الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[في: معانيها، وما يعرض لها]
قال ابن مالك: (ومنها في للظّرفيّة حقيقة أو مجازا، وللمصاحبة، وللتّعليل، وللمقايسة، ولموافقة «على»، والباء).
ــ
معنى نطمع وكأنه قال: ونطمع بالفرج، فعداه بالباء لذلك. فإن لم يكن للباء معنى ولم يمكن التضمين جعلت زائدة. انتهى.
ومن زيادة الباء في الخبر قول الشاعر:
2484 -
فلا تطمع أبيت اللّعن فيها
…
فمنعكها بشيء يستطاع (1)
أي: شيء يستطاع.
قال ناظر الجيش: قال المصنف (2): «في» التي للظرفية الحقيقية نحو:
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ (3)، ووَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (4)، والتي للظرفية المجازية نحو: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (5)، ولَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (6)، وشواهد ذلك كثيرة؛ لأنه الأصل. والتي للمصاحبة نحو: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ (7) أي: ادخلوا في النار مع أمم قد خلت من قبلكم في تقدم زمانكم كذا جاء في التفسير (8)، وهو صحيح، ومثله: عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ (9)، وحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ (10)، وفَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ (11)، ومنه قول الشاعر:
2485 -
كحلاء في برج صفراء في دعج
…
كأنّها فضّة قد مسها ذهب (12)
-
(1) من الوافر لرجل من تميم، وراجع: الأشموني (1/ 118، 120)، والخزانة (2/ 413) والعيني (1/ 302)، وفي المغني (110) برواية «ومنعكها» ، وأنه للحماسي.
(2)
انظر شرح التسهيل (3/ 155).
(3)
سورة البقرة: 203.
(4)
سورة البقرة: 187.
(5)
سورة البقرة: 179.
(6)
سورة يوسف: 7.
(7)
سورة الأعراف: 38.
(8)
ينظر الكشاف (2/ 78).
(9)
سورة الأحقاف: 16.
(10)
سورة الأحقاف: 18.
(11)
سورة القصص: 79.
(12)
من البسيط لذي الرمة، ويروى - كما في الأصل - «نعج» وراجع ديوانه (ص 5) والتذييل (7/ 31 / أ)، والخصائص (1/ 325).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2486 -
شموس ودود في حياء وعفّة
…
رخيمة رجع الصّوت طيّبة النّشر (1)
والتي للتعليل كقوله تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما (أَخَذْتُمْ)(2) عَذابٌ عَظِيمٌ (3)، وكقوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ (4)، وكقوله عليه الصلاة والسلام:«عذّبت امرأة في هرّة حبستها» (5)، ومنه قول الشاعر:
2487 -
فليت رجالا [فيك] قد نذروا دمي
…
وهمّوا بقتلي يابثين لقوني (6)
ومثله:
2488 -
لوى رأسه عنّي ومال بودّه
…
أغانيج خود كان فينا يزورها (7)
ومثله:
2489 -
أفي قمليّ من كليب هجوته
…
أبو جهضم تغلي عليّ مراجله (8)
ومثله:
2490 -
نكرت باللّوم تلحانا
…
في بعير ضلّ أو حانا (9)
والتي للمقايسة هي الداخلة على تال يقصد تعظيمه وتحقير متلوه كقوله تعالى:
فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (10)، وكقوله عليه الصلاة والسلام:«ما أنتم في سواكم من الأمم إلّا كالشّعرة البيضاء في جلد الثّور الأسود» (11) -
(1) من الطويل وهو من شواهد أبي حيان في التذييل (7/ 31 / أ).
(2)
في الهامش: أفضتم فيه، وهو تحريف له.
(3)
سورة الأنفال: 68.
(4)
سورة يوسف: 32.
(5)
هو عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وانظره في البخاري: أنبياء (54) والشرب (9) وابن حنبل (3/ 159، 424) ومسلم: كسوف (9) والنسائي: كسوف (14، 20).
(6)
من الطويل انظر ديوان جميل بثينة (ص 124) - دار صادر، وانظره في أمالي القالي (1/ 204) والتذييل (7/ 31 / أ) والحماسة (1/ 118)، واللسان (15/ 40)، ومجالس ثعلب (ص 173).
(7)
من الطويل، وأغانيج جمع أغنوجة: ما يتغنج به، والخود: الجارية الناعمة، وهو لأبي ذؤيب الهذلي برواية:«قدما» بدل «فينا» وراجع ديوان الهذليين (1/ 155) واللسان: «غنج» .
