الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[عن: معانيها، وأحكامها]
قال ابن مالك: (ومنها: «عن» للمجاوزة، وللبدل، وللاستعلاء، وللاستعانة، وللتّعليل، ولموافقة «بعد»، و «في»، وتزاد هي و «على»، «والباء» عوضا).
ــ
قال: والصحيح عندي أن تكون الأحوال جمع حال لا جمع حول وكأنه قال: في ثلاث حالات، ويكون المراد بالأحوال الثلاثة: نزول الأمطار بها، وتعاقب الرياح فيها، ومرور الدهور عليها. وإنما لم يسغ عندي ما ذهب إليه أبو الفتح؛ لأن المضاف لا يحذف إلا إذا كان عليه دليل، ولا دليل في البيت على ذلك المضاف الذي ادعى حذفه؛ لاحتمال أن يكون مراده ما ذكرنا؛ فلا يحتاج إذ ذاك إلى حذف، ثم قال: وقد استعملت «في» زائدة في ضرورة الشعر ومن ذلك قول أبي سويد بن أبي كاهل (1):
2513 -
أنا أبو سعد إذا اللّيل دجا
…
يخال في سواده برندجا (2)
ألا ترى أن المعنى: يخال سواده برندجا؛ إلا أن ذلك من القلة بحيث لا يقاس عليه. انتهى. ولا تتعين زيادة في هذا البيت؛ إذ يجوز أن البرندج يخال في سواده، إلا أن يفسر البرندج بشيء يوجب أن هو [السواد نفسه](3).
قال ناظر الجيش: قال المصنف (4): استعمال «عن» للمجاوزة أكثر من استعمالها في غيرها، ولاقتضائها المجاوزة عدّي بها:«صدّ، وأعرض، وأضرب، وانحرف، وعدل، ونهى، ونأى، ورحل، واستغنى، وعقل، وسها، وسلا» وكذلك عدّي بها رغب، وحال»، ونحوهما إذا قصد ترك المتعلق به نحو: رغبت عن اللهو، وملت عن التواني، وقالوا: رويت عن فلان، وأنبأتك عنه؛ لأن المروي والمنبأ به مجاوز لمن أخذ عنه، ولاشتراك «عن ومن» في معنى المجاوزة تعاقبا في تعدية بعض الأفعال نحو كسوته عن عري، ومن عري، وأطعمته عن جوع ومن جوع ونزعت الشيء عنه، ومنه، ويقبل عنه، ومنه، ومنع عنه، ومنه، ومن هذا قراءة بعض -
(1) اليشكري أبو سعد شاعر مخضرم، له عينية سميت في الجاهلية «اليتيمة» لما فيها من الأمثال توفي بعد (60 هـ) وراجع الأعلام (3/ 215)، والسمط (1/ 313)، وطبقات الفحول (ص 128).
(2)
رجز. والبرندج، والأرندج: جلد أسود. وإذا كانت «في» سببية فلا شاهد فيه، وراجع:
الأشموني (2/ 219)، والمغني (ص 170)، والهمع (2/ 30).
(3)
بالأصل: نفس السواد، وهو خطأ لغوي.
(4)
انظر شرح التسهيل لابن مالك (3/ 158).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
القراء فويل للقاسية قلوبهم عن ذكر الله (1) فأوقع «عن» موقع «من» والمعنى واحد (2)، والله تعالى أعلم.
واستعمالها للبدل: كقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً * (3)، وكقول القائل: حج فلان عن أبيه، وقضى عنه دينا، وفي صحيحي البخاري ومسلم (4) أن رجلا قال: يا رسول الله، إنّ أمّي ماتت وعليها صوم أفأقضيه عنها؟
فقال: «لو كان على أمّك دين أكنت (قاضيه) (5) عنها؟» قال: نعم. قال:
«فدين الله أحقّ أن يقضى» (6)، ومنه قول الشاعر:
2514 -
كيف تراني قاليا مجنّي
…
قد قتل الله زيادا عنّي (7)
أي: كأن قتل الله زيادا بدل قتلي إياه، ومثله قول الآخر:
2515 -
حاربت عنك عدى قد كنت تحذرهم
…
فنلت بي منهم أمنا بلا حذر (8)
واستعمالها للاستعلاء: كقول الشاعر:
2516 -
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب
…
عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني (9)
أراد: لا أفضلت في حسب عليّ أي: لم يعل حسبك على حسبي. -
(1) سورة الزمر: 22، وراجع الكشاف (4/ 95).
