الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكان رحلة ابن بطّوطة من أدب الرحلات
يلاحظ في المؤلفات العربية على العموم، وخاصة منها التي تتصل بالأدب العربي، غياب الحديث عن الذين يكتبون تلك التأليف، عن شخصيتهم، عن أفكارهم، عن أحاسيسهم، بحيث إنك تقرأ الكتاب من ألفه إلى يائه دون ما أن تجد أثرا يعرّفك بمحرّر الكتاب أو بعصر تأليفه أو حتى بظروف تأليفه وما يجري من حواليه.
وقد استثنى من كل هذه المؤلفات جميعا كتاب الرحلة أية رحلة، الذي يمتاز كما هو معلوم بمعرفة المزيد من المعلومات عن المؤلف وهو يتحدث عن مراحل تنقلاته وعن مشاعره، مما يرتضيه ولا يرتضبه، هذا إلى تعرفنا على الجهات التي يمرّ بها جغرافيا وبشريا وفكريا، فنشعر بنوع من التجديد في الفائدة، بنوع من تمكن الكاتب من التعبير عمّا يريد أن يؤديه، بأسلوبه الذي يتغلب به على كلّ الصّعاب، والذي يجعله مهيمنا على إبلاغ الناس ما يريد إبلاغه من وصف للطبيعة وتقديم للظواهر التي تحف بمحيطه والبيئة التي يعيشها
…
وهكذا فإن الكتاب الذين حرروا مذكراتهم التي نطلق عليها اليوم اسم (الرحلات) يمثلون في واقع الأمر جانبا إبداعيا في أدبنا العربي، ومن هنا نحسّ تلقائيا بميل نفوسنا إلى هذا النّوع من الكتابة المحببة لأن ذلك مما يعبر عما يروج في فكر الكاتب دون ما تصنّع أو انفعال، ولأنه يجعلنا نرافقه في رحلته، نشعر بمثل الشعور الذي كان يعيشه سواء كان ذلك الكاتب فقيها أو شاعرا أو مؤرخا أو عالم اجتماع
…
وقد عرف المغاربة من قديم بأنهم متفوّقون في أدب الرحلة وموفقون كذلك
…
يدل على هذا ما تركوه من بصمات لهم في مختلف كتب التراث العربي «1» .
وترجع أسباب اهتمام المغاربة بالرحلة والكتابة عن تحركاتهم وخاصة في العهد الإسلامي: أولا وبالذات، إلى أن الإسلام يجعل من الحج ركنا بارزا من أركانه، فالمسلم وهو يفكر في الثوابت التي تجعل منه مسلما مثاليا- تنتصب أمام مخيلته الكعبة المشرفة سواء أكان في شرقها أو غربها، خمس مرات في اليوم على الأقل يتجه إليها في صلاته وفي توسلاته
…
وهكذا يكون العامل الأول هو تحقيق الأمل في زيارة تلك البقاع التي تشدّنا اليها شدّا
…
، ومن هنا ندرك السرّ في توجه المغربي نحو الشرق، نحو مهد الحضارة ومهبط الوحي، ومن ثمت كان بعض من يقصد البلاد الحجازية من الفقهاء والعلماء والأدباء لأداء
فريضة الحج يشعر بأن عليه دينا يجب أن يؤديه لإخوته من الذين لم تسمح لهم ظروفهم بالالتحاق بتلك الديار والذين كانوا يقنعون بوصف تلك المعالم وما تحتضنه من عوالم.
وهذا الدّين يتجلّى في تحرير التعريف بتلك البقاع وبمن تضمّهم تلك البقاع من رجال، احياء وأموات، طبعا مع وصف المراحل التي مرّ بها الحاج من مدينته التي انتقل منها إلى حيث يجتمع بإخوته من سائر جهات العالم الإسلامي، محرما ملبيا إلى أن يقف على عرفة.