(8)
هو للفرزدق، والبيت في التذييل (4/ 21) بغير نسبة.
(9)
في معناه انظر اللسان: «حان، ولحى» وحان - هنا -: هلك. وشاهده كسابقه.
(10)
سورة التوبة: 38.
(11)
هو عن عبد الله بن مسعود، وانظره في: البخاري: رقاق (45، 46)، والترمذي: جنة (13)، وابن ماجه: زهد (34)، ومسلم: الإيمان (376 - 380).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وكقول الخضر لموسى عليه السلام. «ما علمي وعلمك في علم الله إلّا كما أخذ هذا الطّائر بمنقاره من البحر» (1) أو كما قال، ومنه قول الشاعر:
2491 -
وما جمعكم في جمعنا [غير] ثعلب
…
هوى بين لحيي أخزر العين ضيغم (2)
ومثله:
2492 -
كلّ قتيل في كليب حلّام
…
حتّى ينال القتل إلى همّام (3)
والموافقة «على» كقوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ (4)، ومنه قول حسّان (5) رضى الله تعالى عنه:
2493 -
بنو الأوس الغطارف آزرتها
…
بنو النّجّار في الدّين الصّليب (6)
ومثله:
2494 -
بطل كأنّ ثيابه في سرحة
…
يحذي نعال السّبت ليس بتوءم (7)
والموافقة الباء كقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ (8) أي: يكثركم به كذا جاء في التفسير (9)، ومثله قول الأفوه الأودي (10):
2495 -
أعطوا غواتهم جهلا مقادتهم
…
وكلّهم في حبال الغيّ منقاد (11)
-
(1) ينظر: الدر المصون (ص 906) والهمع (2/ 30) وفيه «غمس» بدل «أخذ» .
(2)
من الطويل، وخزرت العين: صغرت وضاقت وانظره في: التذييل (4/ 21)، وشرح الجمل (1/ 419).
(3)
في التذييل (4/ 21) بالرواية نفسها، وبغير نسبة.
(4)
سورة طه: 71.
(5)
حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري شاعر النبي صلى الله عليه وسلم وأحد المخضرمين (ت 54 هـ) وراجع: الإصابة (1/ 326).
(6)
من الوافر، والغطارف: جمع غطريف وهو السيد، والصليب: المتين، وانظر ديوان حسان بشرح البرقوقي (ص 17) والتذييل (4/ 21).
(7)
من الكامل لعنترة من معلقته، سرحة: شجرة عظيمة كبيرة طويلة، يحذي نعال السبت: يلبس أحذية الملوك غير ضعيف، وراجع: الخزانة (4/ 145)، والمغني (ص 145)، والمنصف (3/ 17).
(8)
سورة الشورى: 11.
(9)
انظر: الكشاف (3/ 462، 463).
(10)
هو صلاءة بن عمرو من بني أود شاعر جاهلي ت نحو (50 ق. هـ) وراجع: جمهرة الأنساب (ص 386).
(11)
من البسيط وانظره في التذييل (4/ 21).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومثله قول زيد الخيل:
2496 -
ويركب يوم الرّوع منّا فوارس
…
بصيرون في طعن الأباهر والكلى (1)
ومثله:
2497 -
وخضخض فينا البحر حتّى قطعنه
…
على كلّ حال من غمار ومن وحل (2)
ومثله:
2498 -
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه
…
ولكنّني عن سنبس لست أرغب (3)
وحكى يونس عن بعض العرب: ضربته في السيف أي: بالسيف (4). انتهى كلامه رحمه الله تعالى (5)، والمعاني التي ذكرها لهذا الحرف الذي هو «في» ستة:
أما الظرفية: فهو المعنى الأصلي لهذه الكلمة ومن ثم قال سيبويه: وأما «في» فهي للوعاء تقول: هو في الجراب وفي الكيس (6)، ثم قال: وإن اتسعت في الكلام فهي على هذا، وإنما تكون كالمثل يجاء بها لتقارب الشيء، وليس مثله (7). وقال ابن الربيع: إذا قلت: جعلت المال في الكيس؛ فالجعل بعد طلبه المال طالب للكيس على أنه وعاء للمال، ومحتو عليه وكذا إذا قلت: نزلت في الدار؛ فالنزول طالب للدار على أنها محتوية عليك ووعاء لك. وكذلك: تكلمت في شأنك ودخلت في أمرك، إلا أن الوعاء هنا على جهة التمثيل والتشبيه، وذلك أنك إذا دخلت في الأمر؛ فقد شغلك عن غيره، وأحاط بخاطرك، فقد صار بمنزلة الوعاء الذي يحوي الشيء من جهاته كلها، ومثله: أنا فى حاجتك؛ لأن الحاجة شغلتك عن غيرها فصارت المسألة بذلك شبيهة بالوعاء المحيط بالشيء الضام له (8)، قال: والعرب تعبر عن الشيء بطريق التشبيه والتمثيل كما تعبر عنه بحسب مقتضى الألفاظ ووضعها (9). -
(1) من الطويل وراجع التصريح (2/ 14)، والدرر (2/ 26).
