الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: شروط الاحتساب عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
المطلب الأول: أن يكون المنكر ظاهرا
.
هذا الشرط هو حجر الأساس الذي وضعه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في بناء الحسبة النظرية.
قال رحمه الله في رسالته إلى أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان بن مسعود الآنف ذكرها:
"فعلى كل حال نبهوهم على مسألتين: الأولى:
عدم العجلة، ولا يتكلمون إلا مع التحقق فإن التزوير كثير.
الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين بأعيانهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله ، فإذا ظهر منهم ما يوجب جهادهم جاهدهم"1.
الشاهد: قوله: ظهر منهم".
قال الجوهري2: ظهر الشيء بالفتح ظهورا: تبين
…
ز الظاهر خلاف الباطن3 - ويراد بالظهور هنا الانكشاف إما بالرؤية أو السماع أو النقل الموثوق الذي يقوم مقامها فإن ظهر له شيء بأحد هذه الطرق فله الاحتساب في هذه الحال4.
1-راجع ص 167 من هذا البحث.
2-
-هو إسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر أول من حاول الطيران ومات في سبيله، لغوي، أشهر كتبه الصحاح مات سنة "1393هـ-1003م"" الأعلام 1/313 باختصار".
3-
تاج اللغة الصحاح العربية 2/731-733 مادة: "ظهر".
4-
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصوله وضوابطه وآدابه ص 298.
فإذا استبان المنكر وظهر للعيان يكون على المحتسب الإنكار، أما ما توارى عن الأنظار فلا إنكار فيه كما صرح بذلك أهل العلم.
قال الماوردي1 رحمه الله: " إن عليه- أي المحتسب- أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته"2.ا. هـ.
برهان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"3.
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه:
…
فلينكره بيده ومن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه...." 4.
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"5.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا" ، يدل على أن الإنكار متعلق بالرؤية، فلو كان مستورا فلم يره، ولكن علم به، فالمنصوص عن أحمد في أكثر
1-تقدمت ترجمته ص "7" هـ "6".
2-
الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 299 للماوردي.
3-
سبق تخريجه ص"9"هـ "3".
4-
سنن الترمذي أ: الفتن ب: ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب 3/317، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي باختصار السند 2/233 ح:1764.
5-
أخرجه مسلم في صحيحه ك: الإيمان – ب: كون النهي عن المنكر من الإيمان
…
ح:80-1/69.
الروايات أنه لا يعرض له، وأنه لا يفتش على ما استراب به. وعنه في رواية أخرى أنه يكشف المغطى إذا تحققه1.
قال القاضي أبو يعلى2 رحمه الله: "وكان- أي الإمام أحمد بن حنبل- يذهب إلى أنه لا يجوز كشف منكر قد استسر به، كما لا يجوز ترك إنكاره مع المظاهرة والمجاهرة به، ويأمر أن يظن بالمسلمين خيرا. كان يقول: إن التواري بالمنكر لا يمنع إنكاره إذا ظهرت رائحة أو صوت"3.
روى الخلال عن منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد النسائي حدثهم قال: " سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون. قال: إذا ظهر له وهم داخل، قلت: لكن الصوت يسمع في الطريق قال: هذا قد ظهر، عليه أن ينهاهم، ورأى أن ينكر الطبل، يعني إذا سمع حسه"4أهـ.
وروى أيضا عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي قال: " سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يسمع حس الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه، فقال: وما عليك؟ وقال: ما غاب فلا تفتش"5. اهـ.
1-جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم 2/269، وانظر لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية 2/433 تألأيف العلامة الشيخ محمد السفارييني الحنبلي –ن المكتب الإسلامي- يروت- دار الخاني- الرياض- ط/3"1411هـ-1991م".
2-
هو: محمد بن الحسين بن خلف بن أحمد الفراء أبو يعلى، ولد لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة ثمانين وثلاثمائة، كان عالم زمانه، وكان أصحاب الإمام أحمد رحمه الله له يتبعون، ولتصانيفه يدرسون والفقهاء على اختلاف مناهجهم كانوا عنده يجتمعون، توفي ليلة الاثنين، بين العشاءين تاسعة عشر رمضان سنة ثمان وخمسين أو أربعامئة " طبقات الحتابلة 2/193-230 باختصار".
3-
المرجع السابق 2/280.
4-
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 61 للخلال.
5-
المرجع السابق ص 60.
فالمظهر للمنكر استحق الإنكار علانية من الناس1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية، ولم يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة"2.ا-هـ.
