الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المذهب الثاني:
أنه ليس بحجة مطلقاً: وقد نسب إلى الشافعي في الجديد - وليس بصحيح كما سنوضح - وأحمد في رواية، ومذهب جمهور الشافعية، منهم الغزالي والآمدي وبه قالت المعتزلة وهو مذهب ابن حزم.
المذهب الثالث:
أنه حجة إن كان مما لا مجال للرأي فيه فقط، وهو قول جماعة من الأحناف.
المذهب الرابع:
قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما.
المذهب الخامس:
قول الخلفاء الأربعة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم حجة دون غيرهم.
والراجح والله أعلم هو القول الأول
…
وأدلة الترجيح التي سوف أذكرها هنا بإيجاز ترد قول من قال أنه ليس بحجة مطلقاً، وقول من خصص الحجية بما لا مجال للرأي فيه وقول من خصص الحجية بقول الخلفاء الراشدين، أو بقول الشيخين وابن مسعود وغيرهم، من
الصحابة الذين وصفوا بالعلم والفتيا والقضاء.
فأما التخصيص بما لا مجال للرأي فيه، فقد سبق معنا أنه في حكم المرفوع وهذه ميزة لهذا النوع من أقوال الصحابة، لا تقتضي نفي الحجية عن ما سواه، لاسيما وأن الأدلة من النقل والعقل تدل على عدم التخصيص.
وكذلك التخصيص ببعض الصحابة الذين وردت الأحاديث بفضلهم وعلمهم وتميزهم، لا يقتضي إلغاء الحجية عن غيرهم، وأقصى ما يمكن قوله في هذا أن من وردت الأحاديث بتخصيصهم، فإن له مزية في زيادة العلم والفهم الذي يشاركهم فيه غيرهم، وأن قولهم عند الترجيح بين الأقوال مقدم على ما سواهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
أما الأدلة التي يستدل بها الذين يقولون بأن قول الصحابي حجة، يجب العمل به، فهي من الكتاب والسنة والأثر والنظر:
فمن الكتاب:
قوله تعالى: [والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي لله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم] .
روى الحافظ ابن جرير في تفسيره لهذه الآية بسنده، عن محمد بن كعب القرضي قال: (مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ [والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار] حتى بلغ [ورضوا عنه]، قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ ، قال: أبي بن كعب، قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه،
فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا.. قال: نعم. قال: أنت سمعتها من رسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعه لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبي: بلى تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة [وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم] .
وفي سورة الحشر: [والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان] .
وفي الأنفال: [والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم] .
وسبب سؤال عمر أنه كان يقرأ هذه الآية برفع الأنصار، وبعدم إلحاق الواو في الذين كما أورد ذلك ابن جرير، ثم لما تبين له من أبي بن كعب الخفض وإلحاق الواو قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحمد بعدنا، يقصد المهاجرين وهذا القول منه رضي الله عنه يؤيد ما ذهب إليه أصحاب القول الأول القائلين بحجية أقوال الصحابة من غير تخصيص لبعضهم، إذا اشترك الجميع في وصف الثناء عليهم بكونهم سبقوا في كل علم وفضل وجهاد وعمل، وهذه الآية احتج بها ابن القيم وجعلها من الأدلة الدالة على وجوب اتباع الصحابة) .
وحكى احتجاج الإمام مالك بها في هذا المعنى.
وذكر أن الآية تتضمن مدح الصحابة والثناء عليهم، واستحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين يقتدى بهم، وتؤخذ أقوالهم وأنها اقتضت المدح لمن اتبعهم كلهم، أو اتبع كل واحد منهم ما لم يخالف نصاً.
ومن الأدلة قوله تعالى: [كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله]، روى ابن جرير بسنده عند تفسيره لهذه الآية عن الضحاك قال:(هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة) .
قال ابن جرير بعد إيراده لهذا الأثر مبيناً معناه: (يعني: وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم) .
قال ابن القيم في استشهاده بهذه الآية على وجوب اتباع الصحابة واعتبار الحجية في أقوالهم: (شهد لهم الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من أخطأ منهم، ولم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف، ولا نهى فيها عن منكر، إذ الصواب معروف بلا شك، والخطأ منكر من بعض الوجوه إلى أن قال وإذا كان هذا باطلاً علم أن خطأ من يعلم منهم في العم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قوله حجة) .
واستشهد بالآية الشاطبي حين قرر أن: (سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها)، فقال في الآية:(إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقتضي باستقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة) .
وقد أفاض الإمام ابن قيم الجوزية في الاستدلال على حجية قول الصحابة بالآيات الكريمة ووجه استدلاله فأجاد وأفاد.
أما الأدلة من السنة فهي كثيرة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: " خير الناس القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث "، فإخباره صلى الله عليه وسلم بذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، ولا سيما في ظفرهم بالصواب.
فهم (أفضل من غيرهم في كل فضيلة، من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم من الدين بالضرورة من دين الإسلام
…
) .