(2)
قال الزمخشري في الكشاف (4/ 95): (إذا قلت: قسا قلبه من ذكر الله؛ فالمعنى ما ذكرت من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت: عن ذكر الله؛ فالمعنى غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه) وقال الفراء في المعاني له (2/ 418): (
…
كلّ صواب، تقول: أتخمت من طعام أكلته وعن طعام أكلته؛ سواء في المعنى، وكأن قوله: قست من ذكره أنهم جعلوه كذبا فأقسى قلوبهم: زادها قسوة، وكأن من قال: قست عنه يريد: أعرضت عنه).
(3)
سورة البقرة: 48، 123.
(4)
مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري من أئمة المحدثين في صحيحه اثنا عشر ألف حديث وله المسند الكبير والجامع والأسماء والكنى وغيرها (ت 261 هـ) وراجع: تذكرة الحفاظ (2/ 150)، وطبقات الحنابلة (1/ 337)، وفهرسة ابن خير (ص 212).
(5)
بالأصل: قاضيته.
(6)
عن ابن عباس رضي الله عنه وانظره في البخاري: الصوم (42)، وابن حنبل (1/ 234)، ومسلم:
الصيام (155) بنصه.
(7)
رجز للفرزدق ويروي قالبا وقاليا بالموحدة وبالمثناة التحتية. وانظر ديوانه (ص 881) والأشموني (2/ 95) والمحتسب (1/ 52).
(8)
من البسيط لابن المعتز - ديوان المعاني (1/ 340) والمصون للعسكري (ص 36).
(9)
من البسيط لذى الإصبع العدواني، وراجع الخزانة (3/ 222) والخصائص (2/ 288) والمقرب (1/ 197).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومن استعمال «عن» للاستعلاء قولهم: بخل عنه، والأصل: بخل عليه؛ لأن الذي يسأل فـ «يبخل» يحمل السائل ثقل الخيبة مضافا إلى ثقل الحاجة؛ ففي «بخل» معنى ثقل فكان حقيقيّا بأن يشاركه في التعدية بـ «على» ، فإن عدّي بـ «عن» كان معناها معنى «على» ، وأيضا فإنّ «شحّ وضنّ» بمعنى «بخل» وتعديتهما في الغالب بـ «على» لا بـ «عن» فكانت «بخل» (أحق)(1) بذلك إلا أن «بخل» أكثر استعمالا فعديت بـ «عن» نيابة عن «على» ؛ لأنها أخف منها، وبصلاحية «عن» للاستعلاء عدّي بها «رضي» ، والأصل تعديته بـ «على» ؛ لأن قائله مقبل على المعلق به ومثن عليه، ولأن في «رضيت عنه» معنى: رضيته وزدت على رضاه، والزيادة استعلاء فجيء بـ «عن» دالة عليه وكانت «على» أحقّ منها لكنهم قصدوا مخالفة غضب وسخط فعدوا «رضي» بـ «عن» لصلاحيتها للاستعلاء كما تقرر. وقد نبه على الأصل المتروك من قال:
2517 -
إذا رضيت عليّ بنو قشير
…
لعمر أبيك أعجبني رضاها (2)
واستعمال «عن» للاستعانة: كقول العرب: رميت عن القوس، كما يقولون:
رميت بالقوس؛ فـ «عن» هنا كالباء في إفادة الاستعانة. وحكى الفرّاء عن العرب:
رميت عن القوس، وبالقوس على القوس وأنشد:
2518 -
أرمي عليها وهي فرع أجمع
…
وهي ثلاث أذرع وإصبع (3)
واستعمال «عن» للتعليل: كقوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ (4)، وقوله تعالى: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ (5)، ومنه قول ضابئ البرجمي (6): -
(1) في الأصل: حقيقة.
