الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: ألا يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أكبر منه:
من أهم ضوابط وشروط إنكار المنكر ألا يؤدي إنكاره إلى منكر أكبر منه وقد قرر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه القاعدة الأساسية في حسبته، فقال في رسالته التي أرسلها إلى إخوانه من أهل سدير:
"يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله1 في العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين"2
وقال الشيخ الإمام رحمه الله في الرسالة نفسها معاتبا من يخالف هذه القاعدة:
"إن بعض أهل الدين ينكر منكرا وهو مصيب لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان"3.
والشيخ رحمه الله حينما يقرر هذه القاعدة الأساسية في الحسبة لم ينطلق من فراغ ولم يأت بها من تلقاء نفسه إنما كان رحمه الله مرآة صافية تعكس إشعاع العلم الذي أمضى في طلبه حينا من الدهر وهذه القاعدة في فقه إنكار المنكر القاضية بعدم مشروعية الإنكار إذا ترتب عليه حدوث منكر أعظم منه مستمدة من القاعدة الأصولية المعروفة: " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"4.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: "إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن
1-هذه العبارة من ألفاظ العامة يقصد بها التأكيد على الأمر.
2-
الرسائل الشخصية – الرسالة الرابعة والأربعون ص 296- ، الدرر السنية في الأجوبة النجدية 7/25.
3-
المرجع السابق- الموضع نفسه.
4-
إيضاح السالك إلى قواعد الإمام مالك ص 219- القاعدة الرابعة والثلاثون للونشريسي تحقيق أحمد بو طاهر الخطابي –ن اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامي- الرباط "1400هـ-1980م" –ط/مطبعة فضالة المحمدية – المغرب.
تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالا لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا لمفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة"2. ا. هـ.
ولقد أشار إلى ذلك الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب قائلا:
" القاعدة التي هي خاصية العقل وهو3 ارتكاب أدنى الشرين لدفع أعلاهما وتفويت أدنى الخيرين لتحصيل أعلاهما"4.
قال شيخ الإسلام ابن تميمية رحمه الله: "المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها"5.
ويضيف قائلا: " فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا"6ا. هـ.
1-جزء من الآية 16 من سورة التغابن.
2-
قواعد الاحكام في مصالح لانام 1/84 لسلطان العلماء العز بن عبد السلام – ن دار المعرفة- بيروت –لبنان- ط/ المكتبة التجارية الكبرى- مصر وللاستزادة – انظر القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها ص 514 للشيخ الدكتور صالح بن غانم السدلان- ن دار بلنسية- الرياض- ط 1"1417هـ".
3-
لعل الصواب أن يقول: هي، أو أن يحذف الضمير.
4-
مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب – القسم الرابع- التفسير ص 23.
5-
القواعد النورانية الفقهية ص 132، بتحقيق محمد حامد فقي- ط/1"1370هـ-1951م"- مطبعة السنة المحمدية- القاهرة.
6-
قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة ص 45- ن مكتبة قرة عيون الموحدين – الجيل- ط/1"محرم1411هـ".
ثم يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله توضيحا لهذه القاعدة فيقول:
: إن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى أشر منه فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه خير المشروع بحسب الإمكان إذ النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه"1ا. هـ.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله موضحا لهذه القاعدة: " إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر
…
، ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرة بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغيرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار سلام عزم على تغيير البيت ورده إلى قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك- مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقع ما هو أعظم منه، كما وجد سواء، فإنكار أربع درجات:
1-اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 2/616، تحقيق وتعليق الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل- ن شركة العبيكان- الرياض- ط/1"1404هـ".
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، الرابعة محرمة1 ا. هـ.
ومن فقه إنكار المنكر أنه ينبغي للآمر بالمعروف أن يأمر في السر إن كان مستطيعا ليكون أبلغ في الموعظة والنصيحة2.
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
تعمدني بنصحك في انفرادي
…
وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع
…
من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت أمري
…
فلا تجزع إذا لم تلق طاعة3
وذلك مع كافة أصناف المحتسب عليهم ويزداد الأمر وجوبا مع ولاة الأمر.
ولقد استوعب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه القواعد جيدا لذلك نجده في الرسالة نفسها التي قرر فيها هذه القاعدة الأصولية التي ذكرناها في بداية المطلب يبين فقه إنكار المنكر على ولي الأمر فيقول:
" إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن ينصح برفق خفية ما يشترف4 أحد،
1-أعلام الموقعين عن رب العالمين 3/15.
2-
انظر تنبيه الغافلين1/99.
