الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مذ، منذ، رب: لغاتها، ومعانيها، وأحكامها]
قال ابن مالك: (ومنها: «مذ، ومنذ» ، وقد ذكرا في باب الظروف.
ومنها: «ربّ» ويقال: رب وربّت ورب وربّت وربت وربّ ورب وربت وليست اسما خلافا للكوفيين والأخفش في أحد قوليه، بل هي حرف تكثير وفاقا لسيبويه، والتقليل بها نادر ولا يلزم وصف مجرورها خلافا للمبرد، ومن وافقه، ولا مضيّ ما تتعلّق به بل يلزم تصديرها وتنكير مجرورها، وقد يعطف على مجرورها وشبهه مضاف إلى ضميريهما، وقد تجرّ ضميرا لازما تفسيره بمتأخر منصوب على التّمييز مطابق للمعنى ولزوم إفراد الضمير
وتذكيره عند تثنية التمييز وجمعه وتأنيثه أشهر من المطابقة).
ــ
الكتاب العزيز، وأنشدوا شاهدا عليه أيضا قول الشاعر:
2637 -
وأعلم أنّني عمّا قريب
…
سأنشب في شبا ظفر وناب (1)
قالوا: وإذا كانوا قد زادوا ما بين المضاف والمضاف إليه مع شدة الاتصال بينهما؛ لأنه كالجزء منه فلأن يزيدوها بين حرف الجر والمجرور أولى، ومنه قول القائل:
2638 -
مساعير ما حرب وإيسار شتوة
…
إذا الريح ألوت بالكنيف المستّر (2)
وقول الآخر:
2639 -
من غير ما فحش يكون بهم
…
في منتج المهرات والمهر (3)
قال ناظر الجيش: قال المصنف (4): قد بينت في باب المفعول فيه أن من جملة أسماء الزمان المبنية «مذ، ومنذ» إذا وليهما مرفوع أو جملة، وأنهما يكونان حرفي جر واستوفيت القول بما أغنى عن مزيد فليعلم ذلك.
ومن حروف الجر «ربّ» : وفيها عشر لغات: أربع بتشديد الباء، وست -
(1) من الوافر لامرئ القيس، يريد أنه سيموت كما مات أبوه وأجداده، وشبا كلّ شيء: حدّه - ديوانه (ص 100) برواية «قليل» بدل «قريب» ، والدرر (2/ 40)، والهمع (2/ 37).
(2)
البيت من الطويل وانظره في التذييل (4/ 35).
(3)
من الكامل للخرنق بنت بدر بن هفان - ديوانها (ص 31) والشاهد فيه: زيادة «ما» بين المضاف «غير» والمضاف إليه «فحش» كسابقه.
(4)
شرح التسهيل (3/ 175).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بتخفيفها، وقد ذكرت. وهي حرف عند البصريين، واسم عند الكوفيين والأخفش (1) في أحد قوليه. وحرفيتها أصح؛ لخلوها من علامات الأسماء اللفظية والمعنوية ولمساواتها (الحرف)(2) في الدلالة على معنى في مسمى غير مفهوم جنسه بلفظها بخلاف أسماء الاستفهام والشرط فإنها تدل على معنى في مسمى مفهوم بلفظها. ومقتضى هذا التقدير أن تكون «كم» حرفا لكن اسميتها ثابتة بالعلامات اللفظية وهي الإضافة إليها، ودخول حرف
الجر عليها، والابتداء بها، وإيقاع الأفعال عليها، وعود الضمير إليها. واستدل الكوفيون على اسميتها بقول الشاعر:
2640 -
إن يقتلوك فإنّ قتلك لم يكن
…
عارا عليك وربّ قتل عار (3)
فزعموا أن «رب» مبتدأ وعار خبره والصحيح أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لـ «قتل» والتقدير: وربّ قتل هو عار، وأكثر النحويين يقولون: معنى «رب» التقليل. قال أبو العباس: «رب» تبني عمّا وقعت عليه أنه قد كان، وليس بالكثير؛ فلذلك لا تقع إلا على نكرة؛ لأن ما بعدها يخرج مخرج التمييز (4).
وقال ابن السراج: النحويون كالمجمعين على أنّ «ربّ» جواب لما تقول: رب رجل عالم، لمن قال لك: ما رأيت رجلا عالما، أو قدرت أنه يقول
…
؛ فضارعت حرف النفي؛ إذ كان يليه الواحد المنكور وهو يراد به الجماعة (5). وقال ابن السراج أيضا: رب حرف جر وكان حقه أن يكون بعد الفعل موصّلا له إلى المجرور كأخواته، ولكن لما كان معناه التقليل وكان لا يعمل إلا في نكرة صار مقابلا لـ «كم» إذا كانت خبرا فجعل له صدر الكلام كما جعل لـ «كم» (6)، وقال الزمخشري في المفصّل:
«رب» للتقليل (7)، وجعلها في الكشاف للتكثير (8). قلت: والصحيح أن معنى «رب» التكثير، ولذا تصلح «كم» في كل موضع وقعت فيه غير نادر كقول الشاعر: -
(1) معاني القرآن له (1/ 250) أول سورة الحجر.
(2)
الأصل: «الحروف» .
(3)
من الكامل لثابت قطنة يرثي يزيد بن المهلب، وانظر: الدرر (1/ 73) والمقتضب (3/ 66)، والمقرب (1/ 220).
(4)
ينظر: المقتضب (2/ 48)، (4/ 139، 289).
(5)
الأصول (1/ 333).
(6)
السابق (1/ 332).
(7)
المفصل بشرح ابن يعيش (8/ 26).
(8)
في الكشاف (10/ 151)، (2/ 13)، (3/ 205، 206) أنها للتكثير وفي (2/ 443، 444) للتقليل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2641 -
ربّ من أنضجت غيظا صدره
…
قد تمنّى لي موتا لم يطع (1)
وكقول الآخر:
2642 -
ربّ رفد هرقته ذلك اليو
…
م وأسرى من معشر أقتال (2)
وكقول الآخر:
2643 -
ربّما تكره النّفوس من الأم
…
ر له فرجة كحلّ العقال (3)
وكقول حسان رضي الله عنه:
2644 -
ربّ حلم أضاعه عدم الما
…
لـ وجهل غطّى عليه النّعيم (4)
وكقول الآخر:
2645 -
وربّ امرئ ناقص عقله
…
وقد يعجب النّاس من شخصه
وآخر تحسبه أحمقا
…
ويأتيك بالأمر من فصّه (5)
وكقول ضابئ البرجمي:
2646 -
وربّ أمور لا تضيرك ضيرة
…
وللقلب من مخشاتهنّ وجيب (6)
وكقول عدي بن زيد:
2647 -
ربّ مأمول وراج أملا
…
قد ثناه الدّهر عن ذاك الأمل (7)
-
(1) من الرمل لسويد بن أبي كاهل، وانظره في أمالي الشجري (2/ 169)، والخزانة (2/ 546)، (3/ 119)، والدرر (1/ 69)، (2/ 19) برواية «قلبه» بدل «صدره» ، وشرح المفصل (4/ 11)، والمغني (328)، والهمع (1/ 92)، (2/ 26)، هذا: وفي الأصل: «يتمنى» ، وهو تحريف.
(2)
من الخفيف للأعشى، والرفد: القدح الضخم، ويكنى بإراقة الرفد عن الموت، وأقتال: جمع قتل وهو العدو وانظر ديوانه (ص 13)
وأمالي القالي (1/ 90)، والعيني (2/ 251)، والمغني (ص 587)، والهمع (1/ 9).
(3)
من الخفيف لأمية بن أبي الصلت ديوانه (ص 50) وانظر الأشموني (1/ 154)، والخزانة (2/ 541) وشرح المفصل (4/ 2)، (8/ 30)، والكتاب (1/ 270، 362)، والهمع (1/ 8، 92).
(4)
البيت في ديوان حسان (ص 378) ومعناه جليّ.
(5)
البيتان من المتقارب، وروايتها في اللسان بغير نسبة، وفيهما حكمة واضحة.
(6)
من الطويل، وفي اللسان: وجب القلب يجب وجبا ووجيبا ووجوبا ووجبانا: خفق واضطرب، وقال ثعلب: وجيبا فقط، والبيت في الدرر (2/ 201).
(7)
البيت من الرمل، ومعناه وشاهده واضحان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهذا الذي أشرت إليه [4/ 24] من أن معنى «رب» التكثير هو مذهب سيبويه (1) رحمه الله تعالى، وقال ابن خروف: وذكر سيبويه في باب «كم» أن «رب» للتكثير، وذكر ذلك غيره من اللغويين. واستعمالها على ذلك موجود كثير (2)، قلت: فمن كلامه الدال على ذلك قوله في باب «كم» : اعلم أن لـ «كم» موضعين:
أحدهما: الاستفهام.
والآخر: الخبر.
ومعناها معنى «ربّ» (3). ثم قال بعد ذلك في الباب: واعلم أن «كم» في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه «رب» ؛ لأن المعنى واحد إلا أن «كم» اسم، و «رب» غير اسم (4). هذا نصه ولا معارض له في كتابه.
فعلم أن مذهبه كون «رب» مساوية لـ «كم» الخبرية في المعنى. ولا خلاف في أن معنى «كم» الخبرية التكثير، والذي دلّ عليه كلام سيبويه من أن معنى «رب» التكثير هو الواقع غير النادر من كلام العرب نثره ونظمه. فمن النظم الأبيات التي قدمت ذكرها، ومن النثر قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يا ربّ كاسية في الدّنيا عارية يوم القيامة» (5)، و «ربّ أشعث أغبر لا يؤبه له لو (أقسم) (6) على الله لأبرّ قسمه» (7)، ومنه قول الأعرابي الذي سمعه الكسائي يقول بعد الفطر: ربّ صائمه لن يصومه وربّ قائمه لن يقومه (8)، وقال الفراء: يقول القائل إذا أمر فعصي: أما والله لرب ندامة لك تذكر قولي فيها (9). وقولي: والتعليل بها نادر؛ أشرت به إلى قول الشاعر:
2648 -
ألا ربّ مولود وليس له أب
…
وذي ولد لم يلده أبوان (10)
-
(1) الكتاب (2/ 161).
(2)
الارتشاف (ص 735).
(3)
الكتاب (2/ 156).
(4)
الكتاب (2/ 161).
(5)
عن ابن شهاب، وانظر: البخاري: علم (40)، وفتن:(6)، وموطأ مالك: اللباس (8).
(6)
من هامش المخطوط.
(7)
عن أبي هريرة - صحيح مسلم: الجنة ونعيمها وأهلها (48)، بر (138)، والنهاية (2/ 478)«شعث» .
(8)
ينظر: الأشموني (2/ 230)، والتصريح (2/ 18)، وشواهد التوضيح (ص 106)، والمغني (ص 134).
(9)
الأشموني (2/ 231، 232) والهمع (2/ 27، 28).
(10)
من الطويل لعمرو الجنبي، أو رجل من أزد السراة، وانظر: التصريح (2/ 18)، والخصائص (2/ 233)، والعيني (3/ 354)، والكتاب (1/ 341)، (2/ 258)، والمقرب (1/ 199).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يريد آدم وعيسى عليهما السلام، ومثله قول عمرو بن الشريد أخي الخنساء (1):
2649 -
وذي إخوة قطّعت أقران بينهم
…
كما تركوني واحدا لا أخا ليا (2)
ومثله:
2650 -
ويوم على البلقاء لم يك مثله
…
على الأرض يوم في بعيد ولا دان (3)
أراد بـ «ذي إخوة» زيد بن حرملة قاتل أخيه معاوية بن الشريد، وأراد الآخر:
يوما كان فيه وقعة بين غسان ومذحج في موضع يعرف بالبلقاء. وقول المبرد: ربّ تبني عما وقعت عليه أنه قد كان هذا هو الأكثر، وأما كون ذلك لازما لا يوجد غيره فليس بصحيح؛ بل قد يكون مستقبلا كقول جحدر اللص:(4).