(2)
من الطويل وانظره في الاقتضاب (ص 437)، والخصائص (2/ 313).
(3)
من الطويل وسنبس: أبو حي من طيئ. وراجع التذييل (4/ 21)، واللسان «سنبس» ، ومعاني الفراء (2/ 70، 223).
(4)
الأشموني (2/ 219)، والكتاب (4/ 226)، والهمع (2/ 30).
(5)
انظر: شرح التسهيل لابن مالك (3/ 158).
(6)
الكتاب (4/ 226).
(7)
الكتاب (4/ 226).
(8)
التذييل (4/ 20).
(9)
المصدر السابق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وكلام ابن هشام الخضراوي موافق له؛ فإنه لما أورد كلام الفارسي [4/ 5] وهو قوله: «في» معناها الوعاء، نحو: المال في الكيس، واللص في السجن، ويتسع فيها فيقال: زيد ينظر في العلم، وأنا في حاجتك (1) قال: هذا كما ذكر إنما تكون للوعاء حسّا أو تخييلا واستعارة كقولهم: فلان يسعى في حاجتك، ويتصرف في أمرك، فهي ظرف حسي، أو معنوي (2).
وأقول: قد أشار المصنف إلى الظرف الحسي بقوله: حقيقة، وإلى الظرف المعنوي بقوله: مجازا؛ لكن مقتضى كلام سيبويه وكلام الفارسي وكلام هذين الرجلين أن «في» لا تفارقها الدلالة على هذا المعنى. ولهذا لما ذكر ابن أبي الربيع عن القتبي (3) أن «في» تكون بمعنى كذا، وبمعنى كذا؛ قال: هذا جار على مذهب الكوفيين من وضع حرف مكان حرف لما بين الحروف من الاتفاق، وأما البصريون فيذهبون إلى التضمين.
وقال ابن عصفور: «في» معناها الوعاء حقيقة أو مجازا عند سيبويه (4)، والمحققين من النحويين، فالحقيقة ظاهرة، والمجاز نحو قولك: أنا في حاجتك؛ جعلت الحاجة لك مكانا مجازا، واتساعا من حيث كان المعنى: أنا في طلب حاجتك؛ فصار طلبه للحاجة كأنه مشتمل عليه، وكذا: فلان ينظر في العلم؛ جعلت العلم وعاء للنظر من حيث كان محلّا له على جهة المجاز والاتساع، وكذا: في فلان عيب، وفي الخبر شك (5).
والمصنف لا يلتزم بقاء دلالتها على هذا المعنى - أعني الظرفية - بل جعلها تستعمل مجردة عنه دالة على معنى آخر كما رأيت تعدادة لذلك، وهذا جري منه على الطريقة التي سلكها في إتيان معان متعددة لكل حرف من الحروف المذكورة في هذا الباب. على أن ابن عصفور صرّح بأن «في» للوعاء كما تقدم، وأن المثبت لها معنى غير ذلك هم الكوفيون.
وأما المصاحبة: فقد ذكروا من الدلالة على ذلك قول الشاعر:
2499 -
ولوج ذراعين في بركة
…
إلى جؤجؤ رهل المنكب (6)
أي: مع بركة وهو الصدر، وقول الآخر: -
(1) الإيضاح (ص 251).
(2)
وانظر: التذييل (4/ 20).
(3)
انظر: الهمع (2/ 30).
(4)
الكتاب (4/ 226).
(5)
نقل من شرح الإيضاح المفقود وانظر في مثله المقرب ومعه المثل (ص 275) وشرح الجمل: (1/ 511).