3-
ديوان الشافعي ص 56، جمعه محمد عفيف الزعبي-ن مكتبة المعرفة- سورية، دار العلم- جدة ط/3"1392هـ-1974م".
4-
لعله يقصد كلمة يتشرف، ومعناها: يتطلع إليه " انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 2/462 مادة: شرف".
فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق واستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر يمنا خفية"1.
وذلك سدا لذريعة الشر والفتنة فإن إنكار المحتسب على ولي الأمر لا يؤتي أكله وثماره الطيبة إلا إذا كان بطريقة خفية سرية رفيقة لمن هو قادر عليه فإن لم ير له قبولا فيكتفي برفعه للعلماء لتولي هذه المهمة بطريقتهم الخاصة وبذلك تكون قد برئت ذمة المحتسب ولا يحق له استخدام الإنكار العلني في حالة عدم الاستجابة بأي حال من الأحوال.
وحول هذا المعنى قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: " ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل فينكر الزنا وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر فلانا يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم
…
ولما فتحوا- أي الخوارج- الشر في زمن عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية وقتل عثمان بأسباب ذلك وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب
1-الرسائل الشخصية – الرسالة الرابعة والأربعون ص 297، والدرر السنية في الأجوبة النجدية 7/25.
الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا حتى أبغض الناس ولي أمرهم وقتلوه، نسأل الله العافية"1ا. هـ.
وفي الحديث: " قيل لأسامة: لو أتيت فلانا فكلمته، قال: إنكم لترون أني لا أكلمه، إلا أسمعكم، إني أكلمه في السر دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه
…
الحديث"2.
يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ3.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: أرادوا من أسامة رضي الله عنه أن يكلم عثمان رضي الله عنه وكان من خاصته وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره وكان أخا عثمان رضي الله عنه لأمه وكان يستعمله
…
جزم الكرماني بأن المراد أن يكلمه فيما أنكره الناس على عثمان رضي الله عنه من تولية أقاربه وغير ذلك مما اشتهر
…
فقال أسامة: قد كلمته سرا دون ما أن أفتح بابا أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة
…
وقال عياض: مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به وينصحه سرا فذلك أجدر بالقبول
…
ثم عرفهم أنه لا يداهن أحدا ولو كان أميرا بل ينصح له في السر جهده وذكر لهم قصة الرجل يطرح في النار لكونه كان أمر بالمعروف ولا يفعله ليتبرأ مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه
…
فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة والمداهنة
1-المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم ص 22 تأليف سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إعداد أبي عبد الله بن إبراهيم آل بلطيح الوايلي- ن دار المنار- الرياض- ط/1"1414هـ".
2-
تقدم بتمامه مع تخريجه في ص "152" فليراجع.
3-
مختصر صحيح مسلم ص 335 هـ "2" للحافظ المنذري، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني- ن المكتب الإسلامي- ط/3"1379هـ-1977م".
المذمومة، وضابط المداراة أن لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل1.
كأن يشكر ظالما على ظلمه أو مبتدعا على بدعته أو مبطلا على إبطاله فهذه مداهنة محرمة، بينما المداراة المشروعة كشكر الظلمة والفسقة الذين يتقى شرهم والتبسم في وجوههم2.
والدليل من السنة على وجوب سرية الإنكار على ولاة الأمر حديث شريح بن عبيد الحضرمي3 وغيره قال جلد عياض بن غنم4 رضي الله عنه صاحب دار حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم رضي الله عنه5 القول حتى غضب عياض ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن من أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنيا للناس" فقال عياض بن غنم: يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت أو لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أراد أن ينصح السلطان بأمر فلا يبد له علانية ولكن ليأخذ بيده
1-فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/52 بتصرف.
2-
انظر الفروق 4/236 للقرافي، يليه فهرس تحليلي لقواعد الفروق: أ. د محمد رواس قلعه جي، وبأسفلها حاشية أدرار الشروق على أنواء الفروق لابن الشاط مع تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية: لمحمد علي بن حسين- ن دار المعرفة- بيروت – لبنان.
3-
هو: شريح بن عبيد المقرائي الحضرمي، صدوق " الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة 1/483.
4-
هو: عياض بن غنم بن زهير بن أبي شداد أبو سعد الفهري ممن بايع بيعة الرضوان، وشهد الحديبية وكان أحد الأمراء الخمسة يوم اليرموك، مات سنة عشرين بالشام. " سيرأعلام النبلاء 2/354 للإمام الذهبي، تحقيق شعيب الأرنؤوط- ن مؤسسة الرسالة- بيروت ط/2" 1402هـ-1982م" ، "و" رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
5-
هو: هشام بن حكيم بن حزام الأسدي، من الطلقاء كأبيه، كان أمرا بالمعروف ذا فضل "الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة 2/336 ت:5960 باختصار".
فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه له" ، وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله فلا خشيت أن يقتلك فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى1.
وهذا الحديث أصل في إخفاء نصيحة السلطان، وأن المحتسب إذا قام بالإنكار عليه على هذا الوجه فقد برئت ذمته.
فولاة الأمر لهم منزلة القيادة في الأمة فينبغي احترامهم2، ومن احترامهم أن يكون أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالتعريف والوعظ اللين، فأما تخشين القول نحو يا ظالم، يا من لا يخاف الله3.
فليس من منهج السلف الصالح.
ومما وعظ به ابن الجوزي الخليفة المستضيء4 بأمر الله قوله:
" يا أمير المؤمنين كن لله سبحانه مع حاجتك إليه كما كان لك مع غناه
1-أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال للمتقي الهندي وفي أوله فهرس رواة المسند من الصحابة للألباني مسند حكيم بن حزام " حديث هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه" 3/403،وانظر فتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني مع مختصر شرحه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني كلاهما تأليف أحمد عبد الرحمن البنا ك: الخلافة والإمارة الفصل الثالث: في وجوب مناصحة أولي الأمر وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ح: 104،23/47 – ن دار الشهاب- القاهرة. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 5/229: رجال أحمد ثقات ، كما أخرجه ابن أبي عاصم في السنة بدون ذكر القصة كتاب السنة 2/521 ح: 1096-1097-1098-ن المكتب الإسلامي- دمشق بيروت ط/1"1400هـ-1980م"، وقال الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة " على الكتاب نفسه" في الموضع نفسه: إسناده صحيح.
2-
انظر طاعة أولي الأمر ص 75 بقلم: د. عبد الله الطريقي –ن دار المسلم- الرياض- ط/1"1414هـ-1994م".
3-
انظر الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/169 للإمام ابن مفلح – ن مكتبة الرياض الحديثة بالرياض "1391هـ-1971م".
4-
المستضيء بالله هو: الحسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفى العباسي الهاشمي، أبو محمد، المستضيء بالله، خليفة من العباسيين في العراق، ولد سنة " 536هـ-1142م"، كانت أيامه مشرقة بالعطاء والعدل، توفي سنة "575هـ-1180م"" الأعلام 2/227 باختصار".
عنك إنه لم يجعل أحدا فوقك فلا ترضى أن يكون أحد أشكر له منك، فتصدق أمير المؤمنين بصدقات وأطلق مسجونين"1.
وهكذا يثمر الإنكار السري والوعظ اللطيف مع الولاة ثمارا طيبة بإذن الله حيث يلين قلب من وفقه الله للحق فيرعوي الظالم عن ظلمه ويقبل المدبر منهم إلى الله إقبالا لأن النفس البشرية جبلت على عدم الاستجابة لمن يقرعها على ملأ من الناس، فما بالك بالأمير والسلطان الذي أتاه الله الرفعة والجاه بين الناس؟
لذلك شدد أهل السنة والجماعة في عدم الإنكار العلني على الولاة واستخدام أسلوب المصادمة أو العنف مع الظلمة منهم درأً لمفسدة أعظم من ظلمهم هي الخروج والفتنة الناجمة عنه.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: " ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق"2 ا. هـ.
ولقد فسر ابن الأثير النصيحة لأئمة المسلمين بقوله: " أن يطيعهم في الحق ولا يرى الخروج عليهم بالسيف وإن جاروا"3.
لأن لشر الحادث من الخروج الناتج عن الإنكار العلني على الولاة أعظم خطورة من الشر الناتج عن ظلمهم ومنكراتهم.
1-الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/197، وللأستزادة انظر الشفاء في مواعظ الملوك والخفاء ص 101 للإمام عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق ودراسة الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد، مراجعة السيد الصفطاوي- ن مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية " 1398-1978م".
2-
شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين من بعدهم 1/161 للإمام أبي القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي، تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان- ن دار طيبة – الرياض- ط 2/"1411هـ".
3-
جامع الأصول في أحاديث الرسول 11/558، حقق نصوصه، وخرج أحاديثه، وعلق عليه عبد القادر الأرنؤوط –ن مكتبة الحلواني- مطبعة الملاح- مكتبة دار البيان- ط/ "1392هـ-1972م".
كما حذر أهل السنة والجماعة من الوقيعة في أعراض الأئمة، والتنقص لهم، أو الدعاء عليهم، لأن هذه الأمور من أسباب وجود الضغائن والأحقاد بين الولاة والرعية، ومن أسباب نشوء الفتن والنزاع في صفوف الأمة1.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: " ولا نرى الخروج على أئمتنا ولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية ، ندعو لهم بالصلاح والمعافاة"2 اهـ.
