الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كنيف، قال: أوَلم ترض أن عدلت عنك عن معاطب القضاة (1).
وهو محنة، من دخل فيه ابتلي بعظيم؛ لتعريضه نفسه للملاك إذ التخليص فيه عير؛ لخبر النسائي عنه صلى الله عليه وسلم:"القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل عرف الحق وقضى به؛ فهو في الجنة، ورجل عرف الحق، ولم يقض به، فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق، وقضى للناس بالجهل، فهو في النار"(2).
ابن عبد السلام: أكبر الخطط الشرعية في زماننا أسماء شريفة على مسميات حسية.
[صفات القاضي: ]
ولما كان مستحق القضاء من اجتمعت فيه أربعة أوصاف، قال المصنف: أهل القضاء:
[1]
عدل، ولو عتيقًا عند الجمهور، وعن سحنون: المنع؛ لاحتمال أن يستحق، فترد أحكامه، والعدالة وصف مركب من خمسة أوصاف:
- الإسلام.
- والبلوغ.
- والعقل.
- والحرية.
- وعدم الفسق.
(1) لم أقف عليه.
(2)
أخرجه أبو داود (3/ 299، رقم: 3573)، والترمذي (3/ 613، رقم: 1322)، والنسائي في الكبرى (3/ 461، رقم: 5922)، وابن ماجه (2/ 776، رقم: 2315)، والطبراني (2/ 20، رقم: 1154)، والحاكم (4/ 101، رقم: 7012) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (10/ 116 رقم: 20141) وأخرجه أيضًا: الروياني (1/ 94 رقم: 66) والطبراني في الأوسط (7/ 39، رقم: 6786).
[2]
ذكر: لا امرأة (1)؛ لخبر البخاري: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم
(1) هذه المسألة تعد من أمات المشاكل في العصر الحاضر، حتى إن بعض المفتين قد فتن قلبه وعميت بصيرته إرضاءً للغرب الكافر، وطلبًا للتقرب منه، وقد وجدت بعض الأخوة من أهل العلم، وهو الشيخ عبد الرحمن السحيم، قد كتب فيها بحثًا جيدًا، فرأيت نقله مع تصرف يسير؛ لأنه بحق قد استقصى المسألة، وأحاط بجوانبها، وقد كنت قبل الوقوف عليه نقلت نص ابن العربي في تحريم تولي المرأة القضاء في شرحه آية:{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} ، يقول الشيخ السحيم: اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
المنع مطلقًا، وهو قول الجمهور (الحنابلة والشافعية والمالكية وزفر من الحنفية)، قال ابن قدامه:(أحدها: الكمال وهو نوعان: كمال الأحكام وكمال الخلقة، أما كمال الأحكام فيعتبر في أربعة أشياء أن يكون بالغًا عاقلًا حرًّا ذكرًا).
قال الإمام القرافي: (وهو أن يكون ذكرًا لأن يقضي الأنوثة يمنع من زجر الظالمين وتنفيذ الحق).
قال الفيروزآبادي: (وينبغي أن يكون القاضي ذكرًا. . .).
أدلة هذا القول:
1 -
قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
وجه الاستدلال:
أن (أل) هنا للاستغراق فتشمل جميع النساء والرجال في جميع الأحوال والأصل وجوب العمل بالعام حتى يأتي ما يخصصه ولا مخصص هنا، قال الإمام ابن كثير عليه رحمة اللَّه: (أي: هو رئيسها، وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذ اعوجت، بما فضل اللَّه بعضهم على بعض أي: لأن الرجال أفضل من النساء والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم:"لم يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. . . " وكذا منصب القضاء، وغير ذلك، {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي: من المهور، والنفقات والكلف التي أوجبها اللَّه عليهن في كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها، والإفضال، فناسب أن يكون قيمًا عليها كما قال اللَّه تعالى:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهم: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} "يعني: أمراء عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة لأهلها حافظة لماله".
2 -
قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}. . . الآية [البقرة: 282].
وجه الاستشهاد:
أن اللَّه جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل وعلل ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} فالمرأة الواحدة عرضة للنسيان والضلال فجعل معها أخرى تذكيرًا لها وهذا في الشهادات فكيف بالقضاء الذي فيه حقوق الناس وليس من حفظ الحقوق تعريضها للنسيان والنقص.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم سبب ذلك كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو في فطر إلى المصلى فمر على النساء، فقال صلى الله عليه وسلم:"يا معشر النساء، تصدقن؛ فإني أُرِيتكن أكثر أهل النار"، فقلن: وبمَ يا رسول اللَّه؟ تال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن"، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول اللَّه؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ "، قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان عفلها، أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم؟ "، قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان دينها".