(6)
ينسب البيت للنابغة الجعدي وليس في ديوانه، والتذييل (4/ 20).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2500 -
كأنّ [ريقتها] بعد الكرى اغتبقت
…
في مسكن نمّاه النّحل في النّيق
أو طعم عادية في ذي حدب
…
من ساكن المزن تجري في الغرانيق (1)
أي: مع الغرانيق وهي طير الماء، وساكن المزن: المطر، والغرانيق لفرحها به تجري معه، وقول العرب: فلان عاقل في حلم أي: مع حلم، وخرّجوا «في بركة» على حذف مضاف أي: في جانبي بركة. وكذا «في الغرانيق» أي: في مجرى الغرانيق. ذكر ابن عصفور ذلك في شرح الإيضاح. وأما قول العرب: فلان عاقل في حلم فقال ابن أبي الربيع: «في» هنا تفيد ما لا تفيده «مع» ؛ لأنك إذا قلت: فلان ذو عقل مع حلم؛ لم يقتض أن عقله كان له في حين اتصافه بالحلم؛ إذ قد يقال هذا لمن حلم في وقت وظهر فيه عقل في وقت آخر، وإذا قلت: فلان عاقل في حلم فالمعنى أن حلمه تصرف بالعقل على حسب مقتضاه فكأنه دخل فيه (2). وقال: في قول الجعدي (3):
2501 -
ولوج ذراعين في بركة
إن «في بركة» صفة لـ «ذراعين» كأنه قال: داخلان في بركة؛ ألا ترى أنك لا تجد في كلام العرب: ولوج ذراعين في كفل؛ لأن الذراعين لا يكونان في الكفل، و «مع» تصلح هنا لو قلت: له ذراعان مع كفل؛ لكان ذلك صحيحا، وتقول: له رجلان في كفل، ولا تقول: رجلان في بركة، ويصلح أن تقول: مع بركة (4). ففي النظر في تخريج ما استدل به المصنف. أما قوله تعالى: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ (5) الآية، فقال الشيخ: يحتمل أن يكون على حذف مضاف أي: في عذاب أمم، ويكون (فى النار)(6) بدلا. انتهى.
ولقائل أن يدعي أن «في» باقية على معناها، ولكن الظرفية مجاز، ويكون (فى النار) في موضع الصفة؛ وصف بالجار والمجرور بعد الوصف بالجملة، -
(1) من البسيط، والريق: ماء الفم، والريقة: مؤنثة في الشعر أو للوحدة، والحدب: ما ارتفع من الأرض، يمدح ريق محبوبته، ومعناهما واضح.
(2)
في التذييل (4/ 20) بغير تعيين له.
(3)
قيس بن عبد الله الجعدي العامري شاعر معمر هجر الأوثان ونهى عن الخمر قبل الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم (ت 50 هـ) وراجع: الإصابة (3/ 537)، والأعلام (6/ 58)، والقاموس «نبغ» .
(4)
التذييل (4/ 20) بغير ذكر لابن أبي الربيع.
(5)
،
(6)
سورة الأعراف: 38.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المعنى: قال ادخلوا في أمم خالية كائنة في النار؛ فليس (فى النار)(1) من متعلقات (ادخلوا)(2). وأما قوله تعالى: وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ (3) فـ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ في موضع الحال من الضمير المضاف إليه (سيئات؛) المعنى: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم كائنين في أصحاب الجنة.
فأفادت «في» الظرفية المجازية؛ لأنهم لشدة اختلاطهم بهم جعلوا منهم. ومجيء الحال من المضاف إليه هنا كمجيئها منه في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (4)؛ لأن التجاوز عن سيئاتهم تجاوز عنهم فكأنه قيل: ونتجاوز عنهم. وأما قوله تعالى: حَقَّ (5) عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ (6) فيقال فيه ما قيل في قوله تعالى: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ (7). والحاصل: أن «في» مستعملة فيه في الظرفية المجازية. وأما قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ (8) فالظرفية ظاهرة والجار والمجرور في موضع الحال المعنى: فخرج على قومه كائنا في زينته.