(2)
من الوافر لقحيف العقيلي وانظره في أدب الكاتب (ص 395) والتصريح (2/ 18)، والكامل (3/ 824)، والمقتضب (2/ 320) وهو يروى:«الله» موضع «أبيك» .
(3)
رجز، لحميد الأرقط وانظر: التصريح (2/ 286)، والكتاب (2/ 308)، واللسان «ذرع - رمى - علا - فرع» .
(4)
سورة التوبة: 114.
(5)
سورة هود: 53.
(6)
ضابئ بن الحارث بن أرطاة شاعر خبيث اللسان كثير الشر أدرك الإسلام (ت: 30 هـ). راجع:
الأعلام (3/ 305)، ومعاهد التنصيص (ص 40).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2519 -
وما عاجلات الطّير تدني من الفتى
…
نجاحا ولا عن ريثهنّ يخيب (1)
واستعمال «عن» موافقة لـ «بعد» : كقوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (2) أي: حالا بعد حال، ومنه قول الشاعر:
2520 -
قرّبا مربط النعامة منّي
…
لقحت حرب وائل عن حيال (3)
ومثله:
2521 -
لقد منيت بنا عن غبّ معركة
…
لا تلقنا عن دماء القوم ننتفل (4)
واستعمالها موافقة لـ «في» : كقول الشاعر:
2522 -
وآس سراة الحيّ حيث لقيتهم
…
ولا تك عن حمل الرباعة وانيا (5)
أي: في حمل الرباعة وانيا. وجعلت هنا الأصل «في» كقوله تعالى:
وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (6). وأشرت بقولي: وتزاد هي «وعلى، والباء» عوضا إلى قول الشاعر:
2523 -
أتجزع إن نفس أتاها حمامها
…
فهلّا الّتي عن بين جنبيك تدفع (7)
[4/ 8] وإلى قول الراجز:
2524 -
إنّ الكريم وأبيك يعتمل
…
إن لم يجد يوما على من يتّكل (8)
وإلى قول الشاعر: -
(1) من الطويل وهو ضمن مجموعة أبيات - برواية «رشادا» بدل «نجاحا» - في الدرر (2/ 201).
(2)
سورة الانشقاق: 19.
(3)
البيت للحارث بن عباد، وانظره في: الحلل (ص 245)، والخزانة (1/ 226).
(4)
من البسيط للأعشى. منيت: ابتليت - غب: عقب، يريد: لا نجحد دماء قومك ونتبرأ منها هربا من القتال - وانظر: ديوانه (ص 48) والأشموني (4/ 29)، والعيني (3/ 283).
(5)
من الطويل. وآس من آساه أي: واساه، والرباعة: نجوم الحمالة أي: أقساط ما يتحمل من دية أو غيرها. وانظر: الأشموني (2/ 224)، والمغني (ص 148)، والهمع (2/ 30).
(6)
سورة طه: 42.
(7)
من الطويل لزيد بن الملوح وراجع: التصريح (2/ 16)، والدرر (2/ 15)، والهمع (2/ 22).
(8)
رجز قيل في سعد بن زيد مناه - وانظره في: الأشموني (2/ 222)، والتصريح (2/ 15).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2525 -
ولا يؤاتيك فيما ناب من حدث
…
إلّا أخو ثقة فانظر بمن تثق (1)
قال أبو الفتح ابن جني في البيت الأول: أراد: فهلا عن التي جنبيك تدفع؛ فحذف «عن» وزادها بعد «التي» عوضا (2)، وقال في قول الراجز: أراد: إن لم يجد من يتكل عليه؛ فحذف «عليه» ، وزاد «على» قبل «من» عوضا (3).