3 -
قصة ملكة سبأ: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)} [النمل: 23].
وجه الاستدلال:
أ - استنكار الهدهد لوجود امرأة تحكم هؤلاء القوم.
ب - إزالة سليمان عليه السلام لملكها ولو كان ذلك سائغًا لأقرها عليه ودعاها للإسلام فقط ولكنه قال: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} .
ج - أنه أخذ ملكها خلسة بإرسال الجن له ولو كان حكمها جائز لما أزاله بالخلسة.
4 -
قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى (33)} [الأحزاب: 33].
وجه الاستدلال:
أن اللَّه أمر المرأة بالقرار في البيت والقضاء يوجب خروجها واختلاطها بالرجال بالبروز لهم مما ينافي الآية.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} : (أي: الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة).
روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قد أذن اللَّه لكن أن تخرجن لحوائجكن".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يقول العيني في شرح هذا الحديث: (قال ابن بطال: في هذا الحديث دليل على أن النساء يخرجن لكل ما أبيح لهن الخروج، من زيارة الآباء والأمهات وذوي المحارم، وغير ذلك مما تمس به الحاجة).
5 -
من السنَّة: فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ولى امرأة على القضاء أو إحدى الولايات العامة ولو كان ذلك حقًا لها لما حرمها منه النبي صلى الله عليه وسلم.
6 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وذلك عندما أخبر أن بنت كسرى تولت الحكم بعد أبيها.
وجه الاستلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أسباب عدم الفلاح تولي المرأة للولايات العامة والقضاء نوع من أنواع الولاية وإن كان الحديث جاء في موقف خاص فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال الصنعاني -رحمه اللَّه تعالى-: "فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقومها توليتها لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب".
قالت لجنة كبار علماء الأزهر في شرحها للحكم المستنبط من هذا الحديث: (وظاهر أن الرسول لا يقصد مجرد الإخبار عن عدم فلاح هؤلاء القوم الذين يولون المرأة أمرهم لأن وظيفته عليه الصلاة والسلام بيان ما يجوز لأمته أن تفعله حتى تصل إلى الخير والفلاح، وما لا يجوز لها أن تفعله حتى تسلم من الشر والخسارة، وإنما يقصد نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شيء من الأمور العامة إلى المرأة، وقد ساق ذلك بأسلوب من شأنه أن يبعث القوم الحريصين على خلاصهم وانتظام شملهم على الامتثال، وهو أسلوب القطع بأن عدم الفلاح ملازم لتولية المرأة أمرًا من أمورهم، ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في كل عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة، وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه كما يفيده المعنى الذي كان من أجله المنع. وهذا ما فهمه أصحاب النبي وجميع أئمة السلف، لم يستثنوا من ذلك امرأةً ولا قومًا ولا شأنًا من الشؤون فهم جميعًا يستدلون بهذا الحديث على حرمة تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء وقيادة الجيوش وما إليها من الولايات العامة).
7 -
قول النبي: "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها".
وجه الدلالة:
بيان أن أهم واجبات المرأة العامة التي تسأل عنها بين يدي اللَّه تعالى (ديانة) هي على مسؤوليتها عن بيتها، وهو صريح في أن هذا هو الواجب المقدم على غيره، ثم قام بالمنع من غيره في الولاية العامة ما تقدم من الأدلة، ويعضد هذا: صيغة الحديث من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مبدئها حيث بينت مسؤولية الواجبات على أفراد المؤمنين رجالًا ونساءً في الجملة -أعني الواجبات الاجتماعية بين الناس مع بعضهم- إذ قال: "ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والمرأة. . . ".
قال البغوي في شرح السنَّة: (معنى الراعي هنا: الحافظ المؤتمن على من يليه؛ أمرهم النبي بالنصيحة فيما يلونه وحذرهم الخيانة فيه بإخباره أنهم مسؤولون عنه، فالرعاية: حفظ الشيء وحسن التعهد، فقد أستوى هؤلاء في الاسم (الراعي) وإن كانت معانيهم فيه مختلفة فرعاية الإمام: ولاية أمور الرعية، والحياطة من ورائهم وإقامة الحدود والأحكام فيهم، ورعاية الرجل أهله: بالقيام عليهم في النفقة وحسن العشرة، ورعاية المرأة في بيت زوجها بحسن التدبير في أمر بيته والتعهد لخدمته وأضيافه).
