المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفترة الأولى: "فترة ما قبل ظهور البدع - حقيقة البدعة وأحكامها - جـ ١

[سعيد بن ناصر الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌مدخل كتاب البدعة

- ‌شروط العمل المقبول:

- ‌حقيقة العبادة في الإسلام:

- ‌أساس العبادة ودعائمها:

- ‌ الإنسان عامل مريد *

- ‌ شروط العمل المقبول *

- ‌الشرط الأول: الإخلاص:

- ‌الشرط الثاني: الموافقة للشرع:

- ‌الاعتصام بالسنة

- ‌الاعتصام لغة وإصلاحاً:

- ‌السنة…تعريفها واستعمالاتها

- ‌السنة في الاصطلاح:

- ‌1- السنة بالمعنى العام:

- ‌2- أما السنة بالمعنى الخاص:

- ‌ذم البدع

- ‌ومن الآثار الواردة في ذم البدع:

- ‌لمحة تاريخية عن ظهور البدع

- ‌المبحث الأول:اللمحة التاريخية الموجزة لظهور البدع:

- ‌الفترة الأولى: "فترة ما قبل ظهور البدع

- ‌الفترة الثانية من سنة 36 - 100 ه

- ‌ الخوارج

- ‌الشيعة:

- ‌القدرية:

- ‌المرجئة:

- ‌الفترة الثالثة: 101 - 177ه

- ‌1- غيلان بن مسلم الدمشقي (105ه

- ‌2- الجعد بن درهم توفي بعد عام 118هـ وهو من أهل حران:

- ‌3- الجهم بن صفوان (128ه

- ‌4- واصل بن عطاء (131ه

- ‌5- عمرو بن عبيد بن باب البصري (144ه

- ‌6- مقاتل بن سليمان (150ه

- ‌7- عبد الواحد بن زيد (177ه

- ‌الفترة الرابعة: 178 - 300ه

- ‌ أمهات الفرق الضالة

- ‌1- الشيعة:

- ‌2- الخوارج:

- ‌3- القدرية:

- ‌4- المرجئة:

- ‌5- الصوفية:

- ‌6- المعتزلة:

- ‌7- أشخاص لهم أقوال قامت عليها بدع:

- ‌(أ) ابن كلاب:

- ‌(ب) محمد بن كرام بن عراق أبي عبد الله السجستاني المتوفي سنة 255ه

- ‌(ج) أبو الحسن الأشعري:

- ‌أسباب ظهور البدع

- ‌أحدهما: سبب قدري أزلي:

- ‌والضرب الثاني من أسباب الابتداع:كسبي، وهو على أنواع:

- ‌1- اتباع الهوى:

- ‌2- قلة العلم بالشرع المنزل:

- ‌وفروع جهل المبتدعة بالشريعة كثيرة ومتنوعة منها:

- ‌3- اتباع العوائد:

- ‌1- اتباع الآباء والمشائخ:

- ‌2- اتباع المذهب والطائفة:

- ‌3- ابتاع العادة والعرف والشائع:

- ‌4- أخذ أهل السلطة بها أو سكوتهم عنها:

- ‌5- كون المبتدع من ذوي الفصاحة والبيان:

- ‌6- احتفاء المبتدعة ببعضهم وتعاونهم فيما بينهم:

- ‌موقف السلف من البدع:

- ‌نبذة موجزة لبعض المؤلفات في البدعة ودراسة موجزة لأهمها:

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌القسم الثالث:

- ‌القسم الرابع:

- ‌ أما كتاب البدع والنهي عنها لابن وضاح:

- ‌أما المآخذ فهي:

- ‌أما كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي:

- ‌ أما كتاب الاعتصام للشاطبي:

- ‌أما كتاب (البدعة تحديدها موقف الإسلام منها) للدكتور عزت علي عطية:

- ‌المعنى اللغوي والاصطلاحي للبدعة

- ‌الباب الأول:تعريف البدعة ومفهومها عند أهل السنة وغيرهم

- ‌الفصل الأول:

- ‌أ - المعنى اللغوي للبدعة

- ‌ب - المعنى الاصطلاحي للبدعة إجمالا ً:

- ‌الفصل الثاني: مفهوم البدعة عند أهل السنة وأدلتهم

- ‌أهل الحديث والأثر:

- ‌أهل الجماعة:

