المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[متى يرفع «أفعل» التفضيل الظاهر، وعلة ذلك، وأحكامه - تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - جـ ٦

[ناظر الجيش]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الرابع والثلاثون باب التّعجّب

- ‌[تعريفه وصيغه - حكم المتعجب منه]

- ‌[همزة (أفعل) و (أفعل) وأحكام هاتين الصيغتين]

- ‌[جرّ ما يتعلّق بصيغتي التعجّب]

- ‌[شروط ما تبنى منه صيغتا التعجب، وكيفية بنائهما من غير المستوفي للشروط]

- ‌الباب الخامس والثلاثون باب «أفعل» التّفضيل

- ‌[تعريفه وصياغته وشروط صياغته]

- ‌[أحكام أفعل التفضيل المجرد من «أل» والإضافة، وأحوال المفضول منه]

- ‌[أفعل المقترن بـ «أل»، أو المضاف إلى معرفة، وما يتعلق بهما]

- ‌[«أفعل» المضاف إلى نكرة وأحكامه]

- ‌[حكم كلمة «أول» صفة لأفعل التفضيل أو مجردة عن الوصفية]

- ‌[متى يرفع «أفعل» التفضيل الظاهر، وعلة ذلك، وأحكامه

- ‌الباب السادس والثلاثون باب اسم الفاعل

- ‌[تعريفه - وزنه من الثلاثي المجرد - الاستغناء ببعض الأوزان عن بعض]

- ‌[عمل اسم الفاعل غير المصغر والموصوف عمل فعله قد يحول «فاعل» للمبالغة إلى الأمثلة الخمسة]

- ‌[إضافة اسم الفاعل المجرّد من «أل» إلى المفعول أو ما يشبه المفعول - إضافة المقرون بالألف واللام - حكم المعطوف على مجرور ذي الألف واللام]

- ‌[اسم المفعول: عمله عمل فعله الذي لم يسم فاعله وشروط عمله وبناؤه]

- ‌الباب السابع والثلاثون باب الصّفة المشبّهة باسم الفاعل

- ‌[تعريفها وشرح التعريف]

- ‌[موازنتها للمضارع من الثلاثي وغيره]

- ‌[أحوال الصفة المشبهة وأحكامها]

- ‌[أقسام معمول الصفة المشبهة وإعرابه]

- ‌[عمل الصفة المشبهة في الضمير]

- ‌[عمل الصفة المشبهة في الموصول والموصوف]

- ‌[بقية أحكام الصفة المشبهة]

- ‌[أحوال الصفة المشبهة بالنسبة إلى الموصوف بها]

- ‌[ردّ الصّفة المشبّهة إلى اسم الفاعل]

- ‌الباب الثامن والثلاثون باب إعمال المصدر

- ‌[علة إعمال المصدر - أحوال إعماله]

- ‌[المصدر العامل نوعان: مقدر بالفعل بالفعل والحرف - مقدر بالفعل وحده]

- ‌[أحكام المصدر العامل وأحكام معموله]

- ‌[أقسام المصدر العامل وأكثر الأقسام إعمالا من الآخر]

- ‌[إتباع مجرور المصدر لفظا أو محلّا ما لم يمنع مانع]

- ‌[عمل اسم المصدر وأحكامه]

- ‌[المصدر الكائن بدلا من الفعل موافقته متعديا والاختلاف في قياسه]

- ‌[المصدر الكائن بدلا من الفعل وأحكام أخرى له]

- ‌الباب التاسع والثلاثون [باب حروف الجرّ]

- ‌[تعريفها - سبب عملها - تقسيمها]

- ‌[من الجارة: معانيها، وأحكامها]

- ‌[إلى الجارة…معانيها، وأحكامها]

- ‌[اللام الجارة: معانيها، وأحكامها]

- ‌[كي الجارة - مساواتها للام]

- ‌[الباء معانيها، وأحكامها]

- ‌[في: معانيها، وما يعرض لها]

- ‌[عن: معانيها، وأحكامها]

- ‌[على: معانيها، وحكم زيادتها]

- ‌[حتى الجارة…معانيها، وأحكامها]

- ‌[الكاف الجارة: معانيها…وأحكامها]

- ‌[مذ، منذ، رب: لغاتها، ومعانيها، وأحكامها]

- ‌[لولا .. حكم الجر بها]

- ‌[لعلّ، ومتى .. هل يجر بهما]

- ‌[مواضع الجر بحرف محذوف، أحكامه، حكم الفصل بين الجار والمجرور]

- ‌الباب الأربعون باب القسم

- ‌[القسم: تعريفه، أقسامه، أساليبه]

- ‌[إضمار الفعل وأحكام لفظ الجلالة في القسم]

- ‌[من أحكام الجملة الاسمية في القسم]

- ‌[الحروف التي يتلقى بها القسم، وأحكامها]

- ‌[تلقي جواب القسم الماضي]

- ‌[توالي القسم والشرط غير الامتناعي]

- ‌[من أحكام أسلوب القسم]

الفصل: ‌[متى يرفع «أفعل» التفضيل الظاهر، وعلة ذلك، وأحكامه

‌[متى يرفع «أفعل» التفضيل الظاهر، وعلة ذلك، وأحكامه

؟]

قال ابن مالك: (لا يرفع أفعل التفضيل في الأعرف ظاهرا إلّا قبل مفضول هو مذكور أو مقدّر، وبعد ضمير مذكور أو مقدّر مفسّر بعد نفي أو شبهه يصاحب «أفعل» ولا ينصب مفعولا به، وقد يدلّ على ناصبه، وإن أوّل بما لا تفضيل فيه جاز على رأي أن ينصبه، وتتعلّق به حروف الجرّ على نحو تعلّقها بـ «أفعل» المتعجّب به).

قال ناظر الجيش: قال المصنف: لأفعل التّفضيل شبه بـ «أفعل» المتعجّب به أوجبت له القصور عن الصّفة المشبّهة في اللفظ، وفي العمل، أما في اللفظ فللزومه [3/ 130] في حال التنكير لفظا واحدا، وأما في العمل فلكونه لا يرفع فاعلا ظاهرا، إلّا على لغة ضعيفة، حكاها سيبويه (1) فيقال على تلك اللغة: مررت برجل أكرم منه أبوه؛ لأنه بمعنى: مررت برجل، فاقه في الكرم أبوه.

ومن هذه اللغة احترزت بقولي: (لا يرفع «أفعل» التفضيل في الأعرف ظاهرا).

ثم أشرت إلى قرائن تهيؤه لرفع الظاهر عند جميع العرب، وذلك أن يكون الظاهر مفضلا على ما هو هو في

المعنى من مذكور بعده، أو مقدرا، وأن يكون الظاهر أيضا بعد ضمير، مذكور أو مقدر، وذلك الضمير مفسر بعد نفي، أو شبهه بـ «ما أفعل» صفة له أو خبرا (2) وذلك كقول الشاعر:

2138 -

ما علمت امرأ أحبّ إليه ال

بذل منه إليك يا ابن سنان (3)

-

(1) في الكتاب (2/ 34): (وتقول: مررت بعبد الله خير منه أبوه، فكذلك هذا وما أشبهه، ومن أجرى هذا على الأول فإنه ينبغي له أن ينسبه في المعرفة فيقول: مررت بعبد الله خير منه أبوه، وهي لغة رديئة وليست بمنزلة العمل، نحو: ضارب، وملازم، ومضارعه نحو: حسن الوجه، ألا ترى أنّ هذا عمل يجوز فيه: يضرب، ويلازم، وضرب، ولازم، ولو قلت: مررت بخير منه؛ كان قبيحا فكذلك بأبي عشرة أبوه، ولكنه حين خلص للأول جرى عليه كأنك قلت: مررت برجل خير منك) اه.