والحديث ظاهر في أن الأصل في المرأة العمل داخل البيت لا خارجه، وما عداه فيحتاج فيه إلى المبرر على الخروج، والولاية العامة قد علم الناس جميعًا أن الأصل فيها الخروج والبروز لا البقاء في البيت، ولأحمد من حديث أبي هريرة أن النبي قال:"ما من راع يسأل يوم القيامة أقام أمر اللَّه أم أضاعه"، ولابن حبان بسند صحيح عن أنس:"إن اللَّه سائل كل راع استرعاه حفظ ذلك أو ضيعه".
ويؤيد هذا الأصل المفهوم من الحديث ما قرره ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: "قوله: "المرأة راعية في بيت زوجها" إنما قيد بالبيت لأنها لا تصل إلى ما سواه غالبًا إلا بإذن خاص". فإن تولته تكون مضيعة -في الغالب- لواجبها الأهم، ولقد جعل الإمام السيوطي هذا الحديث بمثابة تحديد الوالي والمولى عليه آخذًا ذلك من لفظ (راع) المستدعي رعيته، فقال:"كلكم راع" أي: حافظ مؤتمن صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره".
8 -
قوله: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل عمل الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى في الناس على جهل، فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار"؛ قال مجد الدين ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى: "وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلًا".
وقال في النيل: "دل بمفهومه على خروج المرأة".
أي: من جواز أن تكون قاضية لقول الرسول: "رجل علم الحق، ورجل قضى في الناس على جهل، ورجل عرف الحق. . . ".
9 -
إجماع الصحابة رضي الله عنهم فلم يرد مخالفة لهم في المسألة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وما هذا الإجماع إلا تطبيقًا لما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
10 -
أن المرأة تعرض لها عوارض مستمرة كالحيض والحمل والرضاع ونحوها مما قد يؤثر في الحكم بين الناس.
11 -
أنه ثبت واقعيًا عدم تحمل المرأة النظر في بعض القضايا التي فيها قتل ودماء ونحوها وذكر المستشار المصري محمد رأفت عثمان: أن إحدى القاضيات أغمي عليها في مجلس القضاء عندما كانت تحكم في قضية قتل.
القول الثاني:
جواز توليها القضاء فيما تصح شهادتها فيه (سوى الحدود والقصاص) وهو قول الأحناف وابن قاسم من المالكية.
قال الإمام الكاشاني: (وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص لأنه لا شهادة لها في ذلك وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة).
أدلتهم:
قياس القضاء على الشهادة فأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة. . . وهذا أقوى دليل لديهم. . .
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. . .} [النساء: 58].
وجه الاستدلال:
أن الآية عامة فتشمل الرجال والنساء ومن أعظم الأمانات أمانة القضاء.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "النساء شقائق الرجال".
وجه الاستلال:
أن الآية عامة فلم تفرق بين القضاء وغيره.
وقوله: "والمرأة راعية في بيت زوجها. . . ".
وجه الاستدلال:
فقالوا بما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لها الولاية في بيت زوجها فهذا دليل على أنها أهل للولاية.
القول الثالث:
الجواز المطلق وهو قول ابن حزم الظاهري وابن جرير الطبري وهو قول عند الأحناف.
قال ابن حزم رحمه الله: (- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ تَلِيَ الْمَرْأَةُ الْحُكْمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ وَلَّى الشِّفَاءَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ السُّوقَ.
فإن قيل: قَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلنا: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَمْرِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ الْخِلَافَةُ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى مَالِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ، عَنْ رَعِيَّتِهَا". وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيُّونَ أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً وَوَكِيلَةً وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ مِنْ مَنْعِهَا أَنْ تَلِيَ بَعْضَ الأُمُور، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ).
أدلتهم:
ومن خلال التأمل في أدلة القائلين بهذا القول قديمًا وحديثًا فإنها ترجع بالجملة إلى ما يلي:
1 -
أن الأصل الإباحة ولم يرد دليل صريح بالمنع.
2 -
قصة ملكة سبأ وأنها أثبتت حكمتها في الولاية وذلك بقولها: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)} .
