الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5- الصوفية:
من سمات هذه الفترة الانفتاح على الثقافات والعلوم والفنون المختلفة، ودخول طوائف من البشر من مختلف الشعوب في الدين الإسلامي، وترجمة الكتب التي تحوي فلسفات وأفكار أمم سلفت..
وكان لكل هذا الأثر البالغ في إيجاد بدع مبتكرة جديدة، أو في تاصيل بدع سبقت.
وكما أسلفنا فإن عبد الواحد بن زيد وتلامذته الذين كانوا في البصرة هم البذرة الأولى للتصوف بمعناه المتضمن إيجاد طريقة في العبادة، ليست من المشروع في الدين.. وكانت هذه البذرة قد نشأت في جو قابل للترعرع والنماء في البصرة، بتأثير العوامل الدينية مع العوامل السياسية والاقتصادية، فنشأت هذه البذرة في تلك البيئة القابلة، ثم اتسع نماؤها فتجاوزت حدود المبالغة في الزهد، والعبادة، والخوف، وتجاوزت محل النشأة إلى بلدان أخرى، فأصبحت الصوفية علماً يتخذ من الكلام المحدث والعمل المبتدع طريقة متميزة، وأصبحت كذلك علماً على طائفة متميزة مخصوصة بسلوك وعلم وعمل، ثم اتسعت المسألة حتى أصبح لهؤلاء وأتباعهم فلسفة تقوم على ما يشبه الباطنية، التي اتسعت آنذاك وانتشرت أفكارها، فكان علم الباطن وعلم الحقيقة، الذي يعتمد على ما وراء الظاهر من ذوق ووجد، على أساس هذا العلم تناولوا القرآن والسنة.
وبدأ الحديث عن الفناء والبقاء، والصحو والمحو والصلم والوسواس، وغير ذلك من المصطلحات الصوفية المحدثة.. ونشأت الفُرقة العلمية والعملية في تناول المبتدعة للشرع الحنيف، فالمتكلمة تناولوا النصوص بميزانهم العقلي، والمتصوفة تناولوها بميزانهم الذوقي، وانتهى كل منهما إلى الفلسفة المحضة، كما انتهت الباطنية إلى ذلك من قبل، وذلك بتناولهم النصوص على أساس باطني فلسفي، يستتر بالرفض ويبطن الكفر المحض.
وإن كان التصوف في هذه الفترة الزمنية قد سلك مناهج عدة أبرزها منهجان:
الأول: ما يسمى بصوفية الورع والزهد والعبادة، ويقوم عليه (شيوخ الصوفية) كما سماهم شيخ الإسلام وابن كثير أو (أئمة الطريق) كما سماهم ابن القيم.
قال شيخ الإسلام: (.. شيوخ الصوفية الكبار كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وابي سليمان الداراني، وعمرو بن عثمان الشبلي، والجنيد ابن محمد وسهل بن عبد الله التستري وابي عبد الله محمد بن خفيف
الشيرازي ونحوهم رضي الله عنهم) .
وبعد أن ذكر ابن القيم بعض هذه الأسماء قال: ".. فإنهم تكلموا على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلاماً مفصلاً جامعاً مبيناً مطلقاً من غير ترتيب، ولا حصر للمقامات بعدد معلوم، فإنهم كانوا أجل من هذا وهمهم أعلى وأشرفن إنما هم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة، وطهارة القلوب وزكاة النفوس، وتصحيح المعاملة، ولهذا كلامهم قليل فيه البركة..) . وهذه الفئة من المتصوفة هي التي انقسمت آراء الناس حولها، فمنهم من جعلهم من الصديقين، وأنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، ومنهم من جعلهم من المبتدعين الخارجين عن الدين، والقول الوسط في هؤلاء أن يقال:
(.. أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين..".