2651 -
فإن أهلك فربّ فتى سيبكي
…
عليّ مهذّب رخص البنان (5)
وكقول هند أم معاوية (6) رضي الله تعالى عنها:
2652 -
يا ربّ قائلة غدا
…
يا لهف أمّ معاويه (7)
وكقول سليم القشيري:
2653 -
ومعتصم بالحيّ من خشية الرّدى
…
سيردى وغار مشفق سيؤوب (8)
وقال الراجز:
2654 -
يا ربّ يوم لي لا أظلّله
…
أرمض من تحت وأضحى من عله (9)
-
(1) تماضر بنت عمرو بن الشريد من مضر من أهل نجد، أدركت الجاهلية والإسلام وأسلمت، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه شعرها (ت: 24 هـ) وراجع: الأعلام (2/ 69)، والشعراء والشعراء (1/ 323).
(2)
البيت من الطويل، وانظره في: التذييل (7/ 80 / أ).
(3)
من الطويل، والشاهد فيه كسابقه.
(4)
جحدر بن ضبيعة بن قيس البكري الجاهلي، وقيل: اسمه ربيعة ولقبه جحدر، وكان قبل الإسلام بنحو مائة سنة، وراجع: الأعلام (2/ 103)، وجمهرة الأنساب (ص 301).
(5)
من الوافر وانظر السمط (ص 617) والمغني (1/ 121) وله فيه قصة.
(6)
هند بنت عتبة بن ربيعة، صحابية قريشية فصيحة، لها رأي وحزم، وحرضت على قتال الروم، وأخبارها كثيرة (ت: 14 هـ) وراجع: الروض الأنف (2/ 277).
(7)
من الكامل، وانظره في: الدرر (2/ 22)، والمغني (1/ 122)، والهمع (2/ 28).
(8)
من بحر الطويل، وشاهده: مجيء «ما» بعد «ربّ» مستقبلا؛ بدليل قوله: «سيردى» .
(9)
رجز لأبي ثروان، وانظر: التصريح (2/ 346)، وشرح المفصل (4/ 87)، والمغني (ص 134) والهمع (2/ 210).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال آخر:
2655 -
يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم
…
لاقى مباعدة منكم وحرمانا (1)
ولا مبالاة بقول المبرد ولا بقول ابن السراج؛ فإنهما لم يستندا في ذلك إلا إلى مجرد الدعوى، ولو لم يكن غير ما ادعياه مسموعا لكان مساويا لما ادعاه في إمكان الأخذ به، فكيف وهو ثابت بالنقل الصحيح في الكلام الفصيح؟! وقد يكون ما وقعت عليه «ربّ» حالا كقولك لمن قال: ما في وقتنا امرؤ مستريح: رب امرئ في وقتنا مستريح، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
2656 -
فقمت ولم تعلم عليّ خيانة
…
ألا ربّ باغي الرّبح ليس برابح (2)
ومثله:
2657 -
ألا ربّ من تغتشّه لك ناصح
…
ومؤتمن بالغيب غير أمين (3)
وقد هدي الزمخشريّ إلى الحق في معنى «ربّ» فقال في تفسير قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ (4): قَدْ نَرى ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية (5) وقال في قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ (6) بمعنى ربّما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته (7)، وقال في قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ (8): أدخل (قد) لتوكيد علمه بما هم عليه؛ وذلك أن (قد) إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» ، فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في قوله:
2658 -
فإن تمس مهجور الفناء فربّما
…
أقام به بعد الوفود وفود (9)
فكلامه هذا سديد أداه إليه ترك التقليد، وقال في رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ -
(1) من البسيط، لجرير، ديوانه (ص 492)، والعيني (3/ 364)، والكتاب (1/ 212)، والمقتضب (3/ 227)، (4/ 150، 289)، والهمع (2/ 47).
(2)
من الطويل ورواية الديوان (ص 464): «فمتّ» بدل «فقمت» .
(3)
من الطويل، وانظر الأساس: غشش، والأشموني (1/ 154)، والدرر (1/ 69)، (2/ 21، 43)، والكتاب (1/ 271)، واللسان «غشش» ، والهمع (1/ 92)، (2/ 28، 39).
(4)
سورة البقرة: 144.
(5)
الكشاف (1/ 151).
(6)
سورة الأنعام: 33.
(7)
الكشاف (2/ 13).
(8)
سورة النور: 64.
(9)
من الطويل، وانظره في: الخزانة (4/ 167)، وشرح المرزوقي على الحماسة (2/ 800)، والكشاف (3/ 205، 206)، ومراتب النحويين (ص 93).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كانُوا مُسْلِمِينَ (1): فإن قلت: ما معنى التقليل هاهنا؟ قلت: هو وارد على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك، وربما يندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل؛ لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون كما يتحرزون من الغم المتيقن، ومن القليل منه كما يتحرزون من الكثير وكذلك المعنى في الآية الشريفة: لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لكانوا حقيقين بالمسارعة إليه فكيف وهم يودونه في كل ساعة (2). قلت: في هذا الكلام ما يناقض كلامه في قَدْ نَرى (3) وقَدْ نَعْلَمُ (4) وقَدْ يَعْلَمُ (5) من دلالة «ربما» على التكثير؛ لأنه نسب إليها هنا التقليل، وتكلف في تخريجه ما لا حاجة إليه، ولا دلالة عليه، ثم اعترف بقول العرب: ربما يندم الإنسان على ما فعل، وبأنهم لا يقصدون تقليله فهو حجه عليه، وعلى من وافقه.
وأظنه في هذا التأويل قلّد ابن السراج فإنه قال: قالوا في قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ بأنه لصدق الوعدة كأنه قد كان (6) كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ (7). والصحيح عندي: أن «إذ» قد يراد بها الاستقبال كما يراد بها المضي؛ فمن ذلك قوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ (8)، وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (9) فأبدل يَوْمَئِذٍ من «إذا» فلو لم تكن «إذ» صالحة للاستقبال ما أبدل «يوم» المضاف [4/ 25] إليها من «إذا» ؛ فإنها لا يراد بها إلا الاستقبال.
والمبرد، وابن السراج، والفارسي، وابن خروف (10) يرون وجوب وصف المجرور بـ «ربّ» وقلّدهم في ذلك أكثر المتأخرين مع أنه خلاف مذهب سيبويه (11). -
(1) سورة الحجر: 2.
(2)
الكشاف (2/ 443، 444).
(3)
سورة البقرة: 144.
(4)
سورة الأنعام: 33.
(5)
سورة النور: 64.
(6)
في الأصل: قال.
(7)
سورة سبأ: 51، وانظر: الأصول لابن السراج (1/ 335).
(8)
سورة غافر: 70، 71.
(9)
سورة الزلزلة: 4.
(10)
ينظر: الأصول (1/ 334)، والتذييل (4/ 37)، والمقتضب (4/ 139، 150، 289).
(11)
راجع: الكتاب (1/ 427)، (2/ 274).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا حجة لهم إلا شبهتان:
إحداهما: أن «رب» للتقليل، والنكرة بلا صفة فيها تكثير بالشياع والعموم، ووصفها يحدث فيها التقليل بإخراج الحالي منه، أي: من الوصف فلزم الوصف لذلك.
والشبهة الثانية: أن قول القائل: ربّ رجل عالم لقيت، ردّ على من قال: ما لقيت رجلا عالما؛ فلو لم يذكر الصفة لم يكن الرد موافقا، وفي كلتا الشبهتين ضعف بيّن.
أما ضعف الأولى؛ فلترتيبها على «ربّ» للتقليل، وقد سبق أنها للتكثير، وعلى تقدير أنها للتقليل فإن النكرة دون وصف صالحة أن يراد بها العموم فيكون فيها تكثير، وأن يراد بها غير العموم فيكون فيها تقليل. فإذا دخلت عليها «ربّ» على تقدير وضعها للتقليل أزالت احتمال التكثير كما يزول احتمال التقليل بـ «لا، ومن» الجنسيتين، فإن وصفت بعد دخول «ربّ» ازداد التقليل، فإن كان المطلوب زيادة التقليل لا مطلقه فينبغي أن لا يقتصر على وصف واحد؛ لأن التقليل يزيد بزيادة الأوصاف.
وأما الشبهة الثانية؛ فضعفها أيضا بيّن؛ لأن مرتبه على أن «ربّ» لا يكون إلا جوابا، وعلى أن الجواب يلزم أن يوافق المجاب وكلا الأمرين غير لازم بالاستقراء.
والصحيح: أنها تكون جوابا وغير جواب، وإذا كانت جوابا فقد تكون جواب موصوف، وجواب غير موصوف فيكون لمجرورها من الوصف وعدمه ما للمجاب فيقال لمن قال: ما رأيت رجلا: رب رجل رأيت، ولمن قال: ما رأيت رجلا عالما: رب رجل عالم رأيت، وإذا لم يكن جوابا فللمتكلم بها أن يصف مجرورها، وأن لا يصفه.
ومن وقوعه غير موصوف قول أم معاوية رضى الله تعالى عنه:
2659 -
يا ربّ قائلة غدا
…
يا لهف أمّ معاويه (1)
ومثله:
2660 -
ألا ربّ مأخوذ بإجرام غيره
…
فلا تسأمن هجران من كان مجرما (2)
ومثله:
2661 -
ربّ مستغن ولا مال له
…
وعظيم الفقر وهو ذو نسب (3)
-
(1) تقدم.
(2)
من الطويل، وانظره في: الدرر (2/ 22)، والهمع (2/ 28).
(3)
البيت بغير نسبة في التذييل (4/ 38) وفي الأصل: «نشب» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والذي يدل على أن وصف مجرورها لا يلزم عند سيبويه تسويته إياها بـ «كم» الخبرية (1). ووصف مجرور كم الخبرية لا يلزم فكذا وصف ما سوّي بها.
ومن كلامه المتضمن استغناء مجرورها قوله في باب الجر: وإذا قلت: رب رجل يقول ذاك؛ فقد أضفت القول إلى الرجل بـ «رب» (2). فبصريحه يكون «يقول» مضافا إلى الرجل بـ «رب» مانع كونه صفة؛ لأن الصفة لا تضاف إلى الموصوف وإنما يضاف العامل إلى المعمول فـ «يقول» إذا عامل في «رجل» بواسطة «رب» كما كان «مررت» من: مررت بزيد؛ عاملا في «زيد» بواسطة الباء، وكما كان («أخذت» من: أخذته من عبد الله) (3) عاملا في «عبد الله» بواسطة «من» ، وهما من أمثلة سيبويه في باب الجر، وقال فيهما: وإنما أضفت المرور إلى «زيد» بالباء، وقال أيضا: فقد أضفت الأخذ إلى «عبد الله» بـ «من» فجعل نسبة «مررت» من «بزيد» ، ونسبة «أخذت» من «عبد الله» كنسبة «يقول» من «رب رجل» .
وفي تمثيله بـ «رب» رجل يقول ذاك، وجعله «يقول» معدى إلى «رجل» بواسطة «ربّ» دليل على أن مضمون ما دخلت عليه «رب» يجوز استقباله.