وقولها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)} [النمل: 34].
3 -
قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58].
وجه الاستدلال:
أن اللَّه أمر بأداء الأمانات ومن أعظم الأمانات أمانة القضاء ثم إن اللفظ عام فيشمل المرأة والرجل على حد سواء.
4 -
استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في عمرة الحديبية عندما رفض أصحابة التحلل فأشارت عليه أن يفعل التحلل أمامهم ويذبح الهدي ففعل عليه الصلاة والسلام واستجاب الصحابة له.
وجه الاستدلال:
أن أم سلمة أظهرت حكمتها واستجاب لها النبي صلى الله عليه وسلم فدل على وجود الحكمة عند النساء فلا يمنع من توليها للقضاء.
5 -
خروج عائشة رضي الله عنها قائدة للجيش في معركة الجمل.
وجه الاستشهاد:
أن عائشة رضي الله عنها تولت قيادة الجيش ولو كان تولي المرأة للمناصب القيادية غير جائز لما تولت عائشة رضي الله عنها قيادة الجيش ومن تلك المناصب منصب القضاء.
6 -
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولى امرأة اسمها الشفاء محتسبة في السوق فلو كان تولي المرأة للمناصب الكبرى محرمًا لما فعل عمر ذلك.
7 -
مشاركة الصحابيات في الجهاد أيام النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على تحمل المرأة للمشاق وقدرتها على ذلك. . =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= 8 - قياس القضاء على الإفتاء: فبما أن المرأة يجوز لها الإفتاء كذلك يجوز لها القضاء إذ أنه لا فرق بينها فكل من الأمرين فيه بيان لحكم اللَّه.
9 -
الاستدلال بما حصل لشجرة الدر التركية وأنها تولت الولاية العامة ثلاثة أشهر ولم يرد استنكار العلماء لها في ذلك الزمان.
المناقشة والترجيح:
بعد النظر والتأمل في الأقوال وأدلة كل قول يظهر -واللَّه أعلم- ترجيح القول الأول لموافقته الأدلة الشرعية ولما ورد على أدلة المخالفين من نقاش.
ونورد هنا ما ورد من نقاش على القولين الثاني والثالث: أما بالنسبة للقول الثاني فنرد عليه من وجهين:
1 -
أن قياس القضاء على الشهادة في هذه المسألة قياس فاسد الاعتبار وذلك لمصادمته النص.
2 -
ثم إنه بعد التأمل في مذهب الأحناف وتحقيق القول فيه نجد أن الأصل عندهم المنع ولكن إذا حكمت نفذ قضاؤها في غير الحدود والقصاص وهو ما تصح شهادتها فيه وعليه فنزاعهم مع الجمهور في غير مسألتنا.
وتوضيح ذلك: أن محل النزاع في مسألتنا هو هل يجوز تولي المرأة القضاء ابتداءً؟ ؟
فعند التأمل نجد أن كلًّا من الجمهور والأحناف متفقين في ذلك على عدم الجواز ولكن لو قضت فإن الجمهور على عدم نفوذ حكمها وأما الأحناف فقالوا: ينفذ حكمها في غير الحدود والقصاص. . . واللَّه أعلم.
وأما بالنسبة للقول الثالث فنرد على أدلتهم كما يلي:
الجواب على الدليل الأول:
قولهم أنه لم يرد دليل في المسألة هذا غير صحيح لأننا أوردنا جملة من الأدلة كما في أدلة القول الأول.
ثم إنهم نفوا وجود الأدلة على المنع ونحن أثبتناها والقاعدة تقول: أن المثبت مقدم على النافي.
الجواب على الدليل الثاني: وهو استدلالهم بملكة سبأ وأن اللَّه أشاد بها.
والرد هنا من وجوه أربعة:
الوجه الأول: أين هي الإشادة؟ أفي نسبتها للضلال والكُفر؟
كما في قوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} .
أم في ذِكر بعثها للرشوة باسم الهدية؟ ! كما في قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)} . =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وربما يُقصد بالإشادة ما ذُكِر عنها أنها كانت عاقلة حكيمة.
وهذا يُجاب عنه في:
الوجه الثاني: أن يُقال إنها كانت كافرة، فهل إذا أُثني على كافر بعَدْلٍ أو بعَقْلٍ يكون في هذا إشادة بِكُفره؟ !
