الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
امرأة" (1).
[3]
فطن، نص عليه الطرطوشي (2)، وقيل: يستغنى عنه بعدل، وهو غير ظاهر؛ لأن المراد كونه أشد تفطنًا بحجاج الخصوم وخداعهم.
[4]
مجتهد إن وجد، فلا تصح ولاية مقلد حينئذٍ، وإلا بأن لم يوجد مجتهد فأمثل مقلد، له فقه نفيس، وقوة على الترجيح بين أقاويل أهل مذهبه، والعلم بما هو أحرى على قواعده منها، مما ليس كذلك.
[شرط الإمامة العظمى: ]
وزيد على الشروط الأربعة للإمام الأعظم وهو الخليفة: قرشي (3)
= قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن القدح في خير القرون الذين صحِبُوا الرسول صلى الله عليه وسلم قَدْحٌ في الرسول عليه السلام، كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابه صالحين، وأيضًا فهؤلاء الذين نَقَلُوا القرآن والإسلام وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن مرتبة الصُّحبة كافية في العَدَالَة. ثم إن أبا بكرة الثقفي له أربعة عشر حديثًا في صحيح البخاري!
(1)
أخرجه أحمد (5/ 51، رقم: 20536)، والبخاري (6/ 2600، رقم: 6686)، والترمذي (4/ 527، رقم: 2262)، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي (8/ 227، رقم: 5388).
(2)
هو: محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي، ويقال له ابن أبي رندقة، (451 - 520 هـ = 1059 - 1126 م): أديب، من فقهاء المالكية، الحفاظ. من أهل طرطوشة Tortosa بشرقي الأندلس.
تفقه ببلاده، ورحل إلى المشرق سنة 476 فحج وزار العراق ومصر وفلسطين ولبنان، وأقام مدة في الشام، وسكن الإسكندرية، فتولى التدريس واستمر فيها إلى أن توفي. وكان زاهدًا لم يتشبث من الدنيا بشيء. من كتبه (سراج الملوك - ط) و (التعليقة) في الخلافيات، خمسة أجزاء، وكتاب كبير عارض به إحياء علوم الدين للغزالي، و (بر الوالدين) و (الفتن) و (الحوادث والبدع - ط) و (مختصر تفسير الثعلبي - خ) و (المجالس - خ) في الرباط. ينظر: الأعلام (7/ 433).
(3)
هذا في حال اختيار الخليفة أما لو تغلب على الأمر وحَكَم الناس بالقوة وجب على الناس طاعته، وحَرُم الخروج عليه ولو كان عبدًا حبشيًّا كما جاء في الحديث. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال القرطبي في تفسيره (1/ 264 - 274): "الرابعة: هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة.
ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه، قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصحبوا إمامًا يتولى ذلك.
ودليلنا قول اللَّه تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقوله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]، وقال:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] أي: يجعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من الآي.
وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، ورووا لهم الخبر في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش.
فلو كان فرض الإمام غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها، ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب. ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين، والحمد للَّه رب العالمين.
وقالت الرافضة: يجب نصبه عقلًا، وإن السمع إنما ورد على جهة التأكيد لقضية العقل، فأما معرفة الإمام فإن ذلك مدرك من جهة السمع دون العقل. وهذا فاسد، لأن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن، وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل، وهذا واضح.
فإن قيل وهي:
الخامسة: إذا سلم أن طريق وجوب الإمامة السمع، فخبرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الإمام من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، أم من جهة اختيار أهل الحل والعقد له، أم بكمال خصال الأئمة فيه، ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه كاف فيه؟
فالجواب أن يقال: اختلف الناس في هذا الباب، فذهبت الإمامية وغيرها إلى أن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الطريق الذي يعرف به الإمام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل للاختيار فيه. وعندنا: النظر طريق إلى معرفة الإمام، وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضًا إليه، وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بنوه على أصلهم أن القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يعرف به شيء أصلًا، وأبطلوا القياس أصلًا وفرعًا. ثم اختلفوا على ثلاث فرق: فرقة تدعي النص على أبي بكر، وفرقة تدعي النص على العباس، وفرقة تدعي النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صلى الله عليه وسلم لو فرض على الأمة طاعة إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى غيره لعلم ذلك، لاستحالة تكليف الأمة بأسرها طاعة اللَّه في غير معين، ولا سبيل لهم إلى العلم بذلك التكليف، وإذا وجب العلم به لم يخل ذلك العلم من أن يكون طريقه أدلة العقول أو الخبر، وليس في العقل ما يدل على ثبوت الإمامة لشخص معين، وكذلك ليس في الخبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين؛ لأن ذلك الخبر إما أن يكون تواترًا أوجب العلم ضرورةً أو استدلالًا، أو يكون من أخبار الآحاد، ولا يجوز أن يكون.
