرق أبو العلاء عند سماع ذلك، وأخذ الجماعة فى التعجّب من أمر هذا الهيكل، وأمر الأسطوان المؤرّخ به، وفى أىّ زمان كان. فلمّا فرغوا من ذلك رفع أبو العلاء رأسه، وأنشد فى صورة متعجّب:«3»
سيسأل قوم ما الحجيج ومكّة
…
كما قال قوم ماجد يس وما طسم «4»
وأمر بسطر الحكاية، فسطرت على ظهر جزء من استغفر واستغفرى بخط ابن أبى هاشم كاتبه. وأكثر من نقل الكتاب نقل الحكاية على مثل [ما على] الجزء الذى هى مسطورة عليه.
وذكره الباخرزىّ «5» فى كتابه، وسجع له فقال:»
«أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرىّ التنوخىّ، ضرير، ماله فى الأدب ضريب، ومكفوف، فى قميص الفضل ملفوف، ومحجوب، خصمه الألدّ محجوج. قد طال فى ظلال الإسلام آناؤه،
ولكن ربما رشح «1» بالإلحاد إناؤه، وعندنا خبر بصره، والله العالم ببصيرته، والمطّلع على سريرته. وإنما تحدّثت الألسن بإساءته، لكتابه الذى- زعموا- عارض به القرآن، وعنونه بالفصول والغايات، [و]«2» محاذاة السور والآيات، وأظهر من نفسه تلك الجناية، وجذّ تلك الهوسات كما يجذّ البعير الصّلّيانة «3» ، حتى قال فيه القاضى أبو جعفر محمد بن إسحاق البحّاثىّ الزّوزنىّ «4» قصيدة أولها:
كلب عوى بمعرّة النعمان
…
لما خلا عن ربقة الإيمان
أمعرة النعمان ما أنجبت إذ
…
أخرجت منك معرّة العميان
أنبأنا أبو طاهر السّلفىّ الأصبهانىّ «5» فى إجازته العامة: سمعت أبا الحسن علىّ ابن بركات بن منصور التاجر الرّحبىّ، بالذّنبة، «6» من مضافات دمشق يقول:
سمعت أبا عمران يقول: عرض على أبى العلاء التّنوخىّ الكفيف كفّ من اللّوبيا، فأخذ منها واحدة ولمسها بيده، وقال: ما أدرى ما هى، إلا أنى أشبّهها بالكلية. فتعجّبوا من فطنته وإصابة حدسه.
قال محمد بن طاهر المقدسىّ: سمعت الرئيس أحمد بن عبدوس الوفراوندىّ بها يقول: سألت شيخ الاسلام أبا الحسن على بن أحمد بن يوسف الهكّارىّ، «7» عن أبى العلاء بن سليمان التّنوخىّ المعرّىّ- وكان رآه- فقال: رجل من المسلمين.