ولا يلزم مضيه، وقد تقدمت شواهد ذلك؛ إلا أن في هذا المثال إشكالا بيّنا؛ وذلك أن ظاهره يقتضي جواز أن يقال: من زيد عجب؛ إذا عجب من نفسه، وهو غير جائز بإجماع؛ لأن فيه إعمال فعل رافع ضمير متصل في مفسره، وذلك ممتنع دون خلاف. وقد أخذ أكثر الناس هذا المثال على ظاهره فمنهم من خطأ فيه سيبويه، ومنهم من صوبه وتكلف تأويله، وأحسنهم مأخذا في التأويل أبو الحسن بن خروف؛ فإنه قال: فقول سيبويه: فقد أضفت القول إلى الرجل بـ «رب» (4)؛ كلام حسن، وهو كقوله: فقد أضفت الكينونة إلى الدار بـ «في» ، وكقوله: فقد أضفت إليه الرداءة بـ «في» (5) يعني قوله: أنت في الدار، وفيك خصلة سوء؛ فـ «رب» أوصلت القول إلى قليل الرجال وكثيرهم، كما أوصلت «في» الكينونة إلى الدار، -
(1) ينظر: الكتاب (2/ 156 - 161).
(2)
الكتاب (1/ 421)، وفي الأصل:«ذلك» بدل «ذاك» .
(3)
في الأصل: «أحدث من أحدثه من عند الله» وهو تحريف بيّن.
(4)
الكتاب (1/ 421).
(5)
الكتاب (1/ 421).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
واستقرار الرداءة إلى المخاطب، وموضع المخفوض بـ «رب» مبتدأ و «بقول» خبره، فكأنه على تقدير: كثير من الرجال يقول ذلك. ولا يخفى ما في هذا من التكلف.
وقد يسر لي بحمد الله تعالى تخريجه بوجه لا تخطئة فيه ولا تكلف. وذلك بأن يجعل «يقول» مضارع «قال» بمعنى: فاق في المقاولة، ويجعل ذلك فاعلا أشير به إلى مرئي أو مذكور، كأنه قال: رب رجل يفوق ذلك في المقاولة؛ فهذا التخريج يؤمن الخطأ والتكلف، ويثبت استغناء مجرور «ربّ» عن الوصف، وكون ما دخلت عليه لا يلزم مضيه بل يجوز كونه مستقبلا وحالا.
ومنع ابن السراج استقباله وأجاز حاليته؛ فإنه قال: ولا يجوز: رب رجل سيقوم وليقومن غدا، إلا أن تريد: رب رجل يوصف بهذا تقول: رب رجل مسيء اليوم محسن غدا، أي: يوصف بهذا (1). والصحيح: جوازهما إلا أن المضي أكثر، قال ابن خروف: والمتأخرون مختلفون في «ربّ» ؛ منهم من تبع المبرد على مذهبه كابن السراج والفارسي، وهو فاسد؛ لأنه ألزم مخفوضه [4/ 26] الصفة وحذف ما يتعلق به وأن لا يدل إلا على التقليل ولا يفتقر إلى الصفة كما زعموا؛ لأن معنى التقليل والتكثير الذي دلت عليه يقوم مقام وصف مخفوضها كما كان ذلك في
«كم» ، ولذلك قلت: كم غلام عندك؛ فابتدأت بنكرة؛ يعني أن ما دلت عليه «كم» من التكثير سوغ الابتداء بها مع أنها نكرة.
ونبهت بقولي: (وقد يعطف على مجرورها وشبهه مضاف إلى ضميريهما) على أنه قد يقال: رب رجل وأخيه رأيت، وكم ناقة وفصيلها ملكت؛ على تقدير: رب رجل وأخ له، وكم ناقة وفصيل لها. ثم نبهت على أن المجرور بها قد يكون ضميرا لازما تفسيره بمميز مؤخر مطابق للذي يقصده المتكلم من إفراد وتذكير وغيرهما، وأن الضمير على أشهر المذهبين لا يكون إلا بلفظ الإفراد والتذكير فيقال: ربّه رجلا، وربّه رجلين، وربه رجالا، وربّه امرأة وربّه نسوة، ومثال «ربه رجلا» قول الشاعر:
2662 -
ربه امرأ بك نال أمنع عزّة
…
وغنى بعيد خصاصة وهوان (2)
ومثال «ربه رجالا» قول الآخر: -
(1) الأصول لابن السراج (1/ 511) تحقيق/ عبد الحسين الفتلي (1973).
(2)
من الكامل، وانظره في الدرر (2/ 20)، والهمع (2/ 27).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2663 -
ربه فتية دعوت إلى ما
…
يورث المجد دائبا فأجابوا (1)
وحكى الكوفيون: ربهما رجلين، وربهم رجالا، وربها امرأة، وإلى هذا الوجه والذي قبله أشرت بقولي:(ولزوم إفراد الضمير وتذكيره عند تثنية التمييز وجمعه وتأنيثه أشهر من المطابقة). انتهى كلام المصنف رحمه الله تعالى (2).
وهو كما قيل وليعلم أن الكلام يتوجه في «رب» من عشر جهات:
الأولى: ذاتها؛ أهي حرف، أم اسم؟
الثانية: معناها؛ هل للتكثير، أو التقليل؟
الثالثة: وصف مجرورها؛ أهو لازم، أم غير لازم؟
الرابعة: معنى ما يتعلق بها؛ أهو لازم أم غير لازم؟
الخامسة: تنكير مجرورها مع لزوم تصديرها.
السادسة: مباشرتها الضمير المجهول المفسر بتمييز بعده.
السابعة: حكم «ما» اللاحقة لها، وحكم «رب» معها.
الثامنة: ما يليها من الجمل إذا لحقتها «ما» وكفّتها عن العمل.
التاسعة: عملها محذوفة.
العاشرة: متعلقها أي: ما تتعلق «ربّ» به، وموضعها مع الاسم المجرور بها.
ثم إن الست الأول ذكرها المصنف هنا - أعني في فصل «رب» - والسابعة قد ذكرها آنفا عند ذكره زيادة «ما» بعد كاف الجر، والتاسعة: وهي عملها محذوفة سنذكرها في الفصل بعيد ما نحن فيه، وأما الثامنة وهي ما يليها من الجمل إذا كفتها «ما» فلم يحتج المصنف إلى ذكره؛ لأنه يرى أن يليها كل من الجملة الفعلية والاسمية.
و [أما] العاشرة: وهي ما تتعلق به، وموضعها مع المجرور بها؛ فلم يتعرض المصنف إليها.
وبعد: فأنا أشير إلى الجهات المذكورة جهة جهة، وأذكر ما يتعلق بها من المباحث التي لم يتضمنها كلام المصنف. -
(1) من الخفيف، ودائبا: إيراثا دائما، وانظره في: الأشموني (2/ 60، 208)، والتصريح (2/ 4)، والدرر (2/ 20)، وشرح شواهد الشذور (ص 49)، والهمع (2/ 47).
(2)
شرح التسهيل لابن مالك (3/ 184).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وبعد: فأما كونها حرفا؛ فقد عرفت أنه مذهب البصريين؛ وأن القائل باسميتها هم الكوفيون، والأخفش في أحد قوليه، وتقدم استدلال المصنف على الحرفية والجواب عما استدل به الكوفيون، وفي ما ذكره مع اختصاره ولفظه غنية عن غيره.
واعلم أن الكوفيين كما زعموا أن «رب» مبتدأ في: وربّ قتل عار؛ يزعمون أن: «ربّ ضرب ضربت» ؛ بتقدير المصدر، وأن «رب يوم سرت» ؛ بتقدير الظرف، وأن «رب رجل ضربت» ؛ مفعول، و «رب رجل قائم»؛ مبتدأ كما يكون ذلك في «كم» إذا قلت: كم ضربة ضربت، وكم يوم سرت، وكم رجل ضربت، وكم رجل قام. ولا شك أن هذا جميعه إنما ابتنى عندهم على اسميتها ولكن لم يقم على كونها اسما دليل. وما استدل به على بطلان اسميتها أنها لا يدخل عليها حرف الجر ولو كانت اسما؛ لتعدى إليها الفعل بحرف جر كما يتعدى إليها الفعل المتعدي بنفسه فكنت تقول: برب رجل عالم مررت، كما تقول: رب رجل عالم أكرمت؛ إذ ليس في الكلام اسم تعمل فيه الأفعال المتعدية
بنفسها، ولا يعمل فيه الفعل المتعدي بحرف جر.
وقد احتج لهم بأنك تقول: رب رجل عاقل ضربت؛ فقد عديت المتعدي إلى ما ينصبه بنفسه بحرف جر.
وأجيب بأن حروف الجر لم تجلب للتعدي، وإنما جلبت لما تعطي من المعنى.
وأما كونها للتكثير وأن التقليل بها نادر؛ فقد استدل عليه المصنف بما لا مدفع له.
ولا شك أن مذهب سيبويه أنها للتكثير (1)، ويدل عليه ما أورده المصنف من كلامه الدالّ على ذلك. وقال الخضراوي: كون «رب» للتكثير هو المشهور عند الخليل، وظاهر كلام سيبويه؛ قال في باب «كم»: ومعناها معنى «ربّ» - يعني (2)«كم» الخبرية - ثم قال - يعني سيبويه -: واعلم أن «كم» بمنزلة اسم ينصرف في الكلام غير منون يجر ما بعده إذا أسقط التنوين، وذلك الاسم نحو: مائتي درهم؛ فانجر الدرهم؛ لأن التنوين ذهب ودخل فيما قبله والمعنى معنى «ربّ» (3).
قال الخضراوي: وأبو علي - يعني الفارسي يتأول المعنى هنا بالحكم (4). قال: -
(1) الكتاب (2/ 161).
(2)
في الأصل: يعني أن.
(3)
الكتاب (2/ 161).
(4)
الهمع (2/ 25، 26).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لكن قول سيبويه: واعلم أن «كم» في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه «رب» ؛ لأن المعنى واحد إلا أن «كم» اسم؛ و «رب» غير اسم (1)، يبعد تأويل أبي علي (2)، ثم إن سيبويه قال [4/ 27] في «كأين»: معناها معنى «رب» (3). ولا شك أن «كأين» ليس حكمها حكم «رب» ؛ لأنها قلما تجر، وإنما ينتصب تمييزها، أو يدخل عليه حرف الجر، ثم قال (4): واختلف النحويون في معنى «رب» فمذهب أبي عليّ أنها للتقليل، وهو قول عيسى بن عمر، ويونس، وأبي زيد الأنصاري، وأبي عثمان، وأبي العباس، وأبي بكر، وأبي إسحق الزجاج، والرماني، وابن جني، والصيمري، والسيرافي، وأبي عمرو بن العلاء، والأخفش سعيد بن مسعدة، وأبي عمر الجرمي، وابن درستويه، وكذلك جعله الكوفيون، كالكسائي، والفراء، ومعاذ الهراء. وهشام وابن سعدان (5). وبهذا قال الزمخشري (6) من المتأخرين.
وقيل: إنها للتكثير، قال بذلك جماعة منهم صاحب العين، وروى عن الخليل (7)، وقال به كثير من المتأخرين،
وقال بعض المتأخرين: هي من الأضداد تكون للتقليل والتكثير، وقال ابن (الباذش)(8) هي لمبهم العدد تكون تقليلا وتكثيرا، وبه قال ابن طاهر، وابن خروف (9)، وذكر أنه مذهب سيبويه، وأن «كم» عنده تكون تقليلا وتكثيرا؛ لأنها لمبهم العدد عنده من قليل وكثير.
قال الخضراوي: وهذا غريب من القول في «كم» . وأما ابن عصفور فإنه قال في شرح الجمل (10): «وأما «ربّ» فمعناها عند المحققين من النحويين التقليل؛ فإذا قلت: رب رجل عالم لقيت؛ فكأنك قلت: قد لقيت من ضعيف الرجال العلماء وليس من لقيته بالكثير وأنشد: -
(1) الكتاب (2/ 161).
(2)
راجع التذييل (4/ 37).
(3)
الكتاب (2/ 171).
(4)
أي: الخضراوي، وانظره في التذييل (4/ 37).
(5)
سبقت ترجمة هذه الكوكبة من النحويين في هذا الكتاب، وانظر في آراء هؤلاء: الارتشاف (ص 735)، والتذييل (4/ 37)، والتصريح (2/ 18)، وشرح السيرافي على الكتاب (2/ 21 ب)، والمغني (1/ 119) بحاشية الأمير، والمقتضب (4/ 139، 289)، والهمع (2/ 25).
