الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومثل لذلك بمثالين، أشار لأحدهما بقوله: كفسخ لنكاح رفع إليه برضع كبير، بسبب أن أحدهما رضع أم الآخر، وهو كبير، فالقدر الثابت في هذا الحكم هو فسخ هذا النكاح فقط، وإنما تحريمها في المستقبل فلا يثبت بهذا الحكم، بل يبقى معرضًا للاجتهاد فيه، فلو عاد هنا الزوج وتزوجها مرة أخرى، أو وقعت جزئية أخرى مثلها في رضاع كبير ورفعت له أو لغيره فلا بد من اجتهاد، فإن اجتهد وأداه اجتهاده إلى أن رضاع الكبير لا ينشر الحرمة أباحها له.
وأشار للمثال الثاني بقوله: وتأبيد منكوحة عدة رفع إليه أنها تزوجت في عدتها، ورأيه مع فسخ نكاحها تأبيد حرمتها، وحكم بذلك، فإن حكمه لا يتعدى الفسخ، فإن تزوجها بعد ذلك، ورفع أمرها بعد تغيير اجتهاده لعدم تأبيد التحريم، أو رفع أمرهما لمن لا يرى التحريم لم يكن الحكم الأول مانعًا من ذلك؛ ولذا قال: وهي -أي: المفسوخ نكاحها لرضاع الكبير أو المحكوم بفسخه لوقوعه في العدة- كغيرها في المستقبل ممن لا يقع له مثل ذلك، ونحوه لابن الحاجب تبعًا لابن شاس، واستصوبه ابن عرفة في مسألة العدة، لا في رضاع الكبير.
ولا يدعو القاضي لصلح بين الخصمين إن ظهر له في الحكم وجهه، ما لم يخش تفاقم الأمر، كما سبق.
[قضاء القاضي بعلمه: ]
ولا يستند في حكمه لعلمه (1)، إلا في التعديل والتجريح اتفاقًا،
(1) قال ابن عبد البر في التمهيد (22/ 217، وما بعدها): "عن أفضل ما يحتج به في أن القاضي لا يقضي بعلمه حديث معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على صدقة فلاجه رجل في فريضة فوقع بينهم شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وخبروه فأعطاهم لأرش ثم قال: "إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم؟ قالوا: نعم، فصعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب وذكر القصة وقال:"أرضيتم؟ "، قالوا: لا، فهم بهم المهاجرون فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد فخطب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فقال: "أرضيتم؟ ". فقالوا: نعم" وهذا بيِّن لأنه لم يؤاخذهم بعلمه فيهم ولا قضى بذلك عليهم وقد علم رضاهم.
ومن حجة من ذهب إلى أن القاضي له أن يقضي بما علمه لأن البينة إنما تعلمه بما ليس عنده ليعلمه فيقضي به وقد تكون كاذبة وواهمة وعلمه بالشيء أوكد وقد أجمعوا على أن له أن يعدل ويسقط العدول بعلمه فكذلك ما علم صحته وأجمعوا أيضًا على أنه إذا علم أن ما شهد به الشهود على غير ما شهدوا به أنه ينفذ علمه في ذلك دون شهادتهم ولا يقضي.
واحتج بعضهم بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سودة زوجة أن تحتجب من ابن وليدة زمعة لما علمه ورآه من شبهه بعتبة وقالوا: إنما يقضي بما يسمع فيما طريقه السمع من الإقرار أو البينة وفيما طريقه علمه قضى بعلمه ولهم في هذا الباب منازعات أكثرها تشغيب، والسلف من الصحابة والتابعين مختلفون في قضاء القاضي بعلمه على حسب اختلاف فقهاء الأمصار في ذلك ومما احتج به من ذهب إلى أن القاضي يقضي بعلمه مع ما قدمنا ذكره ما رويناه من طرق عن عروة عن مجاهد جميعًا بمعنى واحد أن رجلًا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدًّا في موضع كذا وكذا من مكة فقال عمر: إني لأعلم الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان فإذا قدمت مكة فائتني بأبي سفيان، فلما قدم مكة أتاه المخزومي بأبي سفيان فقال له عمر: يا أبا سفيان، انهض إلى موضع كذا، فنهض ونظر عمر فقال: يا أبا سفيان، خذ هذا الحجر من هاهنا فضعه هاهنا فقال: واللَّه لا أفعل، فقال: واللَّه لتفعلن، فقال: لا أفعل، فعلاه عمر بالدرة وقال: خذه لا أم لك وضعه هاهنا فإنك ما علمت قديم الظلم، فأخذ الحجر أبو سفيان ووضعه حيث قال عمر ثم إن عمر استقبل القبلة فقال: اللَّهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام، قال: فاستقبل أبو سفيان القبلة وقال: اللَّهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما ذللت به لعمر.
ففي هذا الخبر قضى عمر بعلمه فيما قد علمه قبل ولايته والى هذا ذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي وأبو ثور سواء عندهم علمه قبل أن يلي القضاء أو بعد ذلك في مصره كان أو في غير مصره له أن يقضي في ذلك كله عندهم بعلمه لأن يقينه في ذلك أكثر من شهادة الشهود الذين لا يقطع على غيب ما شهدوا به كما يقطع على صحة ما علموا.
وقال أبو حنيفة: ما علمه قبل أن يلي القضاء أو رآه في غير مصره لم يقض فيه بعلمه وما علمه بعد أن استقضى أو رآه بمصره قضى في ذلك بعلمه ولم يحتج في ذلك إلى غيره واتفق أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يقضي القاضي بعلمه في شيء من الحدود لا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فيما علمه قبل ولا بعد ولا فيما رآه بمصره ولا بغير مصره.
