المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: احتسابه برجم المرأة الزانية: - احتساب الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله)

[مرفت بنت كامل بن عبد الله أسرة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌‌‌الفصل التمهيدي: مجتمع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اللهوحياته

- ‌الفصل التمهيدي: مجتمع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌المطلب الأول: الأحوال السياسية

- ‌المطلب الثاني: الأحوال الدينية:

- ‌المطلب الثالث: الأحوال الاجتماعية:

- ‌المطلب الرابع: الأحوال العلمية:

- ‌المبحث الثاني: ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌المطلب الأول: مولده ونسبه ونشأته:

- ‌الفرع الأول: مولده رحمه الله:

- ‌الفرع الثاني: نسبه رحمه الله:

- ‌الفرع الثالث: نشأته رحمه الله:

- ‌المطلب الثاني: رحلته لطلب العلم وشيوخه رحمه الله:

- ‌بين يدي الرحلة:

- ‌الفرع الأول: الرحلة الاولى:

- ‌الفرع الثاني: الرحلة الثانية:

- ‌الفرع الثالث: شيوخه رحمه الله:

- ‌المطلب الثالث: تلاميذه ومؤلفاته وثناء العلماء عليه رحمه الله:

- ‌الفرع الأول: تلاميذه رحمه الله:

- ‌الفرع الثاني: مؤلفاته رحمه الله:

- ‌الفرع الثالث: ثناء العلماء عليه رحمه الله:

- ‌المطلب الرابع: وفاته ومرثياته رحمه الله:

- ‌الفرع الأول: وفاته رحمه الله:

- ‌الفرع الثاني: مرثياته رحمه الله:

- ‌الفصل الأول: الحسبة في فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌المبحث الأول: صفات المحتسب عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌المطلب الأول: الإخلاص

- ‌المطلب الثاني: العلم والعمل:

- ‌المطلب الثالث: الحكمة:

- ‌المطلب الرابع: الأناة والتثبت:

- ‌المطلب الخامس: الرفق:

- ‌المطلب السادس: الصبر

- ‌المبحث الثاني: شروط الاحتساب عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌المطلب الأول: أن يكون المنكر ظاهرا

- ‌المطلب الثاني: ألا يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أكبر منه:

- ‌المطلب الثالث: ألا يكون الإنكار في مسائل الاجتهاد

- ‌المبحث الثالث: درجات الاحتساب عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌المطلب الأول: التغيير باليد

- ‌المطلب الثاني: الإنكار باللسان:

- ‌المطلب الثالث: الإنكار بالقلب:

-

- ‌الفصل الثاني: الحسبة العملية للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌المبحث الأول: احتسابه في جوانب العقيدة

- ‌المطلب الأول: احتسابه في توحيد الألوهية:

- ‌الفرع الأول: فحوى توحيد الألوهية:

- ‌الفرع الثاني: معنى كلمة لا إله إلا الله:

- ‌الفرع الثالث: مقتضى لا إله إلا الله:

- ‌الفرع الرابع: نواقض لا إله إلا الله:

- ‌الفرع الخامس: تكفير المناقضين لكلمة لا إله الله:

- ‌المطلب الثاني: احتسابه في توحيد الأسماء والصفات:

- ‌المطلب الثالث: احتسابه في توحيد الربوبية:

-

- ‌المطلب الرابع: احتسابه بإزالة الأوثان:

- ‌الفرع الأول: قطع الأشجار المعظمة المتبرك بها:

- ‌الفرع الثاني: هدم القباب المبنية على قبور المعظمين:

-

- ‌الملطلب الخامس: احتسابه على أهل البدع:

- ‌الفرع الأول: بدعة بناء القباب على القبور:

- ‌الفرع الثاني: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي:

- ‌الفرع الثالث: بدعة التصوف:

- ‌المطلب السادس: احتسابه على الموالاة والمعاداة:

- ‌المطلب السابع: احتسابه على السحر والتنجيم والكهانة:

- ‌الفرع الأول: السحر:

- ‌الفرع الثاني: التنجيم:

- ‌الفرع الثالث: الكهانة ونحوها:

- ‌المطلب الثامن: احتسابه على التمائم والرقى:

- ‌الفرع الأول: التمائم:

- ‌الفرع الثاني: الرُّقى:

- ‌المبحث الثاني: احتسابه في العبادات:

- ‌المبحث الثالث: احتسابه في المعاملات

- ‌المطلب الأول: احتسابه على الوقف على الأولاد:

- ‌المطلب الثاني: احتسابه على بعض صور الربا:

- ‌المطلب الثالث: احتسابه على الرشوة:

- ‌المطلب الرابع: احتسابه على العشور والمكوس:

- ‌المبحث الرابع: احتسابه في الحدود

- ‌المطلب الأول: احتسابه برجم المرأة الزانية:

- ‌المطلب الثاني: احتسابه بقتال المخالفين للعقيدة الصحيحة:

- ‌المبحث الخامس: احتسابه في الآداب والسلوك

- ‌المطلب الأول: احتسابه في التأدب مع آل البيت:

- ‌المطلب الثاني: احتسابه على الغناء:

- ‌مدخل

- ‌الفرع الأول: احتسابه على الغناء المصاحب للمعازف:

- ‌الفرع الثاني: احتسابه على الغناء المجرد عن المعازف:

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المطلب الأول: احتسابه برجم المرأة الزانية:

القبور، وعدلت على السنن المشروع واندرس الأمر الممنوع وهدم رفيع ذلك البناء وبطل ذلك التعظيم والاعتناء وخر شامخ الأحجار

"1.

ويفصل المؤرخ ابن بشر رحمه الله في قصة هدم هذه القبة قائلاً: "إن الشيخ أراد أن يهدم قبة قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه التي عند الجبيلة فقال لعثمان2:"دعنا نهدم هذه القبة التي وضعت على الباطل وضل بها الناس عن الهدى" فقال: دونكها فاهدمها فقال الشيخ: "أخاف من أهل الجبيلة أن يوقعوا بنا ولا أستطيع هدمها إلا وأنت معي" فسار معه عثمان بنحو ستمائة رجل فلما قربوا منها ظهروا عليهم أهل الجبيلة يريدون أن يمنعوها فلما رآهم عثمان علم ما هموا به فتأهب

فلما رأوا ذلك كفوا عن الحرب وخلوا بينهم وبينها، وذكر لي أن عثمان لما أتاها قال للشيخ نحن لا نتعرضها فقال أعطوني الفأس فهدمها الشيخ بيده حتى ساواها، ثم رجعوا فانتظر تلك الليلة جهال البدو وسفهاؤهم ما يحدث على الشيخ بسبب هدمها فأصبح في أحسن حال"3 ا. هـ.

فكان ذلك نصرا عمليا له ولدعوته أقنع بعض المتشككين في أمره بصحة ما يدعو إليه4 وهذا وعد من الله عز وجل لمن نصر دينه قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 5.

ويصف لنا ابن غنام رحمه الله حال الناس بعد هذا النصر قائلاً:

1-تاريخ نجد المسمى روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام 1/30.

2-

أي الأمير عثمان بن حمد بن معمر.

3-

عنوان المجد في تاريخ نجد 1/9.

4-

انظر الدولة السعودية الأولى الجزء الأول ص44.

5-

جزء من الآية 40 من سورة الحج.

ص: 286

"فلم يبق وثن في البلدان التي كانت تحت يد عثمان وشاع ذلك واستبان ونعم بذلك أهل الإيمان وصلحوا حالاً من ذلك المكان وانتشر الحق من ذلك الأوان واشتهر الأمر وبان وسارت بذلك الركبان"1 ا. هـ.

ولكن سنة الله في خلقه أن يبتلى ويمحص أهل الحق ويصقلوا بالفتن كما يصقل الذهب بالنار لينقى من الشوائب ويزداد لمعاناً!!

لذلك قوبل هذا الاحتساب من الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بكثير من النفور الذي وصفه ابن غنام قائلاً:

"فأنكرت ذلك قلوب الذين حقت عليهم كلمة العذاب وقالوا مثل ما قال الأولون ذووا الكفر والإعجاب: {أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 فأخذوا في رده والإنكار عليه وأتوا بأعظم الأسباب وزجوا الخلق في لجة الضلال والارتياب وضجوا على كلمة الحق بالتكذيب والإكذاب

– وبهتوا – الشيخ بأنه ساحر ومفتر وكذاب وحكموا بكفره واستحلال دمه وماله وجميع من له من أصحاب: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} 3 وأشر الناس

إنكارا عليه وأعطمهم تشنيعا وسعيا بالشر إليه سليمان ابن سحيم وأبوه محمد فقد أنهم4 في ذلك وأنجد وجد في التحريش

1- تاريخ نجد المسمى روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام 1/31.

2-

سورة ص آية 5.

3-

جزء من الآية 5 من سورة غافر.

4-

أنهم: من النهم وهو إفراط الهوة في الطعام وأن لا تمتلىء عين الآكل ولا يشبع

والنهمة الحاجة وبلوغ الهمة والشهوة في الشيء وهو منهوم بكذا مولع به. "القاموس المحيط 4/184 فصل النون والواو باب الميم مادة: النهم".

ص: 287

عليه والتحريض، وهيئوا له أسباب الجريض1 وأرسل بذلك إلى الأحساء والحرمين والبصرة فلم ينل من مراده سوى الخزي والعار والحسرة، ولم يحصل من مراده بغير العثرة، ولقد كاد وشنع وعادى وجشر2 علماء السوء ونادى وكذب عليه وبهت وزور وجد في دحض الهدى وشمر وسعى وفي إبطاله3 وما قصر وبعث الطروس4 منزعه بالباطل والمين5 إلى علماء الحسا والبصرة والحرمين فقاموا معه فورا بالإنكار وأفتوا للحكام والسلاطين والأشرار بأن القائم بدعوة التوحيد

ليس له في الحق تثبت ولا قرار، وأنه من لظى الجحيم والنار على شفا جرف هار، بل جزم أكثر علماء الأمصار في تلك الأزمان والأعصار بأن هذا المبين لآثار السلف الأخيار المتبع لهدي نبيه المختار من أقبح الضلال والفساق والكفار وأشر الخوارج والفجار، وحسبوا أنهم إذا حرشوا عليه الحكام يجدون في قتله ويجتهدون فيفوزون حينئذ بما كانوا يؤملون، ولقد عرفوا أن الذي جاء به الحق ولكنهم كانوا يكتمون: {يُرِيدُونَ أَنْ

1-الجريض الغصة واختلاف الفكين عند الموت "المعجم الوسيط 1/117 مادة: الجريض" والجريض: الريق يغض به: يقال: جرض بريقه تَجْرَضُ، وهو أن يبتلع ريقه على هم وحزن، يقال: مات فلانا جريضا، أي مغموما وفي المثل "حال الجريض دون القريض" والقريض: الشعر، وأصله البعير. وحال: منع. يضرب المثل للأمر يقدر عليه اخيرا حين لا ينفع. وأصله ان رجلا كان له ابن نبغ في الشعر، فنهاه أبوه عن ذلك، فجاش به صدره، ومرض حتى أشرف على الهلاك فأذن له أبوه في قول الشعر، فقال هذا القول. "مجمع الأمثال 1/251لأبي الفضل النيسابوري الميداني، قدم له وعلق عليه نعيم حسين زرزور –دار الكتب العلمية- بيروت ط/1 "1308هـ- 1988م".

2-

جشر الرجل والبعير: أصابه سعال جاف فخشن صوته، ويقال: جشر صوته. فهو أجشر وهي جشراء، "المعجم الوسيط 1/123 مادة: جشر".

3-

الواو هنا زائدة.

4-

الطرس: الصحيفة والكتاب الذي محي ثم كتب ج: طروس واطراس "المرجع السابق 2/554 مادة الطرس".

5-

سبق التعريف بها ص"43" هـ "5".

ص: 288

يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1 فصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع النبوي وتبديله وعدم معرفته بأسرار العلوم وتجهيله، وسطروا فيها الجزم بكفره وبطلان حجته ودليله وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون، فأطبق أهل الباطل والضلال على قبيح تلك الأقوال وأرهفوا أسنة المقال والكل خاض في الإفك ونال فآب بالخسران والإذلال ورجع ولله الحمد بخيبة الآمال:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} 2 والذي تول منهم هذا لأمر الكبير، واقتحم لجج موجه الخطير، وشمر فيه أعظم التشمير، وتنادى عليه مع أعوانه لأجل التغيير حسدا وبغيا لفوزه بهذا الفضل الكثير والفخر النابل المنير سليمان ابن سحيم وأبوه محمد من مطاوعة الرياض والموانيس من أهل منيخ3 وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف ومحمد بن عبد الرحمن بن عفالق فصار كل من هؤلاء معاندا مجادلا مشاقق4 وحذروا منه جميع الأنام، وأخرجوه بلا شك من حوزة الإسلام وأغروا به الخاص والعام خصوصا السلاطين والحكام وقطعوا لهم أنه رافض شريعة محمد عليه الصلاة

1-سورة التوبة آية 32.

2-

سورة الأنعام أية 113.

3-

منيخ: بضم الميم، وكسر النون، وإسكان الياء، فخاء "المجمعة" وما حولها من واديها: كان هذا الاسم يطلق عليه قديما، ولا تعرف إلا به.. أما الآن فقد أصبح هذا الاسم أثريا، وكانوا قبل يقولون "سدير" و"منيخ".. أما الآن فإن "المجمعة" التي هي "منيخ" سابقا، قد أصبحت قاعدة ل"سدير" كله "معجم اليمامة 2/402"، وراجع ص"99" هـ"3".

4-

الصواب أن يقول مشاققاً.

ص: 289

والسلام، وأنه مغير لمنار السنة والأحكام وليس له منها تمسك والتزام ولا بالدين أخذ واعتصام، فليس له ولا لأصحابه عهد ولا ذمام، ولم يكن له قصد ولا مرام إلا تنفير الخواص والعوام، ملأ قلوب الجهال والطغام بما يبديه لهم من ذلك الكلام فيقوموا بالمشاققة على الحكام والولاة ويكونون عليهم عتاة وبما يأمرونهم به في جميع الأحوال عصاة، فهذا غايته ومناه ومنتهى مراده وأقصاه يخوفونهم بهذه الأقاويل ويجلبون لهم أنواع الأباطيل ويحذرونهم منه أنه إن تمكن أمره في البلاد أزال جميع المنكرات والفساد وقطع جميع ما كان من المظالم معتاد، فكانوا بهذا الكلام لهم يغرون وعن طريقه يحذرون وينفرون، وهو رحمه الله صابر على ما يقولون محتسب الأجر فيما إليه ينسبون متسل بما كابده وقاساه قبله الموحدون وما لقيه من الابتلاء المؤمنون وما سعى به لهم الضلال والمشركون:{ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} 1 وهذه سنة الله تعالى في عبادة جارية في جميع الأزمان على مراده، يختبر بها أحبابه المؤمنين ويمتحن بها أحزابه المفلحين:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 2 فيرفع جل وعلا قدر الصابرين ويعلى مرتبة الصادقين ويخفض منزلة المنافقين، ويفضح بإرادته الفاسقين والكاذبين ويحق عليهم كلمة العذاب أجمعين:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 3 فمضى رحمه

1-سورة العنكبوت الآيتان 1-2.

2-

سورة العنكبوت آية 3.

3-

سورة العنكبوت آية 4.

ص: 290

الله تعالى في المناصحة وبذل الجد في الدعوة، والخلق رموا النبال نحوه فصبر متأسيا بسلفه الصالح فكان له بهم أسوة ما كانوا عليه يحزنون:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 1 2ا. هـ.

إلا أن صبره لم يكن إطلاقاً يعني السلبية أو الانهزامية بل كان الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يناضل عن الحق الذي يعتقده ويدين الله به بكل ثبات ويقين، فأرسل إلى علماء المسلمين بعض الرسائل يفسر فيها عن الحق والحقيقة لما لبسهما بعض الجهال وأدعياء العلم- الذين ذكر بعضهم ابن غنام رحمه الله في كلامه السابق- على العوام بسبب هدمه للقباب ومما كتبه محتسبا في ذلك- غفر الله- له رسالته التي قال فيها: "من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام نصر الله بهم سيد الانام وتابعي الأئمة الأعلام.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: جرا علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم وسببه هدم بنيان في أرضنا على قبور الصالحين، فلما كبر هذا على العامة لظنهم أنه تنقيص للصالحين ومع هذا نهيناهم عن دعواهم وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البنيان على القبور كبر على العامة جدا، وعاضدهم بعض من يدعي العلم لأسباب أخر، التي لا تخفى على مثلكم أعظمها اتباع هوى العوام من أسباب أخر فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا

1-سورة الصفات الآيات 171-173.

2-

تاريخ نجد المسمى روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام 1/31.

ص: 291

أشياء يستحي العاقل من ذكرها، وأنا أخبركم بما نحن عليه خبرا لا أستطيع أن أكذب" بسبب أن مثلكم لا يروج عليه الكذب على أناس متظاهرون1 بمذهبهم عند الخاص والعام لا يروّج، فنحن ولله الحمد2 متبعون غير مبتدعين، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل"3.

كما قال أيضا رحمه الله في جملة احتسابه على عبد الله بن سحيم:

" العجب من قولك أنا هادم قبور الصحابة، عبارة الإقناع في الجنائز يجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول4 والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه بعث عليا لهدم القبور5 "6.

بمثل هذه القوة والثبات والجرأة في الدفاع عن لحق، يستطيع المحتسب- بإذن الله تعالى- أن يتغلب على ما يعترض طريق احتسابه من معوقات شتى.

1-لعل الصواب أن يقال متظاهرين.

2-

الصواب ولله الحمد.

3-

الرسائل الشخصية- الرسالة السادسة ص 40، الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/43، وانظر الرسائل الشخصية – الرسالة السادسة والعشرون ص 176، وانظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية 2/52.

4-

الرسائل الشخصية- الرسالة الحادية عشر ص 75، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 8/61.

5-

راجع نص الحديث ص "212".

6-

انظر الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 1/233، وقد نسب الكلام لابن القيم في إغاثة اللهفان، راجع ص "285"هـ"4".

ص: 292

‌الملطلب الخامس: احتسابه على أهل البدع:

لا تجتمع السنة والبدعة في آن واحد كما لا يجتمع الليل والنهار سويا، فكلما ازداد المسلم تمسكا بالسنة، ازداد بعدا عن البدعة وإنكار لها. والبدع من أبرز المنكرات العقائدية التي احتسب على أهلها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأولاها في حسبته اهتماما كبيرا، لما ظهر في مجتمعه من صور شتى للبدع والمحدثات.

والبدع مفردها بدعة.

والبدعة في اللغة: من بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه: أنشأه وبدأه

وابتدعت الشيء: اخترعته لا على مثال سابق1.

فأصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء الذي يحدث من غير أصل مسبق ولا مثال ولا أُلف مثله عن أهل السنة2.

والبدعة في الشرع هي: طريقة في الدين مخترعة تضاهي- الطريقة- الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه3.

وهكذا فالمراد بالبدعة ما أحدث في الدين مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة4 مثل جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد5.

1-لسان العرب 1/229-230 مادة: " بدع" بتصرف.

2-

انظر كتاب الحوادث والبدع ص20.

3-

الاعتصام 1/37.

4-

انظر جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم 2/118.

5-

انظر المرجع السابق 2/119.

ص: 293

عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع1 متفرقون يصلى الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر رضي الله عنه إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر رضي الله عنه نعمة البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله2.

وقد غلب لفظ البدعة على الحدث المكروه في الدين مهما أطلق هذا اللفظ3 وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفا في الذم4.

والبدعة أنواع:

النوع الأول: ما يكون في أصل العبادة بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يحدث صلاة غير مشروعة أو صياما غير مشروع أو أعيادا غير مشروعة كأعياد الموالد وغيرها.

النوع الثاني: ما يكون في الزيادة على العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلا.

النوع الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة بأن يؤديها على صفة

1-أوزاع: أي متفرقون. أراد كانوا يتنفلون فيه بعد صلاة العشاء متفرقين. " النهاية في غريب الحديث والأثر 5/181 مادة: وزع".

2-

أخرجه البخاري في صحيحه- ك: الصوم- ب: فضل من قام رمضان 3/85.

3-

الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 24 لابن أبي شامة- ن مكتبة المؤيد- الطائف- مكتبة دار البيان- دمشق – بيروت- طط1412هـ-1991م".

4-

النهاية في غريب الحديث والأثر 1/107.

ص: 294

غير مشروعة، ذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، وكالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

النوع الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع، كتخصيص يوم النصف من شعبان، وليلته بصيام وقيام، فإن أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل1.

وقد حارب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله البدع بكافة أنواعها، ويرى أن الاحتساب عليها من أفضل القربات قال رحمه الله:

"

الأمر بالسنة والنهي عن البدعة أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وهو من أفضل الأعمال"2.

كما يرى أنه فعل الخير المعلق به الفلاح، قال رحمه الله في سياق تعليقه على قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3: " فوالله الذي لا إله إلا هو إن فعل الخير اتباع ما شرع الله، وإبطال4 من غير حدود الله، والإنكار على من ابتدع في دين الله، هذا هو فعل الخير المعلق به الفلاح خصوصا مع قوله صلى الله عليه وسلم: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" 5"6اهـ.

1-البدعة تعريفها، أنواعها، أحكامها ص 6: لفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان- ن دار العاصمة- الرياض- ط/1"1412هـ".

2-

ملحق المصنفات ص 125.

3-

سورة الحج آية 77.

4-

بمعنى الإنكار على غير حدود الله.

5-

تقدم نصه وتخريجه راجع ص "220" هـ"1".

6-

الرسائل الشخصية- الرسالة الثانية عشرة ص 85، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/264.

ص: 295

فهذا الحديث قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها1.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "

الذين الذي يتقرب العباد به إلى الله، لا بد أن يكون الله أمر به وشرعه على ألسنة رسله وأنبيائه، وإلا فالبدع كلها ضلالة، وما عبدت الأوثان إلا بالبدع"2اهـ.

فالإتباع للرسول صلى الله عليه وسلم حصن حصين من الابتداع، وفي الأثر عن الزهري رحمه الله أنه قال:" الاعتصام بالسنة نجاة"3.

وفيه تحقيق معنى شهادة أن محمدا رسول الله، المكملة لكلمة التوحيد، فإذا كان معنى " لا إله إلا الله"كما مر سابقا- لا معبود بحق إلا الله4 فإن من معنى " محمدا رسول الله":" لا متبوع بحق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم"5.

وقد قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بيان معناها: "

ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع"6 وبتحقيق معناها يغلق باب البدع التي قام الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بالاحتساب

1-انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/254.

2-

الرسالة القبرصية ص 47 من شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ملك قبرص بتقديم وتحقيق علي السيد صبح المدني عفا الله عنه- ن مكتبة المدني ومطبعتها- جدة – ط/"1399هـ-1979م".

3-

أورده اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/56 ع:15، والآجري في الشريعة ص 313، وأخرجه مطولا أبو نعيم في الحلية 3/369، وابن المبارك في كتاب في كتاب الزهد ويليه كتاب الرقائق ص 281 ع:"817" للإمام عبد الله بن المبارك المروزي رحمه الله، وحققه وعلق عليه الأستاذ حبيب الرحمن الأعظمي ع:817 ص 281- ن دار الكتب العلمية- بيروت، واللالكائي في المصدر المذكور بالهامش نفسه ع:136-137، 1/94-95.