ويجوز عندي أن يعامل بهذه المعاملة «من، واللام، وإلى، وفي» قياسا على «عن، وعلى، والباء» فيقال: عرفت ممن عجبت، ولمن قلت، وإلى من أويت، وفي من رغبت، والأصل: عرفت من عجبت منه، ومن قلت له، ومن أويت إليه، ومن رغبت فيه؛ فحذف ما بعد «من» وزيد ما قبلها عوضا. انتهى كلامه رحمه الله تعالى (4)، وقد ذكر لهذا الحرف الذي هو «عن» معاني سبعة كما رأيت.
والجماعة المغاربة لم يثبتوا من هذه المعاني سوى المجاوزة؛ مستندين لقول سيبويه:
وأما «عن» فلما عدا الشيء (5)، قال ابن عصفور: ومعنى «عن» اسما كانت أو حرفا المجاوزة؛ ألا ترى أنك إذا قلت: أطعمته عن جوع؛ فالمعنى: جعلت الجوع مجاوزا له ومنصرفا عنه، وكذلك إذا قلت: سقيته عن العيمة (6) وكسوته
عن العري؛ فقد جعلت العيمة والعري قد تراخيا عنه وجاوزاه، وكذلك أيضا قولك:
رميت عن القوس؛ لأنك قذفت سهمك عنها فجاوزها، وإذا قلت: جلست عن يمينه؛ فالمعنى: تراخيت عن يمينه وجاوزتها. وإذا قلت: أضربت عنه، وأعرضت عنه، فالمعنى: تراخيت عنه وجاوزته إلى غيره. وإذا قلت: أخذت عنه حديثا؛ فالمعنى: عدا إلى منه حديث (7). انتهى.
وكلام الخضراوي (8) قريب من كلامه وبمعناه، وكذا كلام ابن أبي الربيع (9).
ولكنهم نقلوا عن الكوفيين (10) إثبات أربعة معان. وهي: معنى «على» ، ومعنى «بعد» ، -
(1) من البسيط لسالم بن وابصة وراجع: مجالس ثعلب (ص 300)، والمغني (1/ 127) بحاشية الأمير، والهمع (2/ 22).
(2)
راجع الخصائص (2/ 305) والمحتسب (1/ 281)، والدرر (2/ 15) والكشاف: أول سورة المزمل.
(3)
المصادر السابقة.
(4)
انظر: شرح التسهيل (3/ 162).
(5)
الكتاب (4/ 226).
(6)
العيمة: شدة العطش إلى اللبن.
(7)
انظر: نظيره في شرح الجمل (1/ 513).
(8)
التذييل (4/ 22، 23).
(9)
المصدر السابق.
(10)
راجع التذييل (4/ 22، 23، 24).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومعنى «من أجل» ، ومعنى «الباء» ولم يتعرضوا إلى ذكر البدل، ومعنى «في» .
وأما الأربعة التي ذكروها: فقد ذكرها المصنف حيث صرح بكلمة «بعد» ، وأشار إلى معنى «على» بالاستعلاء، وإلى معنى «من أجل» بالتعليل، وإلى معنى «الباء» بالاستعانة، ولنشر إلى كل من المعاني التي هي غير المجاوزة:
أما البدل: فقد استدل المصنف عليه بما تقدم (1)[ولم يرتضه الشيخ فقال بالتضمين في البيتين الأول والثاني]؛ قال الشيخ: وما استدل به المصنف يحتمل التأويل فيقال: إن «قتل الله» ضمن معنى: صرف الله، أي: صرف الله بقتله زيادا عني، وكذلك «حاربت عنك» ضمن معنى صرفت بالمحاربة عنك (2).
وأما الاستعلاء: فقد استدل عليه المصنف بقوله: لا أفضلت في حسب عني، وهو الدليل المذكور عن الكوفيين
وبقول العرب: بخل عنه أي: عليه وأجيب عنه.