ولما وصلت إلى هذا الموضع من خبره، وسقت ما سقته من أثره، قال لى بعض من نظر: لو سقت شيئا مما نسب إليه من أقواله التى كفّر بها، لكنت قد أتيت بأحواله كاملة، فإنّ النفس إذا مرّ بها من الأقوال ما مرّ، اشتهت أن تقف على فحواه. فأجبته إلى ملتمسه، وذكرت ما ساقه غرس النعمة محمد بن الرئيس هلا «1» ابن المحسن بن إبراهيم، فى كتابه «2» ، فإنه قال:
«وفى يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول- يعنى من سنة تسع وأربع وأربعمائه- توفّى بمعرّة النعمان من الشام أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليم التّنوخىّ المعرىّ الشاعر، الأديب الضرير. وكان له شعر كثير، وفيه أدب غزير ويرمى بالإلحاد، وأشعاره دالة على ما نزل به من ذلك. ولم يك يأكل لحوم الحيوان ولا البيض، ولا اللبن، ويقتصر على ما تنبت الأرض، ويحرّم إيلام الحيوان ويظهر الصوم زمانه جميعه. ومولده فى يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
ونحن نذكر طرفا مما بلغنا من شعره، ليعلم صحّة ما يحكى عنه من إلحاده فمن ذلك «3»:
صرف الزمان مفرّق الإلفين
…
فاحكم إلهى بين ذاك وبينى
أنهيت عن قتل النفوس تعمّدا
…
وبعثت أنت لقبضها ملكين
وزعمت أنّ لها معادا ثانيا
…
ما كان أغناها عن الحالين
ومنه «1» :
يد بخمس مىء من عسجد فديت
…
ما بالها قطعت فى ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السّكوت له
…
وأن نعوذ بمولانا من النار
ومنه «2» :
قران المشترى زحلا «3» يرجّى
…
لإيقاظ النّواظر من كراها
وهيهات! البريّة فى ضلال
…
وقد فطن اللّبيب لما اعتراها
تقضّى الناس جيلا بعد جيل
…
وخلّفت النّجوم كما تراها
تقدّم صاحب التوراة موسى
…
وأوقع بالخسار من اقتراها «4»
فقال رجاله وحى أتاه
…
وقال الآخرون بل افتراها
وما حجّى إلى أحجار بيت
…
كؤوس الخمر تشرب فى ذراها
إذا رجع الحكيم «5» إلى حجاه
…
تهاون بالمذاهب وازدراها
ومنه «6» :
عقول تستخفّ بها سطور «7»
…
ولا يدرى الفتى لمن الثّبور
كتاب محمد وكتاب موسى
…
وإنجيل ابن مريم والزّبور
ومنه «8» :
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل
…
وترزق مجنونا وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ
…
يرى منك ما لا يشتهى فتزندقا
ومنه «1» :
ضحكنا وكان الضّحك منّا سفاهة
…
وحقّ لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطّمنا الأيام حتى كأننا
…
زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
ومنه «2» :
خبر المقابر فى القبور ومن لهم
…
بمبشّر يأتى بصدق المحشر
هيهات يرجى ميّت فى قبره
…
لو صحّ ذاك لكان عين المتجر
خسرت تجارتهم فهل من ميّت
…
يرجو التجارة من ضريح الحفر
ومنه «3» :
فى كل أمرك تقليد تدين به
…
حتى مقالك ربّى واحد أحد
وقد أمرنا بفكر فى بدائعه
…
فإن تفكّر فيه معشر لحدوا
ومنه «4» :
لولا التنافس فى الدنيا لما وضعت
…
كتب التناظر لا المغنى ولا العمد «5»
ومنه «6» :
أستغفر الله فى أمنى وأوجالى
…
من غفلتى وتوالى سوء أفعالى
قالوا هرمت ولم تطرق تهامة فى
…
مشاة وفد ولا ركبان أجمال
فقلت إنى ضرير والذين لهم
…
رأى أروا غير فرض حجّ أمثالى
ما حجّ جدى ولم يحجج أبى وأخى
…
ولا ابن عمى ولم يعرف منى خالى
وحجّ عنهم قضاء بعد ما ارتحلوا
…
قوم سيقضون عنّى بعد ترحالى