- ‌الفرقة الناجية:

- ‌أتباع السلف:

- ‌الطائفة المنصورة:

- ‌الخلف العدول:

- ‌أصحاب السنن:

- ‌1- البدعة تكون في العبادات والمعاملات:

- ‌2- البدعة تكون في العقائد والأقوال والأعمال:

- ‌خامساً: البدعة هي ما ليس له أصل في الدين:

- ‌المراد بالأصل:

- ‌1- كتاب الله سبحانه وتعالى

- ‌2- سنة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3- الإجماع

- ‌4- قول الصحابي وفعله:

- ‌وهناك أنواع من المرفوع حكماً

- ‌1- قول الصحابي من السنة كذا:

- ‌2- قول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا:

- ‌3- قول الصحابي كنا نفعل كذا وكنا نقول كذا:

- ‌4- أن يحكم الصحابي على فعل من الأفعال بأنه طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو معصية:

- ‌5- إذا قال الصحابي قولاً يخالف القياس:

- ‌حجية قول الصحابي:

- ‌تنوعت مذاهب العلماء في هذه المسألة وانقسمت إلى خمسة مذاهب مشهورة:

- ‌المذهب الأول:

- ‌المذهب الثاني:

- ‌المذهب الثالث:

- ‌المذهب الرابع:

- ‌المذهب الخامس:

- ‌من أسباب الوقوع في الابتداع

- ‌2- الجهل بمقاصد الشريعة:

- ‌وهذه القاعدة الشرعية تصوغ لنا مقاصد شرعية أغفلها المبتدعة فضلوا وأضلوا، منها:

- ‌1- النظر إلى الشرع بعين الكمال لا بعين النقص:

- ‌2- الإيقان بأنه لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية، وبين أحدها مع الآخر:

- ‌3- الإيقان بأن لا تعارض بين العقل الصريح والنص الصحيح مطلقا ً:

- ‌3- عدم التسليم للنصوص الشرعية والانقياد لها:

- ‌أ. رد الأحاديث

- ‌ب. إتباع المتشابه من الأدلة

- ‌جـ. معارضة النصوص الشرعية بالأهواء فالصوفي بالكشف والذوق، والمتكلم بالرأي والمنطق والنظر والقياس الفاسد.. أو بما يسمونه قواعد قطعية ذوقية كانت أو عقلية

- ‌د. الاستدلال ببعض النصوص دون النظر في غيرها

- ‌هـ الاعتماد على الحكايات والرؤى والقياسات والأحاديث الواهية والضعيفة

- ‌4- إحداث قواعد ونظريات عقلية أو ذوقية أو سياسية يسير عليها المبتدع وينقاد لها:

- ‌5- اتباع العوائد والمشايخ:

- ‌6- سوء الفهم للقرآن والسنة: وعدم معرفة أقوال السلف:

- ‌بعض تعريفات البدعة

- ‌1- تعريف عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله تعالى

- ‌2- تعريف الزركشي رحمه الله

- ‌3- ابن الأثير

- ‌4- تعريف الجرجاني في كتاب التعريفات:

- ‌5- قول الغزالي في الإحياء:

- ‌6- تعريف محمد عبد الحي اللكنوي الهندي:

- ‌والمفاهيم الخاطئة للبدعة

- ‌1- قول ابن حجر الهيتمي

- ‌2- قول السيوطي في الحاوي:

- ‌3- قول ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري:

- ‌5- قول الشعراني في كتابه المسمى باليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، وهو مصنف لبيان وشرح اعتقاد محي الدين بن عربي:

- ‌6- قول القاضي أبي بكر بن العربي في شرحه للترمذي، عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإياكم ومحدثات الأمور)) :

- ‌7- قول يوسف السيد هاشم الرفاعي:

- ‌8- قول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي:

- ‌9- قول محمد علوي مالكي عند ذكره لحديث: (كل بدعة ضلالة) :

- ‌القسم الأول: شُبه الأدلة:

- ‌القسم الثاني من شبه الأدلة:

- ‌والعلماء الذين يحتج بأقوالهم المحسنُ للبدع على أقسام:

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌القسم الثالث:

الفصل: ‌الفترة الأولى: "فترة ما قبل ظهور البدع

‌المبحث الأول:

اللمحة التاريخية الموجزة لظهور البدع:

لم يكن ظهور البدع في دين الإسلام على شكل طفرة في زمن واحد وبشكل مفاجئ، وإنما كان ذلك في أزمنة مختلفة متباعدة، وبهيئات وكيفيات متنوعة، وفي أشخاص وثبات وجماعات متباينة.