بل وفي نفس القصة: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} فهل يُمكن أن يُقال: هذا فيه ثناء على العفاريت! فَتُولَّى العفاريت المناصِب! وتُحَكّم في الناس؟ ! ! !
الوجه الثالث: أن هذا لو صحّ أن فيه إشادة -مع ما فيه من ذمّ- فليس فيه مستند ولا دليل، أما لماذا؟ فلأن هذا من شرع من قبلنا، وجاء شرعنا بخلافه.
الوجه الرابع: أن هذا الْمُلك كان لِبلقيس قبل إسلامها، فإنها لما أسلمت للَّه رب العالمين تَبِعَتْ سُليمان عليه الصلاة والسلام، فقد حكى اللَّه عنها أنها قالت:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} [النمل: 44].
فلما أسلمت مع سليمان لم يعُد لها مُلك، بل صارت تحت حُكم سليمان عليه الصلاة والسلام.
الجواب على الدليل الثالث:
وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. . .} .
نرد عليه من وجهين:
1 -
أن الآية عامة وقد ورد التخصيص بالأدلة الواردة في النهي عن تولي المرأة الولايات العامة كما سبق ذكرها في القول الأول.
2 -
ثم إنه لو صح الاستدلال بهذه الاية على جواز تولي المرأة للقضاء لصح الاستدلال بها على جواز تولي المرأة للولاية العامة وهذا باطل بإجماع العلماء.
ومن النكت المفيدة في هذه المسألة:
ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32].
وقال الجصاص رحمه الله: "من التمني المنهي عنه أن يتمنى ما يستحيل وقوعه، مثل أن تتمنى المرأة أن تكون رجلًا أو تتمنى حال الخلافة والإمارة ونحوها من الأمور التي قد أعلم أنها لا تكون ولا تقع) اهـ.
قال الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى-: "فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها اللَّه بين عباده على مقتضى إرادته وحكمته البالغة".
وعلى هذا؛ فتصوير أمر الولاية في ميدان بحثنا على أنها أنانية من الرجل واستبداد منه، وعنفوان من قبله -ما هو إلا نوع مجازفة وانسياق غريب وخطير وراء الإرهاب الفكري والإعلامي الغربي العام، وذوبان ثقافي في الشعارات الثقافية الوافدة. . وهل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= التكامل بين الرجل والمرأة بتسخير كل واحد منهما نفسه لما خلق لأجله أنانية من الرجل؟ أليس يؤلمك أن يصور مناط البحث على أنه صراع جنسي بين الزوجين (الجنسين) على نمط نظرية الصراع الطبقي الماركسي الهالكة؟ كيف وربك يقول: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} [النساء: 32].
الجواب على الدليل الرابع:
أما استدلالهم باستشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة فليس فيه دليل على مسألتنا.
فما وجه الدلالة أن يكون سماع الرسول لمشورة أم سلمة دليلًا على جواز انتخابها وترشيحها. . وهل جعل الى سول أم سلمة عضوًا يستشار، وهل كان لها ولأمهات المؤمنين مشورة في سياسة الأمة وهل كان لهما مع الصديق والفاروق ونظرائهم من الرجال رأي في اختيار الأمراء والوزراء، وإعداد الجيوش ونظام بيت المال! ! ولم يقل أحد: إنه يحرم لدي سلطان أن يستشير زوجته في شأن ما، أو يأخذ رأي النساء في قضية من القضايا كما للمرأة الحق في أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدل على الخير. . .
ولكن أن يكون لها الحق أو عليها الواجب أن تتولى ولاية عامة إمارة أو وزارة، أو قضاء، أو تكون عضوًا في مجلس تشريعي. . فليس في هذه القصة دليل على هذا الأمر.
الجواب على الدليل الخامس:
وهو تولي عائشة رضي الله عنها لقيادة الجيش في معركة الجمل.
والجواب أنها لم تخرج أميرة ولا حاكمة ولا كان الجيش الذي هي فيه يرى إمامًا لهم غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد كان بالجيش طلحة والزبير وهما اللذان كانا على رؤوس الناس، وإنما خرجوا للإصلاح وظنوا أن وجود أم المؤمنين معهم أنفع في جمع الكلمة، وتجنيب المسلمين الحرب ثم كان ما كان مما لم يقع في الحسبان.
هذا وقد ندمت أم المؤمنين رضي الله عنها على هذا الخروج، ولامها كبار الصحابة، وجاء الحديث النبوي بالتحذير من هذا الخروج، فكيف يكون هذا دليلًا على تولي المرأة الولايات العامة.