وفي المساعد لابن عقيل (2/ 184): (لا يرفع «أفعل» التفضيل في الأعرف ظاهرا فلا يقال: مررت برجل أفضل منه أبوه، برفع الأب بأفضل، إلا في لغة ضعيفة حكاها سيبويه وغيره).

وينظر: شرح الألفية لابن الناظم (487).

(2)

ينظر: المساعد لابن عقيل تحقيق د/ بركات (2/ 184).

(3)

البيت من الخفيف، ولم ينسب لقائل معين. -

ص: 2693

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ومثله:

2139 -

لا قول أبعد عنه نفع منه عن

نهي الخلىّ عن الغرام متيّما (1)

والمثال في ذلك: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد.

وقد تختصّ فيقال: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من عين زيد، و «من زيد» على تقدير: من كحل عين زيد، فمن قال: من عين زيد، حذف مضافا واحدا، ومن قال: من زيد؛ حذف مضافين، كما حذفا في قولهم:(لا فعل ذلك هبيرة بن سعد)(2).

ومن كلامهم المأثور: «ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد، من كذبة أمير على منبر» ؛ فهذا فيه حذف مضاف واحد، والتقدير: ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد، من شهود كذبة أمير على منبر (3).

وقد يستغنى عن المفضول، للعلم به، ولا يقام مقامه شيء كقولك: ما رأيت كزيد رجلا أبغض إليه الشرّ، والأصل: ما رأيت كزيد رجلا أبغض إليه الشرّ منه إليه؛ فحذف «منه» و «إليه» للعلم بهما (4)، وأنشد سيبويه في مثل هذا:

2140 -

مررت على وادي السّباع ولا أرى

كوادي السّباع حين يظلم واديا

أقلّ به ركب أتوه تئية

وأخوف إلّا ما وقى الله ساريا (5)

-

- والشاهد في البيت قوله: «أحب، البذل» ؛ استشهد به على رفع «أفعل» التفضيل الاسم الظاهر واسم التفضيل صفة لاسم الجنس «امرأ» وسبق بنفي والفاعل الظاهر مفضل على نفسه باعتبارين، باعتبار كونه محبوبا لابن سنان أفضل منه باعتبار كونه محبوبا لغيره، وهذا الذي يعبر عنه العلماء بمسألة الكحل.

ينظر الشاهد في: التذييل والتكميل (4/ 759).

(1)

هذا البيت من الكامل، ولم أعرف قائله.

والشاهد قوله: «أبعد

نفع»؛ حيث رفع «أفعل» التفضيل الاسم الظاهر، ينظر الشاهد في: شرح المصنف (3/ 65) والتذييل والتكميل (4/ 760).

(2)

ينظر: التذييل والتكميل (4/ 760).

(3)

فحذف «شهودا» وأقام المضاف إليه مقامه.

(4)

يراجع ذلك في التذييل والتكميل (4/ 759).

(5)

البيتان لسحيم بن وثيل، عاش في الجاهلية أربعين سنة وفي الإسلام ستين سنة، ينظر في ترجمته:

طبقات ابن سلام (2/ 576)، والأصمعيات (ص 17). -

ص: 2694

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فـ «ركب» مرفوع بـ «أقل» كارتفاع «الشرّ» بـ «أبغض» .

الأصل: ولا أرى واديا أقل به ركب منه بوادي السّباع؛ فحذف المفضول للعلم به ولم يقم مقامه شيئا، ومثله قول الآخر:

2141 -

ما إن رأيت كعبد الله من أحد

أولى به الحمد في وجد وإعدام (1)

وقد يستغنى عن تقدير مضاف، في نحو: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد؛ فأدخلوا «من» على زيد، مع ارتفاع الكحل، على حدّ إدخالها عليه، مع جرّه؛ لأن المعنى واحد، وهذا وجه حسن، لا تكلف فيه، وله نظائر يلحظ فيها المعنى ويترتب الحكم عليه، مع تناسي اللفظ، ومن نظائره قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ (2)؛ فدخلت الياء على خبر (أن) لتقدم (أولم) وجعلها الكلام بمعنى: أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر.

ومن قدّر: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد بـ: ما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد، يقدر: ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد من كذبة أمير على منبر، ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهدا من كذبة أمير على منبر، وكذا يفعل بكلّ ما أشبه ذلك، حيثما ورد، وكلّ واحد من الأمثلة التي ذكرتها آنفا متضمنة لضمير مذكور بين «أفعل» والظاهر المرفوع، عائد على موصوف بـ «أفعل» مسبوق بنفي، وقد يحذف الضمير إذا كان معلوما، ومن المسموع في ذلك قول بعضهم: ما رأيت قوما أشبه بعض ببعض من قومك، كأنه قال: ما رأيت أبين فيهم شبه بعض ببعض، -

- البيتان من الطويل وركب: اسم جنس، بمعنى الركبان، وقيل: جمع راكب، وتئية: متكئا.

والمعنى: إنّ ثبوت الركب في وادي السباع أقل من ثبوته في غيره من الأدوية.

والشاهد في قوله: «أقلّ به ركب» على أنّ «أفعل» التفضيل رفع الظاهر كما في مسألة الكحل، وهذا كثير. ينظر: الكتاب (2/ 33)، والعيني (4/ 48).

(1)

البيت من البحر البسيط، ولم ينسب إلى قائل بعينه.

والشاهد قوله: «أولى به الحمد» ؛ حيث يرفع اسم التفضيل الفاعل الظاهر وهو «الحمد» وحذف بعده المفضول للعلم به.

ينظر الشاهد في: شرح المصنف (3/ 66)، والأشباه والنظائر (4/ 209)، والتذييل والتكميل (4/ 759).

(2)

سورة الأحقاف: 33.

ص: 2695

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ومن شبه بعض قومك ببعض قومك فجعل «أشبه» موضع «أبين» ، واستغنى به عن ذكر الشبه المضاف إلى بعض، ثم كمل الاختصار؛ لوضوح المعنى.

ومن قدّر: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد، بـ: ما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد، يقدّر هذا بـ: ما رأيت قوما أشدّ تشابها من قومك، والسبب في رفع «أفعل» التفضيل الظاهر في هذه الأمثلة ونحوها؛ تهيؤه بالقرائن

التي قارنته لمعاقبة الفعل إياه، على وجه لا يكون بدونها، ألا ترى أنّ قولك:

ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، لو قلت بدله: ما رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد، لكان المعنى واحدا (1) بخلاف قولك - في الإثبات -: رأيت رجلا الكحل في عينه أحسن منه في عين زيد، فإنّ إيقاع الفعل فيه موقع «أفعل» يغير المعنى، فكان رفع «أفعل» للظاهر؛ لوقوعه موقعا صالحا للفعل على وجه لا يغير المعنى - بمنزلة إعمال اسم الفاعل الماضي معنى، إذا وصل بالألف واللّام، فإنّه كان ممنوع العمل لعدم شبهه بالفعل، الذي في معناه، فلمّا وقع صلة قدّر بفعل وفاعل، ليكون جملة، فإنّ المفرد لا يوصل به موصول، فانجبر بوقوعه موقع الفعل ما كان فائتا من الشبه، فأعطي العمل بعد أن منعه، فكذلك «أفعل» الواقع في الموقع المشار إليه، حدث له بالقرائن التي قارنته في معاقبة الفعل، على وجه لم يكن بدونها، فرفع الفاعل الظاهر بعد أن كان لا يرفعه وأيضا، فإنّه حدث له في الموقع المشار إليه معنى زائد عن التفضيل، وذلك أنك إذا قلت: ما الكحل في عين زيد أحسن منه في عين عمرو؛ لم يكن فيه تعرض لنفي المساواة.