طريقة التواتر الموجب للعلم ضرورة أو دلالة، إذ لو كان كذلك لكان كل مكلف يجد من نفسه العلم بوجوب الطاعة لذلك المعين وأن ذلك من دين اللَّه عليه، كما أن كل مكلف علم أن من دين اللَّه الواجب عليه خمس صلوات، وصوم رمضان، وحج البيت ونحوها، ولا أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة، فبطلت هذه الدعوى، وبطل أن يكون معلومًا بأخبار الآحاد لاستحالة وقوع العلم به. وأيضًا فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الإمام بأي وجه كان، وجب إثبات إمامة أبي بكر والعباس؛ لأن لكل واحد منهما قومًا ينقلون النص صريحًا في إمامته، وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد -على ما يأتي بيانه- كذلك الواحد، إذ ليس أحد الفرق أولى بالنص من الآخر. وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد. فإن تعسف متعسف وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص فينبغي أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم أيضًا في جملتها مقام النص، ثم لا شك في تصميم من عدا الإمامية على نفي النص، وهم الخلق الكثير والجم الغفير. والعلم الضروري لا يجتمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد مخالفي الإمامية، ولو جاز رد الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بغداد والصين الأقصى وغيرهما.
السادسة: في رد الأحاديث التي احتج بها الإمامية في النص على علي رضي الله عنه، وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت، وخالفت أمر الرسول عنادًا، منها قوله عليه السلام:"من كنت مولاه فعلي مولاه، اللَّهم وال من والاه وعاد من عاداه". قالوا: والمولى في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= اللغة بمعنى أولى، فلما قال:"فعلي مولاه" بفاء التعقيب علم أن المراد بقوله "مولى" أنه أحق وأولى. فوجب أن يكون أراد بذلك الإمامة وأنه مفترض الطاعة، وقوله عليه السلام لعلي:"أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". قالوا: ومنزلة هارون معروفة، وهو أنه كان مشاركًا له في النبوة ولم يكن ذلك لعلي، وكان أخًا له ولم يكن ذلك لعلي، وكان خليفة، فعلم أن المراد به الخلافة، إلى غير ذلك مما احتجوا به على ما يأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء اللَّه تعالى.
والجواب عن الحديث الأول: أنه ليس بمتواتر، وقد اختلف في صحته، وقد طعن فيه أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي، واستدلا على بطلانه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون اللَّه ورسوله". قالوا: فلو كان قد قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" لكان أحد الخبرين كذبًا.
جواب ثان: وهو أن الخبر وإن كان صحيحًا رواه ثقة عن ثقة فليس فيه ما يدل على إمامته، وإنما يدل على فضيلته، وذلك أن المولى بمعنى الولي، فيكون معنى الخبر: من كنت وليه فعلي وليه، قال اللَّه تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} [التحريم: 4] أي: وليه. وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر علي كباطنه، وذلك فضيلة عظيمة لعلي.
جواب ثالث: وهو أن هذا الخبر ورد على سبب، وذلك أن أسامة وعليًّا اختصما، فقال علي لأسامة: أنت مولاي. فقال: لست مولاك، بل أنا مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"من كنت مولاه فعلي مولاه".