أخرج عبد اللَّه بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن سعد عن مسروق قال: كانت عائشة رضي الله عنها إذا قرأت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} بكت حتى تبل خمارها وما ذاك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين، وهذا كما أن الزبير رضي الله عنه أحزنه ذلك فقد صح أنه رضي الله عنه لما وقع الانهزام على من مع أم المؤمنين رضي الله عنها وقتل من قتل من الجمعين طاف في مقتل القتلى فكان يضرب على فخذيه ويقول: يا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، وليس بكاؤها عند قراءة الآية لعلمها بأنها أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهم بعضهم، وقد ينضم لما ذكرناه في سبب البكاء (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأزواجه المطهرات وفيهن عائشة رضي الله عنها:"كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب"، ولم تكن سألت قبل المسير عن الحوأب هل هو واقع في طريقها أم لا حتى نبحتها في أثناء المسير كلاب الحوأب، عند ماء فقالت لمحمد بن طلحة: ما اسم هذا الماء، فقال: يقولون له حوأب، فقالت: أرجعوني، وذكرت الحديث وامتنعت عن المسير وقصدت الرجوع، فلم يوافقها أكثر من معها ووقع التشاجر).
الجواب على الدليل السادس:
استدلالهم بقصة تعيين عمر للشفاء محتسبة في السوق فالرد عليها من وجهين:
1 -
القصة ضعيفة السند وقد أوردها ابن حزم بصيغة التمريض (روي) بخلاف صنيعه مع الأدلة الصحيحة وقال الإمام ابن العربي في التعليق على هذه القصة: (وهي من دسائس المبتدعة).
والأثر المروي عن الشفاء رضي الله عنها ذكره ابن الجوزي في تاريخ عمر وابن عبد البر في الاستيعاب وتبعه ابن حجر في الإصابة كلهم بدون إسناد ولا عزو لأحد ولم يذكره ابن سعد في ترجمتها ولا ابن الأثير في أسد الغابة ولا الطبراني في المعجم الكبير، كما أنه ورد بصيغة التمريض كما أسلفت (رُوي).
2 -
ثم إن ابن حزم لا يرى حجية قول الصحابي فكيف يستدل بفعل عمر في هذه المسألة.
الجواب على الدليل السابع:
أن هذا في الجهاد وليس له علاقة بمسألتنا. . ونحن لا نختلف على وجود بعض النساء ذات تحمل وقوة ولكن الأصل في النساء خلاف ذلك والعبرة بالأعم الأغلب لا بالقليل النادر.
الجواب على الدليل الثامن:
وهذا من أعجب الأدلة فكيف يستدل بمثل هذه الحوادث التاريخية وتترك الأدلة من الكتاب والسنَّة فليس لهذه الحوادث الحق في تشريع الأحكام للمسلمين.
أما شجرة الدر أم خليل التركية فقصتها معلومة، فهي في الأصل كانت مملوكة محظية للملك الصالح نجم الدين أيوب -رحمه اللَّه تعالى- وكانت لا تفارقه سفرًا ولا حضرًا من شدة محبته لها، ومات ولدها منه وهو صغير، وبعد مقتل ابنه توران شاه على أيدي المماليك بعد شهرين من توليه الحكم تولت الديار المصرية مدة ثلاثة أشهر، فكان يخطب لها وتضرب السكة باسمها، وقد تزوجت عز الدين التركماني وصار هو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الملك، ولما علمت أنه يريد الزواج عليها بابنة صاحب الموصل أمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقيبها والجواري يعركن في بطنه حتى مات وهو كذلك، ولما سمع مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز فقتلوها وألقوها على مزبلة. فامرأة مثل هذه تتخذ قدوة لنا؟ !
ويضاف هنا في الرد على هذا القول:
أن القول المنسوب للإمام ابن جرير فيه اضطراب فلم يوجد هذا القول في تفسيره بل أنكره الإمام القرطبي وابن العربي. .
يقول الإمام ابن العربي: (ونقل عن محمد بن جرير الطبري وإمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح ذلك عنه، ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه المرأة وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة في الحكم إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير).
2 -
جزم بعدم صحة ذلك لابن جرير الطبري المفسر القرطبي رحمه الله حيث قال: (ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح عنه ذلك).