وإنّما تعرض نفيه لنفي المزية، بخلاف قولك: ما رأيت أحدا أحسن في عينه -

(1) في شرح الألفية لابن الناظم (486، 487): (ويمكن أن يعلل ذلك - أي رفع «أفعل» التفضيل الظاهر - بأمرين:

أحدهما: أنّه من حسن أن يقع «أفعل» التفضيل فعل بمعناه صحّ رفعه الظاهر، كما صحّ إعمال اسم الفاعل، بمعنى المضيّ في صلة الألف واللام فقالوا: ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؛ لأنه في معنى ما رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد.

الأمر الثاني: أنّ «أفعل» التفضيل متى ورد على الوجه المذكور وجب رفعه الظاهر؛ لئلا يلزم الفصل بينه وبين «من» بأجنبيّ، فإنّ ما هو له في المعنى، لو لم يجعل فاعلا لوجب كونه مبتدأ ولتعذر الفصل به).

ص: 2696

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الكحل منه في عين زيد، فإنّ المقصود به نفي المساواة ونفي المزية ولهذا قدّره سيبويه رحمه الله تعالى بـ: ما رأيت أحدا يعمل في عينه الكحل كعمله في عين زيد (1).

فكان لأفعل في هذا الموضع ما للصفة المشبّهة من تناول المساواة والمزية، فاستحقّ بذلك التفضيل على «أفعل» المقصود على المزية، ففضل برفعه الظاهر (2). وأيضا فإنّ قاصد المعنى المفهوم من: ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؛ إمّا أن يجعل «أفعل» صفة [3/ 131] لما قبلها، رافعة لما بعدها. وإمّا أن يجعله خبرا للكحل، فهذا الوجه ممتنع بإجماع العرب لاستلزامه الفصل بالمبتدأ بين «أفعل» و «من» مع كونهما بمنزلة المضاف والمضاف إليه، والوجه الآخر لم يجمع العرب على منعه، بل هو جائز عند بعضهم، فلما ألجأت الحاجة إليه اتفق

عليه اهـ.

فإن قيل: لا نسلم الالتجاء إليه؛ لإمكان أن يقال: ما رأيت أحدا الكحل أحسن في عينيه منه في عين زيد.

فالجواب: أنّ إمكان هذا اللفظ مسلّم، ولكن ليس بمسلم إفادته ما يفيده اللفظ الآخر من اقتضاء المزية، والمساواة معا، وإنّما مقتضى: ما رأيت أحدا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد، نفي رؤية الزائد حسنه، لا نفي رؤية المساوي، وإذا لم يتوصل إلى ذلك المعنى إلّا بالترتيب المنصوص عليه صحّ القول بالالتجاء إليه، ولم يرد هذا الكلام المتضمن ارتفاع الظاهر بـ «أفعل» التفضيل إلّا بعد نفي، ولا بأس باستعماله بعد نهي، أو استفهام فيه معنى النفي، كقولك: لا يكن عبدك أحبّ إليه الخير منه إليك، وهل في الناس رجل أحقّ به الحمد منه بمحسن لا يمنّ، ولا ينصب «أفعل» التفضيل مفعولا به (3)، بل يعدّى إليه باللام، إن كان من متعدّ إلى واحد كقولك: زيد أوعى للعلم، وأبذل للمعروف، وإن كان من متعدّ إلى -

(1) في الكتاب (2/ 31): (وأنت في قولك: أحسن في عينه الكحل منه في عينه؛ لا تريد أن تفضل الكحل على الاسم الذي في «من» ولا تزعم أنه قد نقص عن أن يكون مثله لكنك زعمت أن للكحل هنا عملا، وهيئة ليست له في غيره من المواضع فكأنك قلت: ما رأيت رجلا عاملا في عينه الكحل كعمله في عين زيد) اهـ.

(2)

ينظر شرح المصنف (3/ 66) وقد نقل هذا الكلام الشيخ أبو حيان في التذييل والتكميل (4/ 764)، وعقب عليه بقوله:(وهذا كلام فيه تكثير لا طائل تحته).

(3)

يعني أنه إذا كان مشتقّا من مصدر يتعدّى فعله إلى مفعول به، فإنه لا ينصب المفعول به، بل يعدّى إليه باللام، إن كان الفعل يتعدّى إلى واحد، تقول: زيد أبذل للمعروف.

ص: 2697

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

اثنين عدّي إلى أحدهما باللّام، وأضمر ناصب الثاني، كقولك: هو أكسى للفقراء الثياب، أي: يكسوهم الثياب (1)، وإن ورد ما يوهم نصب مفعول به بـ «أفعل» نسب العمل لفعل محذوف وجعل «أفعل» دليلا عليه، فمن ذلك قول الشاعر:

2142 -

فلم أر مثل الحيّ حيّا مصبّحا

ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا

أكرّ وأحمى للحقيقة منهم

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا (2)

ومثله قول الآخر:

2143 -

فما ظفرت نفس امرئ يبغي المنى

بأبذل من يحيى جزيل المواهب (3)

ومنه قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (4) فـ (حيث) هنا ليس بظرف وإنما هو مفعول به، وناصبه فعل مدلول عليه بـ «أعلم» ، والتقدير: الله أعلم مجردا عن التفضيل (5)، ويكون هو العامل، وتتعلق حروف الجرّ بـ «أفعل» التفضيل، على نحو ما يتعلق بـ «أفعل» المتعجّب به، فيقال: زيد أرغب في الخير من عمرو، وعمرو أجمع للمال من زيد، ومحمد أرأف بنا من غيره، وكذلك ما أشبهه، والله -

(1) في التذييل والتكميل (4/ 771): (وينبغي ألّا يقال هذا التركيب إلا إن كان مسموعا من لسانهم) اهـ.

(2)

البيتان من الطويل ضمن قصيدة لعباس بن مرداس الصحابي، وتعد من المصنفات التي أنصف فيها قائلوها أعداءهم.

اللغة: أكر: أكثر كرّا، الحقيقة: ما يحق على المرء أن يحميه. القوانس: جمع قونس وهو أعلى بيضة الرأس. والمعنى كما قال التبريزي: لم أر مثل عشيرتي.

والشاهد قوله: «القوانسا» ؛ حيث انتصب بفعل محذوف دل عليه بأفعل أي: يضرب القوانس.

ينظر الشاهد في: ديوان العباس بن مرداس (69)، ونوادر أبي زيد (ص 260)، والتذييل والتكميل (4/ 769).

(3)

البيت من الطويل ولم ينسب لقائل معين.

الشاهد فيه: نصب جزيل بفعل محذوف دل عليه بأبذل وتقديره يبذل جزيل المواهب، والبيت من شواهد شرح المصنف (3/ 69)، والتذييل والتكميل (4/ 769)، والمساعد لابن عقيل. تحقيق د/ محمد كامل بركات (2/ 186)، وشرح التصريح (2/ 106) وفيه:(وحكمة كونه لا ينصب المفعول المطلق إعطاؤه حكم فعل التعجب؛ لأن معناهما المبالغة) اهـ.

(4)

سورة الأنعام: 124.

(5)

في التذييل والتكميل (4/ 770): (فـ (حيث) هنا ليس بظرف وإنما هو مفعول به وناصبه فعل مدلول عليه بـ «أعلم» والتقدير: الله أعلم، يعلم مكان جعل رسالته) اهـ.

ص: 2698

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تعالى أعلم (1). انتهى كلام المصنف رحمه الله تعالى.

ولكن تتعين الإشارة إلى أمور:

منها: أنّ الشروط التي ذكرها المصنف لرفع «أفعل» التفضيل الظاهر أربعة:

- أن يكون ثمّ مفضول، بعد الظاهر المرفوع، وذلك المفضول هو نفس الظّاهر.

- أن يكون قبل الظاهر ضمير.

- أن يكون ذلك الضمير مفسّرا بما جرى عليه «أفعل» .