(6)
انظر: المفصل (8/ 26).
(7)
الهمع (2/ 25).
(8)
في الأصل: «البيدش» . وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري برع في الشريعة والعربية شرح الأصول والإيضاح للفارسي والكتاب والمقتضب وغيرها (ت 538 هـ) وراجع: الأعلام (5/ 60).
(9)
ينظر في رأيهم: التذييل (4/ 37).
(10)
انظر: الكتاب المذكور (1/ 500).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2664 -
ألا ربّ مولود وليس له أب
…
... البيت
وأنشد أيضا البيت الذي يليه وهو:
2665 -
وذي شامة غرّاء في حرّ وجهه
…
مجلّلة لا تنقضي لأوان
قال: [فالمولود الذي ليس له أب عيسى عليه السلام، والذي له ولد ولم يلده أبوان هو آدم عليه السلام وصاحب الشامة] هو القمر؛ شبه الكلف الذي يظهر فيه المسمى أرنب القمر بالشامة. وزعم بعضهم أنها للتكثير وذلك في موضع المباهاة والافتخار نحو قوله:
2666 -
فيا ربّ يوم قد لهوت وليلة
…
بآنسة كأنّها خطّ تمثال (1)
2667 -
فيا ربّ مكروب كررت وراءه
…
وعان فككت الغلّ عنه ففدّاني (2)
لأنه يريد أن لها أياما كثيرة، وكثير منه فك الأسرى، وكرّه وراء المكروبين، وهذا وأمثاله لا حجة فيه لهم؛ لأن «رب» في هذه الأماكن وأمثالها للمباهاة والافتخار.
والمباهاة لا تتصور إلا بما لا يقل نظيره من غير المفتخر؛ إذ ما يكثر من المفتخر وغيره لا يتصور الافتخار به؛ فتكون «رب» في هذه الأماكن التي للمباهاة والافتخار لقليل النظير فكأنه قال: الأيام التي لهوت فيها والليالي يقل وجود مثلها لغيري، وكأنه قال: الأسرى الذين فككت والمكروبون الذين كررت وراءهم هم من الكثرة بحيث يقل فك غيري لهم؛ ويمكن أيضا أن يريد أن هذه الأشياء التي يفتخر بها هي وإن كانت قد وقعت كثيرا من المفتخر فإنها بالنظر إلى شرف هذا المفتخر وجلالة قدره قليلة، وأيضا فإن المفرد بعد «ربّ» يكون في معنى جمع، والمفرد لا يكون في معنى جمع إلا إذا اقترن به لفظ عموم نحو: كلّ رجل، ويقع تمييزا في نحو: عشرين رجلا أو في نفى نحو: ما قام رجل، أو في تقليل نحو: قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد. فلولا أن «ربّ» للتقليل لما كان المفرد بعدها في معنى جمع. انتهى (3).
ولم يظهر لي قوله، ولا قول غيره: إن «رب» في الأماكن التي ذكرها لتقليل النظير؛ فإن معنى الحرف إنما يكون حاصلا لما باشره الحرف؛ فكيف تباشر «رب» -
(1) من الطويل لامرئ القيس - ديوانه (ص 29)، والمقرب (1/ 199)، والهمع (2/ 26)، وشرح الجمل (1/ 500).
(2)
كالبيت السابق وفي ديوانه (ص 90) هذا: والعاني: الأسير، وفداني: قال لي: فدتك نفسي وفداك الأب والأم. وفي الأصل: «ففدان» .
(3)
ينظر: شرح الجمل (1/ 502).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
شيئا والمعنى (الذي)(1) وضعت له قائم بكلمة أخرى غير ما باشرته.
وأما قوله: فلولا أن «ربّ» للتقليل لما كان المفرد بعدها في معنى جمع بل هذا الذي ذكره أدل على أنها للتكثير، ثم إنه قال: قال أبو العباس المبرد: النحويون كالمجمعين على أن «رب» جواب لكلام متقدم، فإذا قلت: رب رجل عالم لقيت؛ فهو جواب لمن قال: هل لقيت رجلا عالما؟ أو قدر سؤاله كذلك فتقول له: رب رجل عالم لقيت، أي: لقيت من جنس الرجال العلماء؛ إلا أن ذلك ليس بالكثير، والدليل على أن «رب» جواب أنّ واو «ربّ» عاطفة نائبة عن «رب» بدليل أنها لا يدخل عليها حرف عطف؛ لا تقول: رب رجل ثم وامرأة؛ فإذا تبين أنها عاطفة، والعرب تستعملها وإن لم يتقدمها كلام فتقول: ورجل أكرمته؛ ابتداء كما قال:
2668 -
وبلدة ليس بها أنيس
…
[إلّا اليعافير وإلّا العيس](2)
دل على أن «رب» جواب حتى تكون الواو قد عطفت الجواب على السؤال المتقدم، أو المقدر، ولولا أنها كذلك لما ساغ وقوع حرف عطف أول الكلام (3). انتهى.
وفي ما ذكره أمران:
أحدهما: أنا (إذا)(4) سلمنا له أن «رب» جواب وأن المراد بقولنا: رب رجل عالم لقيت: لقيت من جنس الرجال العلماء، إلا أن ذلك ليس بالكثير لا يتم مراده ..
فإن القائل بأن معنى «رب» التكثير يجوز استعمالها للتقليل على سبيل القلة والندور.
ثم ما ذكروه إنما قرره على تقدير أن تكون «رب» جوابا أبدا. وقد تقدم لك من كلام المصنف أنها قد تكون جوابا، وقد تكون غير جواب.
وثانيهما: قوله: إن واو «رب» عاطفة، واستنتاجه من ذلك أنها عطفت الجواب على السؤال فإن جوابا لا يعطف على سؤال، ولو عطف جواب على سؤال لكان سؤالا، لا جوابا. وما برحت أستشكل هذا في كلام [4/ 28] هذا الرجل. -
(1) في الأصل: التي.
(2)
رجز لجران العود ذكرنا، عجزه - ديوانه (ص 53)، واليعافير: أولاد الظباء، والعيس: بقر الوحش لبياضها، وانظر: التصريح (1/ 353)، والدرر (1/ 192) والكتاب (1/ 133)، ومعاني الفراء (1/ 479)، والمقتضب (2/ 319، 347)، (4/ 414)، والهمع (1/ 225).
(3)
شرح الجمل (1/ 356)، والمقتضب (2/ 319، 347)، (4/ 414).
(4)
من هامش المخطوط.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا شك في جلالة قدره في هذا الفن فربما يكون مراده بعطف هذا الجواب على السؤال معنى خاصّا غير المتبادر إلى الأفهام.
وبعد: فقد ذكر في شرح الإيضاح أنها تكون للتقليل فقال: والصحيح أنها تكون لتقليل الشيء في نفسه، أو لتقليل نظيره، وأنها تكون للتكثير، ومثّل تقليل الشيء في نفسه بالبيتين المتقدمين اللذين أولهما:
2669 -
ألا ربّ مولود وليس له أب
…
...
وبالبيت الذي أنشده المصنف وهو الذي أوله:
2670 -
وذي إخوة
…
...
…
وقال بعد إنشاده البيت المذكور: لأنه إنما يريد بالإخوة هنا: دريد بن حرملة المزني، وهو الذي قتل أخاه معاوية، فلما قتله قال هذا الشعر، وقوله:
2671 -
…
كما تركوني واحدا لا أخا ليا
يبطل توهم الكثرة هنا؛ لأن الّذين تركوه بلا أخ كانوا بني حرملة، ولم يكن له أخ قبل غير معاوية وحده.
ومما مثل للتقليل قول زهير (1):
2672 -
وأبيض فيّاض (يداه)(2) غمامة
…
على معتفيه ما تغبّ فواضله (3)
قال: أراد بالأبيض: حصن بن حذيفة بدليل قوله بعد:
2673 -
حذيفة ينميه وبدر كلاهما
…
إلى باذخ يعلو على من يطاوله (4)
وذكر غير ذلك. ومثل تقليل نظير الشيء بقول امرئ القيس: -
(1) زهير بن أبي سلمى المزني، من مضر حكيم الشعراء في الجاهلية كان أبوه وخاله وأخته سلمى وابناه كعب وبجير وأخته سلم شعراء (ت: 13 ق. هـ) وانظر الأعلام (3/ 87)، والشعر والشعراء (1/ 137).
(2)
في الأصل: تراه أن.
(3)
من الطويل، والأبيض: رجل نقي من العيوب وهو ممدوحه. فياض: كثير العطاء، المعتفون:
الطالبون معروفه، تغب: تنقطع، وفواضله: عطاياه - وانظر: ديوانه (ص 68).
(4)
من الطويل. وحذيفة: أبو الممدوح، بدر: جدّه، الباذخ: العالي وأراد به شرفه - وانظر الديوان (ص 69) - هذا: ويفصل بين هذين البيتين عشرة أبيات في الديوان (ص 68، 69).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2674 -
فإن أمس مكروبا فيا ربّ بهمة
…
كشفت إذا ما اسودّ وجه جبان (1)
وبقوله:
2675 -
وإن أمس مكروبا فيا ربّ قينة
…
منعّمة أعملتها بكران (2)
وبقول أبي (كبير)(3) الهذلي:
2676 -
أزهير إن يشب القذال فإنّه
…
رب هيضل مرس لفقت بهيضل (4)
ثم قال: وكذلك هي في كل موضع استعملت فيه للمباهاة والافتخار؛ لأن الإنسان إنما يفتخر بما يقل نظيره من غيره ويكثر منه. ثم قال: ما ذكروه من أنها في التقليل نظيرة «كم» في التكثير؛ بناء منهم على أن «كم» لا تكون إلا للتكثير وذلك مختلف فيه؛ لأن منهم من ذهب إلى أنها تقع للقليل والكثير؛ فعلى هذا قول عمارة بن عقيل (5):
2677 -
فإن تكن الأيّام شيّبن مفرقي
…
وأكثرن أشجاني وقلّلن من غربي
فيا ربّ يوم قد شربت بمشرب
…
شفيت به عن الصّدي بارد عذب
وكم ليلة قد بتّها غير آثم
…
بناحية الحجلين منعمة القلب (6)
إنما ساغ له فيه أن يجمع بين «رب» و «كم» مع أنه أراد تكثير أيامه ولياليه في مذهب من زعم أن «رب» للتقليل، و «كم» للتكثير؛ لأنه راعى فيما أدخل عليه «رب» كونه قليل النظير، وراعى فيما أدخل عليه «كم» كونه كثيرا في نفسه. -
(1) من الطويل. يريد إذا أمسيت مكروبا فقد أكشف حقيقة أمر خفي، وانظر: ديوانه (ص 86)، والدرر (2/ 22)، والهمع (ص 2/ 28).
(2)
في الأصل: كثير، وهو تحريف.
(3)
من الطويل كذلك لامرئ القيس، والقنية: الجارية الضاربة بالعود المغنية، والأمة والكران: العود الذي يضرب به، والبيت في ديوانه (ص 86).
(4)
من الكامل، وزهير: مرخم زهيرة ابنته، القذال: ما بين الثغرة وأعلى الأذن، الهيضل: الجماعة ولجب أو مرس: كثير، ولفقت: جمعت بينهم - وهو في ديوان الهذليين (2/ 89) برواية «فإنني» بدل «فإنه» ، وانظر: الإنصاف (ص 285)، وشرح المفصل (5/ 119)، (8/ 31)، والمحتسب (2/ 343) والمقرب (1/ 200).
(5)
ابن بلال ابن جرير شاعر مقدم من أحفاد جرير الشاعر كان النحويون في البصرة يأخذون اللغة عنه (ت 239 هـ) وانظر: الأعلام (5/ 193)، ورغبة الآمل (1/ 129).