فإن يفوزوا بغفران أفز معهم
…
أولا فإنى بنار مثلهم صالى
ولا أروم نعيما لا يكون لهم
…
فيه نصيب وهم رهطى وأشكالى
فهل أسرّ إذا حمّت محاسبتى
…
أو يقتضى الحكم تعناتى وتسآلى
من لى برضوان أدعوه أرخّمه «1»
…
ولا أنادى مع الكفار يا مال «2»
يقول فى آخرها:
سأعبد الله لا أرجو مثوبته
…
لكن تعبّد إعظام وإجلال
ومنه «3» :
هفت الحنيفة والنّصارى ما اهتدت
…
ويهود حارت والمجوس مضلّله
اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا
…
دين وآخر ديّن لا عقل له
ومنه «4» :
كأنّ منجّم الأقوام أعمى
…
لديه الصحف يقرؤها بلمس
لقد طال العناء فكم نعانى
…
سطورا عاد كاتبها بطمس
أتى عيسى فعطّل دين موسى
…
وجاء محمد بصلاة خمس
وقيل يجىء دين بعد هذا
…
وأودى الناس بين غد وأمس
ومن لى أن يعود الدين غضّا
…
فينقع من تنسّك بعد خمس «5»
ومهما كان من دنياك أمر
…
فما يخليك من قمر وشمس
لحاها الله دارا لا تدارى
…
بمثل المين فى لجج وقمس «1»
وأوّلها بآخرها شبيه «2»
…
ونصبح فى عجائبها ونمسى
قدوم أصاغر ورحيل شيب
…
وهجرة منزل وحلول رمس
إذا قلت المحال رفعت صوتى
…
وإن قلت اليقين أطلت همسى
ومنه «3» :
ما بال ذا الحيوان يؤكل لحمه
…
ويقدّ جلدته ويهشم عظمه
إن كان ذا أكل فأكلك أكله
…
أو كان ذا شرب فشربك شربه
قل للمريق نجيعه من نحره
…
ما شأنه ما ذنبه ما جرمه
الله يقتصّ الجرائم كلّها
…
ويعيدها فى نحر من ذا دأبه
ومنه «4» :
قلتم لنا خالق قديم
…
صدقتم هكذا نقول «5»
زعمتموه بلا زمان
…
ولا مكان ألا فقولوا
هذا كلام له خبىء
…
معناه ليست لكم «6» عقول
ومنه «7» :
دين وكفر وأنباء تقال «8» وفر
…
قان ينصّ وتوراة وإنجيل
فى كل جيل أباطيل يدان بها
…
فهل تفرّد يوما بالهدى جيل
ومنه «1» :
شهدت بأن الكلب ليس بنابح
…
يقينا وأن الّليث فى الغاب ما زأر
وأنّ قريشا ليس منها خليفة
…
وأن أبا بكر شكا الحيف من عمر
وأنّ عليا لم يصلّ بصحبه
…
وما هو والله العظيم من البشر
ومنه «2» - وقد قيل إن هذا من الإلغاز:
الحمد لله [قد] أصبحت فى لجج
…
مكابدا من هموم الدّهر قاموسا «3»
قالت معاشر لم يبعث إلهكم «4»
…
إلى البريّة لا عيسى ولا موسى
وإنّما جعلوا الرحمن مأكلة
…
وصيّروا دينهم للملك ناموسا «5»
ولو قدرت لعاقبت الّذين طغوا
…
حتى يعود حليف الغىّ مغموسا «6»
ومنه «7» :
فلا تحسب مقال الرّسل حقّا
…
ولكن قول زور سطّروه
وكان الناس فى عيش رغيد
…
فجاءوا بالمحال فكدّروه
ومنه «8» :
والنفس أرضية «9» فى رأى طائفة
…
وعند قوم ترقّى فى السموات
تمضى على هيئة الشخص الذى سكنت
…
فيه إلى دار نعم «10» أو شقاوات
وكونها فى ضريح الجسم أحوجها «1»
…
إلى ملابس عنّتها «2» وأقوات
وإنما حمّل التوراة قارئها
…
كسب الفوائد لا حبّ التّلاوات
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا
…
وأورثتنا أفانين العداوات
وهل أبيحت نساء الروم «3» عن عرض
…
للعرب إلا بأحكام النّبوّات
ومنه «4» :
لعمرى لقد طال هذا السّفر
…
على وأصبحت أحدو النّفر «5»
أأخرج من تحت هذى السماء
…
فكيف الإباق وأين المفر
لحى الله قوما إذا جئتهم
…
بصدق الأحاديث قالوا: كفر
وإن غفرت موبقات الذنوب
…
فكلّ مصائبهم تغتفر
هنيئا لجسمى إذا ما استقرّ
…
وصار لعنصره «6» فى العفر «7»
وله كتاب سماه الفصول والغايات، عارض به السور والآيات، لم يقع إلينا منه شىء فنورده.