مناقشة أدلة القول الأول:
إن القول الأول الذي رجحناه في هذا البحث أدلته واضحة بينة وقد رددنا على جزء من الشبه المثارة حولها في ثنايا البحث وذلك عند ذكر الأدلة.
ولكن أكثر ما ورد عليه النقاش هو الاستدلال بحديث أبي بكرة رضي الله عنه وهو:
ما رواه البخاري -بإسناده- عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: لقد نفعني اللَّه بكلمة سمعتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعدما كِدت أن ألْحَق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم- قال: لما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
وسأذكر الآن ما ورد على هذا الحديث من شبه وأذكر الرد عليها في حينه مستعينا باللَّه تعالى:
الشبهة الأولى:
لماذا لم يتذكر أبو بكرة راوية الحديث هذا الحديث إلا بعد ربع قرن وفجأة وفي ظل ظروف مضطربة؟
الجواب:
لم ينفرد أبو بكرة رضي الله عنه بهذا الأمر، فقد جاء مثل ذلك عن عدد من الصحابة، أي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أنهم تذكّروا أحاديث سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرووها إلا في مناسباتها، أو حين تذكّرها.
فمن ذلك:
1 -
ما قاله حذيفة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقامًا ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلَّا حدَّث به، حَفِظَه مَنْ حَفِظَه، ونَسِيَه مَنْ نَسِيَه، قد علمه أصحابي هؤلاء، إنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأرأه فأذكُره كما يذكُر الرجل وجْهَ الرَّجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عَرَفَه.
2 -
وروى مسلم عن عمرو بن أخطب قال: صلَّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلَّى نم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا.
3 -
ما فعله عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما حينما تولّى الخلافة سنة 64 هـ، فإنه أعاد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما تَرَك ذلك إلا لحدثان الناس بالإسلام، فلما زالت هذه العِلّة أعاد ابن الزبير بناء الكعبة.
وشكّ عبد الملك بن مروان في ذلك فهدم الكعبة، وأعاد بناءها على البناء الأول. .
روى الإمام البخاري أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل اللَّه ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين، يقول سمعتها تقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحِجْر، فإن قومك قصروا في البناء"، فقال الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تحدِّث حذا. قال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير.
فهذا عبد الملك يعود إلى قول ابن الزبير، وذلك أن ابن الزبير لم ينفرد بهذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها، وإنما رواه غيره عنها.
هذا من جهة ومن جهة أخرى لم يقُل عبد الملك بن مروان لِمَ لَمْ يتذكّر ابن الزبير هذا إلا بعد أن تولّى، وبعد ما يزيد على خمسين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم!
إلى غير ذلك مما لا يُذكر إلا في حينه، ولا يُذكر إلا في مناسبته.
ثم إن أبا بكرة رضي الله عنه لم ينفرِد برواية الحديث، شأنه كشأن حديث عائشة في بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، إذ لم ينفرد به ابن الزبير عن عائشة.
فحديث: "لا يُفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة" قد رواه الطبراني من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه. فزالت العِلّة التي علّلوا بها، وهي تفرّد أبو بكرة بهذا الحديث، ولو تفرّد فإن تفرّده لا يضر، كما سيأتي -إن شاء اللَّه-. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الشبهة الثانية:
زعم بعضهم أن الحديث مكذوب، فقال: الكذب في متن الحديث فهو القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لما بلغه أن الفرس ولوا عليهم ابنة كسرى. في حين أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى.
الجواب:
هذا أول قائل إن في البخاري حديثًا موضوعًا مكذوبًا، ولولا أنه قيل به لما تعرّضت له! لسقوط هذا القول، ووهاء هذه الشبهة!
فإن كل إنسان يستطيع أن يُطلق القول على عواهنه، غير أن الدعاوى لا تثبت إلا على قدم البيِّنة وعلى ساق الإثبات.
فإن قوله: (في حين أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى).
دعوى لا دليل عليها ولا مستند سوى النفي العام!
في حين أن القاعدة: الْمُثبِت مُقدَّم على النافي.
وكُتب التاريخ قبل كُتب الحديث تنص على ذلك.
قال ابن جرير الطبري في التاريخ: ثم ملكت بوران بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنوشروان.