4-

راجع ص"238" من هذا البحث.

5-

انظر البدعة وأثرها السيء في الأمة ص 46 لسليم الهلالي- ن المكتبة الإسلامية- الأردن ط/1"1404هـ"

6-

الأصول الثلاثة وأدلتها ص 12.

ص: 296

عليها، والتي منها:

ص: 297

‌الفرع الأول: بدعة بناء القباب على القبور:

وقد سبق ذكر هذه البدعة التي احتسب عليها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قريبا1.

1-راجع ص "283"-292" من هذا البحث.

ص: 297

‌الفرع الثاني: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي:

يحتفل عدد من المسلمين والعلماء المضلين- في كثير من بلاد المسلمين ما عدا بلاد الحرمين حرسها الله- في ربيع الأول من كل سنة مناسبة مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من يقيم هذا الاحتفال في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت أو الأمكنة المعدة لذلك وبحضرة جموع كثيرة من عوام الناس1.

وأول من أحدث هذه البدعة الفاطميون2 في عهد المعز لدين الله 3مما يضعف قول السيوطي: بأن أول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل4الملك

1-انظر محاضرات في العقيدة والدعوة 1/118 للشيخ صالح بن فوزان الفوزان- ن دار العاصمة- ط/"1413هـ".

2-

انظر المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المعروف بالخطط المقريزية 1/490 " ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها عيدا"، تأليف المقريزي- ن مكتبة المثنى- بغداد- ط"1970م" وانظر صبح الأعشى في صناعة الإنشا 3/576 الجلوس الثالث جلوسه في مولد النبي صلى الله عليه وسلم، تأليف أحمد ابن علي القلقشندي المتوفى "821هـ-1418م"، شرحه وعلق عليه وقابل نصوصه محمد حسين شمس الدين- ن دار الكتب العلمية—بيروت لبنان.

3-

هو معد بن إسماعيل المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله الفاطمي العبيدي أبو تميم صاحب مصر، انقادت له بلاد إفريقية كلها ما عدا سبتة، دخل القاهرة يوم 5 رمضان سنة 362هـ- فكانت مقر ملكه وملك الفاطمين إلى آخر أيامهم، توفي سنة "365هـ"، " الأعلام 7/265 بتصرف".

4-

إربل: بالكسر ثم السكون، وباء موحدة مكسورة، ولام، قلعة حصينة، ومدينة كيبرة، تعد من أعمال الموصل، وبينهما مسيرة يومين. وف ربض هذه القعلة

مدينة كبيرة، عريضة طويلة، قام بعمارتها وبناء سورها، وعمارة أسواقها، الأمير مظفر الدين كوكبري بن زين العابدين كوجك علي " معجم البلدان 1/138 باختصار".

ص: 297

المظفر أبو سعيد كوكبري 1 2 كما ذكر ابن كثير أنه كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا3 ولم يذكر أنه أول من احتفل به.

وذكر أبو شامة أن أول من فعله بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملاء أحد الصالحين المشهورين وبه اقتدى صاحب إربل4 وكذلك لم يقل أنه أول من احتفل به.

بينما لم يحتفل به البتة الرسول صلى لله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان.

قال السخاوي: إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة5. الأولى المفضلة.

ومن ثم فحكمه بدعة منكرة لا أصل لها في الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح6.

قال الإمام الفاكهاني7 رحمه الله: " لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا

1-هو: كوكبري، مظفر الدين، ابن الأمير زين الدين أبي الحسين علي بن بكتبين التركماني، أبو سعيد الملك صحاب إربل، ولد في قلعة الموصل سنة "549هـ-1154م" وولي إربل بعد وفاة أبيه وتوفي بها سنة "630هـ-1233م". " الأعلام 5/237 باختصار".

2-

انظر الحاوي للفتاوى في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون 1/189-ن دار الباز- مكة المكرمة- دار الكتب العلمية- بيروت لبنان " 1402هـ".

3-

البداية والنهاية في التاريخ 13/131.

4-

انظر الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 31، وللإستزادة في هذه المسألة انظر: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل ص 88 لفضيلة الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري- ط، ن- وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد- الرياض "1416هـ-1995م".

5-

البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها ص 481 للدكتور عزت علي عيد عطية- ن دار الكتب لحديثة- القاهرة.

6-

انظر محاضرات في العقيدة والدعوة 1/119.

7-

هو: عمر بن علي بن سالم بن صدقة اللخمي الإسكندراني، تاج الدين الفاكهاني، عالم بالنحو، من أهل الإسكندرية، ولد سنة "654هـ-1256م" زار دمشق سنة "731هـ" واجتمع به ابن كثير توفي سنة "734هـ-1334م". " الأعلام 5/56 باختصار".

ص: 298

سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة، أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون"1 ولو كان في هذا خير فكيف غفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة والتابعين وتابعيهم2 وإذا كان هذا الاحتفال ليس معروفا لديهم أو الأئمة الأربعة، فلا شك أنه مردود على قائله آثم فاعله3 لما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 4.

ويربط الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بين الاحتفال بالمولد النبوي واحتفال النصارى بمولد المسيح عليه السلام قائلا:

" الأعياد من الشرائع فيجب فيها الإتباع، وما أحدث في المولد إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويصحب هذه الأعمال من الريا5 والكبر والاشتغال عن المشروع ما 6 يفسد حال صاحبها"7اهـ.

والحق أن من يحدث بدعة ويقول من أجل محبة الرسول فما فعله ذاك إلا

1-المورد في عمل المولد " حكم الاحتفال بالمولد النبوي" ص20 تصنيف الإمام أبي حفص تاج الدين الفكاهاني- ن مكتبة المعارف- الرياض ط/1"1407هـ-1987م".

2-

انظر السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات ص 143 لمحمد عبد السلام الشقري- ن مكتبة النهضة ومكتبة جمهورية مصر- القاهرة.

3-

انظر البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار ص 299 لفوزان السابق- ن مكتبة ابن الجوزي- الأحساء ط/2"ربيع الأول 1410هـ-أكتوبر 1989م".

4-

أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ك: الصلح ب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود 3/240.

5-

يقصد الرياء.

6-

لعل الصواب أن يقال: بما.

7-

ملحق المصنفات- المسائل التي لخصها محمد بن عبد الوهاب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ص 88، انظر تفصيل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 2/614.

ص: 299

محاداة لله وللرسول وبغضا للرسول1.

ثم إن غالب الاحتفالات بالمولد- مع كونها بدعة- لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات وغير ذلك من الشرور2 وهذا بكل أسف ما ابتليت به الأمة الإسلامية في زماننا، فكثير من بلدان المسلمين القاصية والدانية – ما خلا بلاد الحرمين حرسها الله- تعلن وتجاهر بهذه البدعة وكأنها سنة من سنن الهدى! فإلى الله المشتكى.

ومما يجدر التنبيه إليه هنا أن جل القصائد والمدائح النبوية التي يتغنى بها في المولد لا تخلو من ألفاظ الشرك وعبارات الغلو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم3 بقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله" 4 مثل قصيدة البردة5

1-انظر محاضرات في العقيدة والدعوة 1/277.

2-

التحذير من البدع ص 6 لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز- ن دار القاسم- الرياض- ط/1"1415هـ".

3-

انظر الإنصاف فيما قيل في المولد من اللغو والإحجاف ص 45 لأبي بكر الجزائري- ن دار الطرفين- الطائف.

4-

أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه ك: الأنبياء ب: واذكر في الكتاب مريم

،4/204.

5-

قصيدة البردة أو البرأة الميمية القافية نظمها البوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وهي من أشهر شعره وأخبثه، زعم استخفاف بعقول بعقول العوام، أما أولي العلم والأبصار فحذرون من هذه القصيدة المنحرفة لما فيها من الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم وإشراكه مع الله عز وجل في تحيدي الألوهية الربوبية، ومن الشواهد على ذلك قوله فيها:

يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

ولن يضيق رسول الله جاهك بي

ومن علومك علم اللوح والقلم

=

ص: 300

للبوصيري1 التي حوت من الكفر والشرك ما يندى له الجبين، وقد احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على شرحها قائلا:

"

وأعجب من ذلك ما رأيت وسمعت ممن يدعي أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن ويشرح الحديث بمجلدات ثم يشرح " البردة" ويستحسنها ويذكر في تفسيره وشرحه للحديث أنه شرك، ويموت ما عرف ما خرج من رأسه، هذا هو العجب العجاب"2اهـ.

وعليه فتلك الموالد المشتملة على هذه الأمور الشركية أشد إثما وأعظم ذنبا وأولى بالإنكار وأجدر ألا تكون ممن يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا3.

لذلك جاء احتساب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على سليمان بن سحيم قويا لما أنكر عليه حضوره المولد وأكله من الطعام المعد له

=عياذا بالله-: ديوان البوصيري ص 248 تحقيق محمد كيلاني- ن شكرة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر- ط/2"1393هـ-1973م".

1-

هو: محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري كان أحد أبويه من البوصيري له ديوان شعر وأشهر شعره، وأخبثه قصيدة البردة الآنف ذكرها توفي سنة ست وتسعين وست مائة. " انظر كتاب الوافي بالوفيات 3/105-111 ت 1045 تأليف: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي- ن دار فرانز شتاينر بفيسبادن " 1394هت-1974م"، ط/2. فوات الوفيات والذيل عليها 3/362 ت 456 تأليف: محمد ابن شاكر الكتبي عباس- ن دار الثقافة- بيروت- لبنان ط/مطابع دار صادر بيروت " مارس" 4/197، والأعلام 6/136.

2-

الرسائل الشخصية- الرسالة الثامنة عشرة ص 122، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 2/34.

3-

حوار مع المالكي في رد منكراته وضلالته ص 129 لعبد الله بن منيع ط/2" 1403هـ-1983م" وقف لله تعالى، بتصرف يسير.

ص: 301

مع ما فيه من طلب الغوث والمدد من غير الله1.

1-راجع ص "219" هـ-"4" من هذا البحث.

ص: 302

‌الفرع الثالث: بدعة التصوف:

يرجع أصل المسمى التصوف إلى عدة أمور منها: لباس الصوف، وصوفة القفا1، وأهل الصفة، وأهل الصفاء، والصفوة من خلق الله، والصف المقدم بين يدي الله تعالى2.

والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب3.

وللصوفية منهج في العبادة يخالف منهج السلف، فهم يقصرون العبادة على المحبة، ويغالون في أوليائهم وشيوخهم4 ويغالون بترك الحلال تعبدا ويتنطعون في العبادات5.

ولهم رؤساء ضالون مضلون من أبرزهم ابن عربي الملقب بالشيخ الأكبر،

1-وهي الشعرات النابتة في مؤخر القفا: تلبيس إبليس ص 163 بتصرف.

2-

انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 129 لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى- ن دار طويق- الرياض ط/1" 1414هـ" باختصار.

3-

تلبيس إبليس ص 161.

4-

لمزيد من التفصيل انظر حقيقة التصوف وموقف الصوفية من أصول العبادة والدين ص 22-49 لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان- ن دار العاصمة- الرياض ط/1"1شوال 1412هت".

والصوفية في ميزان الكتاب والسنة ص 5-23 إعداد الشيخ محمد بن جميل زينو- ن دار المحمدي- جدة – ط/1" 1415هـ-1995م".

5-

انظر ما أنا عليه وأصحابي دارسة في أسباب افتراق الأمة ومقومات وحدتها الشرعية والكونية من خلال حديث الافتارق ص 35 لأحمد سلام- ن دار ابن حزم- بيروت لبنان ط/1"1415هـ-1995م".

ص: 302

يعتبر تفسه خاتم الأولياء، وهو رئيس مدرسة وحدة الوجود1 القائلة بأنه لا شيء سوى هذا العالم وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته2 فهو عنده يجمع بين النقيضين في ذاته وبين الضدين في صفاته، فهو الوجود الحق وهو العدم الصرف، وهو الخالق وهو المخلوق، وهو عين كل كائن، وصفاته عين صفات كل موجود وكل معلوم، هو المؤمن وهو الكافر، هو الموحد الخالص التوحيد وهو المشرك الأصم الوثنية هو الجماد وهو الحيوان وهو الملاك، وهو الشيطان..تلك هي بعض ذاتيات رب ابن عربي3 4 -العياذ بالله-.

ومما حدى بالعلماء الأفذاذ إلى تكفيره5.

وقد استدل الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله بكلام صاحب الإقناع في تكفير الصوفية في معرض احتسابه عليهم فقال: " وقال أيضا في أثناء الباب: ومن اعتقاد أن لأحد طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يجب عليه اتباعه أو أن لغيره خروجا عن اتباعه، أو قال أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم

1-انظر الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص 343: إعداد ونشر الندوة العالمية للشباب الإسلامي- الرياض ط/2"1409هـ-1989م".

2-

مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي ص 22 للعلامة برهان الدين البقاعي، تحقيق وتعليق عبد الرحمن لوكيل- ن رئاسة غدارة البحوث العلمية والإفتاء- الرياض "1415هـ" وقف لله تعالى.

3-

هو: محمد بن علي بن محمد ابن عربي، أبو بكر الحاتمي الأندلسي المعروف بمحي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر، فيلسوف، ولد في مرسية " بالأندلس" سنة "560هت-1165م" قدوة القائلين بوحدة الوجود، أنكر عليه أهل الديار المصرية شطحات صدرت عنه، له العديد من المؤلفات في التصوف وتوفي سنة "638هـ-1240م"" انظر الأعلام 6/281".

4-

هذه هي الصوفية ص 34 لعبد الرحمن الوكيل- ن دار الكتب العلمية ط/2"1399هـ-1979م" بتصرف.

5-

انظر مصرع التصوف ص 137، وانظر أقوال أهل العلم القاضية بتكفيره بالمرجع نفسه ص 52 وص 124. والبداية والنهاية في التاريخ 13/149. والسماع والرقص ص 83 لشيخ الإسلام ابن تيمية- ن مكتبة عبد العزيز السلفية- الإسكندرية- مطبعة المدني- القاهرة، وميزان الاعتدال في نقد الرجال 3/259 ت 7984 للذهبي، تحقيق علي البجاوي- ن دار الباز- مكة المكرمة- دار المعرفة- بيروت ط/1"1382هـ-1963م".

ص: 303

علم الشريعة دون علم الحقيقة أو قال إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كفر في هذا كله1، ولو تعرف من قال هذا الكلام فيه وجزم بكفرهم وعلمت ما هم عليه من الزهد ولعبادة وأنهم عند أكثر أهل زماننا من أعظم الأولياء لقضيت العجب2".

كما احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على أحد المتأثرين بابن عربي الصوفي في جملة احتسابه على سليمان بن سحيم فقال رحمه الله:

"ولا يخفاك أني عثرت على أوراق عند ابن عزاز3 فيها إجازات4 له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه رجل يقال له عبد الغني، ويثنون عليه في أوراقهم، ويسمونه العارف بالله، وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون، حتى قال ابن المقرئ الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر، فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه هو شيخهم ويثنون عليه أنه العارف بالله فكيف يكون الأمر؟ "5اهـ.

وكذا ابن الفارض6 رأس من رؤس أهل الاتحاد7.

1-انظر الاقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 4/298.

2-

الرسائل الشخصية- الرسالة الحادية عشرة ص 68، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 8/56.

3-

لم أجد له ترجمة.

4-

الإجازة: أن يأذن الشيخ لغيره بأن يروي عنه مروياته أو مؤلفاته " الباعث الحثيث شرح اختصار علم الحديث للحافظ ابن كثير ص 121 هـ- "1" تأليف أحمد محمد شاكر – ن دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان". " وألفية السيوطي في علم الحديث ص 130 هـ"2" بتصحيح وشرح احمد محمد شاكر- ن دار المعرفة- بيروت – لبنان".

5-

الرسائل الشخصية- الرسالة الحادية عشرة ص 72، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 8/58.

6-

هو: عمر بن علي بن مرشد بن علي الحمودي الأصل، المصري الموالد والدار والوفاة، ولد سنة "576هـ-1181م" أشهر المتصوفون، في شعره فلسفة تتصل بما يسمى " وحدة الوجود" مات سنة "632هـ-1235م". "الأعلام 5/55 باختصار".

7-

انظر مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي ص 56.

ص: 304

وقد رماه بالزندقة نحو من أربعين عالما1.

وقد احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب على أتباع ابن عربي وابن الفارض من متصوفة زمانه فقال رحمه الله:

"من أعظم الناس ضلالا متصوفة في معكال2 وغيره مثل ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع3 وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض، وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر بريء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته، والعجب كل العجب أن الذي يدعي المعرفة يزعم أنه لا يعرف كلام الله، ولا كلام رسوله بل يدعي أني أعرف كلام المتأخرين مثل الإقناع وغيره وصاحب الإقناع قد ذكر أن من شك في كفر هؤلاء السادة والمشايخ فهو كافر4، سبحان الله، كيف يفعلون أشياء في كتابهم أن من فعلها كفر، ومع هذا يقولون نحن أهل المعرفة وأهل الصواب وغيرنا صبيان جهال،

1-انظر تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد ص 192 للشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ إبراهيم بن عمر بن حسن بن أبي بكر البقاعي الشافعي ضمن: " مصرع التصوف"، كما حذر منه الذهبي انظر ميزان الاعتدال 3/241 ت 6173.

2-

معكال: بلدة عامرة قديمة منذ أكثر من سبعة قرون كانت تشكل مع بلدة مقرن ما يعرف بالرياض في القرن الثاني عشر. واسم معكال قديم يعود إلى عصور الجاهلية

تعتبر معكال التطور التاريخي لمدينة حجر التي اختفى اسمها وحل معكال ومقرن محلها وكونت في القرن الثاني عشر مدينة الرياض الحالية" معجم مدينة الرياض ص 227 تأليف خالد بن أحمد السليماني ط/1"1404هـ-1983م" والآن هي حي من أحياء مدينة الرياض الجنوبية. " انظر معجم اليمامة 2/380" يحده من الشمال دخنة ومن الجنوب منفوحة ومن الشرق البطحاء ومن الغرب نخل جري. " انظر معجم مدينة الرياض ص 230".

3-

لم أجد له ترجمة.

4-

انظر الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 4/300.

ص: 305

والصبيان يقولون اظهروا لنا كتابكم، ويأبون عند إظهاره أما في هذا ما يدل على جهالتهم وضلالتهم؟ "1 اهـ.

ويشتد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله للغاية في إنكاره على من ينتحل مذهب ابن عربي وابن الفارض حتى يصل به الإنكار إلى درجة الهجر!.

فيقول رحمه الله:

" وأما الاتحادي ابن عربي صاحب الفصوص2 المخالف للنصوص وابن الفارض الذي لدين الله محارب وبالباطل للحق معارض، فمن تمذهب بمذهبهما فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلا، وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخالفين لشريعة سيد المرسلين، فإن ابن عربي وابن الفارض ينتحلان نحلا تكفرهما، وقد كفرهم كثير من العلماء العاملين فهؤلاء يقولون كلاما أخشى المقت من الله في ذكره فضلا عمن انتحله، فإن لم يتب إلى الله من انتحل مذهبهما وجب هجره وعزله عن الولاية إن كان ذا ولاية من إمامة أو غيرها، فإن صلاته غير صحيحة لا لنفسه ولا غيره"3اهـ.

وذلك من باب هجر المبتدع، الذي جاءت به الشيعة الإسلامية فيقول رحمه الله في شأن هجر أهل البدع:

"ورأى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة"4اهـ.

1-الرسائل الشخصية- الرسالة الثامنة والعشرون ص 189، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 8/72.

2-

الصواب:: الفصوص، وهو كتاب فصوص الحكم الذي اشتمل على أشياء ظاهرها كفر صريح. " انظر: البداية والنهاية في التاريخ 13/149".

3-

الرسائل الشخصية- الرسالة الثامنة والعشرون ص 193.

4-

المرجع السابق الرسالة الأولى ص 11، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/30.

ص: 306

وعلل ذلك بقوله رحمه الله: " هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة وترك السلام عليهم، تحقيرا لهم وزجرا"1.

والأصل في هجر المبتدع قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} 2.

قال القرطبي رحمه الله: "وإذا ثبت تجنب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى"3.اهـ.

وهجر المبتدع من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وقد كثرت أقوالهم في هذا الباب وإليك واحدا منها:

قال الإمام إسماعيل الصابوني4 رحمه الله في سياق بيانه لعقيدة السلف وأصحاب الحديث: ويبغضون أهل البدع، الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب ضرت، وجرت إليها من

1-القسم الرابع من مؤلفات الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب مختصر زاد المعاد للإمام ابن القيم ص 295.

2-

جزء من الآية 140 من سورة النساء.

3-

الجامع لأحكام القآن 5/418.

4-

هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل، أبو عثمان الصابوني، مقدم أهل الحديث في بلاد خراسان، ولد بنسابور سنة "373هـ-983م"، لقبه أهل السنة فيها بشيخ الإسلام، كان فصيح اللهجة، واسع العلم، عارفا بالحديث والتفسير، يجيد الفارسية إجادته العربية، من مؤلفاته: عقيدة السلف، الفصول في الأصول، توفي بنيسابور سنة "449هـ-1057م"" الأعلام 1/317 بتصرف".

ص: 307

الوسواس والخطرات الفاسدة ما جرت"1 اهـ.

وآثار السلف في هذا الباب مستفيضة أذكر بعضا منها على سبيل المثال:

قال يحيى بن أبي كثير2 رحمه الله: " إذا رأيت المبتدع في طريق فخذ في غيره"3.

وقال إسحاق ابن إبراهيم بن هانئ النيسابوري رحمه الله: سألت أبا عبد الله – أحمد بن حنبل- عن رجل مبتدع، داعية يدعو إلى بدعة، أيجالس؟ قال: لا يجالس ولا يكلم، لعله أن يرجع"4.

ويذكر النووي رحمه الله أن هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم يجوز دائما والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام5 إنما هو في من هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، أما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائما6.

ولا يقطع الهجر إلا رجوع المبتدع وتوبته عن بدعته.

1- عقيدة السلف وأصحاب الحديث أو الرسالة في اعتقاد أهل السنة وأصحاب الحديث والأئمة ص 298 للإمام إسماعيل الصابوني تحقيق د. ناصر الجديع- ن دا العاصمة ط/1"1415هـ".

2-

هو: يحيى بن أبي كثير الإمام أبو نصر اليمامي الطائي مولاهم ،، أحد الأعلام، كان من العباد العلماء الأثبات، مات سنة "129هـ". " الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة 2/3730 ت: 6235 باختصار".

3-

أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 6/29، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وأصحاب الحديث والأئمة بلفظ:" إذا لقيت صاحب بدعة" 1/137 ع: 259، والآجري في الشريعة ص 64، وابن بطة في الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرقة المذمومة بلفظ: "

فخذ في طريق آخر" 2/474 ع:490،491،492،493، وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 3/69.

4-

مسائل الإمام أحمد بن حنبل ع:1855،2/153.

5-

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار" أخرجه أبو داود في سننه ك" الأدب ب: في من هجر أخاه المسلم ح 4914،5/215، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/928 ح:4106.

6-

صحيح مسلم بشرح النووي 13/106- الحاشية، بتصرف يسير.

