الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعديل الطرق ورصفها لأن أزقة دمشق لكلّ واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون ويمر الرّكبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير،
حكاية [المملوك الصّغير والصحفة]
مررت يوما ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكا صغيرا قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصّيني وهم يسمونها الصحن، فتكسرت واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم:
اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال فإن سيد الغلام لا بدّ له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره، وهو أيضا ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك فكان هذا الوقف جبرا للقلوب، جزى الله خيرا من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا.
وأهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد، وهم يحسنون الظن بالمغاربة ويطمئنون اليهم بالأموال والأهلين والأولاد «291» ، وكلّ من انقطع بجهة من جهات دمشق لا بد أن يتأتى له وجه من المعاش من إمامة مسجد أو قراءة بمدرسة أو ملازمة مسجد يجيء إليه فيه رزقه، أو قراءة القرآن أو خدمة مشهد من المشاهد المباركة أو يكون لجملة الصوفية بالخوانق تجرى له النفقة والكسوة، فمن كان بها غريبا على خير لم يزل مصونا عن بذل وجهه محفوظا عما يزري بالمروّة، ومن كان من أهل المهنة والخدمة فله أسباب أخرى من حراسة بستان أو أمانة طاحونة أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح، ومن أراد طلب العلم أو التفرغ للعبادة وجد الاعانة التّامة على ذلك.
ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة، فمن كان من الأمراء والقضاة والكبراء فإنه يدعو أصحابه والفقراء يفطرون عنده، ومن كان من التجار وكبار السوقة صنع مثل ذلك، ومن كان من الضعفاء والبادية فإنهم يجتمعون كلّ ليلة في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كل أحد بما عنده فيفطرون جميعا.
ولما وردت دمشق وقعت بيني وبين نور الدين السخاوي مدرس المالكية صحبة فرغب منى أن أفطر عنده في ليالي رمضان فحضرت عنده أربع ليال، ثم أصابتني الحمى فغبت عنه فبعث في طلبي فإعتذرت بالمرض فلم يسعنى عذرا فرجعت إليه وبتّ عنده، فلما أردت الانصراف بالغد منعني من ذلك وقال لي: احسب داري كأنها دارك أو دار أبيك أو أخيك، وأمر بإحضار طبيب وأن يصنع لي بداره كل ما يشتهيه الطبيب من دواء أو غداء، وأقمت كذلك عنده إلى يوم العيد، وحضرت المصلى «292» وشفاني الله تعالى مما أصابني، وقد كان ما عندي من النفقة نفد، فعلم بذلك فإكترى لي جمالا وأعطاني الزاد وسواه، وزادني دراهم وقال لي: تكون لما عسى أن يعن لك من أمر مهم، جزاه الله خيرا. وكان بدمشق فاضل من كتاب الملك الناصر يسمى عماد الدين القيصراني «293» من عادته أنه متى سمع أن مغربيّا وصل إلى دمشق بحث عنه وأضافه وأحسن إليه، فإن عرف منه الدين والفضل أمره بملازمته، وكان يلازمه منهم جماعة، وعلى هذه الطريقة أيضا كاتب السر الفاضل علاء الدين بن غانم «294» وجماعة غيره.
وكان بها فاضل من كبرائها وهو الصاحب عزّ الدين القلانسي «295» ، له مآثر ومكارم وفضائل وإيثار، وهو ذو مال عريض، وذكروا أن الملك الناصر لما قدم دمشق أضافه وجميع أهل دولته ومماليكه وخواصّه ثلاثة أيام فسمّاه اذ ذاك بالصّاحب.
ومما يؤثر من فضائلهم أن أحد ملوكهم السالفين لما نزل به الموت أوصى أن يدفن
بقبلة الجامع المكرّم ويخفى قبره وعين أوقافا عظيمة لقراء يقرءون سبعا من القرآن الكريم في كلّ يوم إثر صلاة الصبح بالجهة الشرقية من مقصورة الصحابة رضي الله عنهم حيث قبره، فصارت قراءة القرآن على قبره لا تنقطع أبدا، وبقى ذلك الرسم الجميل بعده مخلدا.
ومن عادة أهل دمشق وسائر تلك البلاد أنهم يخرجون بعد صلاة العصر من يوم عرفة فيقفون بصحون المساجد كبيت المقدس وجامع بني أمية وسواها ويقف بهم أئمتهم كاشفي رؤوسهم، داعين خاضعين خاشعين ملتمسين البركة ويتوخّون الساعة التي يقف فيها وفد الله تعالى وحجاج بيته بعرفات، ولا يزالون في خضوع ودعاء وابتهال وتوسل إلى الله تعالى بحجاج بيته إلى أن تغيب الشمس فينفرون كما ينفر الحاج باكين على ما حرموه من ذلك الموقف الشريف بعرفات داعين إلى الله تعالى أن يوصلهم اليها ولا يخليهم من بركة القبول فيما فعلوه.
ولهم أيضا في إتباع الجنائز رتبة عجيبة، وذلك أنهم يمشون أمام الجنازة والقرّاء يقرءون القرآن بالأصوات الحسنة والتلاحين المبكية التي تكاد النفوس تطير لها رقة، وهم يصلون على الجنائز بالمسجد الجامع قبالة المقصورة، فإن كان الميت من أيمة الجامع أو مؤذنيه أو خدامه أدخلوه بالقراءة إلى موضع الصلاة عليه، وإن كان من سواهم قطعوا القراءة عند باب المسجد ودخلوا بالجنازة، وبعضهم يجتمع له بالبلاط الغربي من الصحن بمقربة من باب البريد فيجلسون وأمامهم ربعات القرآن يقرءون فيها، ويرفعون أصواتهم بالنداء لكل من يصل للعزاء من كبار البلدة وأعيانها، ويقولون: بسم الله فلان الدّين من كمال وجمال وشمس وبدر وغير ذلك، فإذا أتموا القراءة قام المؤذنون فيقولون: افتكروا واعتبروا، صلاتكم على فلان الرجل الصالح العالم، ويصفونه بصفات من الخير ثم يصلّون عليه ويذهبون به إلى مدفنه.
ولاهل الهند رتبة عجيبة في الجنائز ايضا زائدة على ذلك وهي أنهم يجتمعون بروضة الميت صبيحة الثلاث من دفنه وتفرش الروضة بالثياب الرفيعة، ويكسى القبر بالكسى الفاخرة وتوضع حوله الرياحين من الورد والنّسرين والياسمين، وذلك النوار لا ينقطع عندهم، ويأتون بأشجار الليمون والأترج ويجعلون فيها حبوبها إن لم تكن فيها، ويجعل صيوان يظلّل الناس نحوه، ويأتي القضاة والأمراء ومن يماثلهم فيقعدون، ويقابلهم القراء، ويؤتى بالربعات الكرام فيأخذ كل واحد منهم جزء فإذا تمت القراءة من القراء بالأصوات الحسان يدعو القاضي ويقوم قائما ويخطب خطبة معدة لذلك، ويذكر فيها الميت ويرثيه بأبيات شعر، ويذكر أقاربه