جواب رابع: وهو أن عليًّا عليه السلام لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك في عائشة رضي الله عنها: النساء سواها كثير. شق ذلك عليها، فوجد أهل النفاق مجالًا فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا المقال ردًّا لقولهم، وتكذيبًا لهم فيما قدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه، ولهذا ما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم لعلي رضي الله عنه. وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بمنزلة هارون من موسى الخلافة بعده، ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليه السلام -على ما يأتي من بيان وفاتيهما في سورة "المائدة"- وما كان خليفة بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون، فلو أراد بقوله:"أنت مني بمنزلة هارون من موسى" الخلافة لقال: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى، فلما لم يقل هذا دل على أنه لم يرد هذا، وإنما أراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي، كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة ربه. وقد قيل: إن هذا الحديث خرج على سبب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليًّا عليه السلام في المدينة على أهله وقومه، فأرجف به أهل النفاق =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقالوا: إنما خلفه بغضًا وقلى له، فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن المنافقين قالوا كذا وكذا! فقال: "كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى هارون". وقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى". وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك عليًّا في هده الفضيلة غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في كل غزاة غزاها رجلًا من أصحابه، منهم: ابن أم مكتوم، ومحمد بن مسلمة وغيرهما من أصحابه، على أن مدار هذا الخبر على سعد بن أبي وقاص وهو خبر واحد. وروي في مقابلته لأبي بكر وعمر ما هو أولى منه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له: ألا تنفذ أبا بكر وعمر؟ فقال: "إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس". وقال: "هما وزيراي في أهل الأرض". وروي عنه عليه السلام أنه قال: "أبو بكر وعمر بمنزلة هارون من موسى". وهذا الخبر ورد ابتداء، وخبر علي ورد على سبب، فوجب أن يكون أبو بكر أولى منه بالإمامة، واللَّه أعلم.
السابعة: واختلف فيما يكون به الإمام إمامًا وذلك ثلاث طرق، أحدها: النص، وقد تقدم الخلاف فيه، وقال به أيضًا الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري وبكر ابن أخت عبد الواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بالإشارة، وأبو بكر على عمر. فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصديق، أو على جماعة كما فعل عمر، وهو الطريق الثاني، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه. الطريق الثالث: إجماع أهل الحل والعقد، وذلك أن الجماعة في مصر من أنصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الإمام وموضعه إمامًا لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام، إذا لم يكن الإمام معلنًا بالفسق والفساد؛ لأنها دعوة محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل للَّه ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الأمر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة".
الثامنة: فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله، خلافًا لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد، ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك، ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود. قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، قال: وهذا مجمع عليه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= التاسعة: فإن تغلب من له أهلية الإمامة وأخذها بالقهر والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقًا رابعًا، وقد سئل سهل بن عبد اللَّه التستري: ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام؟ قال: تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك من حقه، ولا تنكر فعاله ولا تفر منه، وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لم تفشه. وقال ابن خويز منداد: ولو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة، واللَّه أعلم.
العاشرة: واختلف في الشهادة على عقد الإمامة، فقال بعض أصحابنا: إنه لا يفتقر إلى الشهود؛ لأن الشهادة لا تثبت إلا بسمع قاطع، وليس هاهنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة. ومنهم من قال: يفتقر إلى شهود، فمن قال بهذا احتج بأن قال: لو لم تعقد فيه الشهادة أدى إلى أن يدعي كل مدع أنه عقد له سرًّا، وتؤدي إلى الهرج والفتنة، فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان، خلافًا للجُبّائي حيث قال باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له؛ لأن عمر حيث جعلها شورى في ستة دل على ذلك. ودليلنا أنه لا خلاف بيننا وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة، وما زاد مختلف فيه ولم يدل عليه الدليل فيجب ألا يعتبر.
الحادية عشرة: شرائط الإمام، وهي أحد عشر:
الأول: أن يكون من صميم قريش، لقوله صلى الله عليه وسلم:"الأئمة من قريش". وقد اختلف في هذا.
الثاني: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيًا من قضاة المسلمين مجتهدًا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث، وهذا متفق عليه.
الثالث: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة ورح الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم.
الرابع: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه لا خلاف بينهم أنه لا بد من أن يكون ذلك كله مجتمعًا فيه، ولأنه هو الذي يولي القضاة والحكام، وله أن يباشر الفصل والحكم، ويتفحص أمور خلفائه وقضاته، ولن يصلح لذلك كله إلا من كان عالمًا بذلك كله قيمًا به، واللَّه أعلم.