وقال الفضيل بن عياض3 رحمه الله: " لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام، قيل له: كيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى ما صيرتها في نفسي لم تحزني، ومتى صيرتها في الإمام فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد"4.
وروى ابن كثير أن رجلا من المبتدعة يقال له: ابن البلخي وشى إلى الخليفة المتوكل شيئا فقال: إن رجلا من العلويين قد آوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن، فأمر الخليفة نائب بغداد أن يكبس5 منزل أحمد من الليل، فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى فوق الأسطحة، فوجدوا الإمام جالسا في داره مع عياله، فسألوه عما
1-الأدلة الشرعية في بيان حق الراعي والرعية ص 37 تأليف الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل – ط/ مؤسسة المدينة للصحافة " دار العلم" بجدة.
2-
متن العقيدة الطحاوية ص 11 للإمام الطحاوي- ن المكتبالإسلامي – ط /1.
3-
هو: الفضيل بن عياض التميمي الخراساني الزاهد، ثقة رفيع الذكر جاوز الثمانين مات في المحرم سنة " 187" " الكاشف في مرعفة من له رواية في الكتب الستة 2/124 ت: 4488 باختصار".
4-
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 8/91
5-
من التكبيس والتكبس وهو: الاقتحام على الشيء، وقد تكبسوا عليه. ويقال: كبسوا عليهم " لسان العرب 5/3812 مادة: كبس".
ذكر عنه فقال: ليس عندي من هذا علم، وليس من هذا شيء ولا هذا من نيتي وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأثرة علي وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار"1.
هكذا يعامل السلف حكامهم على هدي من الكتاب والسنة.
ولقد استفاضت الأدلة في وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر وإن جاروا والصبر عليهم ولا يتسع المقام لحصرها، ولكن نذكر منها شاهدا من السنة:
عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون منهم وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع، قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال لا. ما صلوا" 2 قال قتادة: يعني من أنكر بقلبه وكره بقلبه3.
ولقد قرر هذا المنهج الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث قال:
"مذهب أهل السنة والجماعة أن الأمراء الظلمة مشاركون فيما يحتاج إليهم فيه من طاعة الله فيصلي خلفهم، ويجاهد معهم، ويستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حكم منهم بعدل نفذ حكمه، وإن أمكن تولية بر لم يجز تولية فاجر
1-البداية والنهاية في التاريخ 10/382 للإمام العالم الحافظ ابن كثير، تحقيق محمد بن عبد العزيز النجار- ن مكتبة الأصمعي- الرياض- ط/مطبعة السعادة – القاهرة.
2-
أخرجه مسلم في صحيحه –ك: الإمارة ب: وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ح: 63، 3/148.
3-
الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة ص 121 للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي صححه الشيخ أحمد محمد مرسي- ن حديث اكادمي- نشاط آباد فيصل- ط/المطبعة العربية- باكستان.
فيجتهدون في الطاعة بحسب الإمكان كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1، ويعلمون أن الله بعث محمدا بصلاح العباد، فإذا اجتمع صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما، وقل من خرج على دين سلطان إلا كان ما تولد عن فعله من الشر أعظم من الخير، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا، وإنكار فيهم خلق من أهل العلم والدين، وهذا مما يبين ، أن ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة هو الأصلح، فالشارع أمر كلا بما هو أصلح له للمسلمين ، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم، وأمر بالصبر على استيثار ومنازعتهم الأمر والفتن في كل زمان بحسب رجاله، والفتنة تمنع معرفة الحق وقصده والقدرة عليه، ففيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس، ومن الشهوات ما يمنع قصد الحق، ومن قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير، ولهذا يقال:"فتنة عمياء صما"2 اهـ. عياذا بالله.
وهكذا
…
فإن جميع ما سبق ذكره من الأمر بسرية الإنكار على ولي الأمر وترك الإنكار العلني عليه والسمع والطاعة له والصبر على ظلمه وعدم الخروج عليه، ما هي إلا جزئيات للقاعدة الكلية التي قررها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الحسبة، وقعدها من قبله أهل العلم المعتبرون بترك إنكار المنكر إن كان مؤديا إلى منكر أكبر منه.
وما ذلك إلا حماية من الشارع الحكيم للأمة الإسلامية من كافة عوارض التمزق والفتن.
1-جزء من الآية 16 من سورة التغابن.
2-
مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- ملحق المصنفات ص 50 المسألة رقم 73 من المسائل التي لخصها الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.