الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه الشبه على أقسام:
القسم الأول:
شُبه من الأدلة الشرعية، وهذه الأدلة التي يستدل بها هؤلاء على قسمين:
أ - حديث موضوع أو ضعيف.
ب - نص صحيح ولكن ليس فيه دلالة على ما ذهبوا إليه.
القسم الثاني:
شبه من كلام العلماء.
القسم الثالث:
شبه من جهة النظر والذوق والكلام ونحو ذلك.
بيد أنه يُلاحظ مما سبق نقله من تعريفات ومفاهيم خاطئة للبدعة، أنها تشترك في أمر واحد: وهو تحسين بعض البدع.
أو تقرير أنه يوجد في المصطلح الشرعي بدعة حسنة وأخرى سيئة، ومن أجل ذلك نرى أن الأدلة التي يستدل بها هؤلاء، تدور في هذه الدائرة نفسها، ولهذا فإن مناقشة الأدلة التي يستدل بها على حسن بعض البدع، ستكون منقسمة بين هذا الفصل، والفصل الخامس من الباب الثاني.
القسم الأول: شُبه الأدلة:
والأدلة التي يستدل بها من يقول بحسن شيء من البدع، ليس فيها ما يصح أن يكون دليلاً له، إما لأنها غير ثابتة لكونها وردت بسند واهٍ أو ضعيف، وإما لأن وجه الدلالة فيها ليس كما فهمه المستدل به. فمن القسم الأول:
1-
ما رواه الترمذي، وابن ماجه كل بسنده إلى كثير بن عبد الله بن
عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال ابن الحارث:" أعلم قال: ما أعلم يارسول الله؟ قال: اعلم يا بلال، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعةَ ضلالةٍ لا تُرضى الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً " وها لفض الترمذي.
استدل بهذا الحديث من استحسن بعض البدع، فقال: قوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتدع بدعةَ ضلالةٍ لا ترضي الله ورسوله " دليل على أن البدع لا تذم بإطلاق، بل يذم منها ما كان متصفاً بالضلالة أو مؤدياً إلى سخط الله ورسوله.. أما إذا كانت المحدثة ليست كذلك، فهي داخلة تحت وصف السنة الحسنة التي ينال صاحبها الأجر والثواب، لأن الإضافة الواردة في قوله:" من ابتدع بدعة ضلالةٍ" تفيد مفهوماً مخالفاً مؤداه: أن من ابتدع بدعة ليست بضلالة، فإنه موعود بالإثابة.
ولمناقشة هذه الشبه قبل الكلام عن سند هذا الحديث أقول: إن الحديث على افتراض صحة سنده، ليس فيه هذا المعنى الذي يقول به المبتدع، بل هو دليل عليه، لأنه ما من بدعةٍ إلا وهي ملازمة لوصف الضلال، بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:" كل بدعة ضلالة "
…
وما من بدعة إلا ويبغضها الله ورسوله، بدليل تحذيره صلى الله عليه
وسلم من كل محدثة "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة " فيكون الحديث على هذا المعنى دليلاً ضد المستدل به على حسن بعض البدع، أما الإضافة الواردة في الحديث فلا مفهوم لها، إلا كمفهوم الصِفَةِ في قوله تعالى:{لَا تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً} ، وذلك لأن، الضلالة صفة ملازمة للبدعة في كل حال.
ثم إن في هذا الحديث دليلاً على إبطال البدع، وذلك بالحض على إحياء سنة قد أميتت، فإنه وعد بالأجر لمن أحيا سنةً ميتةً، لا لمن يخترع شيئاً جديداً، ثم يطلق عليه سنة حسنة، لأن الذي ورد في الحديث، إحياء سنة ثابتة نُسيت أو تُركت، وليس فيه إحداث مالم يثبت، فدل هذا على أن المراد التحذير من الابتداع، لأنه في مقابل الاتباع، ولأنه ملازم للضلال في كل الأحوال.
هذا على افتراض صحة الحديث، فكيف وقد ثبت أنه (موضوع) وعلّته كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف المُزني، الذي عليه مدار الحديث (فقد سُئل عن أبو داود فقال: كان أحد الكذابين، وقال الشافعي عنه: ذاك أحد الكذابين أو أحد أركان الكذب، وقال ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب، وقال ابن عبد البر: مجمع على ضعفه) .
أما تحسين الترمذي لهذا الحديث، فمنقوض بأقوال أئمة الجرح والتعديل، الذين اتفقوا على جرحه، وقد بين الذهبي أن الترمذي لا يعتمد عليه في التصحيح، وذلك عند ترجمته لكثير بن عبد الله هذا. قال: (وأما الترمذي فروى من حديثه
الصلح جائز بين المسلمين وصححه، فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي)
2-
ومن الشُبه التي يتمسك بها المحسّن للبدع: قوله قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلبَ محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد، فوحد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء" وفي بعض الروايات زيادة: (وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر \رضي الله عنه .