ومن أدلة السنة صلى الله عليه وسلم: " النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب
أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ".
وتشبيه الصحابة بالنجوم يفيد وجوب الاهتداء بهم، نظير اهتدائهم بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم، وجعل بقائهم بين الأمة أمنة لهم وحرزا من الشر وأسبابه.
قال النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: " أتى أمتي ما يوعدون "، معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن
…
ومن أدلة السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ بد أحدهم ولا نصيفه ".
فإذا كان هذا قدرهم فكيف يجوز أن يحرمهم الله الصواب، ويظفر به من بعدهم، لا سيما وهم خيرة خلق الله، كما جاء بذلك الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين ".
ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: " أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف - إلى أن قال صلى الله عليه وسلم عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة
…
" الحديث.
وهذا صريح فيما نحن بصدد الحديث عنه، إذ قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الوصية بأصحابه وإخباره بفشو الكذب، ووقوع الفرقة التي هي سيماء أهل البدع، ثم يذكر الجماعة التي هي أبرز أوصاف الفرقة الناجية مم ايدل دلالة واضحة على أن الوصية بأصحابه، تعني الأخذ عنهم، والتلقي منهم، وهذه شهادة تزكية من الصادق صلى الله عليه وسلم ومما يدل على هذا المعنى بصورة أكثر جلاءً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل
…
وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، ما أنا عليه وأصحابي ".
وأصحابه صلى الله عليه وسلم هم حواريوه الذين أخذوا سنته، ونصروا دينه واقتدوا بدينه، واتبعوا كل ما جاء به، ونقلوا الدين على من بعدهم، كما جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما نبي بعثه الله عز وجل إلا كان له في أمته حواريون
وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره "، وقد استشهد البيهقي بهذا الحديث على أفضليتهم ومنزلتهم العالية في كل علم وعمل وقصد كيف لا وقد شهد بذلك صلى الله عليه وسلم فقال: " أكرموا أصحابي فإنهم خياركم ".
أما الأدلة من الآثار فمنها:
ما روى عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال: (يامعشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن تركتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً) .
وعنه رضي الله عنه قال: (اتبعوا سبلنا، ولئن اتبعتمونا لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن خالفتمونا لقد ضللتم ضلالاً بعيداً) .
روى الخطيب بسنده عن عامر الشعبي أنه قال: (ما حدثوك عن
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذه..) .
وروى ابن وضاح بسنده: (أن عبد الله بن مسعود مر برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول: سبحوا عشراً، وهللو عشراً، فقال عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو أضل بل هذه بل هذه يعني أضل) .
ومما يدل على فضل أي واحد من الصحابة كثر لقاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم أو قل، ما ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة الإصابة أنه قرأ في كتاب أخبار الخوارج لمحمد بن قدمة المروزي خبراً نقله بسنده، وقال فيه بعد نقله له: ورجال هذا الحديث ثقات، ونصه (عن نبيح العنزي، عن أبي سعيد الخدري قال: كنا عنده وهو متكئ فذكرنا علياً ومعاوية، فتناول رجل معاوية فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً ثم قال: كنا ننزل رفاقاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا في رفقة أبو بكر، فنزلنا على أهل أبيات وفيهم امرأة حبلى، ومعنا رجل من أهل البادية، فقال: للمرأة الحامل: أيسرك أن تلدي غلاماً؟ ، قالت: نعم، قال: إن أعطيتني شاة ولدت غلاماً، فأعطته فسجع لها أسجاعاً، ثم عمد إلى الشاة فذبحها وطبخها وجلسنا نأكل منها، ومعنا أبو بكر، فلما علم بالقصة قام فتقيأ كل شيء أكل، قال: ثم رأيت ذلك البدوي أتى به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصار، فقال: لهم عمر: لولا أنه له صحبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري ما نال فيها لكفيتكموه، ولكن له صحبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
ذكر ذلك ابن حجر في سياق ذكر عدالة الصحابة جميعاً والرد على من نفى ذلك، قال ابن حجر بعده:(وفي ذلك أبين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدله شأن) .
فإذا كان هذا فضل صحابي لعله لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، فكيف بفضل غيره، وهذا الفضل مستتبع للعدالة التي تقتضي كون أقوالهم وأفعالهم حجة؛ لأنهم كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب الناس، فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته، وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار له أصحابه، فجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفهمون معنى كون أقوالهم وأفعالهم التي لا تخالف نصاً سنة يقتدى بها، ودليل ذلك ما رواه عبد الرزاق بسنده (أن عمر أصابته جنابة وهو في سفر، فلما أصبح قال: أترون ندرك الماء قبل طلوع الشمس، قالوا: نعم، فأسرع السير حتى أدرك فاغتسل، وجعل يغسل ما رأى من الجنابة في ثوبه، فقال: عمرو بن العاص: لو لبست ثوباً غير هذا وصليت، فقال له عمر: إن وجدت ثوباً وجده كل إنسان؟ إني لو فعلت لكانت سنة، ولكني أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره) .