- أن يكون هذا كلّه بعد نفي، أو شبهه.

والمثال المنطبق على هذه قولهم: ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، فالضمير المجرور بـ «من» هو المفضول، وهو بعد الظاهر المرفوع بـ «أفعل» وهو - أي: المفضول - هو الظاهر، فضّل على نفسه باعتبار المحل، والضمير الذي قبل الظاهر هو الذي في قولنا:«عينه» وهو المفسر لصاحب «أفعل» وهو «رجلا» أنّ الضمير عائد عليه، وقد حصل هذا كلّه بعد النّفي وهو قولنا:«ما رأيت» .

ثمّ إنّ المفضول قد لا يذكر، بل يكون مقدرا، وذلك إذا دلّ عليه دليل، وكذا الضمير الذي قبل الظاهر، قد يعرض له ذلك إذا دلّ عليه أيضا، أما إذا لم يذكر المفضول؛ فإمّا أن يقام شيء مقامه، وإمّا أن لا يقام هذا مع كونه معلوما.

مثال الأوّل (2) قولهم: ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من عين زيد، أو:

من زيد، والأصل: منه في عين زيد؛ فحذف المفضول الذي هو مجرور «من» ، وحرف الجر الذي هو «في» وأدخلت «من» على ما دخلت عليه «في» ، ولكنك أقمت المضاف إليه مقام المضاف بعد حذفه (3)، في قولك: من زيد، وإلى هذا أشار المصنف في الشرح بقوله:

وقد يختصر بعد «من» مثل: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد.

ومثال الثاني: وهو أن لا يقام شيء مقام المحذوف، يعني أن لا يذكر بعد المرفوع الذي هو الظاهر شيء، بل يدل على المحذوف بشيء متقدّم قولهم: ما رأيت رجلا -

(1) ينظر شرح التسهيل لابن مالك (3/ 69).

(2)

ما حذف فيه المفضول المجرور بـ «من» ، وحرف الجر الذي هو «في» .

(3)

يعني: أقمت «زيد» مقام «عين» بعد حذف «عين» .

ص: 2699

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كزيد أبغض إليه الشرّ. الأصل: ما رأيت رجلا أبغض إليه الشرّ منه إلى زيد، ثمّ:

ما رأيت كزيد رجلا أبغض إليه الشرّ، وإلى هذا أشار المصنف في الشرح أيضا بقوله: «وقد يستغنى عن

المفضول للعلم به، ونظير قولهم: ما رأيت كزيد رجلا أبغض إليه الشرّ؛ قول الشاعر:

2144 -

[مررت على وادي السباع] ولا أرى

كوادي السّباع حين يظلم واديا

أقلّ به ركب

...

(1)

فيكون الأصل: ولا أرى واديا أقلّ به ركب منه بوادي السباع، ثمّ صار:

ولا أرى كوادي السباع واديا أقلّ ركب منه به، ثمّ صار: ولا أرى كوادي السّباع واديا أقلّ به ركب وقد جعل المصنّف - كما ترى - قول الشاعر:

ولا أرى

كوادي السّباع

من صور ما لا يقام مقام المحذوف فيه شيء.

ولمّا لم يتعرض ابن الحاجب إلى ذكر هذا القسم - يعني ما لا يقام مقام المحذوف فيه شيء - جعل قول الشاعر:

ولا أرى

كوادي السّباع

وقولهم: أبغض إليه الشّرّ، من صور ما أقيم فيه شيء مقام المحذوف، وهو قولهم:

ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد، فإنّه لمّا ذكر المسألة من أصلها مثّل لها بقولهم: ما رأيت رجلا أبغض إليه الشرّ منه كزيد (2)، ثمّ قال: ولك أن تختصر فتقول: أبغض إليه الشرّ من زيد (3)، ثمّ قال [3/ 132]: ولك أن تقول:

ما رأيت كزيد أبغض إليه الشرّ، ويفيد ذلك المعنى (4)، وأنشد:

مررت على وادي السّباع

...

البيتين

-

(1) تقدم. والشاهد هنا على ما ذكره الشارح.

(2)

ينظر: الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب (1/ 662) تحقيق موسى بناي العليلي.

(3)

ينظر: المرجع السابق الصفحة نفسها وفيه العبارة بنصها، وبعدها قوله:(فتحذف الضمير من «منه» وحرف الجر الذي هو «في» وتدخل «من» على ما دخلت «في» عليه) اهـ.

(4)

ينظر المرجع السابق الصفحة نفسها، وبعد ذلك قول ابن الحاجب: ومنه ما أنشده سيبويه:

مررت على وادي السباع

...

ص: 2700

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ثمّ قال: وإذا عبّرت بالعبارة الأولى قلت: ولا أرى واديا أقل به ركب منه بوادي السّباع، وعلى العبارة الثانية تقول: ولا أرى واديا أقلّ به ركب من وادي السباع، والثالثة هي عين ما ذكره في البيت (1). انتهى.

وهذا التقدير أسهل [من] تقدير المصنف وأقرب إلى الخاطر، وتجري به صور هذه المسألة على سنن واحد، والذي ذكره المصنف أكثر عملا، وأعلى نظرا ولكن قد يقال: إنّ قولنا: ما رأيت كزيد أبغض إليه الشرّ، وإن لم يذكر بعد المرفوع الظاهر فيه شيء لفظا، فهو مقدّر فيه، ولا شك أنّ المقدر في حكم الملفوظ، وحينئذ يستوي القسمان، أعني ما لم يقم فيه شيء مقام المحذوف، وما أقيم؛ فيكون القسمان واحدا إلا أن يمنع المصنف التقدير، فيقول: لا أقدّر شيئا لعدم الحاجة إليه، فيتمّ إذ ذاك بقسميه، ويرجح تقديره على تقدير غيره.

وأما عدم ذكر الضمير الذي قبل الظاهر لفظا استغناء بتقديره، فمثال قولهم:

ما رأيت قوما أشبه بعض ببعض من قومك؛ قدّره المصنف كما عرفت بـ: ما رأيت قوما أبين فيهم شبه بعض ببعض من شبه بعض قومك ببعض قومك، قال: فجعل «أشبه» موضع «أبين» واستغنى به عن ذكر الشبه المضاف إلى «بعض» ثم أكمل الاختصار بوضوح المعنى (2).

قلت: وينبغي أن يكون التقدير في المثال المذكور: ما رأيت قوما أبين فيهم شبه بعض ببعض منه في قومك، ثم حذف الضمير المجرور بـ «من» العائد على الشبه وأدخلت «من» على «شبه» ، فصار الكلام: من شبه بعض قومك ببعض، ثم حذف «شبه» و «بعض» وحذف متعلّق «شبه» أيضا وهو «ببعض» لحذف ما تعلق به، فباشرت «من» -

(1) في الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب (1/ 662) - بعد هذا الكلام: - (و «أفعل» هنا «أقل» جرى لشيء وهو في المعنى لمسبّب هو «الركب»، مفضل باعتبار من هو له على نفسه باعتبار «وادي السباع» و «أتوه» صفة لـ «ركب» «تئية» إما مصدر على أصله لأنّ الإتيان قد يكون «تئية» أي بتوقف، وتحبس وقد يكون بغيره وإمّا مصدر في موضع الحال، أي متوقفين متلبسين، وإما غير هذا الباب الذي قيدناه من المسائل، فلا يجوز أن يرفع به الظاهر، بل يرتفعان جميعا على الابتداء والخبر، وتكون الجملة صفة الأول، كقولك: مررت برجل أفضل منه أبوه اهـ. فـ «أبوه» و «أفضل» مبتدأ وخبر والجملة صفة لـ «رجل» ولا يجوز الخفض صفة لرجل، ورفع «أبوه» بـ «أفعل») اهـ.