وهذا الحديث الذي يستدل به المحسن للبدع، لم يرد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الخطيب في تاريخ بغداد (4/165) عن أنس بن مالك رضي الله عنه وفي سنده أبو داود النخعي وهو سليمان بن عمرو، وقد تفرد بروايته، كما قال الخطيب، وهو كذاب كما قال الذهبي في الميزان (2/216) ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: كان يضع الحديث، فالحديث موضوع، وقد ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/80 (وذَكَر تفرد النخعي، وكلام أحمد عنه
ثم قال: وهذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعود، أما الأسانيد الأخرى المذكورة فكلها جاءت به موقوفاً على ابن مسعود، وهذا ما جعل الزيلعي في نصب الراية يقول:(غريب مرفوعاً ولم أحده إلا موقوفاً على ابن مسعود) .
والغريب عند الزيلعي مصطلح منه لنفسه في الحديث الذي لم يجد له أصلاً.
وقال ابن القيم بعد أن أورد هذا الأثر (.. ليس من كلام رسول الله وإنما يضيفه إلى كلام من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود) وإليك دراسة موجزة لهذه الأسانيد:
الطريق الأول:
بسند الإمام أحمد في مسنده، وفي فضائل الصحابة، والحاكم في مستدركه وفيه أبو بكر بن عياش، ثقة عابد تغير حفظه بعد ما كبر.
قال الذهبي في الميزان: (صدوق ثبت، في القراءة لكنه في الحديث يغلط ويهم) .
وفيه عاصم بن بهدلة، قال في الميزان:(ثبت في القراءة وهو في الحديث دون الثبت، صدوق بهم) .
وفي التقريب: (صدوق له أوهام) .
وبذلك أصبح هذا الأثر حسن الإسناد.
قال عنه الهيثمي في المجمع (رواه أحمد، والبزار، والطبراني، ورجاله موثقون) .
وبهذا يظهر أن سند البزار والطبراني، متفق مع سند الإمام أحمد. قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على المسند:(إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن مسعود) . قال الساعاتي في الفتح الرباني مثل ذلك.
وقد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه، من طريق الإمام أحمد، وقال عنه (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) .
الطريق الثاني:
بسند أبي داود الطيالسي في مسنده أخرجه البيهقي في الاعتقاد عن طريق الطيالسي.
وأبو نعيم في كتاب الإمامة عن طريق الطيالسي أيضاً والخطيب في الفقيه والمتفقه.
ورواه أيضاً أبو نعيم في الحلية، والطبراني في معجمه، عن طريق أبي داود، الطيالسي كما ذكر الزيلعي.
وهذا السند يجتمع في الرواية عن المسعودي، عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود وهو سند ضعيف، علته المسعودي وهو: عبد الرحمن
ابن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، قال في التقريب:(صدوق اختلط قبل موته)، وفي الميزان:(سيء الحفظ) وفي نصب الراية: (المسعودي ضعيف)، قال ابن الكيال في الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات:
(وقد روى عنه أبو داود الطيالسي بعد اختلاطه، وكذلك عاصم ابن علي) .
وروى هذا الأثر عن المسعودي الإمام الطيالسي وعاصم بن علي، وكلاهما رويا عنه بعد اختلاطه، وروى عنه عبد الله بن يزيد المقري بسند رجاله ثقات كما عند أبن حزم في الإحكام ولم يُذكر في كتب التراجم، هل روى عبد الله ابن يزيد عن المسعودي قبل الاختلاط أم بعده؟ .
الطريق الثالث:
بسند الخطيب في الفقيه والمتفقه والبيهقي في المدخل، كما ذكر ذلك الزيلعي.
ورجال هذا السند ثقات، ما خلال صالح بن محمد الأزاذواري لم أجد في
الكتب التي بين يديّ له ترجمة.
وأحمد بن إسحاق بن بنجاب الطيبي قال عنه الخطيب في تاريخ بغداد (لم أسمع فيه إلا خيراً) .