أما: «لا أفضلت في حسب عنّي» فقال ابن عصفور (3): ضمن أفضلت معنى:
انفردت، أي: ما انفردت بحسب عني؛ لأنه إذا فضّل عليه في الحسب أي: زاد؛ فقد انفرد عليه بتلك الزيادة. وأما قولهم: بخل عنه؛ فقالوا: إن «بخل» ضمن معنى: رغب أو كفّ؛ التقدير: رغب بماله عنه، أو كف بماله عنه، واستدل الكوفيون أيضا بقول الشاعر:
2526 -
لو أنّك تلقي حنظلا فوق بيضهم
…
تدحرج عن ذي سامه المتقارب (4)
وأجاب ابن عصفور والخضراوي عن ذلك بأن تدحرجه عن ذي سامه المتقارب انتقال عن بعضه إلى بعض؛ ففيه معنى التجاوز والتعدّي (5)، والسامة: عروق الذهب، ويعني بذي سامه المتقارب» البيض المذهب.
وأما الاستعانة: فقد استدل المصنف على ذلك بقول العرب: رميت عن القوس، كما تقول: رميت بالقوس، وأجيب عن ذلك بأن «عن» في «رميت عن القوس» -
(1) بعده في الأصل: أما الآية الشريفة والحديث الشريف، وفي الهامش: بياض قدر سطرين.
(2)
التذييل (4/ 23).
(3)
من شرح الإيضاح المفقود أيضا.
(4)
من الطويل لقيس بن الحطيم، يريد: لو ألقيت حنظلا لتدحرج على رأس كلّ رجل من كثرتهم.
وهو في اللسان (سوم) برواية بيضنا، ومجالس ثعلب (ص 153).
(5)
التذييل (4/ 23) بدون تعيين صاحبي الجواب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
للمجاوزة. وأما «رميت بالقوس» فالباء فيه للاستعانة؛ فالمعنى مختلف وكل واحد من الحرفين مستعمل في موضوعه. وقد استدل الذاهبون إلى ذلك بقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (1) قالوا: التقدير: بالهوى، واستدلوا أيضا بقول امرئ القيس:
2527 -
تصدّ وتبدي عن أسيل وتتّقي
…
بناظرة من وحش وجرة مطفل (2)
أي: تصد بأسيل. وأجيب عن الآية الشريفة بأن المراد أن النطق خارج عن الهوى متجاوزه؛ فمعنى المجاوزة
ظاهر، والمعنى: لا يصدر نطقه إلا عن وحي. هذا جواب الخضراوي (3). وقال ابن أبي الربيع: وأما قوله سبحانه وتعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى فهو بمنزلة: أطعمتك عن جوع؛ لأنه نفى - تعالى - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون نطقه كنطق غيره الذين ينطقون عن الهوى؛ فهو كما يقول ما تكلم عن حرج (4).
ولا يخفى على الناظر تطابق كلام هذين الرجلين. ولا شك أن ما ذكراه أحسن من قول ابن عصفور: إن المعنى وما يصرّف نطقه عن الهوى (5). وأما قول الشاعر:
تصدّ وتبدي
…
...
…
فأجابا عنه بأن «عن» متعلقة بـ «تبدي» أي: وتبدي عن أسيل، وليست متعلقة بـ «تصد» ، وإنما عدّي تبدي بـ «عن» لأنه إذا أبدى عن الشيء فقد صرف عنه ما يستره (6). ومنهم (7) من ذهب إلى التضمين [4/ 9] فضمن «وتبدى» معنى:
وتزيل؛ لأنها إذا أبدت فقد أزالت الستر، فكأنه قال: تصد وتزيل الستر عن أسيل.
وأما التعليل فما استدل به المصنف على ذلك ظاهر وهو قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ (8) وقوله تعالى:
وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ (9)، وكذا ما ذكره من قول الشاعر:
2528 -
ولا عن ريثهنّ يخيب
-
(1) سورة النجم: 3.
(2)
من الطويل، والأسيل: الخد السهل، والناظرة: العين، والبيت في ديوانه (ص 16).
(3)
التذييل (4/ 23) دون تعيين.
(4)
كالسابق.