وقد عَقَد ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) بابًا قال فيه: ذكر ملك (بوران) ابنة ابرويز بن هرمز بن أنوشروان. ثمٍ قال: لما قُتِل شهريراز مَلَّكَتْ الفرس (بوران) لأنهم لم يجدوا من بيت المملكة رجلًا يُمَلِّكونه، فلما أحسنتْ السيرة في رعيتها، وعدلتْ فيهم، فأصلحت القناطر، ووضعت ما بقي من الخراج، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم، وكانت مملكتها سنة وأربعة أشهر. ولا يخلو كتاب تاريخ من ذِكر تولِّي (بوران) الْحُكُم.
فقد ذَكَرها خليفة بن خياط، واليعقوبي، وابن خلدون، واليافعي، وكُتب تواريخ المدن، كتاريخ بغداد، وغيرها.
على أنه لو صحّ (أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى).
لكان فيه دليل على قائله وليس له! كيف ذلك؟ يكون قد أثبت أنه لا يُعرف لا في جاهلية ولا في إسلام أن امرأة تولّت مَنْصِبًا! !
الشبهة الثالثة:
قول القائل: هل من المعقول أن نعتمد في حديث خطير هكذا على راوية قد تم جلده (أبو بكرة) في عهد عمر بن الخطاب تطبيقًا لحد القذف؟ ! =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الجواب:
سبق أن علِمت أن أبا بكرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية الحديث. ثم الجواب عن هذه الشبهة أن يُقال:
أولًا: لا بُدّ أن يُعلم أن أبا بكرة رضي الله عنه صحابي جليل.
ثانيًا: الصحابة كلّهم عدول عند أهل السنَّة، عُدُول بتزكية اللَّه لهم وبتزكية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي أغْنَتْ عن كل تزكية.
ثالثًا: أبو بكرة رضي الله عنه لم يفسق بارتكاب كبيرة، وإنما شهِد في قضية، فلما لم تتم الشهادة أقام عمر رضي الله عنه الْحَدّ على من شهِدوا، وكان مما قاله عمر رضي الله عنه: وقال من تاب قبلت شهادته.
وقال لهم: من أكْذَبَ نفسه قَبِلْتُ شهادته فيما يُستَقْبَل، ومن لم يفعل لم أُجِزْ شهادته. فعمر رضي الله عنه لم يقُل: لم أقبل روايته. وفرق بين قبول الشهادة وبين قبول الرواية.
رابعًا: مما يؤكِّد الفرق بين الرواية والشهادة ما نقله ابن حجر عن المهلّب حينما قال: واستنبط المهلب من هذا أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطًا في قبول توبته؛ لأن أبا بكرة لم يُكذب نفسه، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعمِلُوا بها. على أن آية القذف في قبول الشهادة. وعلى أن هناك فَرْقًا بين القاذِف لغيره، وبين الشاهد -كما سيأتي-.
خامسًا: أبو بكرة رضي الله عنه لم يَرَ أنه ارتكب ما يُفسِّق، ولذا لم يَرَ وجوب التوبة عليه، وكان يقول: قد فسَّقوني!
وهذا يعني أنه لم يَرَ أنه ارتكب ما يُفسِّق.
سادسًا: في الرواية تُقبل رواية المبتدع، إذا لم تكن بدعته مُكفِّرة، وهذا ما يُطلق عليه عند العلماء (الفاسق الْمِلِّي)، الذي فِسقه متعلق بالعقيدة، لا بالعمل.
وروى العلماء عن أُناس تكلّموا في القدر، ورووا عن الشيعة، وليس عن الرافضة الذين غَلَوا في دين اللَّه!
ورووا عن الخوارج لِصِدقِهم. ورووا عمّن يشرب النبيذ، وعن غيرهم من خالَف أو وقع في بدعة، فإذا كان هؤلاء في نظر أهل العلم قد فسقوا بأفعالِهم هذه، فإنه رووا عنهم لأن هؤلاء لا يرون أنهم فسقوا بذلك، ولو رأوه فسقًا لتركوه! فتأمّل الفرق البيِّن الواضح.
وأبو بكرة رضي الله عنه مع كونه صحابيًا جاوز القنطرة، إلا أنه يرى بنفسه أنه لم يأتِ بما يُفسِّق، ولو رأى ذلك لَتَاب منه. وهو -حقيقة- لم يأتِ بما يُفسِّق.
غاية ما هنالِك أنه أدى شهادة طُلِبت منه، فلم يقذِف ابتداء، كما علِمت. والصحابة قد جاوزوا القنطرة، والطّعن في الصحابة طَعن فيمن صحِبوا. =