(6)
ثلاثة أبيات من الطويل، والمفرق: وسط شعر الرأس، والغرب - هنا: نشاطه في شبابه، والحجلين:
موضع. وانظر الأول والثاني في الدرر (2/ 18)، والهمع (2/ 26) والأخير في الأشموني (4/ 80)، والسمط (ص 692)، والعيني (4/ 496).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومن زعم أن «رب» تقع على القليل والكثير؛ لم يحتج إلى هذا التأويل. انتهى.
ولم يمثل التكثير بـ «رب» ، وكأنه اكتفى عنه بذكر هذا البيت - أعني قوله:
2678 -
فيا ربّ يوم
…
...
…
وذلك أنه أثبت أن مراد الشاعر تكثير أيامه ولياليه التي فعل فيها ما ذكره. وذلك إنما يتم له بجعل ما أدخل عليه «رب» قليل النظير، أو بأن يجعل «رب» للتكثير.
وأما ابن أبي الربيع فإنه يرى أن معنى «رب» إنما هو التقليل قال: وذهب الكوفيون إلى أنها تكون للتقليل والتكثير وهي عندهم من الأضداد ثم ذكر عنهم الأبيات التي استدل بها على التكثير وقد تقدمت. ثم قال: وما قاله الكوفيون باد بأول نظر، وإذا حقق معنى التقليل صح قول البصريين.
وكان الأستاذ أبو علي يذهب إلى أنها تدخل لتقليل النظير (1)، ثم أتبع هذا الكلام بما يناسبه (2). والذي يظهر أن «رب» للتكثير وأنها تستعمل للتقليل قليلا كما قال المصنف رحمه الله تعالى.
وأما وصف مجرورها: فقد عرفت ما ذكره المصنف من أن المبرد، وابن السراج، والفارسي يرون وجوب ذلك،
وأن أكثر المتأخرين عليه وما أوردوه من الشبهتين للقائلين بذلك، وما أجاب به عنهما وما ذكره أيضا من أن هذا - أعني وجوب وصف مجرور «ربّ» خلاف مذهب سيبويه، وما استدل به كلام سيبويه المتضمن استغناء مجرورها عن الوصف.
وذكر ابن عصفور عن [هؤلاء] الثلاثة - أعني المبرد، وابن السراج، والفارسي - ما ذكره المصنف عنهم من التزام الوصف، ثم قال (3): وهو الصحيح عندي واستدل على عدم لزومه بقول الشاعر:
2679 -
ألا ربّ مولود وليس له أب
…
...
قال: ومما يبين لك أن المخفوض بها لا يفتقر في كل المواضع إلى الصفة؛ أنك تجد أماكن إن جعلت فيها ما بعد المخفوض بـ «رب» صفة لم يبق للمخفوض بها -
(1) الهمع (2/ 25 - 27).
(2)
ينظر: التذييل (4/ 40)، والسابق.
(3)
نقل طويل خامس وسادس من شرح الإيضاح المفقود لابن عصفور، وأما الحديث عن «رب» في شرح الجمل فيقرب من عشر صفحات أيضا (1/ 500) وما بعدها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ما يعمل فيه إلا في اللفظ ولا في التقدير؛ لأن معنى الكلام لا يقتضي عاملا محذوفا بل تجد المعنى مستقلّا من غير حذف نحو قول امرئ القيس:
2680 -
فيا ربّ يوم قد لهوت وليلة
…
بآنسة كأنّها خطّ تمثال (1)
ألا ترى أن المعنى مستقل بما في اللفظ خاصة، وإن رمت تتكلف حذف عامل فقدرت: ظفرت بها، أو: تمتعت بها؛ كان زائدا غير مفيد، فإن ذلك المعنى حاصل من غير حذف؛ لأن لهوه بالآنسة في ذلك اليوم وتلك الليلة ظفر بها وتمتع. قال: وهذا الذي ذكرناه من غير لزوم الوصف هو الذي يعطيه كلام سيبويه؛ لأنه قال في باب [حروف] الجر: «وإذا قلت: ربّ رجل يقول ذلك؛ فقد أضفت القول إلى الرجل بـ «رب» . فدل هذا من كلام سيبويه على أنه لم يجعل «يقول ذلك» صفة لـ «رجل» .
وأما ابن أبي الربيع فإنه قال: ذهب أبو علي إلى أن مخفوض «رب» لا بد له من الصفة؛ وتابعه على ذلك جماعة من
حذاق هذه الصناعة (2)، وخالفه في هذا ابن طاهر وجماعة من خلاف المتأخرين (3). قال: وظاهر كلام سيبويه أن مخفوضها لا يلزم الصفة وكان الأستاذ أبو علي يتأول كلام سيبويه (4). انتهى.
وقد تقدم قول ابن خروف إن معنى التقليل والتكثير الذي دلت عليه يقوم مقام وصف مجرورها
…
إلى آخره. وأما تخريج المصنف قول سيبويه: رب رجل يقول ذلك؛ على أن «يقول» مضارع «قال» بمعنى: فاق في المقاولة، ويجعل ذلك فاعلا إلى آخره؛ فتخريج غير ظاهر، ولا يخفى أن ذلك يبعد أن يكون مراد سيبويه.
وقد قال الشيخ: المتبادر إلى الذهن - من هذا المثال - أن ذلك منصوب لا مرفوع، وأن الفاعل بـ «يقول» هو ضمير عائد على «رجل» ، ولما كانت «رب» حرفا محكوما له بحكم الزائد لم يتنزل منزلة الحرف الذي لم يحكم له بحكم الزائد فاحتمل أن عاد الضمير فاعلا على مجرورها؛ فليس نظير بزيد افتخر؛ لأن «بزيد» -
(1) تقدم.
(2)
التذييل (4/ 40)، والهمع (2/ 27).
(3)
في الارتشاف (2/ 457): (واختلفوا في وصف مجرورها النكرة فذهب الأخفش، والفراء والزجاج، وأبو الوليد الوقشي، وابن طاهر، وابن خروف إلى أنه لا يلزم وصفه وهو ظاهر كلام سيبويه، وذهب ابن السراج، والفارسي، والعبدي، وأكثر المتأخرين منهم الأستاذ أبو علي إلى خلافه). بتصرف.
(4)
ينظر: التذييل (4/ 40)، والهمع (2/ 27).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في موضع نصب، وهذا ليس في موضع نصب؛ بل في موضع رفع بالابتداء و «رب» كأنها حرف زائد (1). انتهى.
وهو تخريج حسن مبني على تقرير صحيح كما سيأتي في كلام ابن عصفور.
وأما مضيّ ما يتعلق به: فهو مشهور وهو مذهب المبرد (2)، والفارسي (3) واختاره ابن عصفور (4) ولهذا يتأول النحاة رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (5) بأن المعنى: ربما ودّ، وأنه عبر عن المستقبل بالماضي؛ لكونه متحقق الوقوع، ولكن قد عرفت أن المصنف لم يلتزم ذلك، وأنه أجاز كون العامل مستقبلا وذكر الأدلة على ذلك، على أن الشيخ قال في الأدلة: إنها تحتمل كذا، وتحتمل كذا، قاصدا إبطال ما ذهب إليه المصنف.
وأما لزوم تنكير مجرورها مع لزوم تصديرها: فأمر معروف.
وقد قال ابن عصفور: ولا تدل على معرفة محضة أصلا. قال: وزعم بعضهم أنها تجر الاسم المعرف باللام فيقول: رب الرجال لقيت، وأنشدوا قول الشاعر:
2681 -
ربّما الجامل المؤبّل فيهم
بخفض الجامل قال: والرواية الصحيحة بالرفع. وقال أيضا: و «ربّ» من الحروف التي لها صدر الكلام؛ وسبب ذلك أنها كما ذكرنا للتقليل، والتقليل يجري مجرى النفي؛ فعوملت معاملة ما يجعل له صدر الكلام؛ لذلك قال: وأيضا؛ فإنها للمباهاة، والافتخار مثل «كم» ، وهي للتقليل فهي نقيضة «كم» ، والشيء يجري مجرى نقيضه كما يجري مجرى نظيره (6). انتهى.
ولو قيل: إن سيبويه قد سوّى بينها، وبين «كم» الخبرية كما تقدم. ولا شك أن «كم» لها صدر الكلام فلتكن «رب» لشبهها بها كذلك؛ لكان قولا.
والمراد من لزوم تصديرها أنها تتصدر لزوما على ما تتعلق به؛ فيقال: رب رجل عالم لقيت، ولا يقال: لقيت رب رجل عالم، وليس المراد تصديرها أول الكلام فقد تقع هي خبرا عن شيء كما سيأتي؛ وإنما المراد أن تكون هي صدر جملتها. -
(1) التذييل (7/ 88 / أ).
(2)
المقتضب (2/ 48، 55)، والهمع (2/ 25، 26).
(3)
المصدر السابق.
(4)
شرح الجمل (1/ 506).
(5)
سورة الحجر: 2.
(6)
شرح الجمل (1/ 500، 501).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأما مباشرتها الضمير المجهول: فأمر معروف أيضا. وكأن مسألة مباشرتها الضمير كالمستثناة من قوله: إن تنكير مجرورها لازم وأشار إلى قلّته بذكر «قد» في قوله: وقد تجرّ ضميرا وهذا الضمير لا يبعد عن النكرة؛ لأنه ضمير مجهول ومفسره نكرة؛ ولذلك علل ابن عصفور دخولها على ضمير النكرة بأن قال: وذلك أن ضمير النكرة من طريق المعنى نكرة؛ لأن الضمير هو الظاهر في المعنى، وإنما يكون ضمير النكرة محكوما له بحكم المعرفة من طريق نيابته مناب ما عرف بالألف واللام إذا عاد على متقدم؛ لأنك إذا قلت: لقيت رجلا فضربته؛ أغنى عن أن تقول: فضربت الرجل المتقدم الذكر، فلما ناب مناب اسم فيه الألف واللام حكم له بحكم المعرفة لذلك، فلما
كان الضمير في باب «رب» مفسرا بالنكرة بعده كان نكرة من كل وجه؛ لأنه إذ ذاك لا ينوب مناب اسم معرف بالألف واللام (1). انتهى.
ودل كلامه على أنه لا يحكم على ضمير نكرة بأنه نكرة على الإطلاق، بل يفصل القول في ذلك كما رأيت.
وقال في شرح الإيضاح - مشيرا إلى كلام أبي علي -: هذا الذي ذكره من أن الضمير في قولك: ربه رجالا، وأمثاله معرفة إلا أنه أجري مجرى النكرة في دخول رب عليه لمّا أشبهه في أنه غير معين ولا مقصود قصده - هو مذهب كثير من النحويين.
والصحيح عندي: أن ضمير النكرة معرفة إذا فسّرته نكرة متقدمة عليه وإذا فسّرته نكرة متأخرة عنه، فإنه إن كان واقعا موقع ظاهر معرفة؛ فهو معرفة، وإن كان واقعا موقع ظاهر نكرة؛ فهو نكرة، والدليل على ذلك أن ضمير الغيبة العائد على ما قبله نائب مناب تكرار الظاهر.
فإذا قلت: زيد ضربت؛ فالأصل: زيد ضربت زيدا؛ إلا أنهم كرهوا التكرار؛ فأنابوا الضمير مناب الظاهر، فعلى هذا قولك: لقيت رجلا فضربته؛ أصله: لقيت رجلا فضربت الرجل؛ لأن النكرة إذا أعيدت فإنما تعاد بالألف واللام؛ إشعارا بأن المراد النكرة المعهودة في الذكر لا غيرها، إلا أنهم فرّوا من التّكرار؛ فوضعوا الضمير موضع الاسم الداخل عليه الألف واللام.
فكما أن الاسم المباشر بالألف واللام معرفة كذلك الضمير القائم مقامه.