(2)

ينظر: شرح المصنف (3/ 67)، والتذييل والتكميل (4/ 762).

ص: 2701

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

«قومك» وحاصل الأمر: أن يقدر حذف اسمين بعد حذف الضّمير المجرور بـ «من» .

ومنها: أنّا نستفيد من قول المصنف لمّا ذكر الحذف للاختصار في: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من عين زيد: ومن زيد أيضا، وأنّ التقدير فيه: من كحل عين زيد، أنه لما حذف المفضول وهو الضمير المجرور بـ «من» العائد على الظاهر المرفوع بـ «أفعل» أقيم الظاهر مقامه، ثم أضيف ذلك القائم مقام الضّمير إلى ما بعده، وبعد حذف حرف الجرّ الذي هو «من» ، فالأصل: من كحل عين زيد، ثم: من عين زيد، ثمّ: من زيد، ومن ثمّ حكم بحذف مضافين في قولنا: من زيد.

والحاصل: أنّ «من» - بعد حذف الضمير المجرور بها - إمّا أن تباشر الظاهر الذي الضمير له وهو «الكحل» ، وإمّا أن تباشر المحلّى الذي يحلّ فيه ذلك الظاهر، وهو العين، وإمّا أن تباشر صاحب ذلك المحلّ وهو زيد.

لكنّ المصنف - مع تقديره أنّ الأصل: من كحل عين زيد - لم يصرح بالظاهر لفظا، فقد يقال: إنّ التصريح به غير جائز والذي يظهر أنّ التصريح به غير ممتنع، وإنما قدّره المصنف ولم يصرح به؛ لأنه ذكر أنّ هذا المثال الذي هو: ما رأيت أحدا أحسن فيه الكحل منه في عين زيد، قد يختصر فيقال فيه: من عين زيد، ومن زيد، ومع التصريح بالظاهر لا يكون اختصار؛ لأنّ التصريح به كذكر الضمير، فينتفي الاختصار حينئذ كذكر الضمير ثمّ قد عرفت أنّ من كلامهم: ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد من كذبة أمير على منبر وأنّ التقدير فيه: من شهود كذبة أمير؛ ففيه حذف مضاف واحد، كما أنّ قولنا: في عينه الكحل من عين زيد؛ فيه حذف مضاف واحد، على الوجه الذي ذكره المصنف، ومما حذف فيه مضاف واحد المثال الذي ذكره المصنف في الألفية وهو:

فلن ترى في النّاس من رفيق

أولى به الفضل من الصديق (1)

الأصل فيه: أولى به الفضل منه بالصديق، ثمّ حذف الضمير وأقيم الظاهر مقامه، فصار: من الفضل بالصّديق، ثمّ أضيف «الفضل» إلى «الصديق» ثم -

(1) في شرح الألفية للمرادي (2/ 128): (الأصل: أولى به الفضل منه بالصديق؛ فاختصر).

وفي شرح الألفية للشاطبي (4/ 96): (تقول: لن ترى في الناس من رفيق يحقّ له الفضل كالصديق، فالمعنى في هذا الكلام كالمعنى في المثال، ومن ذلك قولهم: ما رأيت رجلا أبغض إليه الشرّ منه إلى زيد) اهـ.

ص: 2702

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

حذف الباء، بملابسته إياه، فصار: من فضل الصديق، ثم حذف المضاف، فصار: من الصديق، وكذا يقال: ما أحد أحسن به الجميل من زيد، الأصل: منه بزيد، ثم: من الجميل بزيد، ثمّ: من جميل زيد، ثمّ: من زيد، واعلم أنّ بعض الفضلاء ممّن تكلم على الألفية جعل التقدير الأصليّ، في هذين المثالين قبل الحذف، من ولاية الفضل بالصديق

ومن حسن الجميل بزيد.

ولم يظهر لي ذلك، فإنّ «من» إنما تدخل على ضمير ذلك الاسم الظاهر الذي هو المرفوع، أو على ظاهر يقوم مقامه، والذي قدّر ذلك رجل معتبر، لكنني لم يتجه لي كلامه فليتأمل.

ومنها: أنّ المصنف قال - كما عرفت -: وقد يستغني عن تقدير مضاف، في نحو: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد؛ بأن يقال: إن تقديره:

ما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد، أدخلوا «من» على «زيد» ، مع ارتفاع «الكحل» على حدّ إدخالها عليه مع جرّه لأنّ المعنى واحد، وهذا وجه حسن، لا تكلف فيه، وله نظائر يلحظ فيها المعنى ويترتب الحكم عليه مع تناسي اللفظ إلى آخر ما ذكره (1).

فقال الشيخ ما معناه: إن المعنى المستفاد من قولنا: ما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد، غير المعنى المستفاد من قولنا: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد؛ لأن المحكوم له بالأحسنية في المثال الأول المكتحل، وفي المثال الثاني الكحل (2)، وما قاله [3/ 133] حق، وقد كان ظهر لي ذلك، قبل الوقوف على كلامه ولكن لما ذكره تعينت نسبته إليه.

ومنها: أن المصنف تضمن كلامه - في شرح الكافية - شرطا خامسا لهذه المسألة - أعني ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل - وهو: كون الظاهر المرفوع فاعلا بـ «أفعل» سببا لموصوف «أفعل» قال: كالصوم بالنسبة للأيام (3) في قول -

(1) ينظر: شرح المصنف (3/ 66).

(2)

ينظر: التذييل والتكميل (4/ 763).

(3)

في شرح الكافية (2/ 1140) تحقيق د/ عبد المنعم هريدي: (فإن أدى ترك رفعه الظاهر إلى فصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل والمفضل عليه تخلص من ذلك بجعل المبتدأ فاعل أفعل بشرط كونه سببيّا كالصوم بالنسبة إلى الأيام)

إلخ.

ص: 2703

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أحبّ إلى الله فيها الصوم من أيام العشر» (1).

قال: «وإنّما اشترطوا كون الظاهر سببيّا؛ لأنّ ذلك يجعله صالحا للقيام مقام الضمير؛ فإن الاستغناء بالظاهر السببيّ عن الضمير كثير، ولأنّ كونه سببيّا على الوجه المستعمل يجعل أفعل واقعا موقع الفعل (2)، هذا كلامه في شرح الكافية، وكأنّه يعني بالضمير الذي صلح الظاهر لقيامه مقام الضمير الذي يرفعه «أفعل» بالغا عليه وكلام

الإمام بدر الدّين في شرح الألفية، يخالف ظاهرا كلام والده، فإنه قال: لم يرفع «أفعل» التفضيل الظاهر عند أكثر العرب، إلا إذا ولي نفيا [أو استفهاما]، وكان مرفوعه أجنبيّا، مفضلا على نفسه باعتبارين، نحو قولهم:

ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد (3).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أحب إلى الله فيها الصّوم منه في عشر ذي الحجة» انتهى.

وما قاله المصنف هو الظاهر؛ لأنّ «الصّوم» إنما وقع في الأيام التي هي موصوف «أفعل» ، فكأنه قيل: فصومها، وكذا «الكحل» ، وإنما هو حاصل في عين الموصوف بـ «أفعل» فكأنه قيل: كحل عينه فإن قيل: فإذا كان كذلك فلم لم يتعرض إلى ذكر السببية وجعلها شرطا في التسهيل، فالجواب أنه لا يحتاج إلى ذكره؛ لأن الشروط التي ذكرها - متى وجدت - لا يكون الظّاهر المرفوع بـ «أفعل» إلا كذلك، فكان في الاقتصار عليها غنية، ثم لا يعتذر عن بدر الدين بأن يقال: لا شكّ أنّ نحو: ما رأيت رجلا أحسن منه أبوه، غير جائز؛ لأننا نقول: إنّ امتناع هذا التركيب ليس من جهة أنّ المرفوع سببي بل من جهة أنّه لا يصحّ أن يقع موقع «أفعل» فعل يفيد معنى التفضيل كما سيأتي ذكر ذلك.