ص: 308

قال الخطابي1 رحمه الله: " تحريم الهجرة بين المسلمين أكثر إنما هو فيما تكون بينمهما من قبل عتب موجدة، أو لتقصير يقع في حقوق العشرة ونحوها، دون ما كان من ذلك في حق الدين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مر الأوقات والأزمان، وما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق"2اهـ.

وقد جمع بعضهم أسماء من كان يزجر بالهجر من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وذكر منهم: عثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعائشة أم المؤمنين، وحفصة أم المؤمنين، وعمار بن ياسر رضي الله عنه، وسعيد ابن المسيب، وطاووسا ووهب بن منبه، والحسن البصري، وابن سيرين، وسفيان الثوري رحمهم الله، وخلقا إلى أن ختم بالنووي، فإنه كان يزجر بالهجر ويراه3.

وقد عزا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تشديد السلف في معاداة أهل البدع والضلالة إلى أمرين:

"الأول: غلظ البدعة في الدين في نفسها، فهي عندهم أجل من الكبائر4، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون به أهل الكبائر، كما تجد في قلوب الناس أن الرافضي عندهم ولو كان عالما عابدا أبغض وأشد ذنبا من السني المجاهر بالكبائر.

1- هو: حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، أبو سليمان، فقيه محدث من أهل بست " من بلاد كابل" من نسل زيد بن الخطاب، ولد سنة "319هـ-931م" وتوفي سنة " 388هـ-998م". " الأعلام 2/272 باختصار".

2-

مختصر سنن أبي داود 7/5 للحافظ المنذري ومعالم السنن لأبي سليمان الخطابي وتهذيب الإمام ابن قيم الجوزية، بتحقيق أحمد شاكر، ومحمد حامد فقي- ن دار المعرفة- بيروت لبنان- ط"1400هـ-1980م".

3-

هجران أهل البدع أو " الزجر بالهجر" ص 39 تأليف جلال الدين السيوطي – ن دار السلف – الرياض- ط/1"1415هـ-1995م" بتصرف.

4-

لعله يقصد الكبائر من دون الإشراك بالله، وإلا فالاحتساب على الشرك أجل عندهم منه على البدعة والله أعلم.

ص: 309

الثاني: أن البدع تجر إلى الردة الصريحة، كما وجد من كثير من أهل البدع"1 اهـ.

وموضوع هجر المبتدع يجب أن يفهم ضمن منهج أهل السنة والجماعة بمراعاة مقاصده وأحكامه وضوابطه الشرعية المبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد2 فإن الشرع الشريف يزن الواقعات والأحوال الداخلة تحت قاعدته العامة " الولاء والبراء" بميزان قسط وقسطاس مستقيم، وسطا عدلا بين جانبي الإفراط والتفريط، فلا تزيد عن حدها ولا تنتقص عنه، فتلتقى العقوبة للمبتدع بالهجر مع مقدار بدعته باعتبارات مختلفة، وما يحف بذلك من أحوال تنزل على قاعدة رعاية المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها3، فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه4، فإن هجر المسلم شأنه خطير، عن أبي خراش السلمي5 رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه"6.

1- مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب- القسم الأول- العقيدة والآداب الشرعية ص 314.

2-

الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد من كتاب " سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي جمعا وتخريجا، ودراسة 2/745، إعداد الدكتور: جمال بن أحمد بشير بادي- ن دار الوطن- الرياض- ط/1"1416هـ".

3-

هجر المبتدع ص 40 لبكر أبو زيد- ن دار ابن الجوزي الدمام- الأحساء- ط/ 2"1410هـ-1989م"، بتصرف يسير.

4-

المجموع الثمين ص 31 من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين- ن دار الوطن- الرياض- ط/1"1410هـ".

5-

هو: حدرد بن أبي حدرد أبو خراش السلمي، صحابي روى عنه أبو داود.، " الكاشف في من له رواية في الكتب الستة 1/315 ت:957".

6-

أخرجه أبو داود في سننه ك: الأدب ب: فيمن يهجر أخاه المسلم ح: 4915، 5/215، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/928 ح:4107.

ص: 310

وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

و"

ما صح عن العلماء من أنه لا يكفر أهل القبلة، فمحمول على من لم تكن بدعته مكفرة، لأنهم اتفقت كلمتهم على تكفير من كانت بدعته مكفرة"1 اهـ.

ويقول الشاطبي2 رحمه الله مفرقا بين البدعة المكفرة وغيرها: " الاختلاف من جهة كونها كفرا وعدمه فظاهر

لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب – عافانا الله- وليس كذلك ما لم يبلغ حكم سائر الكبائر مع الكفر في المعاصي، فلا بدعة أعظم وزرا من بدعة تخرج عن الإسلام، كما أنه لا ذنب أعظم من ذنب يخرج عن الإسلام"3اهـ.

لذلك يجزم الإمام أحمد بن حنبل بوجوب الهجر في هذه الحال فقال: " ويجب هجر من كفر، أو فسق ببدعته، أو دعا إلى بدعة مضللة، أو مفسقة، على من عجز عن الرد عليه، أو خاف الاغترار به والتأذي، دون غيره، وقيل يجب هجره مطلقا وهو ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه السابق، وقطع ابن عقيل به في معتقده، قال: ليكون ذلك كسرا له واستصلاحا"4 اهـ.

والصوفية من أكفر المبتدعة فهم أولى بالهجر من غيرهم، ولقد حذر منهم السلف الصالح.

عن عبد الرحمن بن مهدي وذكر الصوفية، فقال: " لا تجالسوهم، ولا

1- رسالة في الرد على الرافضة ص 20، تحقيق الدكتور ناصر بن سعد الرشيد- ن مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي- مكة المكرمة.

2-

هو: إبراهعيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، أصولي حافظ، من أئمة المالكية، توفي سنة "790هـ-1388م"" الأعلام 1/75 باختصار".

3-

الاعتصام 1/174 باختصار يسير.

4-

الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/268.

ص: 311

أصحاب الكلام عليكم بأصحاب القماطر1 فإنما هم بمنزلة المعادن مثل الغواص هذا يخرج درة، وهذا يخرج قطعة ذهب"2.

وقال ابن عقيل: ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين، فهؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول، وهؤلاء يفسدون الأعمال، ويهدمون قوانين الأديان، قال: وقد خبرت طريق الفريقين غاية هؤلاء الشك، وغاية هؤلاء الشطح، والمتكلمون عندي خير من الصوفية لأن المتكلمين قد يردون الشك، والصوفية يوهمون التشبيه والإشكال والثقة بالأشخاص الضلال3 اهـ.

على الرغم مما لدى المعتزلة من الزيغ والضلال والانحراف عن منهاج أهل السنة والجماعة والإحداث في دين رب العالمين، إلا أن بدعة الصوفية الكفرية القائلة بالحلول والاتحاد أشد وبالا وأعظم ضلالا.

ومثلما اشتد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في إنكاره على الصوفية ومن تأثير بأفكارهم الهدامة ينبغي على المسلمين عامة ورجال الحسبة بصفة خاصة أن يشتدوا في الإنكار عليهم وعلى غيرهم من المبتدعة، كل حسب استطاعته، والله المستعان.

1- القماطر: جمع قِطمر وهي: ما تصان فيه الكتب " لسان العرب 5/3740- مادة قطمر".

2-

أورده ابن بطة في الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة 2/472 ع:483.

3-

الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/235 بتصرف يسير، تلبيس إبليس ص 275.

ص: 312

‌المطلب السادس: احتسابه على الموالاة والمعاداة:

الموالاة والمعاداة من أهم القضايا العقدية التي احتسب فيها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

وهما كلمتان متضادتان في المعنى:

فالموالاة لغة: مصدر من ولي، والي: القرب والدنو..والولي: ضد العدو، والموالاة ضد المعاداة، والولاية: النصرة1.

والولي: الصديق والنصير....

قال ابن الأعرابي: الولي: التابع المحب، وتولاه: اتخذه وليا، وأنه لبين الولاة والولية والتولي والولاء والولاية واللاية.

والموالاة: المتابعة، وتوليت فلانا أي أتبعته، ورضيت به والتولي الاتباع2.

والمعاداة لغة: مصدر من العدو ضد الولي..يقال عدو بين العداوة والمعاداة.. وتعادى القوم تباعدوا3.

وعاديت الشيء: باعدته، وعديت له: أبغضته، وتعاديت عنه أي تجافيت.

لا يعادني أي: لا يجافيني..وتعادى ما بينهم: اختلف4.

ويوازن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين المعنين قائلا: " أصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة البغض فإن التحاب يوجب التقارب

1-الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 6/2528 مادة: ولي مختصرا.

2-

لسان العرب6/4924-4925 مادة: "ولي" مختصرا.

3-

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 6/2419 مادة: " عدا" مختصرا.

4-

لسان العرب 4/194-251 مادة: عدا بتصرف.

ص: 313

والاتفاق.. والتباغض يوجب العداوة والاختلاف"1اهـ.

كما قال ابن القيم رحمه الله: " الولاية تنافي البراءة فلا تجتمع البراءة والولاية أبدا، والولاية إعتزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبدا.. والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبداً"2 اهـ.

وأصل الولاء القرب والتقارب بين أهل الإيمان بقلوبهم وإن تباعدت أبدانهم3.

أما عن معنى الموالاة والمعاداة في الشرع: فيقول الشيخ سليمان بن عبد الله ابن محمد بن عبد الوهاب4 رحمه الله: " الموالاة5 - في الله- التي هي لازم الحب: النصرة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبين باطنا وظاهرا.

والمعاداة فيه: أي إظهار العداء بالفعل كالجهاد لأعداء لله والبراءة منهم والبعد عنهم باطنا وظاهرا"6اهـ.

ويذكر أهل العلم أن من أصول العقيدة الإسلامية أنه يجب على كل مسلم

1-قاعدة في المحبة ص 198، تحقيق وتعليق الدكتور محمد رشاد سالم- ن وط مكتبة التراث الإسلامي- القاهرة.

2-

أحكام أهل الذمة 1/242، حققه وعلق عليه الدكتور صبحي الصالح- ن دار العلم للملايين- ط/2"1401هـ-1981م" بيروت.

3-

محاضرات في العقيدة والدعوة 1/270 بتصرف.

4-

هو: حفيد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية عام "1200هـ" تربى في بيت علم وصلاح وتقى، فأقبل على العلم وانقطع إليه بكليته، عينة الإمام سعود بن عبد العزيز قاضيا في مكة المكرمة، كما اختاره ليكون مدرسا، توفي في آخر سنة "1233هـ" مقتولا " انظر علماء نجد خلال ستة قرون1/291-298".

5-

للإستزادة انظر كلام الإمام الطبري عن معنى الموالاة في جامع البيان في تفسير القرآن 6/178، والحافظ ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 2/392.

6-

تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 480 للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب- ن المكتب الإسلامي ط/4"1400هـ" بيروت- دمشق، بتصرف يسير، وانظر كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ابن حسن رحمه الله عن الموالاة والمعاداة في الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/236، 2/157، وكلام الشيخ عبد العزيز العنقري بالمرجع السابق 7/309.

ص: 314

يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها، فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويوالهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم1.

والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 2.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} 3.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 4.

ومما يجب التنبيه عليه أن الموالاة ليست مرادفة للتولي المشار إليه في الآية السابقة بل بينهما اختلاف، وفي ذلك يقول الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف5 رحمه الله: " التولي كفر يخرج من الملة وهو كالذب عنهم وإعانتهم بالمال والبدن والرأي، والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب كبل الدواء أو بري القلم أو

1-انظر الولاء والبراء في الإسلام ص 3 للشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان- ن دار الوطن- الرياض "1411هـ".

2-

سورة آل عمران آية 28.

3-

سورة النساء آية 144.

4-

سورة المائدة آية 51.

5-

هو: عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقيه خطيب من أهل نجد، ولد في الهفوف سنة "1265هـ-1849م" كان مرجع النجديين في أمور دينهم، شارك في سياستهم وحروبهم واشتهر بالكرم والدهاء، ظل في الرياض بعد هجر آل سعود إلى الكويت وهو جد الملك فيصل بن عبد العزيز لأمه، توفي في الرياض سنة "1340هـ-1921م". " الأعلام 4/99 بتصرف يسير".

ص: 315

التبشش لهم لو رفع السوط لهم"1.

ويقول الشيخ سليمان بن سحمان في قصديته" المسماة بحماقة وجهالة":

وأصل بلاء القوم حيث تورطوا

هو الجهل في حكم الموالاة عن زلل

فما فرقوا بين التولي وحكمه

وبين الموالاة التي هي في العمل

أخف ومنها ما يكفر فعله

ومنها يكون دون ذلك في الخلل2

ويذكر أهل العلم أن موالاة الكفار من سمات المنافقين3:

فإذا كان الأمر كذلك فهذا كاف في تحريمها4.

ويقول الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مبينا حكم موالاة أعداء الإسلام:

"من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب5، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم"6.

قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ

1- الددر السنية في الأجوبة النجدية 7/201.

2-

ديوان عقد الجواهر المنضدة الحسان ص 213، أشرف على تصحيحه وضبطه وعلق عليه عبد الرحمن بن سليمان الرويشد- ن مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحيفة- ط/ مطابع الأهرام التجارية، ولأهل العلم أقوال متعددة في هذه القضية لا يتسع المقام لسردها، انظر المقال فيها في كتاب الموالاة والمعادة في الشريعة الإسلامية ص 31-47 لمحامس بن عبد الله الجلعود- ن دار اليقين- المنصورة دار الفرقان- الرياض ط/"1407هـ-1987م".

3-

انظر مجموع الفتاوى 28/190.

4-

انظر مجموعة كتب ورسائل العلامة الشيخ حمد بن علي بن عتيق رحمه الله ص 15- رسالة سبيل النجاة والفكاك في موالاة المرتدين وأهل الإشراك: عني بتصحيحها ومراجعتها إسماعيل بن سعد بن عتيق- ن دار القرآن الكريم- بيروت " 1400هـ".

5-

الأصول الثلاثة وأدلتها ص4.

6-

ثلاث مسائل ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- القسم الأول ص 275.

ص: 316

وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.

بل إن هذا الفعل مناف للإيمان مضاد له، ولا يجتمع هو والإيمان كما لا يجتمع الماء والنار في تصور البشر2.

لذلك يربط الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في احتسابه بهذا الخصوص بين الموالاة والمعاداة في الله وبين تحقيق كلمة لا إله إلا الله قائلا:

" المراد قولها3 مع معرفتها بالقلب، ومحبتها ومحبة أهلها، ويبغض من خالفها ومعادته"4.

وينكر رحمه الله متعجبا على من: " عرفها5 من وجه، وعاداها وأهلها من وجه، وأعجب منه من أحبها وانتسب إلى أهلها، ولم يفرق بين أوليائها وأعدائها، يا سبحان الله العظيم أتكون طائفتان مختلفتين6 في دين الله، وكلهم على الحق كلا والله"7. اهـ.

1- سورة المجادلة آية 22.

2-

انظر مجموعة التوحيد تحتوي على كتب ورسائل للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ولبعض أبنائه وأحفاده وغيرهم من العلماء – رسالة حكم الموالاة أهل الشرك لسليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 388- ن شركة العبيكان- الرياض- أمر بطبعه الشيخ محمد العبيكان- الرياض.

3-

أي كلمة التوحيد لا إله إلا الله.

4-

مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- القسم الأول- رسالة تفسير كلمة التوحيد ص 363.

5-

أي كلمة لا إله إلا الله.

6-

الصواب أن يقال مختلفتان.

7-

الرسائل الشخصية- الرسالة السابعة والعشرون ص 183، الدرر السنية في الأجوبة النجدية 2/29.

ص: 317

وإذا كانت البغضاء متعلقة بالقلب، فإنها لا تنفع حتى تظهر آثارها وتتبين علاماتها، ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعدواة والمقاطعة، فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين، وأما إذا وجدت الموالاة والمواصلة، فإن ذلك يدل على عدم البغضاء1، وهل يتم الدين ويقام علم الجهاد وعلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله؟ 2.

وفي ذلك يقول الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

"الإنسان لا يستقيم له إسلام- ولو وحد لله وترك الشرك- إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض"3.

ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن هناك فرقان بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان4.

والولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم لإيمانهم، ونصرتهم، والنصح لهم، والدعاء لهم، والسلام عليهم، وزيارة مريضهم، وتشييع ميتهم، وإعانتهم، والرحمة بهم، وغير ذلك.

والبراءة من الكفار تكون ببغضهم- دينا- ومفارقتهم، وعدم الركون إليهم،

1- رسالة سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك للشيخ حمد بن عتيق ضمن مجموعة رسائله ص 26 بتصرف يسير.

2-

أوثق عرى الإيمان ص 38: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب " 1200-1233هـ"، تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان- ن دار طيبة- الرياض- ط/1"1409هـ-1988م" بتصرف يسير.

3-

مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- القسم الأول- العقيدة والآداب الإسلامية ص 355، وانظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية 7/154.

4-

أوثق عرى الإيمان ص 38 بتصرف يسير.

ص: 318

أو الإعجاب بهم، والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعا، وجهادهم بالمال واللسان والسنان، نحو ذلك من مقتضيات العداوة في الله1.

وذلك بعيدا عن حظوظ النفس ونزغات الهوى التي تعمى عن الحق وتصم بدافع من الشيطان.

ويوصي الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله المسلمين بموالاة أهل لا إله إلا الله ومعاداة من حارب التوحيد وأهله قائلا:

" فالله الله يا إخواني، تمسكوا بأصل دينكم ، وأوله وآخره، وأسه ورأسه شهادة أن لا إله إلا الله، واعرفوا معناها وأحبوها وأحبوا أهلها واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت وعادوهم، وأبغضوهم، وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم ، أو لم يكفرهم"2.

وما أحوجنا في هذا الزمن الذي تميعت فيه قضايا التوحيد! إلى الأخذ بوصية الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب النفيسة والعمل بها.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ممحصا للقضية: المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه، والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه"3اهـ.

1- نواقض الإيمان القولية والعملية ص 360 للدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف- ن دار الوطن- الرياض ط/2"1415هـ".

2-

مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب- القسم الأول- العقيدة والآداب الإسلامية ص 368.

3-

مجموع الفتاوى 28/209.

ص: 319

وهنا تبرز المفاضلة الإيمانية وترتفي بمن يحقق الموالاة والمعاداة لله وحده دون سواه حتى تصل به إلى القمة.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: "أي عرى الإيمان- اظنه قال: أوثق-؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم:" الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله" 1، والباعث الحقيقي لتلك الموالاة والمعاداة محبة الله عز وجل، فمتى وجدت محبته في القلب تحمل المؤمن حينئذ وتقبل تكاليف هذه المحبة ولوازم عبادته لله تعالى2.

وإذا أشرب القلب بالإيمان وتحقق بالتوحيد، ولم يبق فيه محبة لغير الله عز وجل ومحبة ما لا يحبه الله ولا كراهية لغير ما يكرهه الله3.

أما من يوالي أعداء الله أو يعادي أولياءه فقد توعده الله بالوعيد الشديد.

قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 4.

ففي الآية الكريمة دلالة على أن من اتخذ من دون الله ورسوله أولياء، ويوالي لهم ويعادي لهم، ويرضى لهم، ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة يراها يوم

1- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، مسند عكرمة عن ابن عباس 12/215 ح: 11537، وأخرجه الطيالسي: مسند أبي داود الطيالسي ص 50-ح: 378- ن دار المعرفة – بيروت- لبنان.

والحديث حسنة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/306 ح:1728، وصحيح الجامع الصغير وزيادته 2/343 ح:2536.

2-

انظر الولاء والبراء في الإسلام: محمد بن سعيد القحطاني ص 108-ن دار طيبة- الرياض- ط/1.

3-

انظر جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم 2/376.

4-

سورة البقرة الآيتان 166-167.

ص: 320

القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه، إذ لم يجرد موالاته ومعاداته، ومحبته وبغضه، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصله ووسيلة ومودة وموالاة كانت لغير الله تعالى1.

وقد حذر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من مغبة معاداة التوحيد وأهله وموالاة الشرك وأهله قائلا:

"وأنا أنصحكم لله وانخاكم 2 لا تضيعوا حظكم من الله، وتحبون دين النصارى على دين نبيكم فما ظنكم بمن واجه الله وهو يعلم من قلبه أنه عرف التوحيد دينه ودين رسوله وهو يبغضه ويبغض من اتبعه، ويعرف أن دعوة غيره هو الشرك، ويحبه ويحب من اتبعه أتظنون أن الله يغفر لهذا"3اهـ.

فليت شعري لو أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله موجود بين ظهرانينا تراه ماذا سيقول عن أعياد الميلاد، ورأس السنة، والكنائس المشيدة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى، والأضرحة التي يطاف حولها ويدعى أصحابها جهارا في تلك البلاد؟ فإلى الله المشتكى.

1- انظر الرسالة التبوكية ص 51 تأليف الإمام ابن قيم الجوزية، مراجعة الشيخ عبد الظاهر أبي السمح- ن قصي محب الدين الخطيب – ط/3"1396هـ".

2-

سبقت الإشارة إلى معناها ص "219"هـ"3".

3-

الرسائل الشخصية- الرسالة التاسعة والعشرون ص 197، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/61.

ص: 321

‌المطلب السابع: احتسابه على السحر والتنجيم والكهانة:

‌الفرع الأول: السحر:

تعريف السحر لغة: الأخذ، وكل ما لطف مأخذه1.

وأصل السحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، والسحر خديعة، والسحر الفساد2.

تعريف السحر اصطلاحا: هو: عزائم ورقى وعقد تؤثر في الأبدان، والقلوب فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه3.

هناك تعريف آخر هو: عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله4.

وهو عمل يتقرب به إلى الشيطان5 لأنه اتفاق بين ساحر وشيطان على أن يقوم الساحر بفعل المحرمات أو الشركيات مقابل مساعدة الشيطان له وطاعته فيما يطلب منه 6 والعياذ بالله.

1- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 2/679 مادة: " سحر".

2-

لسان العرب 3/1952 مادة: "سحر" باختصار.

3-

الكافي في فقه الإمام المبجل احمد بن حنبل 4/164 تأليف موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي، تحقيق زهير الشاويش- ن المكتب الإسلامي ط5"1408هـ-1988م" – بيروت- دمشق، انظر المغني 12/299، وقد ذكر ذلك الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله انظر الرسائل الشخصية- الرسالة الحادية عشرة ص 69، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 8/56.

4-

الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 4/307، وقد ذكره الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله انظر الرسائل الشخصية- الرسالة الحادية عشرة ص 69، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 8/56.

5-

لسان العرب 13/195، مادة " سحر".

6-

انظر الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار ص 17 تأليف وحيد عبد السلام بالي- ن مكتبة التابعين- القاهرة ط/3"1412هـ-1992م".

ص: 322

الأدلة على ثبوت السحر:

والسحر حقيقة ثابتة، قال القرطبي رحمه الله:"ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة. وذهب عامة المعتزلة إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة"1.

والأدلة على حقيقته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، أذكر منها:

أولا: الدليل على حقيقة من الكتاب:

قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 2.

فلقد دلت الآية الكريمة على تعلم السحر، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه ولا أخبر تعالى أنهم يعلمون الناس، فدل أنه حقيقة3.