(5)
التذييل (4/ 23).
(6)
المصدر السابق بلا تبيين.
(7)
في التذييل (4/ 23): (وقال بعض شيوخنا: وأما البصريون فيذهبون إلى التضمين).
(8)
سورة التوبة: 114.
(9)
سورة هود: 53.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولكن المغاربة ذكروا أن الذاهبين إلى ذلك استدلوا عليه بقولهم: أطعمتهم عن جوع، أي: من أجل جوع، وبقول الشاعر:
2529 -
بسير تقلّص القيظان عنه
…
بيد مغازة الخمس الكمال (1)
يريد: تقلص القيظان من أجله، وبقول الآخر:
2530 -
ولقد شهدت إذا القداح توحّدت
…
وشهدت عند اللّيل موقد نارها
عن ذات أولية أساود ربّها
…
وكأنّ لون الملح فوق شغارها (2)
يريد: من أجل ذات أولية، والأولية جمع ولي، وهو الثاني من الوسمي، ويريد به الربيع الذي يكون عنه.
وأجابوا عن ذلك: أما أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ (3) فقالوا: ليست «عن» فيه بمعنى «من أجل» ؛ لأن «أطعمه من جوع» معناه: أنه أطعمه من أجل الجوع، و «أطعمه عن جوع» معناه: أطعمه بعد الجوع؛ فقد عدا وقته وقت الجوع وتجاوزه. وأما قوله:
بسير تقلص القيظان عنه
فقالوا: «عن» فيه باقية على معناها؛ لأن القيظان إنما تقلص بعد وقوع السير، وإذا كان قلوصها بعد السير فقد تجاوز وقت القلوص وقت السير. وأما قول الآخر:
عن ذات أولية أساود ربها
فقالوا: «عن» فيه متعلقة بـ «أساود» و «أساود» ضمن معنى: أساير؛ لأن المساودة هي المسايرة، ومساودته له في حقها سؤال عنها، ويمكن أيضا أن يضمن «أساود» معنى:
أخادع؛ لأنه إنما أسود ربها ليخدعه عنها. ذكر ذلك ابن عصفور في شرح الإيضاح (4).
وأما استدلال المصنف فقد تأوله الشيخ بأن المعنى: إلا بعد موعدة، وبعد قولك، وبعد ريثهن؛ قال: وإذا كان ذلك بعد فقد تجاوز الوقت (5). انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا التأويل؛ لأن المراد أن الاستغفار ما كان من إبراهيم صلى الله عليه وسلم
(1) بنصه وبغير نسبة في المصدر السابق.
(2)
البيتان من الكامل وانظرهما في: الارتشاف (ص 1163).
(3)
سورة قريش: 4.
(4)
ينظر: التذييل (4/ 23، 24).
(5)
التذييل (4/ 24)، (7/ 41 ب).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأبيه إلا لأجل الموعدة؛ فالآية الشريفة مسوقة للاعتذار عنه صلى الله عليه وسلم فإن استغفاره لأبيه إنما كان من أجل الوفاء بعهده له، وليس المراد الإخبار بأن الاستغفار كان بعد الوعد أو قبله، وكذا المراد من الآية الشريفة الثانية أنهم يقولون: إنهم لا يتركون آلهتهم من أجل قول هود صلى الله عليه وسلم. وأما موافقة «بعد» فقد استدل عليه المصنف بقوله تعالى:
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (1)، واستدل أيضا بقول القائل:
2531 -
لقحت حرب وائل عن حيال
وبقول الآخر:
2532 -
عن غبّ معركة
وذكر المغاربة أيضا من الأدلة على ذلك بعد ذكرهم الآية الشريفة قول: امرئ القيس:
2533 -
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها
…
نؤوم الضّحى لم تنتطق عن تفضّل (2)
أي: بعد تفضل، وقول الآخر:
2534 -
ومنهل وردته عن منهل
…
[قفر به الأعطان لم تسهّل](3)
أي: بعد منهل.