واعلم أن ابن الحاجب لما تعرض إلى المسألة قال: ولا يعمل - يعني «أفعل» -

(1) الحديث في: مسند الإمام أحمد بن حنبل (1/ 224، 338، 346) ومسند الدارمي الباب (52) من كتاب الصوم، والبخاري الباب (11) من كتاب العيدين، والترمذي الباب (51) من كتاب الصوم، وابن ماجه الباب (59) من كتاب الصيام.

(2)

شرح الكافية لابن مالك (2/ 1140) تحقيق د/ عبد المنعم هريدي.

(3)

شرح الألفية لابن الناظم (485، 486).

ص: 2704

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

التفضيل - في مظهر إلا إذا كان صفة لشيء وهو في المعنى لمسبّب مفضّل باعتبار الأول على نفسه باعتبار غيره (1).

وقال - في شرح المفصل -: «أفعل» التفضيل يعمل عمل الفعل في بعض المواضع وهو كل موضع كان فيه لمسبّب مفضل باعتبار من هو له على نفسه، باعتبار غيره، فعند ذلك يعمل عمل فعله في ذلك المسبّب، مثاله: قولهم: ما رأيت رجلا أبغض إليه الشرّ منه إلى زيد، وما أشبه ذلك فـ «أبغض» ههنا في المعنى لمسبب - لرجل - وهو «الشرّ» مفضل باعتبار الرجل على نفسه باعتبار غيره وهو «زيد» انتهى (2).

ومراده بقوله (3): إلّا إذا كان صفة لشيء وهو في المعنى لمسبّب؛ أنّ «أفعل» التفضيل في المثال الذي ذكره هو الرجل في اللّفظ وهو في المعنى لسببه، وهو الشرّ يعني أنّ الشرّ مسبّب عن الرّجل، هكذا فهمت في هذا الموضع،

دون تحقق فإن «الكحل» في: ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل، كيف يكون مسبّبا عن «رجل» ؟.

ثمّ إنّ ابن الحاجب جعل هذا الظاهر المرفوع بـ «أفعل» مسبّبا وقد عرفت أنّ المصنف جعله سببيّا فإن كان مراد من قال: إنّه سبب غير مراد من قال: إنّه سببيّ - وهو الظاهر - فلا كلام وإلّا أشكل الأمر.

ومنها: أنك عرفت أنّ المصنّف ذكر لرفع «أفعل» التفضيل الظّاهر سببين:

أحدهما: معاقبة الفعل إياه.

الثاني: ما يلزم من الفصل بينه وبين «من» بأجنبي لو لم نرفعه على الفاعلية، وجعلناه مبتدأ مخبرا عنه بما قبله، وقرر ذلك أحسن تقرير، فتبعه الإمام بدر الدين -

(1) ينظر: شرح المقدمة الكافية في علم الإعراب لابن الحاجب المجلد الثالث (ص 854)(نزار الباز) تحقيق الدكتور/ جمال عبد العاطي مخيمر. وبعد ذلك قول ابن الحاجب: (منفيّا مثل: ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؛ لأنه بمعنى «حسن» مع أنهم لو رفعوا لفصلوا بين «أحسن» ومعموله بأجنبي وهو الكحل) اهـ.

(2)

النص بتمامه في الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب (1/ 661) تحقيق الدكتور/ موسى بناي العليلي ط. العاني بغداد (1982).

(3)

أي: مراد ابن الحاجب.

ص: 2705

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ولده وذكر ما ذكره والده، وضمّ إلى ذلك بحثا، فأجببت إيراده، قال (1) رحمه الله تعالى: ويمكن أن يعلّل رفع «أفعل» التفضيل الظاهر معنى، في الأمثلة التي ذكرت بأمرين:

أحدهما: معاقبة الفعل إياه، فاستحقّ العمل، كما استحقّ اسم الفاعل معنى المعنى، إذا وقع صلة للألف واللام، وقرر ذلك إلى آخره، ثمّ قال: فإن قلت: فكان ينبغي أن يقضي جواز مثل هذا، بجواز رفع «أفعل» التفضيل للسببيّ المضاف إلى ضمير الموصوف نحو: ما رأيت رجلا أحسن منه أبوه، وفي الإثبات نحو: رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؛ لأنّه يصحّ في ذلك كلّه وقوع الفعل موقع «أفعل» التفضيل.

قلت: المعتبر في اطراد رفع «أفعل» التفضيل الظاهر: جواز أن يقع موقعه الفعل الذي يبنى منه مفيدا فائدته، وما أوردته ليس كذلك، ألا ترى أنك لو قلت:

ما رأيت رجلا يحسن أبوه كحسنه؛ فأتيت موضع «أحسن» بمضارع «حسن» فاتت الدلالة على التفضيل، أو قلت: ما رأيت رجلا يحسنه أبوه؛ فأتيت موضع «أحسن» بمضارع «حسن» إذا فاقه في الحسن، كنت قد جئت بغير الفعل

الذي يبنى منه «أحسن» ، وفاتت الدلالة على الغريزة المستفادة من «أفعل» التفضيل، ولو رمت أن توقع الفعل موقع «أحسن» على غير هذين الوجهين لم تستطع، وكذا القول في نحو: رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؛ فإنك لو جعلت فيه «يحسن» مكان «أحسن» فقلت: رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد، أو: يحسن في عينه الكحل كحلا في عين زيد، فاتت الدلالة على التفضيل في الأول، وعلى [3/ 134] الغريزة في الثاني (2).

الأمر الثّاني: أنّ «أفعل» التفضيل متى ورد على الوجه المذكور وجب رفعه الظّاهر لئلّا يلزم الفصل بينه وبين «من» بأجنبي؛ فإنّ ما هو له في المعنى لو لم يجعل فاعلا لوجب كونه مبتدأ ولتعذّر الفصل به. -

(1) أي: قال الإمام بدر الدين بن مالك. وقد نقل عنه العلامة ناظر الجيش الكلام الآتي في الصفحات التالية، من هنا إلى قوله:(اطرد عند العرب إجراؤه مجرى اسم الفاعل، فيقولون: مررت برجل أفضل منه أبوه). وهذا من شرح الألفية لابن الناظم (ص 486، 487، 488).

(2)

الكلام بنصه من شرح الألفية لابن الناظم (ص 487).

ص: 2706

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فإن قلت: وأيّ حاجة إلى ذلك ولم يجعل مبتدأ مؤخرا عن «من» ، فيقال:

ما رأيت رجلا أحسن في عينه منه في عين زيد الكحل، أو مقدما على «أحسن»؛ فيقال: ما رأيت رجلا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد.

قلت (1): لم يؤخر تجنبا عن قبح اجتماع تقديم الضّمير على مفسره وإعمال الخبر في ضميرين لمسمى واحد، وليس هو من أفعال القلوب ولم يقدم كراهية أن يقدموا لغير ضرورة ما ليس بأهم؛ فإن الامتناع من رفع «أفعل» التفضيل الظاهر ليس لعلة موجبة إنما هو لأمر استحساني. فيجوز التخلف عن مقتضاه إذا زاحمه ما رعايته أولى وهو تقديم ما هو أهم وإيراده في الذكر أتم وذلك صفة ما يستلزم صدق الكلام تخصيصه، ألا ترى أنك لو قلت: ما رأيت رجلا؛ كان صدق الكلام موقوفا على تخصيص رجل بأمر يمكن أنّه لم يحصل لمن رأيته من الرجال؛ لأنه ما من راء إلا وقد رأى رجلا ما، فلمّا كان موقوف الصدق على المخصّص وهو الوصف؛ كان تقديمه مطلوبا فوق كل مطلوب فقدم، واغتفر ما ترتب على التقديم من الخروج عن الأصل، فإن قلت: فلم لم يجز على مقتضى ما ذكرتم أن يرفع «أفعل» التفضيل الظاهر في الإثبات فيقال: رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؟

قلت: لأنّ مطلوبية المخصص في الإثبات دون مطلوبيته في النفي؛ لأنّه في الإثبات يزيد في الفائدة، وفي النفي يصون الكلام عن كونه كذبا فلما كان ذلك كذلك كان لهم عن تقديم الصفة ورفعها الظاهر مندوحة؛ بتقديم ما هي

له في المعنى، وجعله مبتدأ فيقال: رأيت رجلا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد، ثمّ قال:

ولكون المانع من رفع «أفعل» التفضيل الظاهر ليس أمرا موجبا؛ اطرد عند بعض العرب إجراؤه مجرى اسم الفاعل، فيقولون: مررت برجل أفضل منه أبوه (2).