ونظير هذا قوله تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ (9)، والعرب تقول: جاء زيد في أصحابه وعشيرته أي: كائنا فيهم وعلى هذا يخرّج البيتان اللذان أنشدهما، وهما:
2502 -
كحلاء في برج
و:
2503 -
شموس ودود في حياء وعفّة
وأما التعليل فلم يذكره المغاربة، والظاهر ثبوته؛ فإن الدلائل التي استدل بها المصنف على هذا المعنى لا تدفع ولا يظهر في شيء منها معنى الظرفية. وأما المقايسة فقد عرفت معناها الذي فسرها به المصنف وعرفت استدلاله على [4/ 6] ذلك.
والذي يظهر في ما استدل به القول بالظرفية؛ لأن المعنى في الآية الشريفة: إن متاع الدنيا بتقدير جعله في الآخرة
قليل، والمعنى في الحديث الشريف: إنكم لو أدخلتم في سواكم من الأمم لكنتم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وكذا يقال في قول الخضر لموسى صلى الله عليه وسلم، وكذا يقال في البيتين اللذين أنشدهما. -
(1) و (2) سورة الأعراف: 38.
(3)
سورة الأحقاف: 16.
(4)
سورة النحل: 122.
(5)
في الأصل: و «حق» ، وهو تحريف.
(6)
سورة الأحقاف: 18.
(7)
سورة الأعراف: 38.
(8)
سورة القصص: 79.
(9)
سورة الذاريات: 29.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأما موافقة «على» : فقد عرفت ما استدل به المصنف على ذلك من قوله تعالى:
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ (1)، ولكن المغاربة لما ذكروا أن «في» تفيد الظرفية المعنوية أي: المجازية قالوا: ومن ذلك قوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ؛ لأن تمكن المصلوب من الجذع الذي صلب فيه صيّره كالوعاء له والظرف. قالوا ومنه قول الشاعر:
2504 -
بطل كأنّ ثيابه في سرحة
قال ابن أبي الربيع: وذكر القتبي (2) أن «في» تكون مكان «على» تقول:
لا تدخل الخاتم في أصبعي، أي: على أصبعي وقال تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي: عليها. قال: وهذا يرجع إلى ما ذكرت من الظرفية؛ لأنه إذا صلب على الجذع فهو في الجذع، وكذلك الخاتم إذا دخل على الأصبع فهو فيه بلا شك.
ومما استدل به قول العرب: نزلت في أبيك، أي: على أبيك. وأجيب عنه بأن المراد: نزلت في كنف أبيك وظلّه (3)، وأما موافقة الباء فقد استدل المصنف على ذلك بقوله تعالى: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ (4) واستدل أيضا بقول الشاعر:
2505 -
وكلّهم في حبال الغيّ منقاد
وبقول الآخر:
2506 -
بصيرون في طعن الأباهر والكلى
وقول الآخر:
2507 -
وخضخض فينا البحر حتّى قطعنه
فأما الآية الشريفة فليس فيها دلالة قاطعة على أن «في» بمعنى الباء. وقد قال الزمخشري (5): (يذرؤكم) يكثركم فيه، أي: في هذا التدبير، وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، ثم قال: فإن قلت: ما معنى «يذرؤكم» في هذا التدبير، وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير؛ ألا تراك تقول: للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (6). انتهى.
فانظر إلى هذا الرجل كيف يهديه الله تعالى إلى سبيل الرشاد، ويطلعه على -
(1) سورة طه: 71.
(2)
التذييل (4/ 21).
(3)
المصدر السابق.
(4)
سورة الشورى: 11.
(5)
في الكشاف له (4/ 166).
(6)
سورة البقرة: 179، والكشاف (4/ 166).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأسرار، وينطق لسانه بما فيه الحكمة والصواب. وبهذا المعنى الذي قرّره يظهر لك التفاوت بين في، والباء في هذا المحل؛ لأن الباء لا تفيد ما أفادته في حق كون هذا التدبير كالمنبع والمعدن وإنما تفيد السببية لا غير. وأما قول الشاعر:
2508 -
وكلهم في حبال الغيّ منقاد
فيمكن أن يقال فيه: «في حبال الغيّ» ليس متعلقا بـ «منقاد» حتى تكون «في» بمعنى الباء، وإنما «في حبال الغيّ» في موضع الحال من الضمير المستكن في «منقاد»؛ التقدير: وكلهم منقاد كائنا في حبال الغيّ، وهذا المعنى أبلغ؛ فإنه يفيد استمرارهم في حبال الغيّ مع كونهم منقادين، أما إذا جعلنا «في» بمعنى الباء فيصير التقدير: إنهم منقادون بحبال الغيّ، يعنى: أنهم إذا حصل لهم انقياد ينقادون بحبال الغيّ، وإذا لم يحصل لهم انقياد فقد تفارقهم الحبال.