الخامس: أن يكون حرًّا، ولا خفاء باشتراط حرية الإمام وإسلامه وهو السادس.
السابع: أن يكون ذكرًا، سليم الأعضاء وهو الثامن. وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إمامًا وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه.
التاسع والعاشر: أن يكون بالغًا عاقلًا، ولا خلاف في ذلك.
الحادي عشر: أن يكون عدلًا؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لفاسق، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم، لقوله عليه السلام:"أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون". وفي التنزيل في وصف طالوت: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الأعضاء. وقوله: {اصْطَفَاهُ} معناه اختاره، وهذا يدل على شرط النسب. وليس من شرطه أن يكون معصومًا من الزلل والخطأ، ولا عالمًا بالغيب، ولا أفرس الأمة ولا أشجعهم، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قريش، فإن الإجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعثمان وليسوا من بني هاشم.
الثانية عشرة: يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة، وذلك أن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها. فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الإمام كان ذلك عذرًا ظاهرًا في العدول عن الفاضل إلى المفضول، ويدل على ذلك أيضًا علم عمر وسائر الأمة وقت الشورى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول، وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدى المصلحة إلى ذلك واجتمعت كلمتهم عليه من غير إنكار أحد عليهم، واللَّه أعلم.
الثالثة عشرة: الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم؛ لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها. فلو جوزنا أن يكون فاسقًا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله. وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة، لقوله عليه السلام في حديث عبادة:"وألا ننازع الأمر أهله -قال: - إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من اللَّه فيه برهان"، وفي حديث عوف بن مالك:"لا ما أقاموا فيكم الصلاة" الحديث. أخرجهما مسلم. وعن أم سلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع"، قالوا: يا رسول اللَّه، ألا نقاتلهم؟ قال:"لا ما صلوا"، أي: من كره بقلبه وأنكر بقلبه. أخرجه أيضًا مسلم.
الرابعة عشرة: ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصًا يؤثر في الإمامة. فأما إذا لم يجد نقصًا فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره؟ اختلف الناس فيه، فمنهم من قال: ليس له أن يفعل ذلك وإن فعل لم تنخلع إمامته. ومنهم من قال: له أن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يفعل ذلك. والدليل على أن الإمام إذا عزل نفسه أنعزل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أقيلوني أقيلوني. وقول الصحابة: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك! رضيك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لديننا فلا نرضاك! فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ولقالت له: ليس لك أن تقول هذا، وليس لك أن تفعله. فلما أقرته الصحابة على ذلك علم أن للإمام أن يفعل ذلك، ولأن الإمام ناظر للغيب فيجب أن يكون حكمه حكم الحاكم، والوكيل إذا عزل نفسه. فإن الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها، ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شيء له أن يعزل نفسه، وكذلك الإمام بجب أن يكون مثله، واللَّه أعلم.
الخامسة عشرة: إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة، وإقامة كتاب اللَّه وسنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر، لئلا تفترق كلمة المسلمين. وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الأول وقتل الآخر، واختلف في قتله هل هو محسوس أو معنى فيكون عزله قتله وموته. والأول أظهر، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما". روأه أبو سعيد الخدري، أخرجه مسلم.
وفي حديث عبد اللَّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول: "ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوه عنق الآخر". رواه مسلم أيضًا، ومن حديث عرفجة:"فاضربوه بالسيف كائنًا من كان". وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين، ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى.
السادسة عشرة: لو خرج خارجي على إمام معروف العدالة وجب على الناس جهاده، فإن كان الإمام فاسقًا والخارجي مظهر للعدل لم ينبغ للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارجي حتى يتبين أمره فيما يظهر من العدل، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأول، وذلك أن كل من طلب مثل هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح حتى إذا تمكن رجع إلى عادته من خلاف من ما أظهر.