ومنها: ما ذكره الشيخ بحثا ومناقشة للمصنف. وذلك في مواضع:

الأول: قول المصنف: والسبب في رفع «أفعل» التفضيل الظاهر في هذه الأمثلة تهيؤه بالقرائن التي قارنته لمعاقبة الفعل إياه وعلى وجه لا يكون بدونها، ألا ترى أنّ -

(1) الكلام بنصه من المرجع السابق (ص 488).

(2)

لمراجعة كلام الإمام بدر الدين هذا، ينظر شرح الألفية لابن الناظم (ص 486، 487، 488)، وفي (ص 488):(أحسن منه أبوه).

ص: 2707

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قولك: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، لو قلت بدله:

ما رأيت أحدا يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد؛ لكان المعنى واحدا، بخلاف قولك في الإثبات: رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؛ فإنّ إيقاع الفعل فيه موقع «أفعل» يغير المعنى (1). انتهى.

فقال الشيخ - بعد نقله هذا الكلام -: وهذا خطابه وليس معنى «أحسن» «يحسن» بل معناه: يزيد حسن الكحل في عينه على حسنه في عين زيد، وعلى تقديره بـ «يحسن» لا يفيد المعنى إلا من حيث أنّ الإيجاب يغاير النفي، ولو جاء ذلك في الإثبات لكان صحيح المعنى وتقديره: رأيت رجلا يحسن الكحل في عينه كحسنه في عين زيد، وهذا معنى صحيح لا ينكره عاقل. انتهى (2).

وأقول: أما قوله: وليس معنى «أحسن» «يحسن» ؛ فالمصنف لم يقل: معنى «أحسن» «يحسن» مقتصرا على ذلك، بل قال: المعنى: يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد، ولا شك أنّ هذا معناه يزيد حسن الكحل في عينه على حسنه في عين زيد. فمعنى «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد» و «ما رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد» واحد، فنحن نفهم من قولنا: ما رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد؛ أنّ حسن الكحل في عين زيد زائد على حسنه في عين غيره، وإذا كان كذلك سقطت المناقشة التي ذكرها الشيخ.

وأمّا قوله: إنّ ذلك لو جاء في الإثبات لكان صحيح المعنى؛ فحق، لكن يكون المعنى المفهوم في صورة الإثبات غير المعنى المفهوم في صورة النّفي، وذلك أنّ المفهوم من قولنا: رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل كحسنه في

عين زيد؛ ثبوت المساواة بينهما في الحسن.

والمفهوم من قولنا: ما رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد؛ ثبوت زيادة الحسن في أحد المحلين على الآخر (3)، ولا شكّ أنّ هذا الثاني هو -

(1) ينظر: شرح المصنف (3/ 67).

(2)

ينظر: التذييل والتكميل (4/ 763).

(3)

سبق ذكر هذا المفهوم في كلام الإمام بدر الدين بن مالك. ينظر: شرح الألفية لابن الناظم (ص 488).

ص: 2708

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مدلول «أفعل» التفضيل فلمّا كان كذلك صحّ رفع «أفعل» التفضيل الظاهر في صورة المعنى؛ لأنّ الفعل يعاقبه ومعنى التفضيل باق، ولم يصحّ في صورة الإثبات لأنا إذا أوقعنا الفعل موقعه لا يبقى معنى التفضيل بل يصير لذلك التركيب معنى آخر.

الموضع الثاني: قول المصنف: فإن قيل: لا نسلم الالتجاء إليه - يعني إلى رفع «أفعل» التفضيل الاسم الظاهر فاعلا - بل نجعله مبتدأ، ونقدّمه على «أحسن» ، وذلك بأن يقال: ما رأيت أحدا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد، فالجواب أنّ إمكان هذا اللفظ مسلم، ولكن ليس بمسلم إفادته ما يفيده اللفظ الآخر من اقتضاء المزية والمساواة معا.

وإنما مقتضى: ما رأيت أحدا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد؛ نفي رؤية الزائد حسنه لا نفي رؤية المساوي، وإذا لم يتوصل إلى ذلك المعنى إلا بالترتيب المنصوص عليه صحّ القول بالالتجاء إليه (1)، وكان قد تقدم له قبل [3/ 135] هذا أن قال معللا رفع أفعل التفضيل الظاهر، في المثال المعروف، وهو: ما رأيت أحدا أحسن في عينيه الكحل منه في عين زيد، وذلك أنه حدث له - في الموقع المشار إليه - معنى زائد على التفضيل، وبيانه أنك إذا قلت: ما الكحل في عين زيد أحسن منه في عين عمرو، ولم يكن فيه تعرض لنفي المساواة، وإنّما تعرض فيه لنفي المزية، بخلاف قولك: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؛ فإنّ المقصود به نفي المساواة، ونفي المزيّة.

ولهذا قدّره سيبويه بـ: ما رأيت أحدا يعمل في عينه الكحل، كعمله في عين زيد (2).

فقال الشيخ - في قوله: إنّه حدث في الموقع المشار إليه معنى زائد على التفضيل إلخ -: هذا الكلام فيه تكثير لا طائل تحته، ودعوى أنّ قولك: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؛ قصد به نفي المساواة ونفي المزية،

لا دليل على ذلك، بل لا فرق بين قولك: ما رأيت أحدا الكحل في عينه أحسن منه في -

(1) شرح المصنف (3/ 68).

(2)

شرح المصنف (3/ 67) والكتاب (2/ 31).

ص: 2709

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عين زيد، وبين المثال السابق؛ كلاهما فيه نفي المزية لا نفي المساواة، و «أفعل» التفضيل سواء أرفعت به المضمر أم المظهر، وإنما يدلّ على الزيادة في ذلك الوصف فإن كان الكلام مثبتا كانت تلك الزيادة ثابتة، وإن كان منفيّا كانت تلك الزيادة منفية، ولا يدلّ انتفاء تلك الزيادة على انتفاء المساواة بوجه.

قال: وأما قول المصنف: ولهذا قدره سيبويه

إلخ؛ فليس على ما فهمه، وإنما أراد سيبويه أن يبين أنّ رفع «الكحل» بـ «أحسن» هو على طريق الفاعلية، وأنه جرى في ذلك مجرى الفعل فكما رفع الفعل الظاهر كذلك رفعه هنا «أفعل» التفضيل وأما أن يريد بذلك أنه انتفت المزية والمساواة فلا (1).

وقال (2) أيضا - في قوله: فإن قيل: لا نسلم الالتجاء إليه؛ لإمكان أن يقال:

ما رأيت أحدا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد، فالجواب أنّ إمكان هذا اللفظ مسلم، ولكن ليس بمسلم إفادته ما يفيده اللفظ الآخر، من اقتضاء المزية والمساواة معا

إلى آخره قد بيّنّا أنّ ذلك دعوى لا تصحّ البتة ولا فرق بين تقدم الوصف ورفع الاسم به أو تأخره وجعله خبرا للاسم.