ومما سبق يتضح أن هذا الأثر الذي يستدل به محسّن البدع، لا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام ابن مسعود رضي الله عنه هذا من جهة السند، وقد يبقى فيه شائبةُ احتجاج عند من يترك المحكمات من النصوص، ويتعلق بما اشتبه ليبرر بذلك ما أملاه عليه نظره وهواه فيقول: هذا من كلام صحابي جليل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ عنه، أو يقول: هذا الكلام من قبيل المرفوع حكماً، لكونه مما لا يُدرك بالعقل. ولمناقشة هذه الشبه لابد من وقفات:
الوقفة الأولى:
المتأمل للآثار الواردة على الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى أنه من أشد الناس على البدع وأهلها، صغيرها وكبيرها كقوله رضي الله عنه (اقتصادٌ في سنةٍ خيٌ من اجتهاد في بدعة) وقوله:(أيها الناس إنكم ستحدثون ويُحْدَثُ لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول) . وقوله (اتبعوا آثارنا فقد كُفيتم) . وقوله: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم كل ضلالة) وقوله: (عليكم بالعلم، وإياكم والتبدّع والتنطّع والتعمّق،
وعليكم بالعتيق) وهو الذي أنكر على المجمعين في مسجد الكوفة ذكرهم لله بصورة جماعية، وقال لهم: (لقد فَضُلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علماً،
أو لقد جئتم ببدعة ظلماً إلى أن قال والذي نفسي بيده لئن أخذتم آثار القوم ليسبقنكم سبقاً بعيداً ولئن حرتُم يميناً وشمالاً لتضلُنَّ ضلالاً بعيداً) .
وهو الذي حَصَبَ الذين اجتمعوا على الذكر بالحصا في مسجد الكوفة، حتى أخرجهم منه وهو يقول:(لقد أحدثتم بدعةً ظلماً، أو قد فَضُلْتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علماً) .
والآثار الواردة عنه في ذم البدع والتحذير منها كثيرة، فهل يُعقل أن يقال بعد ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه يقول بحسن بعض البدع، أو بجواز إحداث شيء يُتقرب به إلى الله، لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثانية:
القول بأن مراد ابن مسعود بقوله هذا، مشروعية أو إباحة شيء من البدع التي يستحسنها لاناس، أتّهام لهذا الصحابي في دينه، فهل يصح أن يقول أحد من عامة المسلمين، أن ما رآه المسلمون حسناً، فإنه يجوز أن يتعبد الله به لأنه عند الله حسن؟ فضلاً عن صحابي عُرف عنه الحرص الشديد في الدعوة، إلى الاعتصام بالسنة ونبذ سائر البدع.
الوقفة الثالثة:
الزعم بأن المراد بهذا الأثر، جواز إتباع ما استحسنه المجتهد أو العالم أو العابد، تعدٍ على مقام الإلوهية، كما قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ
مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} قال الطبري رحمه الله في تفسير هذا الآية يقول:
(ابتدعوا له من الدين، ما لم يُبح الله لهم ابتداعه) ، (وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله، أن يقول بلا استدلال
…
ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يُحدثه لا على مثال سبق) .
وهذا الذي يزعمه محسن البدع ويستدل عليه بشبه لا تنهض لتقرير مسألة من مسائل الفروع، يعارض النصوص الكثيرة في الإلزام بالاعتصام بالكتاب والسنة، والنهي عن إحداث شيء لم يأذن به الشرع الحنيف، وقولُ أو فعلُ المجتهد في العبادة أو العلم لا يكون دليلاً، وكذلك محتاج إلى دليل، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله، أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهةُ العلم بعدُ: الكتابُ والسنةُ والإجماع ُ والآثار
…
) .
الوقفة الرابعة:
أن العلماء استشهدوا بهذا الأثر في غير ما استدل به محسنو البدع، وعلموا من لفظه ومعناه، غير ما اشتبه على هؤلاء وهذه الاستدلالات، تدور حول عدة معان:
الأول: أن هذا الأثر جاء في فضل الصحابة رضوان الله عليهم، وعلو منزلتهم، وارتفاع مكانتهم، يدلُّ على هذا المعنى: ما جاء في الأثر من تصريح بفضلهم.. ويدل عليه الجزء الذي يستدل به المبتدع وهو قوله:
(وما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن
…
) ولذلاك وضعه الحاكم في مستدركه في كتاب معرفة الصحابة ولم يرو إلا هذا الجزء من الأثر، وكذلك فعل
البيهقي في كتاب الاعتقاد، إذ أدخله في باب القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك صنع الساعاتي في تريبه لمسند الإمام أحمد، حيث جعل هذا الأثر في كتاب المناقب، باب ذكر مناقبهم على الإجمالي، وقد سبقهم في هذا التصنيف الإمام أحمد، في كتابه فضائل الصحابة، وبما يشبه هذا التصنيف، كان صنيع الحافظ أبي نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة واستدل به ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى:{اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} .