1-الجامع لأحكام القرآن 2/42، ولأهل العلم في إثبات حقيقة كلام قيم المقام لسرده وللإستزادة منه انظر الفتاوى 11/267، وشرح العقيدة الطحاوية ص 569، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث ص 139، وبدائع الفوائد لابن القيم الجوزية 2/221- ن، ط بدون، والغنية في أصول الدين ص 154 تأليف: سعيد ابن عبد الرحمن النيسابوري المعروف بالمتولي الشافعي ، تحقيق الشيخ أحمد حيدر – ن مؤسسة الكتب الثقافية- ط /1"1406هـ-1987"بتصرف.

2-

سورة البقرة آية 102.

3-

انظر الجامع لأحكام القرآن 2/42.

ص: 323

وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 1 جاء في الصحيح: {النَّفَّاثَات} : "السواحر، تسحرون تعمون"2.

وقال ابن القيم رحمه الله: " هن السواحر اللاتي يعقدون الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى تنعقد ما يردن من السحر"3.

ثانيا: الدليل على حقيقته من السنة:

حديث عائشة رضي الله عنها: " سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني رزيق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا، ثم قال يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيه فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصحابه: ما وجع الرجل؟ فقال مطبوب4 قال من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم، قال في أي شيء؟ قال في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر، قال وأين هو؟ قال في بئر ذروان5، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه فقال يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، قلت يا رسول الله أفلا أستخرجه؟ قال قد عافاني الله فكرهت أن أثوِّر على الناس فيه شراً

1-سورة الفلق آية 4.

2-

صحيح البخاري ك: الطب ب: السحر 7/176.

3-

بدائع الفوائد 2/221.

4-

قال ابن الأثير: مطلوب أي مسحور، كنوا بالطب عن السحر، تفاؤلا بالبرء. " النهاية في غريب الحديث والأثر 3/110 مادة:" طبب"، وقال الحافظ في الفتح: يقال طب الرجل بالضم إذا سحر. " فتح الباري شرح صحيح البخاري" 10/228".

5-

ذروان: بئر لبني زريق بالمدينة. " النهاية في غريب الحديث والأثر 2/160".

ص: 324

فأمر بها فدفنت" 1.

ففي الحديث دلالة واضحة على حقيقة وجود السحر لتأثيره على الرسول صلى الله عليه وسلم.

سأل إسحاق الكوسج2 الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله: السحر حق؟ قال بلى أليس قد سحر النبي3.

فدل هذا الأثر الملموس للسحر على أنه حقيقة.

ثالثا: حقيقته من الإجماع:

قال ابن هبيرة4 رحمه الله: "وأجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال لا حقيقة له"5.

وكذلك المعتزلة فإنهم أنكروا حقيقة السحر، قال المتولي الشافعي6 رحمه الله:

1-أخرجه البخاري في صحيحه 7/176 ك: طب ب: السحر.

2-

هو: إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج أبو يعقوب التميمي، المروزي، الحافظ، ثقة ثبت من الطبقة الحادية عشرة، مات سنة "251هـ" " انظر الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة" 1/239 ت: 322، تقريب التهذيب 1/61 ت:436.

3-

المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة 2/101 جمع عبد الإله بن سلمان بن سالم الأحمدي- ن دار طيبة- الرياض- ط/1"1412هـ-1991م" بتصرف يسير.

4-

هو: يحيى بن محمد بن هبيرة الذهلي الشيباني، أبو المظفر، عون الدينمن كبار الوزراء في الدولة العباسية، عالم بالفقه والأدب، ولد سنة "499هـ-1105م" وتوفي ببغداد سنة "560هـ-1165م"، " الأعلام 8/175 باختصار".

5-

الإفصاح عن معاني الصحاح 2/226، ن المؤسسة السعيدية بالرياض، للإستزادة انظر السحر حقيقته وحكمه والعلاج منه مع مناقشة شبهات منكري سحر النبي صلى الله عليه وسلم ص 25 تأليسف الدكتور سفر بن غرم الله الدميني- ط/1 "1412هـ-1991م".

6-

هو عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري أبو سعد، المعروف بالمتولي، فقيه مناظر، عالم بالأصول، كبير في فقه الشافعية ، ولد بنيسابور سنة "426هـ-1035م"، تولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد، توفي فيها سنة "478هـ-1086م"" الأعلام 3/232 بتصرف".

ص: 325

"وأنكرت المعتزلة ذلك، قالوا لا أصل له"1.

وقال إسماعيل الصابوني في جملة بيانه لمعتقد السلف: " ويشهدون أن في الدنيا سحرا وسحرة إلا أنهم لا يضرون أحدا إلا بإذن الله عز وجل كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 2، والمقصود بالإذن هنا هو الإذن الكوني القدري أي أن السحرة لا يضرون أحدا إلا بمشيئة الله تعالى وتقديره، وليس المراد الإذن الديني الشرعي"3اهـ.

وقال المتولي الشافعي: "مذهب أهل الحق أن السحرة حق ومعناه أنه موجود

، والدليل عليه قصة هاروت وماروت، وهو ظاهر في نص القرآن. والدليل عليه اتفاق أهل التفسير على أن نزول المعوذتين في سحر لبيد بن أعصم لرسول الله صلى الله عليه وسلم

والدليل عليه إجماع الفقهاء على السحر واختلافهم في أحكامه حتى تكلموا في وجوب القصاص على من قتل بالسحر، فدل ذلك على أنه موجود"4.

حكم السحر والأدلة عليه:

أما عن حكم السحر فقد نقله الإمام محمد بن عبد الوهاب عن " الإقناع" قائلا: " ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله

ويكفر بتعلمه وفعله سواء اعتقد حرمته أو إباحته"5.

1-الغنية في أصول الدين ص 154.

2-

جزء من الآية 102 من سورة البقرة.

3-

عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص 139، وانظر مجموع الفتاوى 11/267، وبدائع الفوائد 2/221.

4-

الغنية في أصول الدين ص 154 باختصار.

5-

الرسائل الشخصية ص 69، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 8/56، وهو في الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل بإضافة " كالذي يركب الحمار من مكنسة وغيرها فتسير في الهواء او يدعي أن الكواكب تخاطبه" 4/307، وانظر المذهب الأحمد في مذهب الإمام أحمد ص 192 تأليف ابن الجوزي رحمه الله ن المؤسسة السعدية بالرياض- ط/2.

ص: 326

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "السحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع"1.

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ....} 2.

ومن السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات3 قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات"4.

في الحديث الشريف: نهى صلى الله عليه وسلم عن السبع المهلكات من الذنوب وثانيها السحر فدل على تحريمه، واقترانه بالشرك يدل على عظم العقوبة. والله أعلم.

وذكر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب أن السحر من خصال الجاهلية5.

وقد حكم أهل العلم بتكفير الساحر.

قال الذهبي: "الساحر لا بد وأن يكفر"6اهـ.

لذلك نجد الفقهاء رحمهم الله بوبوا للسحر في كتاب حكم المرتد، مما حدى بالشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى تصنيفه ضمن نواقض الإسلام العشرة قال رحمه الله: السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ

1-مجموع الفتاوى 35/171، ، وانظر المغني 12/300.

2-

جزء من الآية 102 من سورة البقرة.

3-

الموبقات: أي الذنوب المهلكات. " النهاية في غريب الحديث والأثر 5/146 مادة: وبق".

4-

أخرجه البخاري- ك: الوصايا –ب: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 4/12، وك: الطب-ب: السحر 7/176.

5-

مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية ص 35.

6-

كتاب الكبائر ص 14 للحافظ شمس الدين الذهبي- الكبيرة الثالثة في السحر- ن المكتبة الثقافية- بيروت لبنان.

ص: 327

فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 1 2.

ولخطورة السحر وتعاطيه احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بشدة على سليمان بن سحيم بسبب كتابته لشيء من السحر فقال رحمه الله:

"إنك تكتب في حجبك طلاسم، وقد ذكر في " الإقناع"3 أنها من السحر، والسحر يكفر صاحبه فكيف تفهم التوحيد وأنت تكتب الطلاسم؟ وإن جحدت فهذا خط يدك موجود"4.

ومن هذا المنطلق حكم الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عليه وعلى أبيه بالكفر بسبب اشتغالهما بالسحر فقال رحمه الله:

"وأنا أذكر لك كلام صاحب " الإقناع" أنه مكفرك ومكفر أباك في غير موضع من كتابه- إلى أن قال- أنه ذكر أن السحر يكفر بتعلمه وتعليمه والطلاسم من جملة السحر5

وهي دينك ودين ودين أبيك، فأما أن تتبرؤوا من دينكم هذا6، وإلا فأجيبوا عن كلام صاحب الإقناع وكلامنا"7.

ثم يخفف رحمه الله من حدته مع ابن سحيم للتوازن كفتي الشدة واللين في حسبته فيقول:

"فتأمل هذا الكلام، ثم تأمل ما جرى في الناس خصوصا الصرف والعطف

1-جزء من الآية 102 من سورة البقرة.

2-

الرسائل الشخصية – الرسالة الثانية والثلاثون ص 213 والدرر السنية في الأجوبة8/89، ورسالة نواقض الإسلام ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب – القسم الأول العقيدة والآداب الإسلامية ص 386.

3-

قال الحجاوي في الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل: " وتحرم رقية وحرز، وتعوذ بطلسم وعزيمة بغير عربي

"4/308.

4-

الرسائل الشخصية – الرسالة الرابعة والثلاثون ص 277، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 8/62.

5-

حيث ذكرها في سياق حديثه عن السحر راجع هـ"3" في هذه الصفحة.

6-

الصواب أن يقول: تتبرأ من دينكما هذا. أو من هذا الذي تدينان به.

7-

الرسائل الشخصية – الرسالة الرابعة والثلاثين ص 229، والدرر في الأجوبة النجدية 8/64 باختصار.

ص: 328

تعرف أن الكفر ليس ببعيد وعليك بتأمل هذا الباب في الإقناع وشرحه وتأمله جيدا، وقف عند المواضع المشكلة، وذاكر فيها كما تفعل في باب الوقف والإجارة يتبين لك إن شاء الله أمر عظيم"1.

عقوبة الساحر:

ويذكر الإمام الشوكاني رحمه الله أن العلة الموجبة للحكم بالكفر على الساحر ليست إلا الاعتقاد أن الساحر مشارك لله تعالى في علم الغيب2.

من هنا يرى أهل العلم أن عقوبة الساحر القتل.

قال الخلال رحمه الله: سألت أبا عبد الله- يعني أحمد بن حنبل رحمه الله ما الحكم في السحر ومن سحر؟ 3.

قال: الحكم في الساحر إذا عرف السحر القتل.

وقال الإمام مالك رحمه الله: " الساحر الذي يعمل السحر، ولم يعمل ذلك له غيره وهو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 4 فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك هو نفسه"5اهـ.

1-السائل الشخصية – الرسالة الحادية عشرة ص 69.

2-

انظر الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص 53، علق عليه وخرج أحاديثه أبو عبد الله الحلبي- ن دار ابن خزيمة- ط/1"1414هـ".

3-

أخرجه الخلال في أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل ص 466.

4-

جزء من الآية 102 من سورة البقرة.

5-

موطأ الإمام مالك وشرحه تنوير الحوالك ك: الحدود- ب: ما جاء في الغيلة والسحر 2/192، للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي ن شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر- ط/الأخير "1370هـ-1951م".

ص: 329

وجاء في الإنصاف: " يكفر ويقتل هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب"1.

وذلك لقول وفعل الصحابة رضوان الله عليهم.

عن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حد الساحر ضربة بالسيف"2.

وعن عبد الله بن أحمد رحمهما الله قال: حدثني أبي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو وسمعه بجالة3 يقول: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف

1-الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل 10/349، وانظر المغني لابن قدامة 12/302-303، والإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 4/304.

2-

الحديث أخرجه الترمذي في سننه- أ: الحدود ب: ما جاء في حد الساحر ح:1485- 3/10 وقال: الصحيح عن جندب موقوف، والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. المرجع نفسه 3/11، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن جندب الخير- ك: الحدود 4/360 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وإن كان الشيخان تركا حديث إسماعيل بن مسلم فإنه غريب صحيح وله شاهد صحيح على شرطهما جميعا في ضد هذا ووافقه الذهبي في التخليص قائلا في الموضع نفسه: صحيح غريب، كما أخرجه الدارقطني في سننه- ك: الحدود ح:112-3/114 وعبد الرزاق في مصنفه- ب: قتل الساحر ح:8752-10/184، عني بتحقيق نصوصه وتخريج أحاديثه والتعليق عليه الشيخ المحدث حبيب الرحمن الأعظمي- ن المكتب الإسلامي- ط/2"1403هـ-1983م"، وجزم بعض أهل العلم بضعفه كابن حجر، قال في فتح الباري: في سنده ضعف 10/236، حيث إنه روي من طريق إسماعيل حققه وعليق عليه السيد صبحي البدري السامرائي ب: إسماعيل ع: 77- ص 57، ن مؤسسة الرسالة ط/1"1414هـ-1994م"، وضعفه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/198 ت: 669، وابن حجر في تهذيب التهذيب 1/332 ت: 598،والذهبي في ميزان الاعتدال 1/248 ت:945، ووجد له الألباني متابعا من طريق أخرى لكنها- كما قال- متابعة واهية: سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/641 ح:1446- ن مكتبة المعارف- الرياض ط/2"1408هـ-1988م" إلا أن له عدة طرق يتقوى بها انظر تفصيل ذلك في تخريج احاديث منتقدة في كتاب التوحيد ص 50-53 تألأيف فريح بن صالح البهلال- ن دار الأثر- الرياض- ط/1"1415هـ"، وقد علق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على كلام الإمام الترمذي على الحديث بقوله:" والصواب ما قاله الترمذي من أنه موقوف": التعليق المفيد على كتاب التوحيد ص 141- الحاشية- لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب- تعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز- ن مكتبة التراث الإسلامي- القاهرة.

3-

هو: بجالة بن عبدة، كاتب جزء بن معاوية ، ثقة من الطبقة الثانية " انظر الكاشف في معرفة من له رواية في كتب الستة 1/263 ت:535، تقريب التهذيب 1/93 ت:3"حرف الباء الموحدة"".

ص: 330

فأتانا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة قال: اقتلوا كل ساحر وربما قال سفيان وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر1.

قال ابن قدامة: هذا اشتهر فلم ينكر فكان إجماعا2.

وذكر السنامي أن رجلا يتخذ لعبة ليفرق بين المرأة وزوجها بتلك اللعبة، قالوا هو مرتد يحكم بردته ويقتل إذا كان يعتقد لها أثرا ويعتقد التفريق من اللعبة لأنه كافر. والساحر إذا تاب قبل ان يؤخذ تقبل توبته وإن أخذ ثم تاب لم تقبل توبته3، هذا في إسقاط الحد عند التوبة، أما فيما بينه وبين الله فلا أحد يحول بينه وبين التوبة إن كانت صادقة4 والله أعلم.

1-أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه- ك: الحدود ب: ما قالوا في الساحر ما يصنع به ع: 9031- 10/136، والخلال في أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام احمد بن حنبل ص 468، وعبد الرزاق في المصنف- ب: قتل الساحر- ح:18745-10/179، وأخرجه أبو داود في سننه مطولا- ك: الإمارة ب: في أخذ الجزية من المجوس ح:3043-3/431 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/589 ح:262 ، وانظر مزيدا من الآثار في موطأ الإمام مالك- ك: العقول –ب: ما جاء في الغيلة والسحر 2/192، ومصنف عبد الرزاق- ب: قتل الساحر- ح:1874، 10/180-182، وسنن الدارقطني وبذيله التعليق المغني على الدارقطني- ك: الحدود ح:113، 3/114 تألأيف المحدث العلامة أبي الطيب محمد العظيم آبادي، عني بتصحيحه وتنسيقه وترقيمه وتحقيقه السيد عبد الله هاشم يماني المدني- ن السيد عبد الله هاشم المدني- المدينة- ط/"1386هـ-1966م"، والبيهقي في السنن الكبرى – ك: القسامة –ب: تكفير الساحر وقتله إن كان ما يسحر به كفر صريح 8/138- ن دار الفكر- بيروت.

2-

المغني2/303.

3-

نصاب الاحتساب ص 261، تحقيق ودراسة الدكتور مريزن سعيد عسيري- ن دار الوطن- الرياض ط/1"1414هـ-1993م" بتصرف يسير.

4-

انظر فتح الحق المبين في علاج الصرع والسحر والعين ص 180 تأليف الدكتور عبد الله بن محمد الطيار، والشيخ سامي بن سليمان المبارك- ن دار الوطن- الرياض – ط/2"1415هـ".

ص: 331

‌الفرع الثاني: التنجيم:

التنجيم لغة: فهو من نجم الشيء، وينجم نجوما: ظهر وطلع5.

5-الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 5/2039 مادة: نجم".

ص: 331

وفي الاصطلاح: الاستدلال بالأحوال الفلكية على حوادث الأرضية1.

والمنجم: هو الذي ينظر في النجوم يحسب مواقيتها وسيرها2، بمعنى أن يربط المنجم ما يقع في الأرض، أو ما سيقع فيها بالنجوم بحركتها، وطلوعها، وغروبها، واقترانها، وافتراقها وما أشبه ذلك3.

فيستدل مثلا باقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني على أنه سيحدث كذا وكذا.

ويستدل بولادة إنسان في هذا النجم أنه سيكون سعيدا.

وفي النجم الآخر بأنه سيكون شقيا4 وبهذا نجد أن معنى التنجيم يتضمن معنى العرافة.

قال ابن أبي العز الحنفي5 رحمه الله " المنجم يدخل في اسم " العراف" عند بعض العلماء ، وعند بعضهم هو في معناه"6.

والتنجيم مما ينافي التوحيد ويوقع في الشرك لأنه ينسب الحوادث إلى غير من أحدثها وهو الله سبحانه7.

1-الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 4/308.

2-

لسان العرب 6/4358 مادة: نجم.

3-

مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن الصالح العثيمين 2/190 –فتاوى العقيدة- ن دار الثريا- الرياض- مؤسسة الجريسي- الرياض- ط/2"1414هـ-1994م" بتصرف يسير.

4-

المرجع السابق 2/185 بتصرف يسير.

5-

هو: علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الدمشقي، فقيه ، ولد سنة " 731هـ-1331م"، كان قاضيا بدمشق ثم الديار المصرية، ثم بدمشقو توفي سنة " 792هـ-1390م". " الأعلام 4/313 بتصرف".

6-

شرح العقيدة الطحاوية ص 567.

7-

الدر النضيد على أبواب التوحيد ص 196 تأليف الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان رحمه الله ن مكتبة الصحابة- جدة.

ص: 332

ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن اعتقاد المعتقد بأن نجما من النجوم السبعة هو المتولي لسعده ونحسه اعتقاد فاسد، وإن اعتقد أنه هو المدبر له فهو كافر1.

والتنجيم شعبة من السحر:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد" 2.

يقول الشيخ الخطابي رحمه الله معلقا على الحديث: " علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي تقع وستقع في مستقبل الزمان كإخبارهم بأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد وتغيير الأسعار وما كان في معانيها من الأمور، يزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها وباجتماعها وافتراقها، ويدعون لها تأثيرا في السفليات ، وأنها تتعرف على أحكامها وتجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاط لعلم استأثر الله سبحانه به لا يعلم الغيب أحد سواه، فأما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والحس كالذي يعرف به الزوال ويعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهى عنه"3 ا. هـ.

وإذا كان النظر في النجوم من باب التيسير لمعرفة منازل القمر لتحديد أوقات الصلاة والمطر فلا بأس به كما هو رأي أحمد وإسحاق بن راهويه4.

1-مجموع الفتاوى 35/177 بتصرف يسير.

2-

أخرجه أبو داود-ك: الطب- ب: في النجوم ح:3905-4/226 وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح: 3305-2/739.

3-

معالم السنن للخطابي ضمن مختصر سنن أبي داود 5/371 للمنذري.

4-

التعليق المفيد على كتاب التوحيد ص 167 بتصرف يسير.

ص: 333

ويقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: "هناك نوع آخر من التنجيم وهو أن الإنسان يستدل بطلوع النجوم على الأوقات، والأزمنة، والفصول، فهذا لا بأس به ولا حرج فيه، مثل أن نقول إذا دخل نجم فلان فإنه يكون قد دخل موسم الأمطار أو قد دخل وقت نضوج الثمار وما أشبه ذلك، فهذا لا بأي به ولا حرج فيه"1 والله تعالى أعلم. وفي الأثر روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق ثم أمسكوا"2.

1-مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين 1/191.

2-

ذكره البغوي في شرح السنة 12/183.

ص: 334

‌الفرع الثالث: الكهانة ونحوها:

أما الكهانة فتعريفها في اللغة:

من كهن يكهن ويكْهُنُ وكَهُنَ كهانة، وتكهن وتكهنا: قضى له بالغيب1.

وللكاهن عدة تعريفات منها:

1-

هو الذي يتعاطى الخبر من الكائنات في مستقبل الزمان ويدعى ومعرفة الأسرار2.

2-

هو الذي له رئي من الجن، يأتيه بأخبار3.

3-

هو الذي يأخذ من مسترق السمع4.

1-لسان العرب 5/3949 مادة: كهن بتصرف يسير.

2-

المصدر السابق 5/3950، وانظر كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ص 55.

3-

الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 4/308، وانظر المغني 12/305.

4-

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 255 للشيخه عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ راجع حواشيه وصححه وعلق عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز- ن دار الخير- ط/1"1413هـ-1993م".

ص: 334

وبينه وبين الساحر فرق.

وذكر الإمام أحمد رحمه الله الفرق بين الساحر والكاهن فقال: الكاهن يدعي الغيب، والساحر يعقد ويفعل1.

وتكذيب الكهنة من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة.

برهان ذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي2 رضي الله عنه قال: " قلت يا رسول الله: أمورا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان قال: فلا تأتوا الكهان

" 3 الحديث.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى كاهنا فصدقه يما يقول أو أتى امرأة حائضا ، أو أتى امرأة من دبرها فقد برئ مما نزل على محمد"4.

وفي رواية: "من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد"5.

فلهذا أكد أهل العلم في معتقدهم على تكذيب الكهنة.

قال الإمام الطحاوي رحمه الله: " ولا نصدق كاهنا ولا عرافا، ولا من

1-أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل ص 469.

2-

معاوية بن الحكم السلمي: صحابي نزل المدينة " تقريب التهذيب 2/258 ت:1223".

3-

أخرجه مسلم ك: السلام – ب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان ح:121-4/1748.

4-

أخرجه أبو داود في سننه -ك: الطب – ب: في الكاهن ح: 3904-4/225، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ح: 3304-2/739.

5-

أخرجه الترمذي في سننه- أ: طهارة ب: في كراهية إتيان الحائض ح: 135-1/90 وابن ماجة في سننه بزيادة: "فصدقه بما يقول" بعد كاهنا- ك: طهارة ب: النهي عن إتيان الكاهن ح: 639-1/209، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/105 ح: 522، وصحيح سنن الترمذي 1/44 ح:116.

ص: 335

يدعى شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة"1.

قال العلامة البابرتي 2 رحمه الله: أما تذكيب الكاهن والعراف فلأن الإطلاع على الغيب مما استأثر الله به نفسه لا يطلع عليه أحد إلا من ارتضاه الله تعالى من أنبيائه بالوحي إليهم على ما قال تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 3، والكاهن والعراف ليسا من الأنبياء فلا نصدقها"4.

وحماية لجناب التوحيد حرم الشارع إتيان الكهان حتى لا تقع الفتنة بتصديقهم.

ويقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: "وأما سؤال العرافين والمشعوذين والمنجمين وأشباههم ممن يتعاطى الأخبار عن المغيبات فهو منكر لا يجوز وتصديقهم أشد وأنكر بل هو من شعب الكفر"5.

قال الإمام البغوي: "

العراف هو الذي يدعي معرفة الامور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها كالمسروق من الذي سرقها6 ومكان الضالة وتتهم المرأة بالزنى فيقول: من صاحبها ونحو ذلك من الأمور"7اهـ.

1-متن العقيدة الطحاوية ص 15.

2-

هو: محمد بن محمد بن محمود أبو عبد الله ابن الشيخ جمال الدين الرومي البابرتي، علامة بفقه الحنفية، ولد سنة "714هـ-1314م"، وتوفي بمصر سنة "786هـ-1384م". " الأعلام 7/42 بتصرف".

3-

جزء من الآيتين 26-27 من سورة الجن.

4-

شرح العقيدة أهل السنة والجماعة: العقيدة الطحاوية ص 151 لأبي جعفر الطحاوي تأليف البابرتي، تحقيق الدكتور عارف أيتكن –ط/1"1409هـ-1989م".

5-

إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين ص 34 تأليف سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بت باز- ن رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.

6-

الصواب أن يقول: سرقة.

7-

شرح السنة 12/182 وذكره بتصرف يسير الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ص 55.

ص: 336

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [العرّاف] اسم عام للكاهن والمنجم والرمَّال ونحوهم ممن يتكلم في تقدم المعرفة بهذه الطرق) ؟ 1 ا. هـ.

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"2.

وعن صفية رضي الله عنها عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة"3.

ففي هذا الحديث بيان ذكر عقوبة من أتى العرَّاف المتضمن للكاهن وغيره وهي: عدم قبول صلاته لمدة أربعين ليلة، بينما عقوبته في حديث أبي هريرة المتقدم إخراجه من دائرة الإسلام كُلية (كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

ولا تعارض بين الحديثين على قول من يقول هو كفر دون كفر4 أما من يقول بظاهر الحديث فيكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان لاعتقاده أنَّه يعلم الغيب5.

ويقول الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين حفظه الله: (العلاقة بين التنجيم والكهانة أنَّ الكل مبني على الوهم والدجل، وأكل أموال الناس بالباطل، وإدخال الهموم والغموم عليهم)6.

1 مجموع الفتاوى 35/173 بتصرف يسير.

2 أخرجه الحاكم في المستدرك- ك: الإيمان ب: التشديد في إتيان الكاهن وتصديقه 1/8، وقال الحاكم: هذا حديت صحيح على شرطهما جميعاً من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه ووافقه الحافظ الذهبي قائلاً: (على شرطهما) في ذيله التلخيص على الكتاب نفسه 1/7، وصححه الألباني في صحيح الجامع 5/223 ح:5815.

3 أخرجه مسلم في صحيحه- ك: اللام- ب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان ح: 125- 4/1751.

4 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 256.

5 انظر تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 409.

6 مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين 1/191.

ص: 337

ولما شاع بين الناس إتيان السحرة والكهان الذين يزعمون أنَّ كشفهم عن المُغيَّب من الكرامات! قام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بالاحتساب على أولئك الدجالين قائلاً:

[ما يفعله كثير من أتباع إبليس وأتباع المنجمين والسحرة والكهان ممن ينتسب إلى الفقر1 وكثير ممن ينتسب إلى العلم من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس ويشبهونها بمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله حتى إنَّ بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعي العلم أنَّه من العلم الموروث عن الأنبياء من علم الأسماء وهو من الجبت والطاغوت]2.

ووصف رحمه الله هذه الأفعال بأنَّها تشبُّه بأهل الجاهلية فقال رحمه الله:

[وهذه الخصلة الجاهلية موجودة اليوم في كثير من الناس، لاسيما من انتسب إلى الصالحين وهو عنهم بمراحل، فيتعاطى الأعمال السحرية من إمساك الحيات وضرب السلاح والدخول في النيران وغير ذلك مما وردت الشريعة بإبطاله، فأعرضوا ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما ألقاه إليهم شياطينهم وادعوا أنَّ ذلك من الكرامات مع أنَّ الكرامة لا تصدر عن فاسق، ومن يتعاطى تلك الأعمال فسقهم ظاهر للعيان] 3 ا. هـ.

هكذا احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على السحر

1 الفقر في اصطلاح كثير من الناس عبارة عن طريق الزهد وهو من جنس التصوف، فإذا قيل: هذا فيه فقر، أو ما فيه فقر لم يرد به عدم المال، ولكن يراد به ما يراد باسم الصوفي:(الصوفية والفقراء ص 27 لشيخ الإمام ابن تيمية- ن، ط مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر) .

2 الرسائل الشخصية- الرسالة السابعة والثلاثون ص266، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/41.

3 مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية ص 30.

ص: 338

والشعوذة والكهانة وما يلحق بها، وللمحتسبين فيه أسوة حسنة، فقضية السحر وما يلحق بها من تنجيم وكهانة وعرافة وغيرها من أخطر القضايا العقائدية التي يجب أن يُوليها رجال الحسبة اهتمامهم في الإنكار والتغيير.

وقد أكّد سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله على ولاة الأمور وأهل الحسبة وغيرهم ممن لهم قدرة وسلطان بالإنكار على من يأتي إلى السحرة والكهان والعرافين ونحوهم، ومنع من يتعاطى شيئاً من ذلك في الأسواق وغيرها، والإنكار عليهم أشد الإنكار1.

1 انظر حكم السحر والكهانة وما يتعلق بها ص5- ن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء- وكالة المطبوعات والترجمة- الرياض (1414 هـ) وقف لله تعالى.

ص: 339

‌المطلب الثامن: احتسابه على التمائم والرقى:

‌الفرع الأول: التمائم:

المطلب الثامن: احتسابه على التمائم والرقى:

آخر قضية عقائدية أُوردها في احتساب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب هي قضية التمائم والرقى.

الفرع الأول: التمائم:

والتمائم في اللغة جمع تميمة وهي: عوذة تعلق على الإنسان1.

والتمائم في الاصطلاح: خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام2.

أجملها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في قوله:

[التمائم شيء يُعلق على الأولاد يتقون به العين]3.

وقد فسّرها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بقوله: (إنَّ فيها ما يكون من أسماء الشياطين، أو العظام، أو الخرز، أو المسامير، أو الطلاسم وهي الحروف المقطعة، أو أشباه ذلك)4.

حكم تعليق التمائم:

ذكر العلماء تحريم تعليق التميمة أو الخرزة أو الخيط ونحوه5.

وذلك لورود عدة أحاديث تتضمن الوعيد لفاعلها منها:

1 لسان العرب 1/448 ملخصاً مادة [تمم] .

2 النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 197 مادة: [تمم] .

3 كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ص 19.

4 فتاوى المرأة المسلمة 1/162 لأصحاب الفضيلة العلماء محمد بن إبراهيم آل الشيخ – عبد الرحمن السعدي – عبد الله بن حميد – ابن باز – ابن عثيمين – ابن جبرين – ابن فوزان، اعتنى بها ورتبها أبو محمد أشرف بن عبد المقصود ن مكتبة دار طبرية – الرياض، ومكتبة أضواء السلف-ط/2 (1416هـ - 1995م) بتصرف يسير.

5 انظر الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 1/ 210 بتصرف يسير.

ص: 340

حديث عقبة بن عامر الجهني1 رضي الله عنه قال: أنَّه جاء في ركب عشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايع تسعة وأمسك عن بيعة رجل منهم، فقالوا: ما شأن هذا الرجل لا تبايعه؟ فقال: إنَّ في عنقه تميمة، فقطع الرجل التميمة فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:"من علق تميمة فقد أشرك"2.

وعلّة تحريم ذلك أنَّ من يستخدم هذه الأشياء يعتمد عليها في جلب المنافع ودفع المؤذيات من غير الله عز وجل3 وهذا ينافي التوكل على الله وتفويض الأمر إليه.

وعن زينب- امرأة عبد الله4- قالت: "كانت عجوز تدخل علينا ترقي من الحُمْرةِ وكان لنا سرير طويل القوائم، وكان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوَّت، فدخل يوماً فلما سمعت صوته احتجبت منه فجلس إلى جانبي فمسني فوجد خيط، فقال: ما هذا؟ فقلت: رُقى لي فيه من الحُمْرة5، فجذبه وقطعه فرمى به وقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 عقبة بن عامر الجُهَنِيُّ صحابي كبير، أمير شريف، فصيح مقرئ، فرضي شاعر، وليَ غزو البحر، مات بمصر سنة (58 هـ) . (الكاشف في معرفة من له رواية لني الكتاب الستة 2/29 ت: 3839 بتصرف) .

2 أخرجه الحاكم في المستدرك- ك: الطب- ب: أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعة رجل كانت في عنقه تميمة 4/219، وأحمد في مسنده (مسند الإمام أحمد بن حنبل وبهامشه كنز العمال، سند الشاميين حديث عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم 4/156)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: رجال أحمد ثقات 5/103، كما صححه الألباني في صحيح الجامع 5/323 ح: 6270، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 1/265 ح: 492، وغاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام ص180 ح: 294- ن المكتب الإسلامي- دمشق- بيروت- ط/1 (1400هـ- 1980م) .

3 انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 108.

4 هي: زينب الثقفية، امرأة ابن مسعود، صحابية. (الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة 2/509 ت: 7004 باختصار) .

5 الحُمْرَةُ: داء يعتري الناس فيحمرُّ موضعها، وتُغالب بالرقية. قال الأزهري: الحمرة من جنس الطواعين، نعوذ بالله منها. (لسان العرب 2/991 مادة:[حمر] ) .

ص: 341

يقول: "إنَّ الرقى والتمائم والتِّوَلة" 1 شرك قلت: فإني خرجت يوماً فأبصرني فلان، فدمعت عيني التي تليه، فإذا رقيتُها سكنت دمعتُها، وإذا تركتُها دَمَعَت قال: ذلك الشيطان إذا أطعتِهِ تركك، وإذا أعصيته طعن بإصبعِهِ في عينك، ولكن لو فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خيراً لك وأجدر أن تَشفِين، تنضحين في عينك الماء وتقولين: اذهب البأس، ربَّ الناس، اشفِ، أنت الشافي لا شفاءَ إلَاّ شفاؤك، شفاءً لا يُغادر سَقَماً" 2.

وعن سبب الحكم على فاعل ذلك بالشرك يقول ابن الأثير: (إنَّما جعلها شركاً لأنَّهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، فطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه)3.

والحكم الشرعي لتعليق التمائم عام يشمل كل ما يندرج تحته قصد الحرز أو جلب النفع أو دفع الضرر كتعليق الحجب والكف والعين الزرقاء وغير ذلك، يقول الألباني حفظه الله:(ومن ذلك تعليق بعضهم نعل الفرس على باب الدار، أو في صدر المكان! وتعليق بعض السائقين نعلاً في مقدمة السيارة أو مؤخرتها، أو الخرز الأزرق على مرآة السيارة التي تكون أمام السائق من الداخل، كل ذلك من أجل العين زعموا)4.

ويقاس على ذلك ما تلبسه بعض النسوة ويُلبسنه البنات الصغيرات من

1 التِّوَلَة: فيل هي خيط يقرأ فيه من السحر أو قرطاس يكتب فيه شيء منه يتحبب به النساء إلى قلوب الرجال أو الرجال إلى قلوب النساء: نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار 9/104.

2 أخرجه ابن ماجة في سننه- ك: الطب- ب: تعليق التمائم 2/1166، وصححه الألباني في صحيح سنن أبى ماجه 2/269، وأخرج نحوه الحاكم في مستدركه- ك: الطب- ب: من تعلق شيئاً وكل إليه- 4/216.

3 البداية والنهاية في غريب الحديث والأثر 1/198 مادة: [تمم] .

4 سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول 4/40.

ص: 342

الحلي على شكل عين زرقاء أو كف، ظناً منهن أنَّها تدفع العين وكل هذه الأشياء وما شابهها مما يجب على المسلمين التحذير منها وعلى رجال الحسبة إنكارها في الأسواق.

وقد احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا الجانب على سليمان بن سحيم قائلاً: [أنَّ تعليقهم التمائم من الشرك بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر تعليق التمائم صاحب (الإقناع) 1 في أول الجنائز، وأنت تكتب الحجب وتأخذ عليها شرطاً حتى إنك كتبت لامرأة حجاباً لعلها تحبل، وشرطت لك أحمرين2 طالبتها تريد الأحمرين فكيف تقول إنّي أعرف التوحيد، وأنت تفعل هذه الأفاعيل؟ وان أنكرت فالناس يشهدون عليك بهذا]3.

أما التمائم التي تكون من القرآن الكريم وأسماء الله وصفاته ثم تعلق فقد اختلف فيها العلماء من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين رحمهم الله ومن بعدهم على قولين:

1-

القول الأول: يجوز ذلك وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وغيره، وهو ظاهر ما روي عن عائشة رضي الله عنها، وبه قال أبو جعفر الباقر، وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم الشركية.

2-

القول الثاني: لا يجوز ذلك وبه قال ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم وهو

1 انظر الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 1/210.

2 مفردها أحمر، والأحمر: ما لونه الحمرة

والذهب والزعفران واللحم والخمر. (القاموس المحيط 2/13 فصل الحاء- باب: الراء مادة: [الأحمر] ) وربما كان المقصود بها نوع من النقود المعدنية الذهبية المسماة بالمسكوكات الذهبية وهي عبارة عن وحدات ذهبية صغيرة الحجم نسبياً وموحدة الوزن والعيار. (انظر النقود والمصارف ص 60 للدكتور ناظم محمد نوري الشمري- ن، ط، (و) مديرية دار الكتب للطباعة والنشر- الموصل- الجمهورية العراقية 1988م) .

3 الرسائل الشخصية- الرسالة الرابعة والثلاثون ص 227، والدرر السنية لب الأجوبة النجدية 8/62.

ص: 343

ظاهر قول حذيفة، وعقبة بن عامر، وابن عكيم1 رضي الله عنهم، وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود، وأحمد في رواية، اختارها كثير من الصحابة، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه فإنَّ ظاهره العموم لم يفرق بين التي في القرآن وغيرها2.

وهذا الخلاف رمز إليه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قائلاً:

[إذا كان المعلق من القرآن فقد رخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود رضي الله عنه]3.

ومما يجدر التنبيه إليه الحذر مما فشى بين الناس من استعمال العزائم المكتوبة بالزعفران، كما جاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء والتي ورد فيها: (

وأما كتابة سورة أو آيات من القرآن في لوح أو طبق أو قرطاس وغسله بماء أو زعفران وغيرهما وشرب تلك الغسالة رجاء البركة أو استفادة علم أو كسب مال أو صحة أو عافية ونحو ذلك فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه فعله لنفسه أو غيره ولا أنَّه أذن فيه لأحد من أصحابه أو رخَّص فيه لأمته مع وجود الدواعي التي تدعو إلى ذلك، ولم يثبت في أثر صحيح -فيما علمنا- عن أحد الصحابة رضي الله عنهم أنَّه فعل ذلك أو رخَّص فيه. وعلى هذا فالأولى تركه وأن يستغنى عنه بما ثبت في الشريعة من الرقية بالقرآن وأسماء الله الحسنى، وما صحّ من الأذكار والأدعية

1 هو: عبد الله بن عكيم الجهني.. أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعرف له سماع صحيح. (الإصابة في تمييز الصحابة 2/346، ت: 4831) .

2 يسير العزيز الحميد ص 168 بتصرف يسير.

3 كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ص 19.

ص: 344

النبوية ونحوها مما يعرف معناه ولا شائبة للشرك فيه..) 1.

والمسلم يجب عليه أن يكون على بصيرة من أمره كله فلا يأتي أو يذر أي أمر يعرض له إلَاّ بعد أن يزنه بميزان الشرع2.

1 فتاوى إسلامية 1/52 لأصحاب الفضيلة العلماء: ابن باز، ابن عثيمين، ابن جبرين جمع محمد المسند- ن دار الوطن- ط/2 (1414 هـ- 1994م) .

2 انظر النذير العريان لتحذير المرضى والمعالجين بالرقى والقرآن ص193، لفتحي الجندي- دار طيبة- ط/1 (1415هـ- 1995م) .

ص: 345

‌الفرع الثاني: الرُّقى:

أما الرُّقى فهي جمع رقية. والرُّقية في اللغة: العَوْذَة

يقال: رَقَى الرَّاقِي رُقْيَةً ورُقِيّاً، إذا عَوَّذ ونَفَث في عُوذته1.

وهي العُوذة التي يُرقى بها صاحب الآفة كالحمَّى والصرع وغير ذلك من الآفات2.

والرقية شرعاً: (هي التي تسمى العزائم) 3 وهي القراءة، فيقال: رُقي عليه من القراءة ورقى عليه من الصعود4، وهي على نوعين:

1-

رقية شرعية.

2-

رقية غير شرعية.

أولاً: الرقية الشرعية:

حكمها: الجواز وقد قيدها أهل العلم بشروط.

1 لسان العرب 3/1711 مادة: [رقا] .

2 النهاية في غريب الحديث والأثر 2/254 مادة: [رقى] .

3 كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ص 19.

4 القول المفيد على كتاب الوحيد 1/175 شرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين- ن دار العاصمة- الرياض- ط /1 (1415هـ) .

ص: 345

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: (أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط:

1-

أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وبصفاته.

2-

وباللسان العرب أو بما يعرف معناه من غيره.

3-

وأن يعتقد أنَّ الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى) 1.

الدليل على جوازها حديث عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال سألت عائشة رضي الله عنها عن الرقية من الحُمَةِ2 فقالت: "رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم الرقية من كل ذي حُمَةٍ"3.

قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "رخَّص" فيه إشارة إلى أنَّ النهي عن الرقي كان متقدماً) 4 ا. هـ.

وقال الخطَّابي رحمه الله: "وليس في هذا نفي جواز الرقية في غيرها من الأمراض، والأوجاع لأنَّه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رقى بعض أصحابه من وجع كان به) 5.

وقال ابن القيم رحمه الله: (المراد به لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحُمة)6.

وعن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرُّقى. فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنَّه كانت عندنا رقية نرقي بها

1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/195 بتصرف يسير.

2 الحُمة: سم ذوات السموم وقد تسمى إبرة العقرب والزنبور حمة وذلك لأنّها مجرى السم، (معالم السنن للخطابي ضمن مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/363) .

3 أخرجه البخاري في صحيحه- ك: الطب ب: رقية الحية والعقرب 7/171.

4 فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/206.

5 معالم السنن للخطابي ضمن مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/363.

6 الطب النبوي ص175، حقَّق نصوصه، وخرّج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط- ن مؤسسة الرسالة- بيروت- مكتبة المنار الإسلامية- الكويت ط/2 (1401 هـ- 1981م) .

ص: 346

من العقرب. وإنَّك نهيت عن الرقى، قال فعرضوها عليه، فقال: ما أرى بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" 1.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر أن يُسترقى من العين"2.

وعن عوف بن مالك الاشجعي3 قال: كُنّا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا عليَّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"4.

ثانياً: الرقى غير الشرعية:

دلَّ حديث عبد الله بن مسعود المتقدم5 على النوع الثاني من الرقى وهو الرقى الشركية، والتي لا تخلو من الشرك وهي الرقى التي يستعان فيها بغير الله من دعاء غير الله والاستغاثة والاستعاذة به6 ويستخدمها المعزمون والدجالون والعرّافون والمشعوذون7.

قال الإمام البغوي رحمه الله: (.. المنهي من الرقى ما كان فيه شرك، أو كان يذكر مردة الشياطين، أو ما كان منها بغير لسان العرب، ولا يُدرى ما

1 أخرجه مسلم في صحيحه- ك: السلام- ب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة- 4/1726.

2 أخرجه البخاري في صحيحه- ك: الطب- ب: رقية العين- 7/171.

3 عوف بن مالك الأشجعي: صحابي حمل راية قومه يوم الفتح، مات سنة (73 هـ) . (الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة 2/101 ت: 4311 بتصرف) .

4 أخرجه مسلم في صحيحه- ك: السلام- ب: لا بأس بالرقى ما لم يكن شركاً ح: 64- 4/1727.

5 راجع ص (341) من هذا البحث.

6 انظر كتاب التوحيد ص 49 للدكتور الشيخ صالح بن فوزان الفوزان- مطابع الحميضي.

7 انظر فتح المغيث في السحر والحسد ومس إبليس ص 184 لأبي عبيدة ماهر بن صالح آل مبارك- ن دار علوم السنة- الرياض ط/1 (1415هـ-1995م) .

ص: 347

هو، ولعله يدخله سحر، أو كفر) 1.

وسئل ابن عبد السلام رحمه الله عن الحروف المقطعة فمنع منها ما لا يعرف، لئلا يكون فيه كفر2.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (.. ما يقال ويكتب مما لا يعرف معناه فلا يشرع، لاسيما إن كان فيه شرك، فإنَّ ذلك محرم. وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك، وقد يقرأون مع ذلك شيئاً من القرآن ويظهورن ويكتمون ما يقولونه من الشرك، وفي الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله)3.

وفي هذا المعنى قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

[نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقى التي فيها شرك كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى: {وأنَّهُ كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهُم رهقاً} 4 ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والأقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك] 5 ا. هـ.

وبالنظر إلى حال بعض المشتغلين بالرقية في عصرنا الحاضر ممن يعوزهم العلم الشرعي، والذي يعج بالمخالفات الشرعية يحتم على المحتسبين الإنكار عليهم وتحذير الناس منهم حفاظاً على سلامة عقائدهم.

1 شرح السنة 12/159.

2 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 167.

3 الدليل والبرهان على مصرع الجن للإنسان ص56، راجعه وخرّج أحاديثه محمد بن طاهر الزين- ن مكتبة السندس- ط/2 (غرة ذي الحجة 1409هـ- تموز (يوليو) 1989م) ، وانظر مجموع الفتاوى 19/61.

4 سورة الجن آية 6.

5 ملحق المصنفات ص 107.

ص: 348

‌المبحث الثاني: احتسابه في العبادات:

لم يقتصر احتساب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على النواحي العقدية فحسب وإن كان جل اهتمامه منصباً عليها لحاجة مجتمعه - إلى ذلك - إلَاّ أنَّ احتسابه رحمه الله تعداها إلى نواحي العبادة التي تليها مباشرة في الأهمية.

وأبرز ما احتسب فيه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في العبادات أمره بإقامة بقية أركان الإسلام التي جمعها حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بُني الإسلام على خمسٍ شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان"1.

ومن الأمور المهمة التي قام بها الإمام في العُيينة إلزام الناس بالصلاة ومعاقبة من لا يؤدونها جماعة في المسجد2.

قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

[ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله]3.

وقال أيضاً رحمه الله:

[وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعات على الوجه المشروع وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكر

1 أخرجه البخاري في صحيحه- ك: الإيمان- ب: دعاؤكم إيمانكم 1/9.

2 انظر تاريخ المملكة العربية السعودية ص71 للدكتور عبد الله العثيمين- ن جامعة الملك سعود- ط/1 (1404هـ- 1984م) .

3 الرسائل الشخصية- الرسالة الخامسة ص 36، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/54.

ص: 349

كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 1 2.