ألا ترى أنه لا فرق بين: ما رأيت رجلا قائما أبوه، ولا بين: ما رأيت رجلا أبوه قائم؟ (3). هذا كلام الشيخ مع المصنف أولا وثانيا.

وأقول: أما قوله: إن «أفعل» التفضيل إنما يدلّ على الزيادة في ذلك الوصف فإن كان الكلام مثبتا كانت الزيادة ثابتة وإن كان منفيّا كانت الزيادة منفية ولا يدلّ انتفاء الزيادة على انتفاء المساواة - فكلام صحيح، ولكن إنما يكون ذلك إذا سبق الكلام للدلالة على الإثبات فقط، كقولك: زيد أفضل من عمرو، أو على الانتفاء فقط كقولك: ليس زيد أفضل من عمرو، وأما الكلام الذي قصد به نفي الزيادة عن شيء باعتبار، وإثباتها لذلك الشيء باعتبار آخر نحو: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد؛ فليس الأمر فيه كذلك. فإنّ إثبات الزيادة يلزم منه انتفاء المساواة؛ إذ لو حصلت المساواة لم تكن الزيادة ثابتة فانتفاء المزية عن المفضول دلّ عليه بالمنطوق، وانتفاء المساواة دلّ عليه باللزوم، وإذا كان كذلك ثمّ قول -

(1) ينظر التذييل والتكميل (4/ 764، 765).

(2)

أي: قال الشيخ أبو حيان.

(3)

التذييل والتكميل (4/ 766).

ص: 2710

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

المصنف: إنّ المقصود بهذا التركيب نفي المساواة ونفي المزية. ولا شكّ أنّ قولنا:

ما الكحل في عين زيد أحسن منه في عين عمرو؛ نفي محض لم يقصد فيه إلى إثبات شيء فهو إنما يدلّ على نفي الزيادة فتمّ أيضا قول المصنف فيه إن لم يكن فيه تعرض لنفي المساواة وإنّما تعرض فيه لنفي المزية، وإدراك الفرق بين هذين التركيبين - أعني: ما الكحل في عين زيد أحسن منه في عين عمرو، و: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين عمرو ظاهر، ولعلّه لا يخفى على من له أدنى تحصيل.

وإذا تبين أنّ قول المصنف تمّ فيما ذكره، تبين صحة قوله آخرا: فالجواب أنّ إمكان هذا اللفظ مسلم - يعني: ما رأيت أحدا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد - ولكن ليس بمسلّم إفادته ما يفيده اللفظ الآخر من اقتضاء المزية والمساواة معا، وإنّما مقتضى: ما رأيت أحدا الكحل في عينه منه في عين زيد؛ نفي رؤية الزائد حسنه لا نفي رؤية المساوي، واندفع كلام الشيخ حينئذ، واعلم أنّ الذي ذكره المصنف في هذا المثال - من أنّ سبب العدول عنه إلى المثال المشهور في هذه المسألة أنّ هذا المثال مقتضاه نفي رؤية الزائد حسنه لا نفي رؤية المساوي - أحسن من قول الإمام بدر الدين فيه: إنّ المانع منه كراهية أن يقدّموا لغير ضرورة ما ليس بأهمّ كما تقدم لنا نقل ذلك عنه (1).

الموضع الثالث: قول المصنّف: ولم يرد هذا الكلام، المتضمن ارتفاع الظّاهر بـ «أفعل» التفضيل إلا بعد نفي، ولا بأس باستعماله بعد نهي، أو استفهام، فيه معنى النفي كقولك: لا يكن غيرك أحبّ إليه الخير منه إليك، وهل في النّاس رجل أحقّ به الحمد منه بمحسن، لا يمنّ (2)؛ فقال فيه الشيخ: وإذا كان لن يرد هذا الاستعمال إلا بعد نفي وجب اتباع السماع فيه، والاقتصار على ما قالته العرب (3). انتهى.

ولا شكّ أنّ ما ذكره المصنف لا مانع منه من حيث الصناعة النحويّة، كيف ولا فرق في المعنى بين النّهي والاستفهام المراد به النفي، وبين النفي الحقيقي. -

(1) شرح الألفية لابن الناظم (ص 488).

(2)

شرح المصنف (3/ 68).

(3)

ينظر: التذييل والتكميل (4/ 768) وبعده: (ولا يقاس عليه النهي ولا الاستفهام الذي يراد به النفي لا سيما ورفعه الظاهر إنما جاء في لغة شاذة فينبغي أن يقتصر في ذلك على مورد السماع، على أنّ إلحاقهما بالنفي ظاهر في القياس، ولكن الأولى اتباع السماع) اهـ.

ص: 2711

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ومنها: أنّ المصنف - كما عرفت - قد حكم على (حيث) من قوله تعالى:

اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (1) بأنها مفعول به [3/ 136] وناصبه فعل مدلول عليه بـ (أعلم) وأن التقدير: الله أعلم، يعلم مكان جعل رسالته (2).

وقال الشيخ: قد خرّجنا نحن الآية الشريفة، باقية فيها على بابها من الظرفيّة؛ لأنّ (حيث) من الظروف التي لم يتصرف فيها بابتدائية ولا فاعلية ولا مفعوليّة فنصبها على المفعولية بفعل محذوف مخرج لها عن بابها (3).

ومنها: أنّه قال: في قول المصنّف: وإن أوّل بما لا تفضيل فيه جاز على رأي أن تنصبه (4)، هذا الرأي ضعيف؛ لأنّه - وإن أوّل بما لا تفضيل فيه - فلا يلزم تعدّيه كتعديه، وللتركيب خصوصيات ألا ترى أنّ «فعولا» وأخواتها تعمل، و «فعيل» لا يعمل، نحو: شريب وطبيخ، لا يقال: هذا شريب الماء، ولا طبيخ الطعام، وإن كان يقال: هذا شرّاب الماء، وطبّاخ الطعام.

وناقش المصنف - في تمثيله، بقوله: وعمرو أجمع للمال من زيد (5) للأفعال التي تتعدّى بحروف الجرّ - فقال: ليس «أجمع للمال» من هذا الفصل، بل من باب ما يتعدّى الفعل فيه إلى مفعول به تقول: جمع زيد المال، فـ «أجمع للمال» من فصل: أضرب لزيد، وأشرب للماء (6) انتهى. وما ذكره في «أجمع» ظاهر وأما ما ذكره قبله فغير ظاهر، ولا يتوجّه إلى منع «فعيل» العمل، وقد قالت العرب: -

(1) سورة الأنعام: 124.

(2)

تقدم ذلك، وهو في شرح المصنف (3/ 69).

(3)

في التذييل والتكميل (4/ 770): (وقد خرجناه نحن في كتابنا في التفسير المسمى بالبحر المحيط على أن تكون حيث من الظروف التي لم يتصرف فيها بابتدائية ولا فاعلية ولا مفعولية، فنصبها على المفعولية بفعل محذوف مخرج لها عن بابها، والتخريج الذي خرجناه عليه هو إقرار (حيث) على الظرفية المجازية على أن تضمن (أعلم) معنى ما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير: الله أنفذ علما حيث يجعل رسالاته، أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته ..) إلى آخره.

(4)

وقد علل نصبه بأنه كاسم الفاعل وعلل منعه بأن صورته صورة «أفعل» التفضيل، وينظر: المساعد لابن عقيل (ص 186، 187) تحقيق بركات.

(5)

في شرح المصنف (3/ 69): (فيقال: زيد أرغب في الخير من عمرو، وعمرو أجمع للمال من زيد، ومحمد أرأف بنا من غيره) اهـ.

(6)

ينظر: التذييل والتكميل (4/ 771).

ص: 2712