الثاني: هذا الأثر يجيء في أدلة صحة خلافة الصديق رضي الله عنه، وقد استدل به غير واحد، فمنهم على سبيل المثال صاحب الرياض النضرة في مناقب العشرة، بعد أن أورده بالزيادة الواردة في المستدرك وغيره وهي:
(وقد رأي الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه قال: (وهذا من أقوى الأدلة على صحة خلافته رضي الله عنه فإن الإجماع قطعي) وكذلك ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال بعد إيراده للأثر من مسند أحمد: (وهذا الأثر فيه حكاية إجماع الصحابة في تقديم الصديق) .
وقد جمع بين هذا المعنى والذي قبله، شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث استدل بهذا الأثر في منهاج السنة على فضل الصحابة جميعاً، وعلى فضل أبي بكر على
وجه الخصوص، في سيقا رده على الرافضي، الذي زعم أن الذين بايعوا الصديق، إنما كانوا أصحاب جهل وطلب للدنيا، أخزاه الله ورضي الله، عن جميع صحابة نبيه.
الثالث: يجيء الاستدلال بهذا الأثر، عند أهل العلم في باب الإجماع عند ذكر حجيته، وممن استدل به ابن قدامه في الروضة وأبو الخطاب الكلوذاني
في التمهيد والخطيب في الفقيه والمتفقه وابن القيم في إعلام الموقعين
وفي الفروسية.
الرابع: مما سبق يتبين أن المراد بقوله: (ما رآه المسلمون
…
) الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بدليل سياق الأثر: (ثم ينظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن
…
) .
ويؤيد أن المقصود بالمسلمين في الأثر الصحابة، ما سبق نقله والإشارة إليه من أقوال العلماء، حيث دلت في مجموعها على هذا المعنى، وبذلك لا يبقى لمحتج بهذا الأثر على استحسان بعض البدع أي مستمسك، فإن لم يكن ظاهر اللفظ متضحاً لصاحب الشبهة، فإنه يتوجه إلى الإجماع، كما قال الإمام الشاطبي
رحمه الله في الرد على من استدل بهذا الأثر:
(إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، والأمة لا تجتمع على باطل، فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعاً، لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً، الحديث دليل عليكم لا لكم - إلى أن قال- إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم، فيلزم استحسان العوام، وهو باطل بإجماع) وقال الحافظ أبو محمد بن حزم الظاهري رحمه الله:
(واحتجوا في الاستحسان بقولٍ يجري على ألسنتهم وهو: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) ، وهذا لا نعلمه بسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلاً، وأما الذي لا شك فيه فإنه لايوجد البتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه عن ابن مسعود ثم ذكر سنده إلى أبن مسعود وأورد الأثر ثم قال: وهذا لو أتى من وجه صحيح لما كان لهم فيه متعلق، لأنه إنما يكون إثبات إجماع المسلمين فقط، لأنه لم يقل ما رآه بعض المسلمين حسناً فهو حسن
…
) .
وقد سبق الإلماح إلى استدلال العلماء بهذا الأثر في باب الإجماع، وهنا جاء أن المراد من الأثر كما يدل سياقه، صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تنافي بين ذلك، ولا حجة فيه على تحسين أية بدعةٍ، بل على العكس من ذلك، فأما إجماع الأمة فإنه لا يمكن أن يكون على خلاف دليل صحيح صريح غير منسوخ كقوله صلى الله عليه وسلم:" وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ".
ولأجل ذلك تقرر عند علماء الإسلام، أن إجماع الأمة حق فلا تجتمع على ضلالة، فإذا كان الأمر كذلك، والنص بأن " كل بدعة ضلالة " أصبح
الدليل الذي يستدل به المحسن للبدع ضده.
وأما على أن المراد إجماع الصحابة، فإن الأثر ينقلب على المستدل به على حسن البدع، ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذم كل البدع صغيرها وكبيرها، وحذروا منها، ونهوا عن مجالسة أصحابها، بل وحذروا من كل ذريعة تؤدي إلى البدعة، ولم يُنقل عن أحد منهم التوقف في شأن بدعة محدثة في دين الله، بل كان موقفهم كما تشهد بذلك سيرتهم: اعتقادُ أن كل المحدثات ضلال وانحراف عن سواء الصراط، فإذا كان هذا هو حالهم، فهو إجماع منهم على قبح سائر البدع، وحسن محاربتهم وأهلها، وهنا يأتي، مكان الاستدلال بقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح
…
) .
وقد رأى جميع الصحابة أن الاعتصام بالسنة أمر حسن محمود، وأن ترك البدع والتحذير منها أمر لازم ممدوح، وأن إحداث شيء من البدع سيء وقبيح.