كما أمر رحمه الله أن يصلي بالناس الصلاة إمام واحد، حيث كانت العادة أن يصلي بالجماعة الحاضرة أحد الأئمة من المذاهب الأربعة ثم يعقبه غيره، فأمر بإبطال هذه العادة القبيحة التي فرقت المسلمين، وأن لا يصلي بالجماعة إلَاّ إمام واحد فصار يصلي الصبح إمام الشافعية والظهر إمام المالكية.. وهكذا بقية الأوقات3.

ومن أبرز المسائل التي احتسب فيها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب المتعلقة بالصلاة بدعة التذكير.

والتذكير هو: التأذين قبل الفجر من التسبيح والنشيد ورفع الصوت بالدعاء ونحو ذلك4، ومنه قراءة سور من القرآن قبل الفجر بصوت مرتفع فيمنع الناس من نومهم ويختلط على المتهجدين قراءتهم5، ومنه قولهم قبل الفجر على المنابر: يا رب عفواً بجاه المصطفى كرماًً6.

حكمه: بدعة منكرة في الدين7.

1 سورة الحج آية 41.

2 الرسائل الشخصية- الرسالة السابعة عشرة ص 114، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/59.

3 انظر إقليم الحجاز وعوامل نهضته الحديثة ص 221.

4 الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 1/80.

5 تلبيس إبليس ص137 (ذكر تلبيسه عليهم في الأذان) بتصرف.

6 السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات ص54 ولا يخفى ما في هذه العبارة من شرك ظاهر التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.

7 انظر الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 1/80، وتلبيس إبليس ص137، والسنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات ص 54.

ص: 350

ويذكر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنَّه سُئل عن التذكير فقال: [إنَّه بدعة، فذكر1 أنَّ عندنا من لا يعرف الجمعة إلَاّ به، وذكرت له أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم منّا بمصالح أمته، وهو سنَّ الأذان ونهى عن الزيادة، فلمّا فتح الله لكم باباً في اتباع نبيكم صلى الله عليه وسلم فلا تتثقلوا2 من قطع العادات في طاعة الله ورسوله] 3 ا. هـ.

وقال رحمه الله محتسباً على من يرى هذه البدعة:

[من العجب كفكم عن نفع المسلمين في المسائل الصحيحة وتقولون لا يتعين علينا الفتيا، ثم تبالغون في مثل هذه الأمور مثل التذكير الذي صرحت الأدلة والإجماع وكلام الإقناع بإنكاره] 4 ا. هـ.

وقد اشتد رحمه الله في نكيره على سليمان بن سحيم بشأنها فقال رحمه الله:

[.. أما مسألة التذكير فكلامك فيها من أعجب العجاب، أنت تقول بدعة حسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"كل بدعة ضلالة ركل ضلالة في النار"5، ولم يستثن شيئاً تشير علينا به فنصدقك أنت وأبوك لأنَّكم علماء ونكذب رسول الله، والعجب من نقلك الإجماع فتجمع مع الجهالة المركبة الكذب الصريح والبهتان فإذا كان في (الإقناع) 6 في باب الأذان قد ذكر كراهيته في مواضع متعددة أتظن أنَّك أعلم من صاحب (الإقناع) أم تظنه مخالفاً

1 أي السائل.

2 لعل الصواب: تستثقلوا، وهكذا وردت في تاريخ نجد بتحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد 2/472.

3 مؤلفات الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب- القسم الثالث الفتاوى والمسائل ص86.

4 الرسائل الشخصية- الرسالة التاسعة والأربعون 314.

5 سبق تخريجه ص (220) هـ (1) .

6 سبقت الإشارة إليه راجع ص (350) هـ (7) .

ص: 351

للاجتماع1 وأيضاً لما جاءك -يعضهم- أقررت لهم أن التذكير بدعة مكروهة فمتى هذا العلم جاءك؟،2 ا. هـ

ويبلغ احتساب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في الصلاة والزكاة إلى حد قتال تاركهما.

قال رحمه الله:

[ونقاتل على ترك الصلاة وعلى منع الزكاة كما قاتل مانعها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه]3.

وذلك لعموم حديت ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"4.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلَاّ الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة؟ حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم

1 يقصد الإجماع، والله أعلم.

2 راجع ص (219) من هذا البحث.

3 الرسائل الشخصية- الرسالة الرابعة عشرة ص 98، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/64.

4 أخرجه البخاري في صحيحه- ك: الإيمان- ب: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ، 1/12.

ص: 352

على منعه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فوالله ما هو إلَاّ أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنَّه الحق"1.

وحديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة"2.

وقد اتفق العلماء على تكفير تارك الصلاة جحوداً3.

أما تاركها تهاوناً وكسلاً ففي تكفيره خلاف بين أهل العلم4.

وخروجاً من هذا الخلاف فإنَّ الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله توقف في مسألة التكفير هذه حيث أجاب لما سُئل عما يُقاتل عليه، وعمّا يكفر الرجل به قائلاً:

"أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان ثم الأركان الأربعة إذا أقر بها وتركها تهاوناً فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نُكفِّره بتركها والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود ولا نكفر إلَاّ ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان] 5 ا. هـ.

1 أخرجه مسلم في صحيحه 1/51 ك: الإيمان ب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلَاّ الله محمد رسول الله

ح: 32.

2 أخرجه مسلم في صحيحه 1/88 ك: الإيمان ب: بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة ح:134.

3 انظر مجموع الفتاوى 28/556، والمغني 3/351، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل 1/401.

4 انظر كتاب الصلاة وحكم تاركها ص33 للإمام ابن قيم الجوزية بتحقيق تيسير زعير- ن المكتب الإسلامي- دمشق- بيروت- ط/1 (1401 هـ- 1981م) ، والإنصاف في معرفة الراجح عن الخلاف على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل 1/405، والمغني 2/357.

5 مؤلفات الشيخ الإمام عمد بن عبد الوهاب- القسم الثالث- الفتاوى والرسائل ص9، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/65.

ص: 353

وقال رحمه الله: [ولا أُكفِّر أحداً من المسلمين بذنب ولا أُخرجه من دائرة الإسلام] 1 ا. هـ.

وقيَّد رحمه الله تكفير تارك الصلاة بالجحود لها حيث قال: [من صدَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء وجحد وجوب الصلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع] 2 ا. هـ.

وهو ما أجمع عليه أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(أما تارك الصلاة فهذا إن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنص والإجماع) 3 ا. هـ.

ويقارن رحمه الله بين الجاحد والمتهاون قائلاً: (من كان مُصرِّاً على تركها لا يُصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد) 4 ا. هـ. والله تعالى أعلم بالصواب.

1 الرسائل الشخصية- الرسالة الأولى ص 11.

2 كشف الشبهات ص 38.

3 مجموع الفتاوى 22/ 40.

4 المرجع السابق 22/49.

ص: 354

‌المبحث الثالث: احتسابه في المعاملات

‌المطلب الأول: احتسابه على الوقف على الأولاد:

لم يقتصر احتساب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على العقيدة والعبادة، إنَّما تعداهما إلى المعاملات مما يعطي تصوراً واضحاً عن شمولية حسبته رحمه الله.

ومن أبرز المعاملات التي احتسب فيها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب الوقف على الأولاد الذكور دون الإناث، وبعض الأولاد دون بعض.

والوقف في اللغة: من الوقوف، وهو خلاف الجلوس

ووقَفَ الأرض على المساكين وقفاً: حبسها1.

وفي اصطلاح الفقهاء: هو تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته بصرف ريعه إلى جهة بر تقرباً إلى الله تعالى2 ا. هـ.

حكمه:

أما عن حكمه فهو قربة مندوب إليها3.

وأكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف4.

1 لسان العرب 6/4898 مادة: [وقف] عصراً.

2 الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حبل 3/2، وانظر الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل 7/3.

3 المجموع شرح المهذب- التكملة الثانية 14/572.

4 المغني 8/185، وانظر المجموع شرح المهذب- التكملة الثانية 14/575.

ص: 355

ودليله من السنة:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثة: إلاّ من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"1.

قال النووي: (والصدقة الجارية هي الوقف) 2 ا. هـ.

ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أنَّ عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال يا رسول الله: إنّي أصبت أرضاً بخيبر، ولم أُصبِ مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمر به، قال: إن شئت حَبست أصلها وتَصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر أنَّه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدَّق بها في الفقراء وفي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويُطعم غير متمولٍ، قال فحدثت به ابن سيرين، فقال غير متأثَّل3 مالاً"4.

وشرطه أن يكون الواقف جائز التصرف وهو الحر البالغ الرشيد5.

أما عن حكم الوقف على الأولاد عند الإمام أحمد بن حنبل ففيه روايتان:

إحداهما: لا يصح، فإنَّه قال في رواية أبي طالب، وقد سئل عن هذا، فقال: لا أعرف الوقف إلَاّ ما أخرجه لله، وفي سبيل الله....

وثانيتهما: نقل جماعة أنَّ الوقف صحيح، اختاره ابن أبي موسى، قال ابن

1 أخرجه مسلم في صحيحة- ك: الوصية- ب ما يلحق الإنسان من ثواب بعد وفاته ح: 14- 3/1255.

2 صحيح مسلم بشرح النووي 11/85، الحاشية بتصرف يسير.

3 وغير متأثِّل: أي غير جامع، (النهاية في غريب الحديث والأثر 1/23 مادة:[أثل] .

4 أخرجه البخاري في صحيحه- ك: شروط- ب: الشروط في الوقف 3/259.

5 حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع 5/531 وهـ (5) بالموضع نفسه.

ص: 356

عقيل: وهي أصح

والأول أقيس1.

ولما سئل الإمام أحمد بن حنبل: إن وقف على نفسه شيئاً ثم على ولده من بعده فهو جائز؟ قال: نعم هو جائز2.

ووجهه: (إن وقف على ولده أو أولاده أو ولد غيره ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث والخناثي بينهم بالتسوية، للذكر مثل حظ الأنثى)3.

لأنَّ اللفظ يشملهم4.

وإن حدث للواقف ولد بعد وقفه استحق كالموجودين

ويدخل ولد بنيه وجدوا حالة الوقف أو لا، ولا يدخل ولد البنات5 لأنَّهم من رجل آخر6.

ويقيد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جواز الوقف على الأولاد بشرط الحاجة مستدلاً على ذلك قائلاً:

[الوقف على المحتاج من ذريته، فهو صحيح ذكره البخاري عن ابن عمر أنَّه وقف نصيبه من دار عمر على المحتاج من آل عبد الله]7.

وهو في الصحيح بنص: "

وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سُكْنى لذوي الحاجة من آل عبد الله"8

1 انظر المغني 8/194.

2 مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن هانئ النيسابوري 2/51.

3 انظر الإقناع في مذهب الإمام أحمد بن حنبل 3/20، وانظر الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل 7/74، وروضة الطالبين 5/334 للإمام النووي- ن المكتب الإسلامي.

4 حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع 5/552.

5 انظر الإقناع في مذهب الإمام أحمد بن حنبل 3/20.

6 المغني 8/195.

7 مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- القسم الثالث الفتاوى والمسائل ص 90.

8 صحيح البخاري – ك: الوصايا – ب: إذا وقف أرضاً أو بئراً 4/15.

ص: 357

أما الوقف على من يرث من الأولاد على إطلاقه بلا قيد ولا شرط من غير أن يكونوا محتاجين خاصة ما يُحتال به على حرمان البعض دون الآخر، أو - حرمان الأزواج والعصبة ونسل البنات مما شرعه الله لهم من حق الميراث فقد أنكره الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وسماه وقف الجَنَف والإثم وحكم عليه بأنَّه بدعة ملعونة.

قال رحمه الله لما سئل عن وقف المرأة على ولدها وليس لها زوج

:

[إنَّ الوقف على الورثة ليس من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو شرعه لكان أصحابه أسرع الناس إليه سواء شرط على قسم الله أم لا، وهذا في الحقيقة يريد أمرين:

الأول: تحريم ما أحل الله لهم في بيعه وهبته والتصرف فيه.

الثاني: يحرم زوجات الذكور وأزواج الإناث1 فيشابه مشابهة جيدة ما ذكر الله عن المشركين في سورة الأنعام2 ولكن كون الرسول صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر به كافٍ في فساده، صلحت نية صاحبه أم فسدت] 3.

وقارن رحمه الله بين ما يراه مشروعاً وغير مشروع من صور الوقف فقال:

[

إنَّ السلف اختلفوا في الوقف الذي يراد به وجه الله على غير من يرثه مثل الوقف على الأيتام، وصُوَّام رمضان، أو المساكين، أو أبناء

ص: 358

السيبل، فقال شريح1 القاضي: وأهل الكوفة2 لا يصح ذلك الوقف حكاه عنهم الإمام أحمد.

وقال جمهور أهل العلم: هذا وقف صحيح واحتجوا بحجج صحيحة صريحة ترد قول أهل الكوفة، فهذه الحجج التي ذكرها أهل العلم يحتجون بها على علماء أهل الكوفة مثل قوله (صدقة جارية) 3، ومثل وقف عمر أوقاف أهل المقدرة من الصحابة على جهات البر التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها تغيير لحدود الله.

وأما مسألتنا فهي إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفرَّ من قسمة الله وتمرد عن دين الله مثل:

أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل، ولا تأكل منه إلَاّ حياة عينها4.

أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض فراراً من وصية الله بالعدل.

أو يريد أن يحرم نسل البنات.

أو يريد أن يحرّم على ورثته بيع هذا العقار لئلا يفتقروا بعده، ويفتي له بعض المفتين أنَّ هذه البدعة الملعونة صدقة برّ تُقرب إلى الله، ويوقف على هذا الوجه قاصداً وجه الله، فهذه مسألتنا فتأمل هذا بشراشر5 قلبك، ثم تأمل ما

1 هو: شريح بن الحارث القاضي أبو أمية الكندي، وليَ الكوفة لعمر وبعده، سمع عمر وعلياً، وقيل: إنَّه تعلم من معاذ باليمن، توفي سنة (78 هـ) وقيل سنة ثمانين. (الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب السنة 1/483 ت:2265) .

2 لعل الصواب أن يقول: وأهل الكوفة قالوا: لا يصح

إلخ.

3 جزء من حديث أبي هريرة المتقدم ص (356) .

4 المراد بحياة عينها: مدة حياتها، والله أعلم..

5 الشراشر: النفس والمحبة

وألقى عليه شراشره أن يحبه حتى يستهلك في حبه

وينهمك في الاستكثار منه

والشراشر الأثقال (لسان العرب 4/2233 مادة: [شرشر] باختصار) والمقصود: تأمل هذا الكلام بثقل قلبك ومن أعماقه، والله أعلم.

ص: 359

نذكره من الأدلة فنقول: من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه والتحيل على ذلك بالتقرب إليه، وذلك مثل أوقافنا هذه إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأة أو امرأة ابن أو نسل بنات أو غير ذلك، أو يعطي من حرمه الله، أو يزيد أحداً عما فرض الله، أو ينقصه من ذلك، ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مُبْعِداً عن الله] 1.

ويقول رحمه الله محتسباً على من يجيز هذا الأخير:

[وسر المسألة أنَّك تفهم أنَّ أهل الكوفة يبطلون الوقف على المساجد، وعلى الفقراء والقرابات الذين لا يرثونهم، فرد عليهم أهل العلم

ومسألتنا هي إبطال هذا الوقف الذي يُغيِّر حدود الله، وإيتاء حكم الجاهلية وكل ظاهر هذا لا خفاء فيه، ولكن إذا كان الذي كتبه يفهم معناه وأراد به التلبيس على الجهال كما فعل غيره فالتلبيس يضمحل، وإن كان هذا قدر فهمه وأنَّه ما فهم هذا الذي تعرفه العوام فالخلف والخليفة على الله] 2 ا. هـ.

ويفند الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في احتسابه هذا أقوال من يجيز وقف الجنف والإثم ويدحضها بحجج قوية على النحو التالي:

أولاً: [يقال لمُدَّعي الصحة إذا كنت تدعي أنَّ هذا مما يحبه الله ورسوله، وفعله أفضل من تركه وهو داخل فيما حضَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة الجارية وغير ذلك، فمعلوم أنَّ الإنسان مجبول على حبه لولده وإيثاره على غيره حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى -لهم- 3: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ

1 الرسائل الشخصية- الرسالة الثانية عشرة ص 78، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/259.

2 المرجع السابق ص 83 باختصار يسير.

3 زِيدَ الضمير ليكون هناك ارتباط في المعنى لتناسب سياق الكلام وليس لأنَّها خاصة بهم.

ص: 360

فِتْنَةٌ} 1 فإذا شرع الله لهم أن يوقفوا أموالهم على أولادهم ويزيدوا من شاءوا أو يحرموا النساء والعصبة ونسل البنات فلأي شيء لم يفعل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأي شيء لم يفعله التابعون، ولأي شيء لم يفعله الأئمة الأربعة وغيرهم؟ أتراهم رغبوا عن الأعمال الصالحة ولم يحبوا أولادهم، وآثروا البعيد عليهم، وعلى العمل الصالح، ورغب في ذلك أهل القرن الثاني عشر! أم تراهم خفي عليهم حكم هذه المسألة، ولم يعلموها حتى ظهر هؤلاء2 فعلموها؟ سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه، فإن ادعى أحد أنَّ الصحابة فعلوا هذا الوقف فهذا عين الكذب والبهتان] 3.

ثانياً: [وأما حديث عمر أنَّه تصدق بالأرض على الفقراء والرقاب والضيف وذوي القربى وأبناء السبيل4 فهذا بعينه من أبين الأدلة على مسألتنا، وذلك أنَّ من احتج على الوقف على الأولاد ليس له حجة إلَاّ هذا الحديث لأنّ عمر رضي الله عنه قال: لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف، وأنَّ حفصة رضي الله عنها وليته ثم وليه عبد الله بن عمر فاحتجوا بأكل حفصة وأخيها دون بقية الورثة، وهذه الحجة من أبطل الحجج، وقد بينه الشيخ الموفق رحمه الله، والشارح، وذكروا أنَّ أكل الولي ليس زيادة على غيره وإنَّما ذلك أجرة عمله5 كما كان في زماننا هذا

1 جزء من الآية 15 من سورة التغابن.

2 المبيحون له من أهل زمانه.

3 الرسائل الشخصية- الرسالة الثانية عشرة ص 79، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/260.

4 تقدم ذكر الحديث ص (356) .

5 قال موفق الدين ابن قدامة: (وأما خبر عمر، فإنَّه لم يخص بجض الورثة بوقفه، والنزاع إنَّما هو في تخصيص بعضهم. وأما جعل الولاية لحفصة، فليس ذلك وقفاً عليها، فلا يكون ذلك وارداً في محل النَّزاع، وكونه انتفاعاً بالعَلّة، لا يقتضي جواز التخصيص) المغني 8/218.

ص: 361

يقول صاحب الضحية لوليها الجلد والأكارع] .

ثالثاً: [من وقف من الصحابة مثل عمر وغيره لم يوقفوا على ورثتهم، ولو كان خيراً لبادروا إليه

فإذا كان وقف عمر على أولاده أفضل من الفقراء، أبناء السبيل فما باله لم يوقف عليهم؟ أتظنّه اختار المفضول على الفاضل؟ أم تظن أنَّه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره لم يفهما حكم الله؟] 1.

رابعاً: [قولهم تصدق أبو بكر بداره على ولده وتصدق فلان وفلان، وأنَّ الزبير خص بعض بناته، ليس معناه كما فهموا، وإنما معناه أنهم تصدقوا بما ذكر صدقة عامّة على المحتاجين، فكان أولاده إذا قدموا البلد نزلوا تلك الدار لأنَّهم من أبناء السبيل، كما يوقف الإنسان مسقاة ويتوضأ منها، وينتفع بها هو وأولاده مع الناس، وكما يوقف مسجداً ويصلى فيه، وعبارة البخاري في صحيحه2: وتصدق انس بدار فكان إذا قدم نزلها، وتصدق الزبير بدوره، واشترط للمردودة من بناته أن تسكنها، فتأمل عبارة البخاري يتبين لك أن ما ذكر عن الصحابة مثل من وقف نخلاً على المفطرين من الفقراء في هذا المسجد ويقول: إن افتقر أحد من ذريتي فليفطر معهم فأين هذا من وقف الجنف والإثم؟ على أنَّ هذه العبارة كلام3 الحميدي4، والحميدي في زمن القاضي

1 الرسائل الشخصية ص 80، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/260.

2 قال البخاري رحمه الله: باب إذا وقف أرضاً أو بئراً وأشترط لنفسه مثل ولاء المسلمين، وأوقف أنس داراً، فكان إذا قدمها نزلها، وتصدق الزبير بدوره وقال للمردودة من بناته أن تسكُن غير مُضِّرة ولا مُضَّر بها، فإن استغنت بزوج فليس لها حق، وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجة من آل عبد الله

، صحيح البخاري ك: الوصايا 4/15.

3 الصواب أن يقول: من كلام الحميدي.

4 هو: عبد الله بن الزبير أبو بكر الحميدي، القرشي المكي الفقيه، أحد الأعلام، وصاحب ابن عيينة، قال الفَسَويُّ: ما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه، مات سنة (219هـ) . (الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة 1/552 ت: 2721 باختصار) .

ص: 362

أبي يعلى، وأجع أهل العلم على أنَّ مراسيل المتأخرين لا يجوز الاحتجاج بها، فمن احتج بها فقد خالف الإجماع، هذا لو فرضنا أنَّه يدل على ذلك، فكيف وقد بينا معناه ولله الحمد؟] 1.

خامساً: وهنا يبسط الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الأدلة على رد هذا النوع من الوقف فيقول:

[إذاً قلنا: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2- {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} 3 وغير ذلك، أو قلنا:"إنَّ الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" 4، أو قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ القول فيمن5 تصدق بماله كله6 أو

1 الرسائل الشخصية ص80، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/261.

2 جزء من الآية 11 من سورة النساء.

3 جزء من الآية 12 من سورة النساء.

4 وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" أخرجه عن أبي أمامة الباهي رضي الله عنه ابن ماجه- ك: الوصايا ب: لا وصية لوارث ح: 2187- 2/905 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/112 ح: 2193، وأخرجه أبو داود بلفظ: "

ولا وصية

" في سننه- ك: الوصايا- ب: في الوصية للوارث ح: 6- 3/290 وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود: حسن صحيح 2/554 ح: 2494، كما أخرجه النسائي عن عمرو بن خارجة: (سنن النَّسائي شرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الإمام السندي- ك: الوصايا- ب: إبطال الوصية للوارث 6/247، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ح: 3402، 2/774، والترمذي عنه في سننه بلفظ: "

فلا وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحَجَر" وقال: هنا حديث حسن صحيح- ك: الوصايا- ب: ما جاء لا وصية لوارث ح: 2204- 3/294 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ح: 1722، 2/218، وتتبع طرقه في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ح: 1655، 6/87- ن المكتب الإسلامي- ط/ 1 (1399 هـ- 1979م) .

5 الصواب أن يقال: (في من) .

6 يرمز إلى حديث سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت إنّي قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلَاّ ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا فقلت: بالشطر؟ فقال: لا، ثم قال: الثلث والثلث كبير أو كثير، إنَّك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنّك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلَاّ أُجرت بها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك.. " الحديث، أخرجه البخاري في صحيحه – ك: الجنائز – ب: رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة 2/103، وك: الوصايا –ب: أن =

ص: 363

قلنا: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" 1 وادعوا علينا أنَّ الصحابة وقفوا، هل أنكرنا الوقف كأهل الكوفة حتى يحتج علينا بذلك؟] 2 ا. هـ.