السابعة عشرة: فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد وأحد فلا يجوز إجماعًا لما ذكرنا. قال الإمام أبو المعالي: ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم، ثم قالوا: لو اتفق عقد الإمامة لشخصين نزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة وأحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الآخر. قال: والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف غير جائز وقد =
نسبًا، لخبر:"قدموا قريشًا، لا تقدموها"(1).
= حصل الإجماع عليه. فأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع. وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم. وذهبت الكرامية إلى جواز نصب إمامين من غير تفصيل، ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد، وصاروا إلى أن عليًّا ومعاوية كانا إمامين. قالوا: وإذا كانا اثنين في بلدين أو ناحيتين كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه وأضبط لما يليه، ولأنه لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى، ولا تؤدي ذلك إلى إبطال الإمامة. والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه، لقوله:"فاقتلوا الآخر منهما" ولأن الأمة عليه. وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة. ومما يدل على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما، ولا قال أحدهما إني إمام ومخالفي إمام. فإن قالوا: العقل لا يحيل ذلك وليس في السمع ما يمنع منه. وقلنا: أقوى السمع الإجماع، وقد وجد على المنع".
(1)
ابن أبي عاصم (2/ 637، رقم: 1519) قال المناوي (4/ 512): فيه أبو معشر قالوا: ضعيف.
قال الحافظ في الفتح (6/ 530): "قوله الناس تبع لقريش قيل هو خبر بمعنى الأمر ويدل عليه قوله في رواية أخرى: "قدموا قريشًا ولا تقدموها" أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح لكنه مرسل وله شواهد وقيل هو خبر على ظاهره والمراد بالناس بعض الناس وهم سائر العرب من غير قريش وقد جمعت في ذلك تأليفًا سميته لذة العيش بطرق الأئمة من قريش وسأذكر مقاصده في كتاب الأحكام مع إيضاح هذه المسألة قال عياض: استدل الشافعية بهذا الحديث على إمامة الشافعي وتقديمه على غيره ولا حجة فيه لأن المراد به هنا الخلفاء وقال القرطبي: صحبت المستدل بهذا غفلة مقارنة لصميم التقليد وتعقب بأن مراد المستدل أن القرشية من أسباب الفضل والتقدم كما أن من أسباب التقدم الورع مثلًا فالمستويان في خصال الفضل إذا تميز أحدهما بالورع مثلًا كان مقدمًا على رفيقه فكذلك القرشية فثبت الاستدلال بها على تقدم الشافعي ومزيته على من ساواه في العلم والدين لمشاركته له في الصفتين وتميزه عليه بالقرشية وهذا واضح ولعل الغفلة والعصبية صحبت القرطبي فللَّه الأمر وقوله كافرهم تبع لكافرهم وقع مصداق ذلك لأن العرب كانت تعظم قريشًا في الجاهلية بسكناها الحرم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى اللَّه توقف غالب العرب عن أتباعه وقالوا: ننظر ما يصنع قومه فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت قريش تبعتهم العرب ودخلوا في دين اللَّه أفواجًا واستمرت خلافة النبوة في قريش فصدق أن كافرهم كان تبعًا لكافرهم وصار مسلمهم تبعًا لمسلمهم". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال (13/ 117 - 118): "قوله: لا يزال هذا الأمر في قريش أي: الخلافة يعني لا يزال الذي يليها قرشيًّا قوله ما بقي منهم اثنان، قال ابن هبيرة: يحتمل أن يكون على ظاهره وأنهم لا يبقى منهم في آخر الزمان إلا اثنان أمير ومؤمر عليه والناس لهم تبع قلت في رواية مسلم عن شيخ البخاري في هذا الحديث: ما بقي من الناس اثنان وفي رواية الإسماعيلي ما بقي في الناس اثنان وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى وليس المراد حقيقة العدد وإنما المراد به انتفاء أن يكون الأمر في غير قريش ويحتمل أن يحمل المطلق على المقيد في الحديث الأول ويكون التقدير لا يزال هذا الأمر أي: لا يسمى بالخليفة إلا من يكون من قريش إلا أن يسمى به أحد