وكلما ظهرت شمس النبوة في مكان أو زمان، أو شخص أو جماعة، اختفت حنادس البدع، وكلما حجبت أنوار الرسالة، بدت دياجير ظلام الهوى والابتداع، ولذلك فسوف أعرض لتاريخ البدع هنا بإيجاز، على حسب الفترات التاريخية، ذاكراً أهم البدع وأغلظها في كل فترة، لأجمع بين المنهجين اللذين ذكرهما شيخ الإسلام في ترتيب الناس لأهل الأهواء، إذ إن (

منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم، فيبدأ بالخوارج، ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه..) .

‌الفترة الأولى: "فترة ما قبل ظهور البدع

".

من بعثته صلى الله عليه وسلم حتى عام 35 هـ.

فيها بعث المصطفى عليه السلام فنشر الإسلام، وأقام على طريق الجنة المعالم بسيرته وسنته، وبه اقتدى ذلك الرهط الكريم.

وشعت أنوار النبوة، فزهق الباطل، وتراجع حزب الشيطان مذؤوماً مدحوراً، وأقيم صرح الملة الحنيفية، وتزلزل كيان الوثنية.

وتحرر الإنسان من ربقة العبوديات المتفرقة، ونجا من نيران الشهوات

ص: 88

والشبهات المحرقة، ليصبح عبداً للإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، ثم ليكون بعد ذلك في نور التوحيد معتصماً بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

وفي فترة حياة الرسول عليه السلام كان ينزل الوحي الكريم، فكان منه ري القلوب، وشبع العقول، وطمأنينة الأرواح، وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - يجدون فيه أمنهم وأمانهم، وإسلامهم وإيمانهم، فمنه كانوا ينهلون وعليه كانوا في أقوالهم وأعمالهم واعتقادهم يعتمدون.

استناروا بنوره فلم يضلوا، وتمسكوا بقوته فلم يذلوا، آمنوا بغيبه وعملوا بشرعه، فخافوا من وعيده واطمأنوا لوعده، حفظوه من بعد أن وعته قلوبهم، وفهمته عقولهم، وطبقته جوارحهم.

وكان الوحي الطريق الوحيد لاعتقادهم، والسبيل الفريد لأعمالهم، فلم تجرفهم الشبهات، ولم تلعب بهم الأهواء، فكانوا على هدى من الله وفي صراط مستقيم، قدوتهم نبيهم، يبلغهم عن ربهم، فيصل الأرض بالسماء ويربط الدنيا بالآخرة.. وبه كانوا يقتدون، وعلى سنته يسيرون، أفعاله وأقواله وأحواله عليه السلام محط أنظارهم، ومجال تنافسهم، وقرة أعينهم وبهجة أفئدتهم، فكانوا لذلك خير أمة أخرجت للناس، وكانوا خير القرون.. أهم ما يشغلهم تطبيق هذا الدين، واتباع الرسول الأمين، والحذر من مخالفته بالتقصير عنه، أو الاستدراك فيه، أو الإفراط بالغلو والتعمق والتنطع، أو التفريط بالتكاسل والتهاون، فكانوا بذلك أمة وسطاً وكانوا على عقيدة واحدة؛ لإدراكهم زمن الوحي، وحيازتهم شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وشدة تمسكهم بالمأثور، ونفورهم من الابتداع والافتراق، وإن كان قد حصل بينهم تنازع في مسائل الاجتهاد؛ فذلك لسعة هذا الباب، وارتفاع الملام عن كلا المتنازعين باجتهاد.

إلا أن الصحابة الكرام لم يتنازعوا في مسألة من قواعد هذا الدين أو كلية من كلياته، أو أصل من أصوله.

ص: 89

كما قال ابن القيم رحمه الله: (.. أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيماناً.. ولكن - بحمد الله - لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء، والصفات، والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلاً ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يدفعوها في صدورها، وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوا بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمراً واحداً، وأجروها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع، حيث جعلوها عضين، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها، من غير فرقان مبين..) .