وأما ضمير الغيبة العائد على ما بعده فقد يضعه العرب [4/ 30] موضع ظاهر معرفة؛ -
(1) شرح الجمل (1/ 504).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فيكون إذ ذاك معرفة؛ لوقوعه موقع معرفة وذلك نحو: نعم رجلا زيد؛ فالضمير المستتر في «نعم» واقع موقع ظاهر معرفة؛ لأن فاعل «نعم» إذا كان ظاهرا فبابه أن يكون معرفا بالألف واللام أو مضافا إلى ما هي فيه فالضمير في «نعم» نائب عن الظاهر معرفة يراد به الجنس، وكأنك قلت: نعم الجنس، ثم فسرت الجنس الذي أردت بقولك: رجلا، وقد تضعه العرب موضع نكرة؛ فيكون إذ ذاك نكرة؛ لوقوعه موقع نكرة وذلك نحو:
ربّه رجلا، فالضمير مع «رب» واقع موقع ظاهر نكرة لأن المخفوض بـ «رب» إذا كان اسما ظاهرا لا يكون إلا نكرة فالضمير المخفوض بـ «رب» إذا نائب عن ظاهر نكرة، وكأنك قلت: ربّ شيء، ثم فسرت الشيء الذي أردت بقولك: رجلا (1). انتهى.
وكلامه يعطي التفرقة بين الضميرين - أعني المجرور بـ «رب» والمرفوع بـ «نعم» فإنه حكم على المجرور بـ «رب» بأنه نكرة وعلى المرفوع بـ «نعم» بأنه معرفة وكلام غيره يعطي التسوية بين الضميرين وهو الظاهر فإن كلّا منهما ضمير مجهول مفسر بما بعده.
وقول ابن عصفور: إن المرفوع بـ «نعم» واقع موقع ظاهر معرفة قد لا يسلم، بل يقال: فاعل «نعم» قسمان: اسم معرف بالألف واللام، أو ضمير مفسر بنكرة؛ فليس الضمير نائبا عن المعرف باللام بل هو قسيمه، ولو قال: إن الضمير المذكور معرفة من جهة أن «زيدا» ذكر بعده وهو المخصوص بالمدح؛ فتبين بذلك أن المراد بالضمير هو «زيد» ، وإذا كان المراد بالضمير هو «زيد» اتجه أن يحكم على ذلك الضمير بأنه معرفة لكان أقرب على أن في هذا نظرا أيضا.
وقد أطال ابن عصفور الكلام في هذه المسألة، والذي ذكره في باب «كان» أخلص مما ذكره هنا، وهو أنه قال (2): إن ضمير النكرة يعامل في باب الإخبار معاملة النكرة. وذلك أن تعريفه إنما هو لفظي؛ لأنك إذا قلت: لقيت رجلا فضربته؛ علم أنك إنما تعني بالضمير: الرجل المتقدم الذكر، وأن الملقي هو المضروب، وأما أن يعلم من هو في نفسه فلا. فلما علم من يعني به كان معرفة من هذا الطريق، وأيضا فإنه ينوب مناب تكرار الظاهر، والظاهر إذا كرر كان بالألف واللام فلمّا ناب مناب معرفة بالألف واللام كان هو معرفة، ثم قال بعد هذا: فإذا -
(1) ينظر: شرح الجمل: (1/ 504).
(2)
انظر: شرح الجمل (1/ 404) تحقيق أبو جناح (آخر باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثبت أن تعريفه لفظي والإخبار عن النكرة كما تقدم في باب الابتداء إنما امتنع من طريق معناها لا من طريق لفظها جرى ضمير النكرة مجرى النكرة. هذا كلامه وتبين منه: أن ضمير النكرة على الإطلاق نكرة، وأنه إذا قيل فيه: إنه معرفة فإنما القصد بذلك التعريف لفظا لا أنه معرفة حقيقة. فإن قيل: قول المصنف: وقد تجر ضميرا بعد قوله: إنه يلزم تنكير مجرورها، يقتضي أن الضمير الذي باشرته محكوم بتعريفه. فالجواب: أن «ربّ» في الغالب إنما تجر الأسماء الظاهرة وجرها المضمر قليل؛ فيمكن أن يقال: إن ضميرا في كلام المصنف إنما قابل به الظاهر المفهوم من قوله: وتنكير مجرورها فإن الذي يوصف بالتنكير بطريق الأصالة إنما هي الأسماء الظاهرة، ولم يكن قوله: وقد تجر ضميرا مقابلا لتنكير المجرور من حيث هو منكر.
وأما مسألة أن يعطف على مجرور «رب» مضاف إلى ضمير: فهو بالحقيقة فرع قولنا: ربه رجلا؛ لأنه قد ثبت أن
الضمير في «ربه» نكرة لكونه مجهولا مفسرا بنكرة، ولا شك أن الضمير في:«وأخيه» من: رب رجل وأخيه؛ ضمير نكرة فهو نكرة أيضا فلم تخرج «رب» عن كونها داخلة على نكرة.
فإن قيل: إذا كان كذلك؛ فلا حاجة إلى التنصيص على هذه المسألة؛ لأن «رب» فيها باقية على أصلها من مباشرة ما هو نكرة. فالجواب: أنه إنما ذكر ذلك؛ لئلا يتوهم أن «رب» مختصة بمباشرة هذين الشيئين فقط - أعني الاسم الظاهر النكرة والضمير المجهول المفسر بما بعده - فذكر ذلك تنبيها على أن أمرا ثالثا يكون من مدخولها وهو الاسم المضاف إلى ضمير اسم نكرة وإنما جعل نحو: «وأخيه» - من: رب رجل وأخيه - من مدخولها؛ لأنه معطوف على «رجل» ، و «رب» داخلة عليه، وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه.
وأما حكم «ما» اللاحقة لها: فقد تقدم لك عند الكلام على الكاف قول المصنف:
إن «ما» تزاد بعد «رب» كافة وغير كافة، وعرف منه أن الكاف قسم من الزائدة.
ولكن ابن أبي الربيع جعل الكاف قسيمة الزائدة، فإذا وقع بعد «ربما» ما يقع بعد «ربّ» أعني أن يجر الاسم بعد «ربما» كما يجر بعد «رب» فـ «ما» زائدة كقوله:
2682 -
ربّما ضربة بسيف صقيل
…
[بين بصرى وطعنة نجلاء](1)
-
(1) بيت من الخفيف، وبصرى: بلدة بالشام، ونجلاء: واسعة، ويروى «دون» بدل «بين» وانظر: -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وإذا لم يجر الاسم بعد «ربما» بل وقع بعدها الجملة فـ «ما» كافة. ولا بأس بما قاله.
قال: ولا تجد من حروف الجر ما كفّ عن مجرور، إلا «ربّ» ، وكاف التشبيه على أحد الوجهين في قولك: كن كما أنت. قال: وأكثر ما يكون الكف في الحروف الداخلة على الجمل المؤثرة فيها نحو: إن زيدا قائم، وليت عمرا خارج، وما زيد قائما، فإذا دخلت على «إن» وأخواتها «ما» كفتها عن العمل وكذلك «ما» إذا وقعت بعدها «إن» كفتها عن العمل (1). انتهى.
وما ذكره ابن هشام الخضراوي عن بعضهم أن «ما» في «ربما» بمنزلة «ما» في التعجب [4/ 31] لكنها موصوفة كقولهم: مررت بما عجب لك. وما نقله عن أبي علي أن بعضهم جعل «ما» في قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ (2)، وقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ * (3) اسما بمنزلتها في التعجب وما بعدها بدل (4)؛ لا معول عليه.
وأما ما حكاه - أعني الخضراوي - أيضا عن ابن يسعون أنه حكم على «ما» في قوله: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا (5) أنها نكرة موصوفة أي: رب ودّ يوده الذين كفروا (6)؛ فقد رده هو عليه بأنه باطل. قال: لأن «لو» تحتاج على هذا التقدير إلى جواب، ولا يكون إلا من جنس ما قبلها.
ولا يصح هنا، وإنما هي بمنزلة أن معمولة لما قبلها كقوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (7)، و [يَوْمَئِذٍ] يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [وَعَصَوُا الرَّسُولَ] لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ (8)، وكذا: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ (9).
وأما ما يليها من الجمل - أعني «ربّما» إذا كانت «ما» كافة - فقد تقدم ذكرها عن المغاربة أنهم كالمطبقين على أن «ربما» لا تليها الجمل الاسمية وأن هذا هو مذهب سيبويه؛ لقوله عند ذكر الحروف التي لا يليها إلا الفعل، ومن تلك الحروف -
- الأشموني (2/ 231)، والمغني (ص 146)، والهمع (2/ 38). هذا، والبيت لعدي بن الرعلاء الغساني.
(1)
ينظر التذييل (4/ 33، 34) بغير نسبة له.
(2)
سورة آل عمران: 159.
(3)
سورة النساء: 155، وسورة المائدة:13.
(4)
الأشموني (2/ 232).
(5)
سورة الحجر: 2.
(6)
التذييل (7/ 76 أ).
(7)
سورة القلم: 9.
(8)
سورة النساء: 42.
(9)
سورة النساء: 102.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
«ربما» جعلوا «رب» مع «ما» بمنزلة كلمة واحدة وهيئوها ليذكروا بعدها الفعل؛ لأنهم لم يكن لهم سبيل إلى «رب يقول» ؛ فألحقوها وأخلصوها للفعل (1). ومن ثم قال الخضراوي: «ربّما» عند سيبويه حرف يدخل على الفعل ويختص به.
ولا يدخل على الجمل الابتدائية (2). وقال ابن أبي الربيع عند ذكر مباشرة «ما» لـ «ربّ» وأنها قد تكون زائدة وكافة: وأما إذا كانت «ما» كافة فإنها تصير حينئذ من الحروف الطالبة للجمل الفعلية؛ فلا يقع بعدها إلا الفعل ولا
يكون الفعل إلا ماضيا، ولا يكون إلا ظاهرا ولا يكون إلا مقدما؛ فتقول: ربما قام زيد، وربما ضربت عمرا، ولا تقول: ربما عمرا ضربته؛ إلا أن يأتي في الشعر فيقتصر على موضعه. ثم قال: إلا أن العرب تدخلها على المضارع فيصير ماضيا ثم إنه استطرد إلى ذكر الآية الشريفة وهي قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا (3)، وذكر فيها ما ذكره غيره من التقدير (4)، وهو أن ذلك لمّا كان أمرا مقطوعا بوقوعه أخبر عنه مع كونه مستقبلا بما يخبر به عن الماضي كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ (5) ووَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (6) قال: فكان الأصل قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا: ربما ودّ الذين كفروا، إلا أن العرب تحكي الماضي فيصير كأنه حال واقع فيخبر عنه إخبار الحال ومن هذا قوله تعالى: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ (7)، والإشارة لا تكون إلا لحاضر، فأشار إليها سبحانه على تقدير وجودها (8). انتهى.
ومن جهة أن «ربما» لا يليها إلا الجمل الفعلية احتاج أبو علي في قول الشاعر:
2683 -
ربّما الجامل المؤبل فيهم
إلى أن جعل «ما» نكرة موصوفة وجعل «الجامل» خبر مبتدأ محذوف والجملة الاسمية هي التي وصفت «ما» بها كما تقدم تقرير ذلك. وقد علمت أن المصنف يخالف ذلك، فيرى أن «ربما» يليها الجملة الاسمية كما تليها الجملة الفعلية؛ لأنه لم يكن في كلامه تعرض لما ذكره الجماعة من اختصاص «ربما» بالجمل الفعلية، -
(1) الكتاب (3/ 115).
(2)
التذييل (4/ 34، 35).
(3)
سورة الحجر: 2.
(4)
السابق (ص 35).
(5)
سورة النحل: 1.
(6)
سورة المائدة: 116.
(7)
سورة القصص: 15.