من غيرهم غلبة وقهرًا وإما أن يكون المراد بلفظه الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر ويحتمل أن يكون بقاء الأمر في قريش في بعض الأقطار دون بعض فإن بالبلاد اليمنية وهي النجود منها طائفة من ذرية الحسن بن علي لم تزل مملكة تلك البلاد معهم من أواخر المائة الثالثة وإما من بالحجاز من ذرية الحسن بن علي وهم أمراء مكة وأمراء ينبع ومن ذرية الحسين بن علي وهم أمراء المدينة فإنهم وإن كانوا من صميم قريش لكنهم تحت حكم غيرهم من ملوك الديار المصرية فبقي الأمر في قريش بقطر من الأقطار في الجملة وكبير أولئك أي: أهل اليمن يقال له الإمام ولا يتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالمًا متحريًا للعدل، وقال الكرماني: لم يخل الزمان عن وجود خليفة من قريش إذ في المغرب خليفة منهم على ما قيل وكذا في مصر قلت الذي في مصر لا شك في كونه قرشيًّا لأنه من ذرية العباس والذي في صعدة وغيرها من اليمن لا شك في كونه قرشيًّا لأنه من ذرية الحسين بن علي وأما الذي في المغرب فهو حفصي من ذرية أبي حفص صاحب ابن تومرت وقد انتسبوا إلى عمر بن الخطاب وهو قرشي ولحديث بن عمر شاهد من حديث ابن عباس أخرجه البزار بلفظ: "لا يزال هذا الدين واصبًا ما بقي من قريش عشرون رجلًا"، وقال النووي: حكم حديث بن عمر مستمر إلى يوم القيامة ما بقي من الناس اثنان وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم على ذلك ومن تغلب على الملك بطريق الشركة لا ينكر أن الخلافة في قريش وإنما يدعي أن ذلك بطريق النيابة عنهم. انتهى.
وقد أورد عليه أن الخوارج في زمن بني أمية تسموا بالخلافة واحدًا بعد واحد ولم يكونوا من قريش وكذلك ادعى الخلافة بنو عبيد وخطب لهم بمصر والشام والحجاز ولبعضهم بالعراق أيضًا وأزيل الخلافة ببغداد قدر سنة وكانت مدة بني عبيد بمصر سوى ما تقدم لهم بالمغرب تزيد على مائتي سنة وادعى الخلافة عبد المؤمن صاحب ابن تومرت وليس بقرشي وكذلك كل من جاء بعده بالمغرب إلى اليوم والجواب عنه أما عن بني عبيد فإنهم كانوا يقولون أنهم من ذرية الحسين بن علي ولم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يبايعوه إلا على هذا الوصف والذين أثبتوا نسبتهم ليسوا بدون من نفاه وأما سائر من ذكر ومن لم يذكر فهم من المتغلبين وحكمهم حكم البغاة فلا عبرة بهم، وقال القرطبي: هذا الحديث خبر عن المشروعية أي: لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشي مهما وجد منهم أحد وكأنه جنح إلى أنه خبر بمعنى الأمر وقد ورد الأمر بذلك في حديث جبير بن مطعم رفعه قدموا قريشًا ولا تقدموها أخرجه البيهقي وعند الطبراني من حديث عبد اللَّه بن حنطب ومن حديث عبد اللَّه بن السائب مثله وفي نسخة أبي اليمان عن شعيب عن أبي هريرة عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة مرسلًا أنه بلغه مثله وأخرجه الشافعي من وجه آخر عن ابن شهاب أنه بلغه مثله، وفي الباب حديث أبي هريرة رفعه الناس تبع لقريش في هذا الشأن أخرجاه في الصحيحين من رواية المغيرة بن عبد الرحمن ومسلم أيضًا من رواية سفيان بن عيينة كلاهما عن الأعرج عن أبي هريرة وتقدم في مناقب قريش وأخرجه مسلم أيضًا من رواية همام عن أبي هريرة ولأحمد من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة مثله لكن قال في هذا الأمر وشاهده عند مسلم عن جابر كالأول وعند الطبراني من حديث سهل بن سعد وعند أحمد وابن أبي شيبة من حديث معاوية وعند البزار من حديث علي، وأخرج أحمد من طريق عبد اللَّه بن أبي الهزيل قال: لما قدم معاوية الكوفة قال رجل من بكر بن وائل: لئن لم تنته قريش لنجعلن هذا الأمر في جمهور من جماهير العرب غيرهم فقال عمرو بن العاص: كذبت سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "قريش قادة الناس" قال ابن المنير: وجه الدلالة من الحديث ليس من جهة تخصيص قريش بالذكر فإنه يكون مفهوم لقب ولا حجة فيه عند المحققين وإنما الحجة وقوع المبتدأ معرفًا باللام الجنسية لأن المبتدأ بالحقيقة هاهنا هو الأمر الواقع صفة لهذا وهذا لا يوصف إلا بالجنس فمقتضاه حصر جنس الأمر