وأجابوا عن ذلك: أما الآية الشريفة؛ فقال ابن عصفور: إنما وقعت «عن» فيها موقع «بعد» لتقارب معنيهما؛ لأن
«عن» تكون لما عدا الشيء وتجاوزه و «وبعد» لما تبعه وعاقبه. فإذا جاء الشيء بعد الشيء فقد عدا: وقته وقته. قال: ومثل ذلك:
«لم تنتطق عن تفضّل» ؛ لأنها إذا جعلت النطاق بعد التفضل فقد عدا وقت الانتطاق وقت الشروع في التفضل وتجاوزه. قال: ومثل ذلك:
لأنه إذا ورد منهلا بعد منهل؛ فقد تجاوز وقت ورود الثاني وقت ورود الأول (4).
وقال ابن أبي الربيع - في «لم تنتطق عن تفضّل» -: الذي يظهر لي أن التتنطق لما كان بعد التفضل فكأنه بسببه إذا كان ناشئا عنه فصار يقرب من قولك: كلمته -
(1) سورة الانشقاق: 19.
(2)
من الطويل، ولم تنتطق: لم تشد عليها نطاقا بعد تفضل، والتفضل: لبس ثوب واحد، يريد أن لها من الخدم من يكفيها فهي لا تهتم بأمرها، والبيت في ديوانه (ص 57).
(3)
بيت من الرجز - ذكرنا عجزه - ينسب للعجاج ولأبي النجم. راجع: أمالي الشجري (2/ 269)، والمخصص (14/ 67)، والمغني (ص 148).
(4)
يراجع: التذييل (4/ 24) - دون نسبة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عن حرج، وأكلت عن جوع، وشربت عن عطش قال: وكذلك الكلام في قوله:
2535 -
ومنهل وردته عن منهل (1)
انتهى.
فإن صح ما ذكره - أعني ابن عصفور وابن أبي الربيع - من التأويل ساغ القول بذلك أيضا في: «عن حيال» و «عن غبّ معركة» . وأما موافقة «في» فقد عرفت أن المغاربة لم يتعرضوا إلى ذكره وأن المصنف استدل على ذلك بقول القائل:
2536 -
ولا تك عن حمل الرباعة وانيا
وأنه قال: وجعلت هنا الأصل «في» ، كقوله تعالى: وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (2) لكن قال الشيخ: تعدية «ونى» بـ «عن»
مستعمل في لسان العرب وفرق بين ونى عن كذا، ووني في كذا؛ فإذا (قلت) (3): ونى عن ذكر الله؛ فمعناه المجاوزة وأنه لم يذكره، وإذا قلت: ونى في ذكر الله؛ فمعناه أنه التبس بالذكر وإنما لحقه فيه فتور وأناة (4). انتهى.
وعلى هذا الذي ذكره الشيخ لا يتم استدلال المصنف فلا يثبت أن «عن» تستعمل موافقة «في» وهذا هو الظاهر. ثم إنك قد عرفت قول المصنف: وتزاد هي، و «على، والباء» عوضا، وما ذكره من الأدلة على ذلك وهي قول القائل:
2537 -
فهلّا الّتي عن بين جنبيك تدفع
وقول الآخر:
2538 -
إن لم يجد يوما على من يتّكل
وقول الآخر:
2539 -
فانظر بمن تثق
ولا شك أن ما ذكره ظاهر إلا أن الشيخ قال: لا يتعين هذا التأويل؛ لاحتمال أن يكون الكلام تمّ قوله: «إن لم يجد يوما» ، أي أنه إذا لم يجد ما يستعين به اعتمل بنفسه ثم قال: على من يتّكل، و «من» استفهامية كأنه قال: على أي شخص يتكل؟ -
(1) التذييل (4/ 24) دون تعيين. وروي في الأصل: بعد، بدل عن.
(2)
سورة طه: 42.
(3)
الأصل: قيل، وذا من التذييل.
(4)
التذييل (7/ 42 / أ)، وانظر: القاموس واللسان: «وني» .