(8)
الأشموني (20/ 230، 232).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولهذا صرح بخلاف أبي علي في المسألة حيث لم يجعل «ما» نكرة موصوفة في البيت المذكور بل جعلها كافة.
وأما عملها محذوفة فتذكر في الفصل الذي ختم به المصنف هذا الباب - أعني باب حروف الجر - إن شاء الله تعالى.
وأما ما تتعلق به، وما هو موضعها مع مجرورها من الإعراب؛ فقد ذكرنا أن المصنف لم يتعرض لذكره. وسبب عدم تعرضه لذلك أن حكم «رب» عنده حكم حروف الجر فكما أن «بزيد» من قولك: مررت بزيد - مثلا - تتعلق بـ «مررت» هكذا: «رب رجل» من قولك: رب رجل لقيت تتعلق بـ «لقيت» .
والظاهر أنه يعلق: «رب رجل» من قولك: رب رجل أتاني بـ «أتاني» ، فالحكم عنده واحد في جميع الصور. هذا هو الظاهر؛ لسكوته عن ذكر ما تتعلق به.
وأما الجماعة فإنهم ذكروا ذلك. فأما ابن عصفور فإنه قال في شرح الجمل (1): وينبغي أن يعلم أن الاسم المخفوض بـ «رب» هو معها بمنزلة اسم واحد يحكم على موضعها بالإعراب، فإن كان العامل الذي بعدها رافعا كانت في موضع رفع على الابتداء نحو قولك: رب رجل عالم قام؛ فلفظ «رجل» مخفوض بـ «رب» وموضعه مع «رب» رفع على الابتداء وإن كان العامل الذي بعدها متعديا ولم يأخذ معموله كان الاسم الذي بعد «رب» في موضع نصب ويكون لفظه مخفوضا نحو قولك: رب رجل عالم لقيت، وإن أخذ المتعدي معموله جاز الحكم على موضع الاسم بعد «رب» بالرفع والنصب، ويكون لفظه مخفوضا نحو: رب رجل عالم لقيته؛ لأن «رب» كأنها زائدة في الاسم فكأنك قلت: رب رجل عالم لقيته؛ فكما يجوز في «رجل» في هذه المسألة أن يرفع وينصب كذلك يجوز في الاسم الواقع بعد «رب» أن يحكم عليه بذلك.
والدليل على أن «رب» بمنزلة حرف زائد على الاسم أنها لو لم تكن كذلك لما جاز: رب رجل عالم ضربته؛ لأنك لو جعلت «رب رجل» متعلقا بـ «ضربت» لكنت قد عديت الفعل إلى الاسم وإلى [4/ 32] ضميره وذلك لا يجوز. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: زيدا ضربته؛ على أن يكون «زيدا» منصوبا بـ «ضربت» هذه الملفوظ بها؟ ولو جعلته متعلقا بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر وتكون المسألة من -
(1) انظر: شرح الجمل (1/ 507).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
باب الاشتغال لم يجز؛ لأنه لا يجوز في الاشتغال إضمار الفعل وإبقاء الاسم مجرورا لا يجوز أن تقول: بزيد مررت به؛ بل تقول: زيدا مررت به؛ فدل ذلك على أن «رب» كأنها زائدة وكأنك قلت: رب رجل عالم لقيته، أو رجلا عالما لقيته؛ على حسب ما تنوي. وكذلك يجوز أن تقول: رب رجل عالم وغلام ضربته؛ بالخفض على اللفظ،
وبالرفع وبالنصب على الموضع على حسب ما تنوي، ويجوز أن تقول: رب رجل عالم وغلام ضربت؛ بالنصب، والخفض؛ فالخفض على اللفظ، والنصب على الموضع؛ لأنك لو أسقطت «رب» كان الكلام منصوبا، قال امرؤ القيس:
2684 -
وسنّ كسنّيق سناء وسنّما
…
ذعرت بمدلاج الهجير نهوض (1)
بنصب «سنم» عطفا على موضع «سن» المخفوض بواو «رب» ؛ لأن الواو لو لم تدخل عليه كان الاسم منصوبا بـ «ذعرت» ويجوز الخفض في «سنم» على اللفظ (2).
وقال في شرح الإيضاح (3): اختلفوا في موضع «رب» مع الاسم المجرور بها فمذهب الزجاج، ومن وافقه أنها وما عملت فيه في موضع نصب أبدا تقول: رب رجل قد ضربت، ورب رجل قد أتاني؛ فهي في موضع نصب بـ «ضربت» ، وب «أتاني» إلا إن قدّرت «ضربت» و «أتاني» في موضع الصفة لـ «رجل» ، فتكون «ربّ» وما عملت فيه في موضع نصب بعامل مضمر. ومذهب الأخفش، والجرمي ومن تبعهما (4) أن «رب» تزاد في الإعراب ويحكم على موضع مخفوضها بالرفع، أو بالنصب، أو بهما؛ ففي نحو: ربّ رجل عالم أتاني؛ يحكم على الاسم المجرور بأنه في موضع رفع بالابتداء، وفي نحو: ربّ رجل عالم لقيت؛ يحكم بأنه في موضع نصب بـ «لقيت» وكأنك قلت في الأول: فلان أتاني، وفي الثاني: فلانا لقيت، وفي نحو: رب رجل عالم لقيته، أو مررت به؛ يجوز في الاسم المجرور أن يكون في موضع رفع، بالابتداء وأن يكون في موضع نصب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده وكونه في موضع رفع بالابتداء أولى كما هو -
(1) من الطويل، والسن: الثور الوحشي، السنيق: الصّخرة الصلبة، السنا: الارتفاع، وكذلك السنم، مدلاج الهجير: فرس يسير فيه لشدة قوته ونشاطه، وانظره في ديوانه (ص 76)، والدرر (2/ 21)، والمغني (ص 126)، والهمع (2/ 27).
(2)
شرح الجمل (1/ 508) تحقيق أبو جناح.
(3)
نقل طويل جذّا من الكتاب المفقود لابن عصفور، نص عليه صاحب الشرح.
(4)
الارتشاف (2/ 458).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
معروف في نحو: زيد لقيته، وزيد مررت به.
وتبين اعتبار الموضع بالعطف فيقال: رب رجل عالم وأخوه أتياني؛ بالرفع، ورب رجل عالم وأخاه لقيت؛
بالنصب، ورب رجل عالم وأخوه وأخاه لقيتهما، ورب رجل عالم وأخوه وأخاه مررت بهما؛ بالرفع والنصب، والاختيار الرفع كما عرفت، والخفض على اللفظ جائز في جميع الصور التي ذكرت.
قال: والصحيح عندي ما ذهب إليه الأخفش؛ لأن جعل «رب» غير زائدة في الإعراب يؤدي إلى أشياء لا تجوز في كلام العرب.
منها: أن يكون الفعل المتعدي إلى مفعوله بنفسه لا يصل إليه إلا بوساطة «رب» وذلك نحو قولك في جواب من قال: ما لقيت رجلا عالما: رب رجل عالم لقيت؛ إذ لو لم تجعل «رب» زائدة في الإعراب لكان «لقي» متعديا بواسطتها والفعل المتعدي بنفسه لا يحتاج في وصوله إلى مفعوله إلى واسطة حرف جر. واعتذر الرماني عن ذلك بأن قال (1): «رب» دخلت على معمول الفعل كما دخل الجار في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (2) إلا أن اللام دخلت على معمول تَعْبُرُونَ على سبيل الجواز لما كان تقديمه وتأخيره سائغين. ولما وجب في الفضلة المجرورة بـ «رب» التقديم على الفعل وجب دخول «رب» عليها؛ لأنه ليس بعد الجواز إلا الوجوب.
وهذا الذي اعتذر به ليس لشيء؛ لأن العامل إذا تقدم معموله عليه لم يقوّ في وصوله إليه إلا باللام خاصة، وأيضا فإن المفعول إذا لزم تقديمه على العامل لم يلزم أن يقوّى في وصوله بحرف الجر؛ إذ لك أن تقول: لأي رجل ضربت؛ قدّم اللام على المفعول وإن شئت أسقطتها، فتقول: أي رجل ضربت.
ومنها: أنك تقول في جواب من قال: ما لقيت رجلا عالما، وما مررت برجل عالم: رب رجل عالم لقيته، ورب رجل عالم مررت به، ولولا أن «رب» زائدة في الإعراب لم يسغ ذلك؛ لأن الفعل لا يتعدى إلى اسم بحرف جر ويتعدى مع ذلك إلى ضمير بنفسه أو بحرف جر لا تقول: بزيد لقيته، ولا: بزيد مررت به، وإن جاء ما ظاهره ذلك يؤول كقوله: -
(1) ينظر: الهمع (2/ 27).
(2)
سورة يوسف: 43.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2685 -
هذا سراقة للقرآن يدرسه
…
[والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب](1)
فالضمير المتصل بـ «يدرس» عند النحويين عائد على الدرس المفهوم من «يدرس» ، ولا على «القرآن» ، وكأنه قال: للقرآن يدرس الدرس، ونحو قراءة من قرأ (وللظالمين أعد لهم عذابا أليما)(2).
فـ «للظالمين» متعلق بفعل مضمر يفسره ما بعده والتقدير: وأعد للظالمين أعد لهم عذابا أليما، وهو مع ذلك قليل.
ومنها: أنك تقول في جواب من قال: ما يقول ذلك رجل عالم: رب رجل عالم يقول ذلك، ولولا أن «رب» زائدة في الإعراب والاسم المجرور بها في موضع رفع بالابتداء لم يسغ ذلك؛ لأن فاعل «يقول» ضمير عائد على «رجل» فلو لم يكن «رب رجل» في موضع رفع بالابتداء بل مجرورا متعلقا بـ «يقول» للزم من ذلك تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهره، وذلك لا يسوغ في باب من الأبواب ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول: بزيد فرح، تريد أن زيدا فرح بنفسه.
ومنها: أنك تقول في جواب من قال [4/ 33]: ليس في الدار رجل عالم:
رجل عالم في الدار، ولولا أن «رب» زائدة في الإعراب والاسم المجرور بها في موضع رفع بالابتداء والمجرور الذي هو «في الدار» في موضع خبره لما ساغ ذلك؛ إذ المجرور الذي حرف الجر فيه غير زائد لا يجوز الابتداء به، لا يجوز أن تقول:
برجل عاقل في الدار؛ والسبب الذي لأجله امتنعت «رب» من أن يصل بها عامل إلى معموله ما ذكره (ابن عمر)(3) من أنها ضارعت حرف النفي وحرف النفي لا يصل به عامل، وقد تبين في ما تقدم ذكر مضارعتها بالحرف النفي.
فإن قيل: كيف تجعل «رب» زائدة، والزائد هو الذي يجوز إسقاطه في الكلام فلا يتغير المعنى؟ فالجواب: أن الزائد قسمان:
زائد في اللفظ والمعنى؛ وهذا النوع هو الذي إذا أسقط (من)(4) الكلام لم -
(1) بيت من البسيط، وانظر: ديوان حسان (ص 410)، وإصلاح المنطق (ص 290)، والخزانة (1/ 227)، والمغني (ص 240)، والمقرب (1/ 115).
(2)
سورة الإنسان: 31، والقراءة لابن مسعود رضي الله عنه، وانظر: البحر المحيط (8/ 402) والكشاف (4/ 541).
(3)
كذا بالأصل، ولعل الصواب: ابن عمرون.
(4)
بالأصل: في.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يتغير المعنى، وذلك نحو قولك: ليس زيد بقائم، وما جاءني من أحد.