في قريش فيصير كأنه قال لا أمر إلا في قريش وهو كقوله الشفعة فيما لم يقسم والحديث وإن كان بلفظ الخبر فهو بمعنى الأمر كأنه قال ائتموا بقريش خاصة وبقية طرق الحديث تؤيد ذلك ويؤخذ منه أن الصحابة اتفقوا على إفادة المفهوم للحصر خلافًا لمن أنكر ذلك وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم أن شرط الإمام أن يكون قرشيًا وقيد ذلك طوائف ببعض قريش فقالت طائفة: لا يجوز إلا من ولد علي وهذا قول الشيعة ثم اختلفوا اختلافًا شديدًا في تعيين بعض ذرية علي، وقالت طائفة: يختص بولد العباس وهو قول أبي مسلم الخراساني وأتباعه، ونقل ابن حزم أن طائفة قالت: لا يجوز إلا في ولد جعفر بن أبي طالب، وقالت أخرى: في ولد عبد المطلب وعن بعضهم لا يجوز إلا في بني أمية وعن بعضهم لا يجوز إلا في ولد عمر، قال ابن حزم: ولا حجة لأحد من هؤلاء الفرق وقالت الخوارج وطائفة من المعتزلة: يجوز أن يكون الإمام غير قرشي وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسنَّة سواء =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كان عربيًّا أم عجميًّا، وبالغ ضرار بن عمرو فقال: تولية غير القرشي أولى لأنه يكون أقل عشيرة فإذا عصي كان أمكن لخلعه، وقال أبو بكر بن الطيب: لم يعرج المسلمون على هذا القول بعد ثبوت حديث الأئمة من قريش وعمل المسلمون به قرنًا بعد قرن وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك قبل أن يقع الاختلاف، قلت: قد عمل بقول ضرار من قبل أن يوجد من قام بالخلافة من الخوارج على بني أمية كقطري -بفتح القاف والطاء المهملة- ودامت فتنتهم حتى أبادهم المهلب بن أبي صفرة أكثر من عشرين سنة وكذا تسمى بأمير المؤمنين من غير الخوارج ممن قام على الحجاج كابن الأشعث ثم تسمى بالخلافة من قام في قطر من الأقطار في وقت ما فتسمى بالخلافة وليس من قريش كبني عباد وغيرهم بالأندلس كعبد المؤمن وذريته ببلاد المغرب كلها وهؤلاء ضاهوا الخوارج في هذا ولم يقولوا بأقوالهم ولا تمذهبوا بأرائهم بل كانوا من أهل السنَّة داعين إليها، وقال عياض: اشتراط كون الإمام قرشيًّا مذهب العلماء كافة وقد عدوها في مسائل الإجماع ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلاف وكذلك من بعدهم في جميع الأمصار قال: ولا اعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة لما فيه من مخالفة المسلمين، قلت: ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته فذكر الحديث وفيه فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل الحديث، ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش فيحتمل أن يقال لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًّا أو تغير اجتهاد عمر في ذلك، واللَّه أعلم. وأما ما احتج به من لم يعين الخلافة في قريش من تأمير عبد اللَّه بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم في الحروب فليس من الإمامة العظمى في شيء بل فيه أنه يجوز للخليفة استنابة غير القرشي في حياته، واللَّه اعلم. واستدل بحديث ابن عمر على عدم وقوع ما فرضه الفقهاء من الشافعية وغيرهم أنه إذا لم يوجد قرشي يستخلف كناني فإن لم يوجد فمن بني إسماعيل فإن لم يوجد منهم أحد مستجمع الشرائط فعجمي وفي وجه جرهمي وإلا فمن ولد إسحاق قالوا: وإنما فرض الفقهاء ذلك على عادتهم في ذكر ما يمكن أن يقع عقلًا وإن كان لا يقع عادةً أو شرعًا، قلت: والذي حمل قائل هذا القول عليه أنه فهم منه الخبر المحض وخبر الصادق لا يتخلف وأما من حمله على الأمر فلا يحتاج إلى هذا التأويل واستدل بقوله قدموا قريشًا ولا تقدموها وبغيره من أحاديث الباب على رجحان مذهب الشافعي لورود الأمر بتقديم القرشي على من ليس قرشيًا، قال عياض. ولا حجة فيها لأن المراد بالأئمة في هذه الأحاديث الخلفاء وإلا فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم سالمًا مولى أبي حذيفة في إمامة الصلاة ووراءه جماعة من قريش وقدم زيد بن حارثة وابنه =
قال في الصحاح: قريش قبيلة، وأبوهم: النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون ولد كنانة ومن فوقه.