سادساً: [وأما قول أحمد من رد الوقف فكأنما رد السنّة فهذا حق ومراده وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ذكره أحمد في كلامه، وأما وقف الإثم والجنف فمن رده فقد عمل بالسنّة ورد البدعة واتبع القرآن]3.

سابعاً: [وأما قوله: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" 4 وقوله: "صدقتك على رحمك صدقة وصلة" 5 وقوله: "ثم أدناك

=تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنَّك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلَاّ أُجرت بها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك.." الحديث، أخرجه البخاري في صحيحه – ك: الجنائز – ب: رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة 2/103، وك: الوصايا – ب أن: يترك ورثته أغنياء خير..، 4/3، وك: مناقب الأنصار ب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم امض لأصحابي هجرتهم.." 5/87 وك: النفقات – ب: فضل النفقة على الأهل 7/80، وك: الطب –ب: وضع اليد على المريض 7/152، وك: الدعوات – ب: الدعاء يرفع الوباء والوجع 8/99، وك: الفرائض- ب: ميراث البنات 8/187.

1 وهو حديث النعمان بن بشير قال: "تصدق عليَّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عَمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كُلِّهم؟ قال: لا قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم فرجع أبي فرد تلك الصدقة" أخرجه مسلم –ك: الهبات –ب: كراهة تفضيل بعض الأبناء في الهبة ح:13-3/1242.

2 الرسائل الشخصية ص 81، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/262.

3 المرجع السابق ص 82، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/252.

4 وهو حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنىً ومن يستعفف يُعفْه الله ومن يستغن يُغنه الله" أخرجه البخاري في صحيحه – ك: الزكاة –ب: لا صدقة إلاّ عن ظهر غنىً..، 2/139.

5 هو حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة" أخرجه النسائي في سننه – ك: الزكاة –ب: الصدقة على الأقارب 5/92، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ح: 2420، 2/ 546، كما أخرجه عنه الترمذي في سننه بلفظ:"إذا أفطر أحدكم فليُفطر على تمرٍ فإنَّه بركة، فإن لم يجد تمراً فالماء فإنّه طهور وقال: الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة" وقال: حديث حسن – ك: الزكاة – ب: ما جاء في الصدقة على ذي القرابة ح: 653-2/ 84 وضعف الألباني الشق الأول منه في صحيح سنن الترمذي وصحح الشق الثاني موضع الشاهد 1/202 ح: 531.

ص: 364

أدناك" 1 وأشباه ذلك فكل هذا صحيح لا إشكال فيه لكن لا يدل على تغيير حدود الله، فإذا قال:

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2 ووقف الإنسان على أولاده ثم أخرج نسل الإناث محتجاً بقوله: "ثم أدناك أدناك" أو صلة الرحم فمثله كمثل رجل أراد أن يتزوج خالة أو عمة فقيرة فتزوجها يريد الصلة، واحتج بتلك الأحاديث، فإن قال إن الله حرم نكاح الخالات والعمات، قلنا وحرم تعدي حدود الله التي حد في سورة النساء قال تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} 3 فإذا قال الوقف ليس من هذا قلنا هذا مثل قوله: من تزوج خالته إذا تزوجها لفقرها ليس من هذا، فإذا كان عندكم بين المسألتين فرق فبينوه،4.

ثامناً: "وأما القول بأنَّ عمر وقفه على الورثة فيا سبحان الله كيف يكابرون النصوص، ووقف عمر وشرطه ومصارفه ثمغي 5 وغيرها معروفة مشهورة"6.

تاسعاً: "وأما وقف حفصة الحُلي على آل الخطاب فيا سبحان الله! هل وقفت على ورثتها أو حرمت أحداً أعطاه الله؟ أو أعطت أحداً حرمه الله؟ أو استثنت غلته مدة حياتها؟ فإذا وقف محمد بن سعود نخلاً على الضعيف من آل مقرن أو

1 وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رجل: يا رسول الله من أحق بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك " أخرجه مسلم في صحيحه- ك: البر- ب: بر الوالدين وأنّهما أحق به ح: 2- 4/1974.

2 جزء من الآية 11 من سورة النساء.

3 جزء من الآية 14 من سورة النساء.

4 الرسائل الشخصية ص 82، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/262.

5 ثَمغّ: بالفتح ثم السكون، والغين معجمة: موضع مالٍ كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. (معجم البلدان 2/84 مادة:"ثمغ"، تلقاء المدينة، خرج إليه يوماً ففاتته صلاة العصر، فقال فد شغلني عن الصلاة أشهدكم أنّها صدقة معجم معالم الحجاز 2/88.

6 الرسائل الشخصية ص 83، وادرر السنية في الأجوبة النجدية 5/263.

ص: 365

مثل ذلك هل أنكرنا هذا؟ وهذا وقف حفصة فأين هذا مما نحن فيه؟] .

عاشراً: [وأما قولهم إنَّ عمر وقف على ورثته، فإن كان المراد ولاية الوقف فهو صحيح وليس مما نحن فيه، فإن كان مراد القائل إنَّه ظن أنَّه وقف يدل على صحة ما نحن فيه فهذا كذب ظاهر ترده النقول الصحيحة في صفة وقف عمر] .

أحد عشر: [وأما كون صفية وقفت على أخ لها يهودي فهو لا يرثها ولا ننكر ذلك]1.

اثنى عشر: [وأما ختمه الكلام بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 2 فيا لها من كلمة ما أجمعها ووالله إنَّ مسألتنا هذه من إنكارها، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزم حدود الله والعدل ببن الأولاد، ونهانا عن تغيير حدود الله، والتحيل على محارم الله، وإذا قَدَّرنا أنَّ مراد صاحب هذا الوقف وجه الله لأجل من أفتاه بذلك فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البدع في الدين ولو صحت نيّة فاعلها فقال:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي لفظ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" 3، هذا نص الذي قال فيه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4. وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 5، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 6.

فمن قَبِلَ ما آتاه الرسول، وانتهى عما نهى وأطاعه ليهتدي واتبعه ليكون

1 الرسائل الشخصية- ص 83، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 5/263.

2 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.

3 راجع ص (299)، واللفظ الآخر: أخرجه مسلم- ك: الأقضية- ب: نقض

ح: 17، 4/1344.

4 جزء من الآية 7 من سورة الحشر.

5 جزء من الآية 54 من سورة النور.

6 جزء من الآية 31 من سورة آل عمران.

ص: 366

محبوباً عند الله فليوقف كما أوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما وقف عمر رضي الله عنه وكما وقفت حفصة وغيرهم من الصحابة وأهل العلم، وأما هذا الوقف المحدث الملعون المغير لحدود الله فهذا الذي قال الله فيه بعد ما حدَّ المواريث والحقوق للأولاد والزوجات وغيرهم:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1، ا. هـ 2.

1 الآيتان 13-14 من سورة النساء.

2 الرسائل الشخصية ص84، والدرر السنية في الأجوبة النجدية5/263.

ص: 367

‌المطلب الثاني: احتسابه على بعض صور الربا:

كما احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في مسائل أخرى في باب المعاملات كالربا والرشوة:

قال رحمه الله في رسالته إلى السويدي عالم العراق:

[ونهيتهم عن الربا]1.

والربا لغة: الزيادة، ربا يربو رَبْواً إذا زاد وارتفع2.

وفي الشرع: زيادة في أشياء مخصوصة3.

وهو محرم لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 4.

ولحديث السبع الموبقات5، وذكر منها الربا.

وفي الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب، وكسب البغيِّ، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور 6.

والربا على ضربين: ربا الفضل وربا النسيئة 7.

والفضل: الزيادة، والنَّساء: التأخير8.

قال المرداوي رحمه الله: (فأما ربا الفضل فَيَحْرُمُ في الجنس الواحد من كل

1 الرسائل الشخصية- الرسالة الخامسة ص 36، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/54.

2 النهاية في غريب الحديث والأثر 2/191 مادة: [ربا] .

3 المغني 6/51.

4 جزء من الآية 275 من سورة القرة.

5 سبق ذكر نصه وتخريجه راجع ص (327) هـ (4) من هذه الرسالة.

6 صحيح البخاري ك: اللباس ب: من لعن المصور 7/218.

7 المغني 6/52.

8 حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع 4/492هـ (1) .

ص: 368

مكيلٍ أو موزون) 1 (وكل مطعوم)2.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (العلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم وهو رواية عن أحمد)3.

وفي ذلك احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما سئل هل الربا يختص بالمطعومات؟ فقال:

[مذهب الشيخ 4 وابن القيم5 أنَّ الربا يختص في المكيل والموزون بالمطعوم والذي قال: أنا أعطيك عن ثلاثين هذه الحمر6 التي في ذمة هذا الرجل الغائب عشرين زراً 7 فهذا عين الربا كيف يشكل هذا عليك وقد اجتمع فيه ربا النسيئة وربا الفضل جميعاً]8.

1 الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل 5/ 11.

2 المرجع السابق 5/12.

3 الفتاوى الكبرى 4/473، والاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص 244 للشيخ أبي الحسن البعلي- ن المؤسسة السعيدية بالرياض- مطابع الدجوي- القاهرة.

4 يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية وللاستزادة انظر مجموع الفتاوى 29/503- 518.

5 انظر تفصيل كلامه رحمه الله في هذه المسألة في أعلام الموقعين عن رب العالمين 2/136- 140.

6 سبق تعريفها ص (343) هـ (2) .

7 الزِرُّ: واحد أزرار القميص. (الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 2/669 مادة: [زرر] ) .

8 فتاوى ومسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب ضمن مؤلفاته – القسم الثالث ص113.

ص: 369

‌المطلب الثالث: احتسابه على الرشوة:

كما احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في باب المعاملات على من يتعاطى الرشوة.

والرشوة لغة: الجُعْل والجمع

والمراشاة: المحاباة 1.

والرشوة في الاصطلاح: ما يُعطى بعد طلبه لها2، وقال ابن العربي: الرشوة مال يدفع ليبتاع به من ذي جاه عوناً على ما لا يحل3.

والرشوة نوعان:

1-

أن يأخذ من أحد الخصمين ليحكم له بباطل.

2-

أن يمتنع عن الحكم بالحق للمحق حتى يعطه وهو من أعظم الظلم4.

والرشوة محرمة بالكتاب والسنّة، قال تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 5.

وفي الصحيح عن ابن سيرين قال: كان يقال السحت: الرشوة في الحكم 6.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 لسان العرب 3/1653 مادة: [رشا] ، بتصرف يسر.

2 كشاف القناع على متن الإقناع 6/316.

3 فتح الباري شرح صحيح البخاري 5/221.

4 حاشية الروض المربع شح زاد المستنقع 7/528 بتصرف يسير.

5 سورة المائدة آية 42.

6 صحيح البخاري – ك: الإجارة – ب- ما يعطى في الرقية..، 3/121.

ص: 370

الراشي والمرتشي" 1.

وفي الصحيح: قال عمر بن عبد العزيز: كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية واليوم رِشوة2.

ومما يُبَيِّن احتساب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على الرشوة قوله: [أنكرنا عليهم أكل السحت والرشا إلى غير ذلك من الأمور]3.

ويخبر ابن غنام رحمه الله أنَّه أنكر على من اعتاد أن يأخذ أجوراً من المتخاصمين مقابل الفصل بينهم واعتبره من الرشوة4.

وعند ما سُئل الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن حقيقة ما قاله سليمان بن سحيم من حل أخذ الرشوة من صاحب الحق أجاب رحمه الله:

[سألتم رحمكم الله عن رشوة الحاكم الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه لعن الراشي والمرتشي، وذكر له أنَّ بعض الناس حملها على ما إذا حكم الحاكم بغير الحق، وأما إذا أخذ رشوة من صاحب الحق وحكم له به فهي حلال، مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم:"أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" 5، وأنَّكم

1 أخرجه أبو داود في سننه- ك: الأقضية- ب: في كراهية الرشوة ح: 3580- 9/4، والترمذي في سننه- ك: الأحكام- ب: ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم ح:1352- 2/397 وقال: هذا حديث حسن صحيح، كما أخرجه ابن ماجه في سننه بلفظ: (لعنة الله على

" ك: الأحكام ب: التغليظ في الحيف والرشوة ح: 2313- 2/775، والطبراني في المعجم الكبير- ما أسندت أم سلمة- عبد الله بن وهب بن زمعة عن أم سلمة ح: 951- 23/398، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات 4/199، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/683 ح: 3055، وفى صحيح سنن الترمذي 2/36 ح: 1074، وصحيح سن ابن ماجه 2/34 ح:1871.

2 صحيح البخاري – ك: الهبة – ب: من لم يقبل الهدية لعلة 3/208.

3 الرسائل الشخصية – الرسالة الحادي عشر ص63، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 8/53.

4 انظر تاريخ نجد المسمى روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام 1/ 114 و 140.

5 جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه – ك: الإجارة – ب: ما يعطى في الرقية..3/121.

ص: 371

استدللتم عليه بقوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} 1 وأجابكم بأنَّها نزلت في كعب بن الأشرف، وبأنَّ الناس فرضوا لأبي بكر لما تولّى الأمر درهمين كل يوم، وكذلك قوله من قال لا أحكم بينكما إلا بجُعْل.

فأقول: أما صورة المسألة فهي أشهر من أن تذكر، بل هي تعلم بالاضطرار فإنَّ حكّام زماننا- لما أخذوا الرشوة- أنكرت عليهم العقول والفطر بما جبلها الله عليه من غير أن يعلموا أنَّ الشارع نهى عنها، ولكن إذا جادل المنافق بالباطل فربما يروج على المؤمن فيحتاج إلى كشف الشبهة.

والجواب عنها: قد عُلِمَ بالكتاب والسنّة والفِطَر والعقول تحريم الرشوة وقبحها.

والرشوة هي ما يأخذ الرجل على إبطال حق وإعطاء باطل، وهذه يسلمها لك منازعك.

وهي أيضاً ما يؤخذ على إيصال حق إلى مستحقه، بل يسكت ولا يدخل فيه حتى يعطيه رشوة، فهذه حرام، منهيٌّ عنها بالإجماع، ملعون من أخذها، فمن ادَّعَى حِلّها فقد خالف الإجماع.

وقوله: بأي شريعة حكمت بتحريم هذا؟ فنقول: حَكمتْ به شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع على ذلك علماء أمته، وأحل ذلك المرتشون الملعونون.

ومن أنواع الرشوة: الهدايا التي تُدفع إلى الحاكم بسبب الحكم ولو لم يكن لصاحبها غرض حاضر، لا أعلم أحداً من العلماء رخَّص في مثل هذا2

1 جزء من الآية 41 من سورة البقرة.

2 يقصد رحمه الله الرشوة المُجمع على تحريمها التي تُحق باطلاً وتُبْطل حقاً، أما إذا كان لصاحبها عرضاً خاصاً، كأن يكف ظلمه عنه أو يعطيه حقه الواجب فهذه الرشوة حراماً على الآخذ وجاز للدافع أن يدفعها. (انظر مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 582 تأليف محمد بن علي الحنبلي البعلي صححه وعلّق عليه محمد حامد الفقي – ن دار التقوى – بلبيس – ط (1409هـ- 1989م) ، وانظر كشاف القناع=

ص: 372

والعجب إذا كان في كتابكم الذي تحكمون فيه: يجب العدل بين الخصمين في لَحْظِهِ ولَفْظه ومجلسه وكلامه والدخول عليه، فأين هذا من أكل عشرة حمران على أحد الخصمين، وإن لم يعطه أخذ بدلها من صاحبه وحكم له؟ سبحان الله أي شريعة حكمت بحِلّ هذا؟ أم أي عقل أجازه؟ ما أجهل من مجادل في مثل هذا، وأقلَّ حياءه، وأقوى وجهه!

وأما أدلته التي استدل بها فلا تنس قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} 1 الآية. ولما جادل النصارى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألوهية عيسى، واحتجوا عليه بشيء من القرآن، وكذلك الخوارج يستدلون على باطلهم.

متشابه القرآن، وكذلك الذين ضربوا الإمام أحمد يستدلون عليه بشيء من متشابه القرآن، وما أنزل الله:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إلاّ لما يعلم من حاجة عباده إليها.

وأما استدلال هذا الجاهل الظالم بقوله: "أحقُّ ما أخذتم عليه أجراً كتابُ الله"

= على متن الإقناع 6/316، ويسميها أهل العلم: المُصانعة، وهي في اللغة: أن تصنع له شيئاً ليصنع لك شيئاً آخر. (لسان العرب 4/2510 مادة: [صنع] ) .

وفي الاصطلاح: أن يرشي الحاكم ليدفع ظلمه، ويجزيه على واجبه. (انظر المغني 14/60) ، وقال بجوازها للضرورة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (انظر موسوعة فقه عبد الله بن عمر عصره وحياته ص673 تأليف الدكتور محمد روّاس- ن دار النفائس- بيروت- ط/1- 1406هـ- 1986م)، ففي الأثر: أتى ابن عمر رضي الله عنهما شاعر فأعطاه درهمين فقالوا له فقال: إنَّما أفتدي به عرضي. (انظر الطبقات الكبرى 4/155) وابن مسعود رضي الله عنه، لما يُروى عنه أنَّه أُخِذَ، فأعطى دينارين حتى يُخلّى سبيله، وممن أجازُها أيضاً الحسن والشعبي وجابر بن زيد وعطاء فقالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه، وماله، إذا خاف الظلم (انظر شرح السنة 10/88، والمغني 14/60، وأحكام القرآن 2/433 للجصاص –ن دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – ط/ مصورة عن الطبعة الأولى بمطبعة الأوقاف الإسلامية في دار الخلافة سنة 1335هـ، وقال الحسن: ما أعطيت من مالك مصانعة على مالك ودمك فأنت فيه مأجور، وقاله الثوري عن إبراهيم. (المصنف 8/149 ع: 14671 لعبد الرزاق) والله أعلم.

1 جزء من الآية 7 من سورة آل عمران.

ص: 373

فجوابه من وجوه:

الأول: أنَّ المؤمنين إذا فسروا شيئاً من القرآن بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام المفسرين ليس لهم فيه إلَاّ النقل- اشتد نكيرهم عليهم ويقولون: القرآن لا يحل لكم تفسيره، ولا يعرفه إلَاّ المجتهدون، وتارة تفتري الكذب وتقول: إنَّ ابن عباس إذا أراد أن يفسره خرج إلى البرية خوفاً من العذاب، وأمثال هذه الأباطيل والخرافات ومرادهم بذلك سد الباب، فلا يفتح للناس طريق إلى هذا الخير، فيكون نقلنا لكلام المفسّرين مُنْكراً، وتفسيرك كتاب الله على هواك وتحريفُك الكَلِمَ عن مواضعه حسناً! هذا من أعجب العجاب!

الوجه الثاني: أنَّ هذا لو كان على ما أوَّلَته فهو في الأخذ على كتاب الله، وأنتم متبرئون من معرفة كتاب الله والحكم به، وشاهدون على أنفسكم بذلك.

الوجه الثالث: أنَّ هذا لو كان فيما ذهبت إليه لكان مخصوصاً بتحريم الرشوة التي أجمع الصحابة على تحريمها.

الوجه الرابع: أنَّ حمل الحديث على هذا من الفِرية الظاهرة والكذب البحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ معنى ذلك في الإنسان الذي يداوي المريض بالقرآن فيأخذ على الطب والدواء، لا على الحكم وإيصال الحق إلى مستحقِّه. ويدّل عليه اللفظ الآخر.

"كل فتى أكل برُقية باطل فقد أكل برقية حق" 1 والقصة شاهدة

1 عن خارجة بن الصلت عن عمه مر بقوم فأتوه فقالوا: إنَّك جئت من عند هذا الرجل بخير، فأرقِ لنا هذا الرجل، فأتوه برجل معتوه في القيود، فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام غُدْوَةً وعشية وكلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل، فكأنّما أُنشط من عقال، فأعطوه شيئاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كل فَلَعَمْري لَمَنْ أكل برقيةٍ باطلٍ، لقد أكلت برقيةٍ حقٍ". أخرجه أبو داود – ك: الإجازة –ب: في كسب المعلم ح: 3420- 3/706 كما أخرج نحوه أحمد في=

ص: 374

بذلك توضحه.

الوجه الخامس: وهو أن يقال لهذا الجاهل المركب: من استدل قبلك بهذا الحديث على أنَّ الحاكم إذا أراد أن يوصل الحق إلى مستحقه يجوز له أن يشترط لنفسه شرطاً، فإن حصل له وإلَاّ لم يفعل؟ فإن كان وجده في كتاب الله فليبين مأخذه. وما ظنُّه بأهل العلم الأولين والآخرين الذين أجمعوا على ذلك؟ لا يجوز أن يظن أنَّ إجماعهم باطل وأنَّهم لم يفهموا كلام نبيهم حتى فهمه هو.

وأما استدلاله بأنَّ الناس فرضوا لأبي بكر رضي الله عنه لمّا ولي عليهم كلّ يوم درهمين، فهذا من أعجب جهله، ومثل هذا مثل من يدّعي حِلّ الزّنا الذي لا شُبْهة فيه، ويستدل على ذلك بأنَّ الصحابة يطأون زوجاتهم! وهذا الاستدلال مثل هذا سواءٌ بسواء! وذلك أنَّ استدلاله بقصة أبي بكر رضي الله عنه تدل على شدة جهله بحال السلف الصالح، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي العُمّال من بيت المال، وكان الخلفاء الراشدون يأكلون من بيت المال ويفرضون لعُمّالهم: ولا أعلم عاملاً في زمن الخلفاء الراشدين لا يأكل من ذلك، بل الزكاة التي هي للفقراء جعل الله فيها نصيباً للعُمّال الأغنياء، ولكن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي واشتغل بالخلافة عن الحرفة، وضع رأس ماله في بيت المال، واحترف للمسلمين فيه، فأكل بسبب وضع ماله في بيت المال وبسبب الحرفة، فأين هذا من أكل الرشوة التي حرمها الله ورسوله؟ وأين هذا من الحاكم الذي إذا وقعت الخصومة فأكثرهم

= المسند وبهامشه كنزل العمال في سنن الأقوال والأفعال – حديث خارجة بن الصلت عن عمه رضي الله عنه من مسند الأنصار 5/211، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/656 ح:2918.

ص: 375

برطيلاً1 يغلب صاحبه؟ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 2.

فإن قالوا: لما عُدم بيت المال أكلنا من هذا. قلنا: هذا مثل من يقول: أنا أزني لأنّي أعزب لا زوجة لي. فهو هذا من غير مجازفة

وقولهم: نفعل هذا لأجل مصلحة الناس. فنقول: ما على الناس أضر من إبليس ومنكم، أذهبتم دنياهم وآخرتهم والناس يشهدون عليكم بذلك. وهؤلاء أهل شقراء شرطوا لابن إسماعيل كل سنة ثلاثة وثلاثين أحمر، ويسكت عن الناس ويريحهم من أذاه، ولا يحكم بين اثنين، ولا يفتي، فلم يفعل واختار حرفته الأولى.

وأما جوابه لمن استدل عليه: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} 3 بقوله نزلت في كعب بن الأشرف4 فهذا ترس قد أعدَّه هؤلاء الجهّال الضّلال لردّ كلام الله- إذا قال لهم أحد: قال الله كذا قالوا: نزلت في اليهود، ونزلت في النصارى، نزلت في فلان.