وهؤلاء الأعلام في الزهد والعبادة كانت لهم مسالك في النسك والزهد والعبادة غير مأثورة، فكان النقض عليهم من هذا الباب، ولهذا نهى الإمام أحمد
عن مجالسة الحارث المحاسبي وأصحابه، وامتحن ذا النون المصري لكونه أتى بعلم لم يعهده الناس، وكان أول من تكلم بمصر في الأحوال ومقامات الأولياء، وكان أوائل الصوفية هؤلاء يقرون بأن الاعتماد في العبادة والذكر وأحوال القلوب وأعمالها، إنما يكون على الكتاب والسنة، ولكن لبس عليهم الشيطان لقلة علمهم.
ثاني المسالك الصوفية في تلك الفترة:
الصوفية الفلسفية:
وهي التي حوت الطامات، وجمعت سائر البليات، فكان ظاهرها الزهد والعبادة، وباطنها الكفر والإلحاد، فأتوا بألفاظ ومصطلحات تحوي عدة معان وتجمع الصحيح والسقيم من المقاصد، مثل الفناء، والبقاء، والصحو، والسكر، والذوق، والمحو، والتجلي، والمكاشفة، واللوائح، والطوالع، واللوامع، والتمكين، إلى
غير ذلك من المتواضع عليه في كتب التصوف.
وجاؤوا كذلك بنظريات في التعبد والذكر تنافي الدين، مثل جواز النظر إلى المردان والنساء والجميلات، من أجل التفكر في خلق الله، ومثل سقوط التكليف عمن وصل إلى مرتبة كذا، ومثل جعل رسوم وهيئات - تشبه العبادات - للمريد بين يدي سيده، ومثل استحلال المحرمات، كالزنا والخمر والغناء، ومثل تأويلهم للآيات القرآنية والأحاديث النبوية - مع جهلهم بها - بما يوافق تفسيرات الباطنية ويتجانس معها، وانحدروا بعد ذلك إلى هوة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، نسأل الله العافية، ومن هؤلاء الضالين:
الحسين بن منصور بن محمي الحلاج:
كان جده محمي مجوسياً من أهل فارس، ونشأ هو بواسط، وكان يظهر الزهد والعبادة والمجاهدة، حتى اغتر به طوائف من الناس في عصره، قيل إنه كان من القرامطة، وكان يكتب إلى خاصته وأتباعه:(من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان)، كان يعتقد الحلول ومن ذلك قوله:
سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب
حتى وقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب
سافر إلى الهند وتعلم بها السحر، فكان يحتال على الناس، ويظهر لهم المخاريق، وكان يكتب ويؤلف زاعماً أنه يعارض القرآن ويؤلف مثله، وابتلى كثير
من الناس والجهلة باتباعه والدفاع عنه، بسبب ما كان يظهره من صلاح وورع وتقوى وعبادة وتأله..
وكان يروج على الناس منكره، من خلال سحره وشعوذته، ومن خلال أتباعه، أجمع على تكفيره وحل دمه جماعة من الفقهاء والصوفية في عهد الخليفة العباس المقتدر، بعد أن وجدوا كتباً بخطه تدل على ادعائه الربوبية، وإجازته جعل الكعبة والحج داخل منزل نظيف من النجاسات، وأن ذلك يكفي عن الحج إلى مكة والمشاعر، وأن من صام ثلاثة أيام متواصلة، لا يفطر إلى في اليوم الرابع، أجزأه ذلك عن صيام رمضان، وغير ذلك من ضلالاته.
وقد تأثر بالحلاج جماعة من الصوفية في عصره، فقالوا بأقواله ودافعوا عنه فمنهم:
1-
دلف بن جعفر الشبلي: أبو بكر الشبلي:
وكان من نساك بغداد، ولكنه اشتبه عليه أمر الحلاج فيما نسب إليه من الأقوال، من غير تأمل لما فيها، وخدع بما أظهره الحلاج من زهد وملازمة للعبادة، فأحسن فيه الظن فكان يقول: كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلا أنه أظهر وكتمت، ولما سئل الشبلي عن قول الحلاج: هل الكاتب إلا الله، وأنا واليد آلة؟ قال: من يقول بهذا يمنع. وكان قد قال العلماء قبله: من يقول بهذا كافر.