هكذا كان عصر خيرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم: اتباع عن طواعية ومحبة، وبعد عن البدع والجدل والخصومات، والمشكلات والمشتبهات، وكل ما فيه مغبة، وانتصار للحق الذي يؤمنون به، ودعوة إلى الله وجهاد في سبيله.

وإن كان قد حدث بعض الميل عن هذا الخط العام، والصراط الواضح، فإنما كان ذلك من بعضهم - عليهم رضوان الله - وكان بمثابة قزعة صغيرة من السحاب، في ليلة بدر ساطعة، لاحت ثم راحت، وأطلت ثم اضمحلت، فمن ذلك ما أراده النفر الثلاثة - عليهم رضوان الله - حين سألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنهم استقلوها، فقال أحدهم: أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأخبرهم بالسنة، فانتهوا - عليهم الرضوان.

وحين تكلم بعض الصحابة في القدر، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك الصنيع فانتهوا، ومنعهم من هذا ومثله فامتنعوا.

ص: 90

ففي مسند الإمام أحمد، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:(أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج، فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان، فقال: "بهذا أمرتم، أو بهذا بعثتم، أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما ههنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا) .

وفيه بالسند نفسه أنه صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، هذا ينزع آية، وهذا ينزع بآية، فذكر الحديث.

وهذا الذي حدث بين بعض الصحابة - عليهم رضوان الله - شذوذ يؤكد القاعدة ولا ينفيها، وأمر عارض اقتضته الحكمة الإلهية، ليكون منه التأديب والتعليم، والتشريع إلى قيام الساعة.. ولذلك فإننا نرى أن الصحابة - عليهم رضوان الله - لما قامت فتنة القدرية، كانوا مصابيح الهداية في ظلمات الشبهات، التي علقت بأذهان بعض الناس.

وفي العهد النبوي بعد الهجرة، ظهرت بعض البذور الخبيثة لبعض البدع لكنها لم تكن ظاهرة على السطح، أو بارزة للعيان، ولم تكن قد اتخذت مساراً فكرياً أو عملياً واضحاً.. وإنما كانت بمثابة اعتراضات سطحية جانبية لم تشكل عمقاً، ولم تكن ذات بال، ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنها

ص: 91

بذرة لفرقة تخرج فيما بعد، لما التفت لها إلا كما التفت إلى اعتراضات المنافقين أو اليهود، وذلك أن نور النبوة الساطع كان هو الأعم الأغلب، ومثل هذه النتوءات الضئيلة ما كانت لتحجب ضوء الرسالة الصافي.

(والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده، بل أولهم خرج في حياته فذكرهم لقربهم من زمانه..) .

قال شيخ الإسلام في المعنى الذي قررناه آنفاً:

(ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف، فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية، والمتأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها، كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت أفضل، فالسنن ضد البدع، فكل ما قرب منه صلى الله عليه وسلم مثل سيرة أبي بكر وعمر كان أفضل مما تأخر كسيرة عثمان وعلي، والبدع بالضد كلما بعد عنه كان شراً مما قرب منه، وأقربها من زمن الخوارج فإن التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه، ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه) .

ويشير شيخ الإسلام بقوله: (إن التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه صلى الله عليه وسلم إلى قصة ذي الخويصرة المروية في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله:

ص: 92

اعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فمن يعدل إذا لم أعدل.."، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي فيه فأضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدهم إلى نصله، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل البضعة تدردر يخرجون على حين فرقة من الناس.. قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي ابن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت) .

وهذه البدعة التي فاح شيء من نتنها في عهد النبوة المبارك، لم تكن سوى ومضة تشبه ارتداد الطرف، في ضحاً أشرق بالسنا النبوي وأضاء بسراج الرسالة المحمدي، فلم يكن لها أن تطمس شيئاً من ذلك وأتي لها؟ بيد أن هذه البدعة كانت نواة بدع ضخام كبرى فيما بعد، ومن هذا الباب عد العلماء الفضلاء بدعة الخوارج أول البدع ظهوراً، وعدوها كذلك البدعة التي حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا تناقض بين قول هؤلاء وقول الذين قالوا بأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شيء من البدع والأهواء فإن كلا القولين صحيح من جهة، فأما قول الأولين فإنهم قصدوا أن جذور بدعة الخوارج وجدت منذ أن اعترض ذو الخويصرة على حكم الرسول عليه السلام، ودليلهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "

إن من ضئضيء هذا قوماً يقرأون القرآن ولا يجاوز

ص: 93

حناجرهم".