وزائد في الإعراب، لا في المعنى؛ فهذا النوع هو الذي إن أسقط من الكلام غيّر المعنى، وذلك نحو قولك: جئت بلا زاد، وغضبت من لا شيء؛ فـ «رب» من هذا القبيل، ألا ترى أنها زائدة في الإعراب، وأعني بذلك أنها لا يطلبها عامل
على أن يصل إلى معموله بها بل تطلب الاسم الذي بعدها فتعمل في موضعه، ولا يعتد بها فاصلة بينه وبينه كما لا يعتد بـ «لا» النافية فاصلة بين الخافض والمخفوض. ونظيرها في ذلك «لولا» مع المضمر و «لعلّ» في لغة من جر بها في أنهما لا يصل بهما عامل إلى معموله وأنك إذا قلت: لعل زيد قائم، ولولاي لجاء زيد؛ كان «قائم» خبرا عن «زيد» ، وحاضر المضمر بعد «لولا» خبرا عن الضمير، ولم يصل بـ «لعل» و «لولا» عامل إلى معموله كما أنك إذا قلت: رب رجل عالم في الدار؛ كان المجرور الذي هو «في الدار» خبرا عن «رجل» ولم يصل بـ «رب» عامل إلى معموله.
فإن قيل: النحويون يقولون: إن «رب رجل» من قولنا: رب رجل عالم لقيت؛ متعلق بـ «لقيت» ، ولم يقل أحد بذلك في «لولا» من قولك: لولاي لجاء زيد، ولا في «لعل» من قولك: لعل زيد قائم؛ فالجواب: أن المجرور بـ «لولا» و «لعل» لا يكون أبدا إلا في موضع لا يتعلق فيه بعامل. وأما المجرور بـ «رب» فقد يكون في موضع مفعول وذلك في قولك: رب رجل عالم لقيت، وأشباهه.
ألا ترى أن المجرور بـ «رب» تعلقه بعامل ليس على أنه لا يكون معمولا له إلا بوساطة حرف الجر، فإن قال قائل: قول سيبويه في قولك: رب رجل يقول ذلك: إنك قد أضفت القول إلى الرجل بـ «رب» يعطي أن «يقول» تعدّى إلى الرجل بوساطة «رب» . فالجواب: أن حرف الجر لا يلزم فيه أن تضيف عاملا إلى معمول، بل قد تضيف الخبر إلى المخبر عنه. وإن لم يكن عاملا فيه فـ «ربّ» هي التي أضافت الفعل إلى الرجل على معنى التقليل، ولولاها لم يكن مضافا إليه على معنى القلة، كما أنك إذا قلت: لعل زيد قائم؛ كانت «لعل» مضيفة القيام إلى «زيد» على جهة الترجي؛ إذ لولا «لعل» لم يكن مضافا إليه على ذلك المعنى، وحروف الجر غير الزائدة متعلقة كانت بعامل أو غير متعلقة به إنما معناها الإضافة.
فإن كانت متعلقة أضافت العامل إلى المعمول، وإن كانت غير متعلقة أضافت المبتدأ -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إلى المخفوض بها على المعنى الذي لها. انتهى كلام ابن عصفور (1).
وقد اشتمل على مباحث حسنة، غير أن: في جعله «رب» في الزيادة نظيرة «لا» من قولهم: جئت بلا زاد - نظرا؛ وذلك أن الحكم بزيادة «لا» في مثل: جئت بلا زاد، الموجب له تخطي العامل إياها بعمله في ما بعدها وليس مثل ذلك موجودا في «ربّ» .
وأما ما ذكره من أن: «ربّ» لو لم تكن زائدة في الإعراب لكان يلزم أن يكون الفعل المتعدي الى مفعوله بنفسه لا يصل إليه إلا بوساطة «ربّ» في نحو قولنا:
رب رجل عالم لقيته؛ فيمكن أن يجاب عنه بما تقدم، وهو: أن حرف الجر هنا لم يجلب للتعدي وإنما جلب لما يعطي من المعنى.
وبعد: فكلامه في شرح الإيضاح يقتضي الحكم عليها بالزيادة، وكلامه في شرح الجمل يقتضي أن حكمها حكم الحرف الزائد. ولعل هذا القول أقرب. وأما ابن أبي الربيع فإنه قال: ذهب أكثر النحويين إلى أن «رب» لا بد لها من فعل تتعلق به.
وسمعت لبعض المتأخرين كلاما يقتضي أن «لا» تحتاج إلى متعلق؛ وذلك أنه قال: إذا قلت: رب رجل عالم قد لقيته؛ فـ «رب» هنا حرف دخل على المبتدأ وخفضه وهو بمنزلة «بحسبك زيد» الأصل: حسبك زيد؛ فدخل حرف الجر فانخفض المبتدأ فكما أن المجرور هنا لا يحتاج إلى متعلق فكذلك: رب رجل عالم لا يحتاج إلى متعلق (2).
وهذا الذي قاله لا يثبت ولا يوجد له نظير؛ لأن حرف الجر هنا زائد، وحرف الجر إذا كان زائدا فلا يلزم أن يتعلق بشيء إنما يكون بحسب ما يدخل عليه.
فإن دخل على المفعول طلب أن يتعلق بفعل؛ لأن المفعول طالب له، وإن دخل على المبتدأ أو خبره أو على خبر «ليس» ، أو خبر «ما» لم يطلب ما يتعلق به، ولا يمكنك أن تجعل «رب» هنا زائدة؛ لأنها تحرز معنى، والزائد لا يحرز معنى، وإنما هو مؤكد؛ لأن كل حرف خافض لا يكون إلا موصلا، وإنما خفض إذا كان زائدا ليبقى عليه عمله الذي أنس به. وما أدته العرب للتوكيد، وليس له أصل فلا يكون خافضا؛ لأنه ليس موصلا، و «رب» خافضة فلا بد أن تكون موصلة أو منقولة منها إن جعلتها زائدة. -
(1) هذا النقل من شرح الإيضاح لن تجده إلا في شرح التسهيل لناظر الجيش الذي أعجب بابن عصفور وكتبه، كما تجده في شرح المقرب للدكتور علي محمد فاخر.
(2)
التذييل (4/ 40).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فقد صح ما ذكرته أنها لا بد (لها)(1) من فعل تتعلق به [4/ 34] ولا بد أن يكون ظاهرا، أو محذوفا، وإذا كان محذوفا كان على وجهين:
أحدهما: أن يكون قد ناب منابه شيء فلا يظهر.
الثاني: أن لا يكون قد ناب منابه شيء؛ فيجوز أن يظهر وأن لا يظهر، ويكون ظاهرا إذا لم يكن معك ما يدل عليه، وإذا كان معك ما يدل عليه ولم تكن الصفة تقوم مقامه؛ فأنت بالخيار: إن شئت حذفته، وإن شئت أظهرته، وإذا
كانت الصفة تقوم مقامه فلا يجوز إظهار الفعل.
فمثال ما أنت فيه بالخيار أن تسمع إنسانا يقول لك: ما لقيت رجلا عالما؛ فتقول له: رب رجل عالم لقيت، ولك أن لا تذكر «لقيت» فتقول: رب رجل عالم، وتكتفي بكونه جوابا فإن كان ذلك منك ابتداء فلا بد من إظهار الفعل، وأكثر ما تكون جوابا، وإذا كانت غير جواب فهي على تقدير ذلك (2) إلا أن الفعل يظهر؛ لأن سامعك لا يعلم ذلك الفعل إذا حذفته.
ومثال ما يكون الفعل فيه لا يظهر لأن الصفة تقوم مقامه قولك: رب رجل يفهم هذه المسألة؛ لمن يقول لك: قد فهمتها، فالتقدير: رب رجل يفهم هذه المسألة (وجدت لكن مثل)(3) هذا لا يظهر، وبهذا كان الأستاذ أبو علي (يتأول) (4) كلام سيبويه لأنه قال:«رب» وصلت «يفهم» إلى «رجل» ، أو ما هذا معناه فكان يقول: إن يفهم لا يصح أن يكون إلا صفة لـ «رجل» ؛ لأن فعل المضمر لا يتعدى إلى ظاهره. ألا ترى أنك لا تقول: بزيد افتخر؛ تريد: بنفسه افتخر زيد؛ لأن فاعل «افتخر» ضمير يعود إلى «زيد» فكذلك فاعل «يفهم» ضمير يعود إلى «رجل» فكيف يتعدى إلى رجل بحرف جر؟ فلا بد له من متعلق محذوف إلا أنه لا يظهر، ونابت الصفة منابه، فلما كان كذلك قال سيبويه (5) رحمه الله تعالى: إن «رب» -
(1) بالأصل: له.
(2)
في هامش المخطوط حاشية: كأنه يريد بذلك أنها على تقدير كونها جوابا.
(3)
بالأصل: وجدت مثل لكن، وهو تحريف واضطراب.
(4)
في الأصل: «تناول» ، وينظر: التذييل (4/ 40).
(5)
ينظر: الكتاب (2/ 314، 315)، (3/ 115).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وصلت «يفهم» إلى «رجل» وإن كانت إنما وصلت «وجدت» ونابت «يفهم» منابه، ولما كان قولك: رب رجل يفهم؛ بمنزلة: أقل رجل يفهم، وتنزّل منزلته؛ صار بمنزلة المبتدأ والخبر، وصارت «رب رجل» مبتدأ و «يفهم» خبره، ولذلك أجراه بعض المتأخرين مجرى «بحسبك زيد» ، وهذا إنما يجري فيها في بعض وجوهها، وأما الأصل فما ذكرته أولا. ومن هذا - والله تعالى أعلم - قول امرئ القيس:
2686 -
فيا ربّ مكروب كررت وراءه
…
وعان فككت الغلّ عنه ففدّاني (1)
فإنك لا تقدر أن تعلق «رب مكروب» بـ «كررت» ، ولا تقدر أن تقدّر محذوفا يتعلق به فيجري مجرى ما ذكرته (2). انتهى كلامه.
وأما الشيخ فإنه مقتف كلام هذين الرجلين، ولم يظهر لي ما الذي هو مختاره في المسألة المذكورة؛ فإنه قال: وفي قول المصنف: ولا مضيّ ما تتعلق به نصّ على أنها تتعلق كحروف الجر غير الزوائد (3) قال: وهذا مسألة اختلاف [فيها](4). ذهب الرماني (5)، وابن طاهر إلى أنها لا تتعلق بشيء، وحكاه شيخنا ابن أبي الربيع عن بعض المتأخرين (6)، وذهب الجمهور إلى أنها تتعلق، واختلفوا [في موضع المجرور بها]؛ فذهب الزجاج (7) إلى أن مجرورها في موضع نصب أبدا، وذهب الجرمي (8)، والأخفش إلى أنها تزاد في الإعراب ويحكم على موضع مجرورها بالنصب والرفع على حسب العوامل بعدها ويجوز [فيه] الاشتغال إذا كان العامل قد عمل في ضميره، أو سببيه نصبا، ويعطف على لفظه وعلى موضعه (9).
وذكر حذف الفعل الواقع بعد «ربّ» فقال: وحذف الفعل الذي يكون خبرا لمجرور «رب» ، أو عاملا في موضعه، أو مفسرا لعامل نادر وفاقا لسيبويه (10) والخليل، لا كثير خلافا للفارسي (11)، والجزولي (12)، ولا ممنوع خلافا للكذة -
(1) تقدم.
(2)
ينظر: التذييل (4/ 40) في إيجاز.
(3)
التذييل (7/ 90 أ).
(4)
زيادة من التذييل.
(5)
وانظر: الهمع (2/ 27).
(6)
التذييل (4/ 43)، والهمع (2/ 28).
(7)
التذييل (4/ 43)، والمغني (ص 137)، والهمع (2/ 28).
(8)
المغني (ص 136، 137).
(9)
التذييل (7/ 90، 91) بتصرف.
(10)
الكتاب (3/ 103، 104)، والهمع (2/ 28).
(11)
الهمع (2/ 28).
(12)
عيسى بن عبد العزيز أبو موسى أندلسي لزم ابن بري وأخذ عنه الشلوبين وابن معط له: شرح -