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله:
" فأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها3 ولا يهتك الأستار حذرا من الاستسرار بها"4.ا. هـ.
وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة مثل سفيان الثوري5 رحمه الله وغيره، وهو داخل في التجسس المنهي عنه6، ولا يحب على العالم ولا على العامي أن يكشف منكرا قد ستر، بل محظور عليه كشفه7 لقوله تعالى:{وَلا تَجَسَّسُوا} 8 ولحديث أبي برزة
1-انظر الهجر في الكتاب والسنة أو إضاءة الشموع في بيان الهجر الممنوع والمشروع ص 187: مشهور حسن محمود سلمان –ن دار ابن القيم –الدمام ط/1"1409هـ-1989م".
2-
مجموع الفتاوى 28/217.
3-
الصواب أن يقول: عليها.
4-
الأحكام السلطانية ص 295 للقاضي أبي يعلى الفراء.
5-
راجع ص 144 من هذا البحث.
6-
جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم 2/269.
7-
كتاب المعتمد في أصول الدين ص 196.
8-
جزء من الآية 12 من سورة الحجرات.
الأسلمي1 رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوارتهم فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته"2.
فكل من الآية والحديث أصل في تحريم التجسس واتباع عورات المسلمين والله أعلم.
فإن للبيوت حرمة فلا يجوز دخولها من غير إذن أصحابها3.
لذلك لا ينبغي للآمر بالمعروف البحث والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن عثر على منكر غيره جهده، هذا كلام إمام الحرمين4، فكما أن الحكم على الناس بالكفر أو بالإسلام أو بالفسوق والعدالة أو غيرها إنما يكون على الظهار من أعمالهم5 دون السرائر منها، فإن الاحتساب كذلك لا يتأتى إلا على ما ظهر من أعمالهم، "إلا أن يصله علم ممن يثق به باقتراف منكر يخشى من عدم تداركه شر عظيم"6 ففي هذه الحالة عليه أن يقارن بين حرمة المستترين وحرمة ذلك المنهي عنه ثم يسلك أخف الطريقين في ذلك دفعا
1-هو: نضلة بن عبيدة أبو برزة الأسلمي الصحابي ، بقي إلى سنة "64هـ". " الكاشف فغي معرفة من له رواية في الكتب الستة 2/322 ت:5843 مختصرا".
2-
أخرجه أبو داود في سننه- ك: الأدب – ب: في الغيبة ح: 4880-5/195، وقال الألباني: حسن صحيح " صحيح سنن أبي داود 3/923 ح:4083".
3-
انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواقع المسلمين اليوم ص 109: صالح بن عبد الله الدويش – ن دار الوطن – الرياض- ط/1"ربيع الثاني 1412".
4-
صحيح مسلم بشرح النووي 2/26، الحاشية بتصرف يسير.
5-
انظر حركة التجديد والإصلاح فينجد في العصر الحديث ص 79 تأليف الدكتور عبد الله بن محمد العجلان – لبنان- ط/1"1409هـ-1989م" – الرياض.
6-
موسوعة الحضارة العربية الإسلامية بحث " الفقه الإسلامي- القضاء والحسبة" 2/280 د. علي عبد القادر- ن المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت ط/الأولى 1986م.
للمفسد وتحقيقا للمصلحة1 مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات مالا يستدرك من انتهاك المحارم، وارتكاب المحظورات2.
ولقد أجمل الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه القاعدة الجوهرية في سياق احتسابه على مطاوعة أهل الدرعية المتقدم حيث قال رحمه الله:
"ومتى لم تتبين3 لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبيين لكم خطؤه بل الواجب السكوت والتوقف"4ا. هـ.
وعليه فمراد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: متى لم يظهر المنكر لم يحل الإنكار، وذلك تقريرا منه لما تقدم من أقوال أهل العلم.
1-انظر الحسبة في الماضي والحاضر بين ثبات الهداف وتطور الأسلوب 1/250 تأليف الدكتور علي بن حسن بن علي القرني –ن مكتبة الرشد – الرياض ط/1-1415هـ-1944م.
2-
الأحكام السلطانية ص 296 للقاضي أبي بعلى الفراء، وانظر في آداب الحسبة ص 24تأليف الفقه أبي عبد الله محمد بن أبي محمد السقطي المالقي الأندلسي- ن دارالفكر الحديث – بيروت- لبنان – ط/"1407هـ-1987م"
3-
التبين في اللغة: الظهور، وتبين الشيء: أي ظهر " انظر لسان العرب المحيط 1/406 مادة: بين".
4-
راجع ص "143" من هذا البحث.