وقال الشافعي وأبو ثور: حقوق الناس وحقوق اللَّه سواء في ذلك والحدود وغيرها سواء في ذلك وجائز أن يقضي القاضي في ذلك كله بما علمه.
وقال مالك وأصحابه: لا يقضي القاضي في شيء من ذلك كله بما علمه حدًّا كان أو غير حد لا قبل ولايته ولا بعدها ولا يقضي إلا بالبينات والإقرار وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد وهو قول شريح والشعبي وفي قوله عليه السلام: "فأقضي له على نحو ما أسمع منه" دليل على إبطال القضاء بالظن والاستحسان وإيجاب القضاء بالظاهر ألا ترى أن رسول اللَّه -صلي اللَّه عليه وسلم- قضى في المتلاعنين بظاهر أمرهما وما ادعاه كل واحد منهما ونفاه فأحلفهما بأيمان اللعان ولم يلتفت إلى غير ذلك بل قال: إن جاءت به على كذا وكذا فهو للزوج وإن جاءت به على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به فجاءت به على النعت المكروه فلم يلتفت رسول اللَّه -صلي اللَّه عليه وسلم- إلى ذلك بل أمضى حكم اللَّه فيهما بعد أن سمع منهما ولم يعرج على الممكن ولا أوجب بالشبهة حكمًا فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أقضي على نحو ما أسمع".
وأما قوله عليه السلام: "فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" فإنه بيان واضح في أن قضاء القاضي بالظاهر الذي تعبد به لا يحل في الباطن حرامًا قد علمه الذي قضى له به وأن حكمه بالظاهر بينهم لا يحل لهم ما حرم اللَّه عليهم مثال ذلك رجل ادعى على رجل بدعوى وأقام عليه بنية زور كاذبة فقضى القاضي بشهادتهم بظاهر عدالتهم عنده وألزم المدعى عليه ما شهدوا به فإنه لا يحل ذلك للمدعي إذا علم أنه لا شيء له عنده وأن بينته كاذبة إما من جهة تعمد الكذب أو من جهة الغلط.
ومما احتج به الشافعي وغيره لقضاء القاضي بعلمه حديث عبادة وأن تقوم بالحق حيث ما كنا لا تخاف في اللَّه لومة لائم وقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وحديث عائشة في قصة هند بنت أبي سفيان قوله: "خذي ما يكفيك وولدك" وكذلك لو ثبت على رجل لرجل حق بإقرار أو بينة فادعى دفعه إليه والبراءة منه وهو صادق في دعواه ولم يكن له بينة وجحده المدعي الدفع إليه وحلف له عليه وقبض منه ذلك الحق مرة أخرى بقضاء قاض فإن ذلك ممن قطع له أيضًا قطعة من النار ولا يحل له قضاء القاضي بالظاهر ما حرم اللَّه عليه في الباطن ومثل هذا كثير قال اللَّه عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} وهذه الآية في معنى هذا الحديث سواء.
قال معمر عن قتادة في قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} قال: لا تدلي بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك له ظالم فإن قضاءه لا يحل لك شيئًا كان حرامًا عليك. =
حكاه المازري وغيره، إذ لو لم يحكم بعلمه لافتقر لمعدلين آخرين، وهكذا فيتسلسل، وانقطاعه بظهور عدالتهما نادر.
ووجهه بعضهم بأن حال العدول والفسقه شهير عند الناس قل ما ينفرد القاضي بعلمه دون غيره، فبعدت تهمته، فأفهم الحصر أنه لا يحكم بعلمه في غيرهما، فلو حكم بعلمه ففي فسخه قولان.
ثم شبه بما يعتمد عليه على علمه مسألتين، الثمار لإحداهما بقوله: كالشهرة بذلك، فقد يشهد من هو مشهور الاسم عنده دون الغير، كابن أبي حازم شهد عند قاضي المدينة أو عاملها، فقال له: أما الاسم فعدل، ولكن من يعرف أنك ابن أبي حازم.
وأشار للثانية بقوله: أو إقرار الخصم المشهود عليه بالعدالة للشاهد عليه، وإن أنكر محكوم عليه إقراره ضد الماضي مما حكم به عليه بعده،
= قال أبو عمر:
وعلى هذه المعاني كلها المذكورة في هذا الحديث المستنبطة منه جرى مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وداود وسائر الفقهاء كلهم قد جعل هذا الحديث أصلًا في هذا الباب.
وجاء عن أبي حنيفة وأبي يوسف وروى ذلك عن الشعبي قبلهما في رجلين تعمدا الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأه فقبل القاضي شهادتهما لظاهر عدالتهما عنده وهما قد تعمدا الكذب في ذلك أو غلطا أو وهما ففرق القاضي بين الرجل وامرأته بشهادتهما ثم اعتدت المرأة أنه جائز لأحدهما أن يتزوجها وهو عالم أنه كاذب في شهادته وعالم بأن زوجها لم يطلقها لأن حكم الحاكم لما أحلها للأزواج كان الشهود وغيرهم في ذلك سواء وهذا إجماع أنها تحل للأزواج غير الشهود مع الاستدلال بفرقة المتلاعنين من غير طلاق يوقعه.
وقال من خالفهم من الفقهاء: هذا خلاف سنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قوله: "فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" ومن حق هذا الرجل عصمة زوجته التي لم يطلقها.
وقال مالك والشافعي وسائر من سميناه من الفقهاء في هذا الباب لا يحل لواحد من الشاهدين أن يتزوجها إذا علم أن زوجها لم يطلقها وأنه كاذب أو غالط في شهادته وهذا هو الصحيح من القول في هذه المسألة، وباللَّه التوفيق".