وجواب هذه الشبهة الجاهلة الظالمة الفاسدة من وجوه:

الأول: أن يقال: معلوم أنَّ القرآن نزل بأسباب، فإن كان لا يُسْتَدَلُّ به إلاّ في تلك الأسباب بطل استدلاله بالقرآن وهذا خروج من الدين.

1 البرطيل: حجر أو حديد طويل صلْب ليس مما يُطَوِّلُهُ الناس ولا يُحَدِّدُونَهُ تنقر به الرَّحى. (لسان العرب 1/259 مادة: [برطل] ) .

2 جزء من الآية 16 من سورة النور.

3 جزء من الآية 44 من سورة المائدة.

4 هو: كعب بن الأشرف الطائي، من بني نبهان، شاعر جاهلي، كانت أمّه من (بني النضير) فدان باليهودية وكان سيداً في أخواله يقيم في حصن له قريب من المدينة، أدرك الإسلام ولم يسلم وأكثر من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتحريض القبائل عليهم وإيذائهم، وخرج إلى مكة بعد غزوة بدر فندب قتلى قريش فيها وحض على الأخذ بثأرهم فانطلق إلى قتله خمسة من الأنصار، فقتلوه في ظاهر حصنه في العام الثالث للهجرة 624م. (الأعلام 5/225 بتصرف) .

ص: 376

الثاني: أنك تقول: لا يجوز تفسير القرآن، فكيف فسرت هذه الآية بأنَّها خاصة بابن الأشرف؟

الثالث: من نقلت عنه من العلماء أن الآية إذا نزلت في رجل كافر أنَّها لا تعمّ من عمل بها من المسلمين؟ من قال بهذا القول قبلك؟ وعمن نقلته؟

الرابع: أنَّ هذا خروج من الإجماع، فما زال العلماء من عصر الصحابة فمن بعدهم يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود وغيرهم على من يعمل بها، ولكن هذا شأن الجاهلين الظالمين الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد] 1 2.

هذا الإسهاب في الإنكار من الإمام محمد بن عبد الوهاب يعكس مدى اهتمامه رحمه الله بالاحتساب على المنكرات المتعلقة بالمعاملات المتفشية في مجتمعه بوجه خاص.

1 هذا المعنى اقتبسه الشيخ من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} سورة الشورى آية 16..

2 مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب القسم الثالث – الفتاوى والمسائل – الرابعة صلى الله عليه وسلم 16-24.

ص: 377

‌المطلب الرابع: احتسابه على العشور والمكوس:

والعشور في اللغة: النقصان1 وهي جمع العُشْر، والعشر: الجزء من عشرة أجزاء2، والعشر، كانت الملوك تأخذه من أموالهم، والعشّار: قابض العشر3.

وفي الحديث عن عثمان بن أبى العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفتح أبواب السماء نصف الليل، فينادي مناد هل من داعٍ فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى؟ هل من مكروبٍ فيفرج عنه؟ فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلَاّ استجاب الله تعالى له؛ إلَاّ زانية تسعى بفرجها، أو عَشَّاراً"4.

أما المكوس: فهي جمع المَكْس.

وهو في اللغة: النقص والمكس: انتقاص الثمن في البِيَاعة

والمكس: ما يأخذه العشّار، يقول: كل من باع شيئاً أخذ منه الخراج أو العشر5.

وفي الاصطلاح هو: الضريبة أو الجباية إلى يأخذها المُكَّاس ممن يدخل البلدان من التجار6، وقد غلب استعمال المَكْس فيما يأخذه أعوان الظلمة

1 لسان العرب 4/2952 عادة: [عشر] .

2 القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً بتصرف يسير ص 251 عادة: [عشر] .

3 لسان العرب 4/2953 مادة: [عشر] بتصرف.

4 أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ح: 2970، 3/372، تحقيق الدكتور محمود الطحان- ن مكتبة المعارف- الرياض- ط/1 (1406 هـ- 1986)، وصححه الألباني في صحيح الجامع 3/47 ح: 2968 واستدرك على المناوي في عزوه الحديث للطبراني في المعجم الكبير، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/62، كما خرَّج نحوه أحمد بلفظ:"إلَاّ أن يكون ساحراً أو عشاراً" المسند وبهامُشه كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال حديث عثمان ابن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه من مسند المدنيين 4/22، وحديث عثمان بن أبي العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم من مسند الشاميين 4/218، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: رجال أحمد رجال الصحيح 3/88.

5 لسان العرب 6/4248 مادة: [مكس] .

6 انظر القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً صلى الله عليه وسلم 338 مادة: [المكس] .

ص: 378

عند البيع والشراء1.

وصاحب المكس هر الذي يعشر أموال المسلمين ويأخذ من التجار والمختلفة إذا مرّوا عليه وعبروا به مكساً باسم العشر، وليس هو بالساعي الذي يأخذ الصدقات فقد ولي الصدقات أفاضل الصحابة وكبارهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم2.

وفي حديث المرأة الغامدية التي زنت وجاءت للنبي صلى الله عليه وسلم ليقيم الحد عليها فقال صلى الله عليه وسلم فيها بعد رجمها: "

لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْس لغُفر له" 3.

وهذا مما يدل على عظم ذنب صاحب المكس وأنه أعظم من ذنب الزنا، والله أعلم.

ويدل على تحريم العشور والمكوس عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية4.

وقد احتسب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على أخذ العشور والمكوس.

قال ابن غنام حاكياً عن قومه الذين شكوه إلى سليمان آل محمد رئيس بني خالد والأحساء: (وصاحوا عنده5 وقالوا: إنَّ هذا يريد أن يخرجكم من ملككم، ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور ويبطل العشور والمكوس) 6 ا. هـ.

ويخبر المؤرخ ابن بشر أنَّه لمّا تعاهد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب مع

1 انظر صحيح مسلم 3/1324هـ (1) .

2 سنن أبي داود 3/349هـ (2) .

3 جزء من حديث طويل أخرجه مسلم – ك: الحدود –ب: من اعترف على نفسه بالزنى ح230 3/1323.

4 سورة النساء آية 29.

5 أي عند سليمان آل محمد.

6 تاريخ نجد ص 86 بتحقيق ناصر الدين الأسد.

ص: 379

الأمير الإمام محمد بن سعود على النصرة والجهاد دار بينهما حوارٌ خالدٌ بدأه الإمام محمد بن سعود والذي جاء فيه:

(أريد أن أشترط عليك

إنَّ لي على الدرعية قانوناً1 آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذه منهم شيئاً. فقال الشيخ:

فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها، فوقع تحقيق ظنه رحمه الله تعالى فإنَّه أتى إليه غنيمة عظيمة، فقال الشيخ: هذا أكثر مما أنت تأخذه على أهل بلدك) 2.

هذا الإنكار اللطيف من الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب على الأمير محمد بن سعود فيما كان اعتاد أخذه من الضرائب خير شاهد على قوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الحق وقدرته الفائقة على الإقناع واستثارة الهمم فجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء.

1 القانون: مقياس كل شيء وطريقه. المعجم الوسيط 2/673 مادة: [قنا] ويقصد به هنا طريقته في الخراج الذي اعتاد أن يأخذه من أهل الدرعية. والله أعلم.

2 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/12.

ص: 380

المبحث الرابع: احتسابه في الحدود

المطلب الأول: احتسابه برجم المرأة الزانية:

الحد في اللغة: الحاجز بين الشيئين، وحد الشيء منتهاه

والحد: المنع

وحددت الرجل: أقمت عليه الحد لأنَّه يمنعه من المعاودة1.

وحدود الله محارمه2.

والحد في الاصطلاح: عقوبة مقدرة شرعاً3، في معصية4، وجبت لله تعالى زجراً5، سواء كانت حقاً لله أم للعبد6، لتمنع من الوقوع في مثلها7.

والمحصن: من وَطِئ امرأته في قُبُلِها في نكاح صحيح، وهما بالغان عاقلان حُرّان8.

وأُحصن: تزوجن9.

فأما الزنى: فهر كل وطء وقع على غبر نكاح صحيح ولا شبهة نكاح ولا

1 الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 2/462 مادة: [حدد] .

2 كشاف القناع على متن الإقناع 6/77.

3 الفقه الإسلامي وأدلته 6/12.

4 منح الشِّفا الشافيات في شرح المفردات ص300 تأليف العلامة منصور بن يونس البهوتي- ن المطبعة السلفية- ومكتبتها- القاهرة (343 هـ) بتصرف، والفقه الإسلامي وأدلته 6/12 تأليف الدكتور وهبة الزحيلي- ن دار الفكر بدمشق- ط/2 (1405 هـ- 1985م) بتصرف.

5 القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً ص 83 مادة: [الحد] .

6 الفقه الإسلامي وأدلته 6/ 12.

7 منح الشفا الشافيات في شرح المفردات ص300.

8 المبدع في شرح المقنع 9/62.

9 المفردات في غريب القرآن ص 121 مادة: [حصن] .

ص: 381

ملك يمين1.

وهو من أعظم المحرمات الموجبة للحد.

وحد الزاني المحصن القتل، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلَاّ الله وأنّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاثٍ النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك الجماعة"2.

يدل هذا الحديث على أن حد الزاني المحصن هو القتل.

ووسيلة ذلك القتل الرجم بالحجارة حتى الموت، قال الإمام أحمد بن حنبل:(والرجم حق على من زنا وقد أحص إذا اعترف أو قامت عليه بيَنته)3.

وقال الحجاوي رحمه الله: (إذا زنى المحصن وجب رجمه بالحجارة وغيرها حتى يموت)4.

الدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما الطويل والذي فيه: ".... خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل لَيَقُولَنَّ العشيَّة مقالةً لم يقلها منذ استُخْلِف، فأنكر عليَّ وقال ما عَسيت أن يقول ما لم يقل قبله، فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله. مما هو أهله، ثم قال أما بعد: فإنّي قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عَقِلهَا ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلتُهُ، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أُحلُّ لأحد أن يكذب عليَّ، إن

1 نهاية المجتهد ونهاية المقتصد 2/559 للإمام ابن رشد الحفيد- ن دار الكتب الحديثة- مصر- ط/مطبعة حسان القاهرة.

2 صحيح البخاري- ك: الديات- ب: قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 9/6.

3 أصول السنة ص 53- ن دار المنار- الخرج- ط/1 (ذو الحجة 1411هـ) .

4 الإقناع في مذهب الإمام أحمد بن حنبل 4/250.

ص: 382

الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرَّجم فَقَرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضةٍ أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حقٌ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف

" 1 الحديث.

وزاد أبو داود رحمه الله: "

وأيم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها"2.

وعند ابن ماجه رحمه الله: "

وقد قرأتها: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبته}

"3.

قال الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله: "الشيخ والشيخة يعني الثيب والثيبة"4.

وهذه الآية نسخت تلاوتها وبقي حكمه5.

قال الإمام الشوكاني رحمه الله: (ونسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم) 6 ا. هـ.

ويعلل الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله السبب في ذلك فيقول:

1 صحيح البخاري- ك: المحاربين- ب: رجم الحبلى من الزنا- 8/209.

2 سنن أبي داود- ك: الحدود- ب: في الرجم ح: 4418- 4/572، وصححه الألباني في صحيح سن أبي داود 3/835 ح:3715.

3 سنن ابن ماجه- ك: الحدود- ب: الرجم ح: 2553- 2/854، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 8112 ح:2067.

4 موطأ مالك وشرحه تنوير الحوالك 2/168.

5 انظر أضواء البيان في تفسر القرآن بالقرآن 6/7، ولقد بسط فيه القول على أحكام الزنى وجمع فوائد قيمة فليراجع.

6 نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار 7/254.

ص: 383

(السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها) 1ا. هـ. والله تعالى أعلم.

ومن أدلة رجم المحصن ما رواه أبو هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال أَنشُدُك الله إلَاّ قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه (وكان أفقه منه) فقال اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، قال قل: قال إنَّ ابني كان عسيفاً2 على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم، فأخبروني أنَّ على ابني جلد مائةٍ وتغريب عام وعلى امرأته الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جلَّ ذكره المائة شاة والخادم رَدٌّ وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فان اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها.." 3 الحديث.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إنّي زنيت فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات، فلمّا شَهِدَ على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه

" 4 الحديث.

سبحان الله ما أشبه الليلة بالبارحة فقد حدثت بين يدي الشيخ الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله قصة شديدة الشبه بهذه القصة، حيث جاءته امرأة

1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 12/143.

2 عسيفاً أي أجيراً. (النهاية في غريب الحديث والأثر 3/237 مادة: [عسف] ) .

3 أخرجه البخاري في صحيحه- ك: المحاربين- ب: الاعتراف بالزنا 8/207.

4 المصدر السابق- الكتاب نفسه-ب: لا يرجم المجنون والمجنونة 8/305.

ص: 384

قد تلطخت بالمعصية فجادت بنفسها لله عز وجل فأقرت بذنبها وتكرر منها الإقرار، كما فعل ذلك الرجل مع النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن بشر رحمه الله: (أتت امرأة إلى الشيخ واعترفت عنده بالزنى والإحصان وتكرر منها الإقرار فسأل عن عقلها فإذا هي صحيحة العقل وقال لعلك مغصوبة، فأقرت واعترفت بما يوجب عليها الرجم، فأمر عليها1 فرجمت)2.

ويذكر ابن دقيق العيد أنَّ الفقهاء استحبوا أن يبدأ الإمام بالرجم إذا ثبت الزنا بالإقرار، وكأن الإمام لما كان عليه التثبت والاحتياط قيل له: ابدأ ليكون ذلك زاجراً عن التساهل في الحكم بالحدود، وداعياً إلى غاية التثبت3.

ويقول ابن غنام رحمه الله: (وكان أول من رجها عثمان4 نفسه. فلما ماتت أمر الشيخ أن يغسِّلوها وأن تُكفَّن ويُصلى عليها)5.

ولا شك في أنَّ اندفاع هذه المرأة إلى الاعتراف بخطيئتها، وإلحاحها في طلب تطهيرها بإقامة الحد عليها لم يكن إلَاّ أثراً من آثار دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب6 الذي بنشره للعلم والتوحيد أيقظ الضمائر النائمة في سبات المعاصي وأعاد القلوب المريضة إلى رحاب التوبة النصوح فجادت بنفسها

1 الصواب أن يقول فأمر بها.

2 عنوان المجد 1/10.

3 انظر إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 2/424 للإمام الحافظ العلامة الفقيه المجتهد تقي الدين بن دقيق العيد أملاه علي الوزير عماد الدين بن الأثير الحلبي، حققها وقدّم لها وراجع نصوصها علامة مصر ومحدثها أحمد محمد شاكر - ن عالم الكتب- بيروت- ط/2 (1407هـ- 1987م) .

4 الأمير عثمان بن معمر.

5 تاريخ نجد 1/86 تحقيق ناصر الدين الأسد.

6 محمد بن عبد الوهاب ص 53 بتصرف يسير.

ص: 385

‌المبحث الرابع: احتسابه في الحدود

‌المطلب الأول: احتسابه برجم المرأة الزانية:

ليكون ذلك كفارة لها كما ورد في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدراً وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابةٌ من أصحابه: "بايعوني على ألَاّ تُشركوا بالله شيئاً ولا تَسرِقوا ولا تَزنُوا ولا تقتلوا أولادَكم ولا تأتُوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجُلِكم ولا تَعصوا في معروف فمن وَفَى منكم فأجرُهُ على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقِبَ في الدنيا فهو كفارةٌ له ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستَرَهُ الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنهُ وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك"1.

ولما رجمت الزانية سرى خبرها سير البرق في البوادي والحضر، فوقع على القلوب وقع الصاعقة2.

وتناقل الناس هذا الخبر الغريب عليهم وارتدع العديد منهم عن غوايتهم خوفاً من العقوبة3.

قال ابن بشر رحمه الله: (فعظم أمره بعد ذلك وكبرت دولته وفشا التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)4.

وزادت هيبة الشيخ الإمام في النفوس كما أوقدت نار الحسد في قلوب الخصوم، وازدادت مخاوف الرؤساء والأمراء من أن تمتد سلطته إلى بلادهم فيغزو عقول رعاياهم وقلوبهم فيتبعونه فأخذوا ينصبون له ولأتباعه الشباك فيء طي الخفاء بغية إيقاعهم فيها! 5.

1 أخرجه البخاري في صحيحه- ك: الإيمان- ب:11 (ولم يسمه البخاري) ، 1/11.

2 انظر تاريخ نجد وملحقاته ص 39.

3 انظر إقليم الحجاز وعوامل نهضته الحديثة ص 179.

4 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/10.

5 انظر صقر الجزيرة ص 32.

ص: 286

ومن أبرزهم أمير الأحساء الذي كان استنكاره لرجم الزانية سبباً في انتقالة كبيرة في حياة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله غيّرت مجرى التاريخ، يحدثنا عنها وعن كيده للإمام رحمه الله بسببها المؤرخ ابن بشر فيقول: (فلمّا صدرت منه هذه، أعني رجم المرأة. اشتهر أمره في الأفاق. فبلغ خبره سليمان بن محمد بن غرير الحميدي1 قائد الأحساء والقطيف وما حوله من العربان وقيل له: إنَّ في بلد العيينة عالماً فعل كذا وكذا وقال كذا وكذا.

فأرسل سليمان إلى عثمان كتاباً وقال: إنَّ هذا المطوع الذي عندك فعل وفعل. وتهدد عثمان، وقال اقتله فإن لم تفعل قطعنا خراجك2 الذي عندنا في الإحساء، وخراجه عندهم كثير، قيل لي أنَّه اثنا عشر مائة أحمر3 وما يتبعها من طعام وكسوة، فلمّا ورد عليه كتابه ما وسعه مخالفته واستظم4 أمره في صدره لأنَّه لم يعلم قدر التوحيد ولا ما لمن5 نصره وقام به من العز والتمكين في الدنيا ودخول الجنّة في الآخرة6 فأرسل إلى الشيخ. وقال له: إِنَّه أتانا خط من سليمان قائد الأحساء وليس لنا طاقة بحربه ولا إغضابه. فقال له الشيخ:

1 هو: الأمير سليمان بن محمد بن براك بن غرير، تَقلد إمارة الأحساء ورئاسة بني خالد سنة ألف ومائة وثلاث وأربعين هجرية (1730م) ، ثم بنى مسجده المعروف باسمه شرقي سوق التمر ببلد المبرّز، وامتد سلطانه على الأحساء وبواديها، وعلى نجد وبواديها، توفي في بلد الخرج من أرض نجد سنة ست وستين ومائة وألف (انظر تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد ص124، وتاريخ هجر دراسة شاملة في أحوال الجزء الشرقي من شبه الجزيرة العربية- الأحساء- البحرين- الكويت وقطر 2/668 تأليف عبد الرحمن بن عثمان آل مُلا- ن مكتبة التعاون الثقافي- الأحساء- الهفوف- ط/1 (1410هـ- 1990م) .

2 سبق التعريف به في ص (43) هـ (2) .

3 تقدم التعريف به ص (343) هـ (2) .

4 الصواب: استعظم.

5 لعل الصواب أن يقول: ولا ما وعد الله به من نصره....

6 برحمة الله.

ص: 287

إنَّ هذا الذي أنا قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلَاّ الله وأركان الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أنت تمسكت به ونصرته فإن الله سبحانه يظهرك على أعدائك، فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك فإنّي أرجو أن ترى من الظهور والتمكين والغلبة ما ستملك بلاده وما وراءها وما دونها، فاستحيا عثمان وأعرض عنه) 1.

وهكذا بذل الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب كل جهوده في سبيل إقناعه ولكن إذا سيطر على القلوب خوف زوال الدنيا فلا تؤثر حينذاك أي موعظة أو نصيحة2.

ويقول ابن بشر: (ثم تعاظم في صدره أمر صاحب الإحساء وباع الآجل بالعاجل. وذلك لمَّا علم الله سبحانه الذي يعلم السر وأخفى يُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير إنَّ نصر هذا الدين والظهور والغلبة والتمكين يكون لغيره وعلى يد غيره. فأرسل إلى الشيخ ثانياً)3.

ويضيف ابن غنام فيقول: (فآثر عثمان الدنيا على الدين، وأمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالخروج من العيينة4 فخرج الشيخ سنة سبع أو ثمان وخمسين

1 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/10.

2 انظر الشيخ محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه ص40.

3 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/10.

4 ذكر ابن بشر في سياق حديثه عن خروج الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من العيينة قصة مفادها أنَّ عثمان بن معمر وكَّل بالشيخ محمد بن عبد الوهاب وقت خروجه مولى من مواليه ليقتله في الطريق إلَاّ أنَّ الله قذف في قلبه الرعب فلم يقتله. (انظر عنوان المجد في تاريخ نجد 1/11) وقد ذكر عبد الله بن خميس أنَّ ابن بشر عاد وأوضح في مبيضَّة كتابه وفي مخطوطته الخاصة الموجودة في المتحف البريطاني في لندن، أنَّ هذا الخبر لا صحة له وأنَّه اعتذر عمّا وضعه في المسودة، إلَاّ أنَّ من قام بطباعة الكتاب لم ينتبه إلى هذه الحقيقة فتناقل الناس هذا الخطأ. (انظر معجم اليمامة 2/205) .

ص: 288

ومائة وألف من العيينة إلى بلدة الدرعية1 2.

ويستأنف ابن بشر عرضه لقصة خروج الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب من العيينة إلى الدرعية فيقول:

(فوصل أعلاها3 وقت العصر فقصد إلى بيت محمد بن سويلم العريني. فلما دخل عليه ضاقت عليه داره، وخاف على نفسه من محمد بن سعود، فوعظه الشيخ وأسكن جأشه، وقال سيجعل الله لنا ولك فرجاً ومخرجاً. فعلم به خصائص من أهل الدرعية فزاروه خفية، فقر لهم التوحيد واستقر في قلوبهم، فأرادوا أن يخبروا محمد بن سعود ويشيروا عليه بنصرته فهابوه، فأتوا إلى زوجته موضي بنت4 وكانت ذات عقل ومعرفة، فأخبروها بمكان الشيخ وصفة ما يأمر به وينهى عنه، فوقر في قلبها معرفة التوحيد وقذف الله في قلبها محبة الشيخ، فلما دخل عليها زوجها محمد أخبرته بمكانه، وقالت إن هذا الرجل أتى إليك وهو غنيمة ساقها الله لك فأكرمه وعظمه واغتنم نصرته، فقبل قولها، وألقى الله سبحانه في قلبه للشيخ المحبة، فأراد أن يرسل إليه، فقالوا سر إليه برجلك في مكانه، وأظهر تعظيمه والاحتفال به. لعل الناس أن يكرموه ويعظموه، فسار إليه محمد، فدخل عليه في بيت ابن سويلم ورحب به وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعز والمنعة، فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين، وهذه كلمة: (لا إله إلَاّ الله) من تمسك بها وعمل بها

1 تقدم التعريف بها ص (71) هـ (5) .

2 تاريخ نجد ص 86 بتحقيق ناصر الدين الأسد.

3 الضمير يعود على الدرعية.

4 في عنوان المجد في تاريخ نجد لم يذكر اسم أبيها، وهي في تذكرة أولي النهى والعرفان:(موضي بنت أبي وهطان) 1/30.

ص: 289