وحدثنى الوزير فخر الدولة أبو نصر بن «8» جهير. قال: حدثنى المنازىّ «9» الشاعر قال: اجتمعت بأبى العلاء المعرىّ بمعرّة النعمان، وقلت له: ما هذا الذى يروى عنك
ويحكى؟ فقال: حسدنى قوم فكذبوا علىّ، وأساءوا إلىّ. فقلت له: على ماذا حسدوك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟ فقال: والآخرة أيها الشيخ! قلت:
إى والله. ثم قلت له: لم تمتنع من أكل اللحم، ولم تلوم من يأكله؟ فقال: رحمة للحيوان. قلت: لا! ولعمرى بل تقول إنه من شره «1» الناس! إنهم يجدون ما يأكلون، ويتجزّون «2» به عن اللّحمان ويتعوّضون. فما تقول فى السباع والجوارح التى خلقت لا غذاء لها غير اللّحوم من النّاس والبهائم والطير، ودمائها وعظامها؛ ولا طعام تعتاض به عنها ولا تتجزّى به، حتى لم يخلص [من] ذاك حشرات الأرض؟
فإن كان الخالق لها الذى نقوله نحن فما أنت بأرأف منه بخلقه، ولا أحكم منه فى تدبيره. وإن كانت الطبائع المحدثة لذاك- على مذهبك- فما أنت بأحذق منها، ولا أتقن صنعة، ولا أحكم عملا، حتى تعطّلها، ويكون رأيك وعملك وعقلك أوفى منها وأرجح، وأنت من إيجادها «3» ، غير محسوس عندها! فأمسك».
قرأت بخط المفضّل بن مواهب بن أسد الفازرىّ الحلبىّ، المسمى بشاعر آل محمد، حدّثنى الشيخ أبو عبد الله الأصبهانىّ «1» ، قال: لما حضرت الشيخ أبا العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التّنوخىّ الوفاة أتاه القاضى الأجلّ أبو محمد عبد الله التنوخىّ «2» بقدح شراب، فامتنع من شرابه، فحلف القاضى أيمانا مؤكّدة لابدّ من أن يشرب ذلك القدح، وكان سكنجبينا، فقال أبو العلاء مجيبا له عن يمينه:
أعبد الله، خير من حياتى
…
وطول ذمائها «3» موت مريح
تعلّلنى لتسقينى فذرنى
…
لعلّى أستريح وتستريح
وكان مرضه ثلاثة أيام، ومات فى اليوم الرّابع، ولم يكن عنده غير بنى عمّه، فقال لهم فى اليوم الثالث: اكتبوا. فتناولوا الدّوىّ والأقلام، فأملى عليهم غير الصواب. فقال القاضى أبو محمد: أحسن الله عزاءكم فى الشيخ، فإنه ميّت.
فمات فى غداة غده.
وإنما أخذ القاضى هذه المعرفة من ابن بطلان «4» ، لأن ابن بطلان كان يدخل على أبى العلاء، ويعرف ذكاءه وفضله، فقيل له قبل موته بأيام قلائل: إنه أملى شيئا فغلط فيه. فقال ابن بطلان: مات أبو العلاء. فقيل:
وكيف عرفت ذلك؟ فقال: هذا رجل فطن ذكىّ، ولم تجر عادته بأن يستمرّ عليه سهو أو غلط، فلمّا أخبرتمونى بأنه غلط علمت أن عقله قد نقص، وفكره قد انفسد، وآلاته قد اضطربت، فحكمت عليه عند ذلك بالموت. والله أعلم.