وربما قالوا: قريشي (1)، وهو القياس (2).
= أسامة بن زيد ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص في التأمير في كثير من البعوث والسرايا ومعهم جماعة من قريش وتعقبه النووي وغيره بأن في الأحاديث ما يدل على أن للقرشي مزية على غيره فيصح الاستدلال به لترجيح الشافعي على غيره وليس مراد المستدل به أن الفضل لا يكون إلا للقرشي بل المراد أن كونه قرشيًا من أسباب الفضل والتقدم كما أن من أسباب الفضل والتقدم الورع والفقه والقراءة والسن وغيرها فالمستويان في جميع الخصال إذا اختص أحدهما بخصلة منها دون صاحبه ترجح عليه فيصح الاستدلال على تقديم الشافعي على من ساواه في العلم والدين من غير قريش لأن الشافعي قرشي وعجب قول القرطبي في المفهم بعد أن ذكر ما ذكره عياض أن المستدل بهذه الأحاديث على ترجيح الشافعي صحبته غفلة قارنها من صميم التقليد طيشه كذا قال ولعل الذي أصابته الغفلة من لم يفهم مراد المستدل والعلم عند اللَّه تعالى".
(1)
قال الشاعر:
بكُلّ قريشي إذا ما لَقِيتُه
…
سريعٍ إلى داعِي النَّدَى والتَّكَرُّم
وهو من شواهد كتاب سيبويه.
(2)
قال ابن جني في الخصائص (1/ 115 - 116): "باب في جواز القياس على ما يقِلّ ورفضِه فيما هو أكثر منه، هذا باب ظاهره إلى أن تعرف صورته ظاهر التناقض إِلا أنه مع تأمّله صحيح وذلك أن يقِلّ الشيء وهو قياس ويكون غيره أكثر منه إلا أنه ليس بقياس.
الأول: قولهم في النسب إلى شَنُوءةَ شَنَئيّ فلك من بعدُ أن تقول في الإضافة إلى قَتُوبةٍ قَتَبِيّ وإلى رَكُوبة رَكبيّ وإلى حَلُوبة حَلَبيّ قياسًا على شَنَئيّ وذلك أنهم أجَروْا فَعُولة مجرى فَعِيلة لمشابهتها إياها من عِدّة أَوجه: أحدها أن كل واحدة من فعولة وفعيلة ثلاثيّ ثم إن ثالث كل واحد منهما حرف لين يجري مجرى صاحبه ألا ترى إلى اجتماع الواو والياء رِدْفين وامتناع ذلك في الألف وإلى جواز حركة كل واحدة من الياء والواو مع امتناع ذلك في الألف إلى غير ذلك ومنها أن في كل واحدة من فَعُولة وفَعِيلة تاءَ التأنيث ومنها اصطحاب فَعول وفَعِيل على الموضع الواحد نحو أَثِيم وأَثُوم ورحيم ورَحُوم ومَشِيّ ومَشُوّ ونَهِيّ عن الشيء ونَهُوّ.
فلمّا استمرّت حال فَعِيلة وفَعُولة هذا الاستمرار جرت واو شَنُوءة مجرى ياء حنجفة =