وأما قول الآخر:
2509 -
بصيرون في طعن الأباهر والكلى
فـ «بصيرون» ضمن معنى ماهرون، أو متقدمون على غيرهم في ما ذكر؛ لأن البصير بالشيء ماهر فيه، ومتقدم فيه على غيره. قال ابن أبي الربيع: وفي جعل «في» في هذا الموضع فائدة ليست للباء لو ذكرت؛ لأنه لو قال: بصيرون بهذا؛ لم يقتض أكثر من العلم به، وقد يكون بصيرا به فإذا كان وفيه ذهل خاطره عن ذلك لما هناك من الشدة فوصفهم بأنهم مع معرفتهم بأن الطعن في الأباهر والكلى أعظم الطعن ثابتو الخواطر عند الطعان، و «في» تقتضي ثبوت خواطرهم (1).
وأما قول الأعشى:
2510 -
ربّي كريم ما يكدر نعمة
…
وإذا تنوشد في المهارق أنشدا (2)
فقال ابن عصفور: «في المهارق» في موضع الحال والمجرور الذي يطلبه «تنوشد» محذوف؛ التقدير: وإذا تنوشد بكلام الله تعالى في المهارق «أنشدا» أي: أجاب (3). -
(1) التذييل (4/ 21) من غير تعيين القائل.
(2)
البيت من الكامل، والمهارق جمع مهرق: الصحف، وقيل: حرير يصمغ ثم يكتب فيه، وأنشده:
أجاب طلبه، وفي الأصل: وفي، بدل «ربي» وهو تحريف. والبيت في ديوان الأعشى (ص 229) برواية:«لا يكدر» بدل «ما يكدر» .
(3)
التذييل (4/ 21) دون ذكر لابن عصفور.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال ابن أبي الربيع: و «في» لها معنى هنا لا تقتضيه الباء؛ وذلك أنه لو قال:
حلف بالمصحف؛ لم يقتض أن المصحف أحضر له عند اليمين، وإذا قال: حلف في المصحف اقتضى أنه أحضر له
عند اليمين (1)، وأما:
2511 -
وخضخض فينا البحر
…
فعلى حذف مضاف؛ التقدير: وخضخض في سيرنا البحر. وقد ذكر غير المصنف أن «في» تكون أيضا بمعنى «إلى» ، وبمعنى «من» (2)، واستدل على الأول بقوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ (3) قيل: التقدير: إلى أفواههم، وعلى الثاني بقول امرئ القيس:
2512 -
وهل يعمن من كان أحدث عهده
…
ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال (4)
قال ابن عصفور: «وأما الآية الشريفة فقد فسرت على معنيين كلاهما «في» باقية فيه على بابها:
أحدهما: أن يراد بالأيدي الجوارح، والمعنى على ذلك: ردوا أيديهم في أفواههم وعضوا أناملهم من الغيظ كما قال تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ (5)، ومحال أن يعضوا أناملهم بأفواههم إلا بعد إدخالها في الأفواه.
والآخر: أن يراد بالأيدي النعم ويعني بذلك ما بلغهم الرسل صلوات الله تعالى عليهم عن الله تعالى من الأمر بما فيه خير لهم، والنهي عما فيه شرّ لهم؛ لأن ذلك نعمة فلما لم يقبلوا كلام الرسل صاروا كأنهم ردوا كلامهم في أفواههم، والعرب [4/ 7] تقول: ردّ كلام فلان في فيه؛ إذا لم يقبل منه. وأما بيت امرئ القيس فحمله ابن جني (6) على حذف مضاف، والتقدير عنده: في عقب ثلاثة أحوال فتكون «في» للوعاء على بابها. -
(1) المصدر السابق أيضا.
(2)
هم الكوفيون والقتبي والأصمعي، وراجع التذييل (4/ 22).
(3)
سورة إبراهيم: 9.
(4)
من الطويل، يريد: كيف ينعم من كان أقرب عهده بالنعيم ثلاثين شهرا من ثلاثة أحوال. وانظر ديوانه (ص 27) والأشموني (2/ 219)، والدرر (2/ 26)، والهمع (2/ 30).
(5)
سورة آل عمران: 119.
(6)
في الخصائص (2/ 313)، وراجع المغني (ص 169).