والضئضيء بالهمز: الأصل، والمراد يخرج من صلبه ونسله وهذا ما حدث في آخر العهد الراشد.

وبهذا الاعتبار عدت هذه أول بدعة في الإسلام حدثت في مدة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

لأن هذه معارضة للشرع بالهوى، ومعاندة للنص بالرأي الباطل، فمن هنا كانت أولى البدع.

وأما من قال بأنه لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم شيء من البدع، فينصرف إلى اعتبار ظهورها وتفشيها وانتشارها، وتجمع الناس حولها، وهذا لم يحدث في زمنه صلى الله عليه وسلم، وما كان ليحدث والوحي يتنزل والإسلام في زيادة، والنبي حي - عليه أفضل الصلاة والتسليم - وهو الناصح الأمين والمجاهد الجاهد في طمس كل ما لا يحبه الله.

وبدأو ببعض المخالفات التي قد تحسب في حساب البدع كقول الثلاثة، وتنازع بعض الصحابة في القدر، واعتراض ذي الخويصرة.. لا يشكل ظاهرة يشار إليها.. وإنما كان حدوث ذلك وفق حكمة الباري عز وجل ليكون بسببها التنبيه على خطورة البدع، والتحذير من شرها، وفي ذلك بلاغ وذكرى للمؤمنين.

وبعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام ظهرت الاعتراضات كالبذور، وظهر منها الشبهات كالزروع، ولكنها كانت في أغلبها اختلافات اجتهادية، خصوصاً ما حدث بين الصحابة - عليهم رضوان الله - وكان كل قصدهم إقامة مراسم الدين وفق مناهج الشرع القويم، وحفظ الملة من كل خطأ وزلة، فكان بينهم اختلافات اجتهادية، لم تصل إلى حد البدعة والفرقة، مثل ما حدث في مرضه عليه السلام -

ص: 94

في شأن الكتاب الذي طلب النبي صلى الله عليه وسلم كتابته، وما حصل بين ابن عباس وعمر رضي الله عنهما في ذلك، وما حصل كذلك عند وفاته عليه السلام، حينما اعتقد عمر أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت وإنما رفع إلى السماء.

وما حصل في موضع دفنه عليه السلام.

ثم ما حصل من خلاف في السقيفة بين المهاجرين والأنصار، في موضع الإمامة، ولكن الله سلم تلك الأمة المختارة من الفتنة في هذا الباب، الذي كان فيما بعد سبباً من أسباب الفتن، ومدخلاً من مداخل البدع، ثم ما حصل من اختلاف بين الصحابة في أمر فدك وفي إرث النبي صلى الله عليه وسلم ثم في قتال مانعي الزكاة وأشباه هذه المسائل التي لم تكن من البدع في شيء،

ص: 95

والحمد لله؛ بل كانت من الأمور الاجتهادية التي يؤجر فيها المصيب والمخطئ لكونها من مسائل الأحكام.

وهكذا كان عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه هو أقرب العهود إلى العهد النبوي المبارك، وكان من أهم ما حدث في هذا العهد قتال المرتدين، ولم يعتبر العلماء أهل الردة من المبتدعة لكونهم جحدوا بعض أركان الإسلام، وأعلنوا الخروج على الدين باتباعهم للكاذبين المدعين للنبوة، وتصريح بعضهم بالكفر والردة عن الإسلام.

وفي عهد الفاروق عمر رضي الله عنه حدثت حوادث مفردة وحيدة في عصر الخلافة التي هي على منهاج النبوة..

وكانت نادرة في زمان، السنة فيه هي الملتزم، والشرع هو المحترم، والوحي هو المقدم، وهذا ما حدث من (صبيغ بن عسل) الذي كان يطرح على الناس ما استشكل عليه من متشابه القرآن، فأخذه عمر وضربه، حتى زال ما كان يجد في رأسه من شبه) .

وبهذا تبددت نأمة هذه الشبهة وتلاشت نبتة هذه الفتنة، وهكذا مضى العهد العمري، فلما قُتل رضي الله عنه عام 24هـ انكسر الباب، ولكن

ص: 96