وذلك" التعريف" هو الذي نسميه بالرحلة التي يتحدث فيها الرّحالة عن محطاته المتبعة سواء كانت برّا أو كانت بحرا، مضيفا إلى هذا حديثه، كما قلنا، عما يعترضه في طريقه من مشاهدات
…
، ومعرّفا بالآثار التي خلّفها الأسلاف، ومعطيا نبذة عن المواقع الجغرافية التي يسلكها بما تحتوي عليه من نعوت وأوصاف. وهكذا ازدهرت، نتيجة لهذا، حركة انتساخ المخطوطات، وخاصة منها كتب الرحلة لدى الحجاج يستصحبونها معهم للاستئناس وللقيام أحيانا بالمقارنات والمفارقات
…
ويلاحظ أن تاريخ المغرب وخاصة في القرن الخامس والسادس والسابع والثامن عرف نوعا من تطور مثل هذه الرحلات الحجازية بفضل تشجيع الناس بمن فيهم القادة والحكّام لتوفير هذا النوع من المعرفة للمواطنين. ولم يقلّل من شأن الرحلة الحجازية إلّا ما ظهر من ميل لتفضيل الجهاد على الحج في اعقاب العدوان المتوالي على المسلمين في الأندلس، وذلك اعتمادا على فتوى لابن رشد ردّد صداها النّاصري في كتابه" الاستقصاء" وهي تعطي الأسبقية للجهاد على الحج «2» .
وهكذا تكوّنت لدينا لائحة لهؤلاء الأعلام الذين قصدوا الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، فيهم الكثير ممن لم تصلنا أثارهم إلى اليوم لكن فيهم طائفة ممّن اشتهر ذكرهم بما خلّفوه من أعمال جليلة خلدت أسماءهم.
ونذكر من هؤلاء الرحالة أبا الحسن محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي (578 هـ) الذي سار بالرحلة خطوات واسعة، كما نذكر ابن رشيد الفهري السبتي (683 هـ) ، صاحب كتاب «ملء العيبة «3» » ومحمد العبدري الحيحى صاحب الرحلة المغربية (688 هـ)«4» كما
نذكر رحلة أبي القاسم التجيبى (695 هـ) صاحب مستفاد الرحلة والاغتراب «5» ، وابن بطوطة (725 هـ) موضوع الحديث، وخالد بن عيسى البلوى (736 هـ) صاحب (تاج المفرق)«6» ، وابن الحاج النّميري صاحب (فيض العباب)(774 هـ) الذي سجلت له رحلة أيضا إلى الحجاز في مجلدة «7» ، ومحمد بن سعيد الرعينى (778 هـ) صاحب الرحلة الحجازية المنظومة «8» .
وعلاوة على السبب المتلخص في أداء فريضة الحج، هناك الرحلة الدراسية: أي طلب العلم ولقاء المشايخ الكبار حيث نجد أن المكتبة العربية تزخر كذلك بمن الّفوا عمن أخذوا عنهم في رحلتهم الدراسية من الشيوخ. وعما حصلوا عليه من إجازات تأذن لهم في تلقين ما حصلوا عليه للآخرين
…
ونذكر إلى جانب هذا: الرحلات العلمية وهي غير الرحلات الدراسية. ويمكن أن نصنّف في هذا الباب بعض الرحلات التي كانت تقصد إلى حمل كتاب علمي من جهة إلى جهة قصد تعميم الفائدة منه. واذكر هنا على سبيل المثال الرحلة التي قام بها هشام بن هذيل مكلفا من قبل الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر من أجل طلب المساعدة على ترجمة مخطوطة ديوسقوريدس المكتوبة باللغة اليونانية والتي كان الإمبراطور البيزنطي أهداها إلى الخليفة الناصر عام 337 هـ في حفل مشهود تحدثت عنه المصادر التاريخية والمؤلفات الطبية. وقد استجاب الامبراطور البيزنطي لرسالة الخليفة الناصر فبعث اليه بالراهب نيقولا الذي وصل إلى قرطبة عام أربعين وثلاثمائة «9» .
ومن أسباب الرحلة كذلك المهمّات السياسية التي يروح فيها علية القوم من علماء وأدباء بما كان قد يصحبهم من مرافقين ومساعدين.
وقد حفظ التاريخ لنا اسماء عدد من السّفراء الذين كانوا يدونون رحلاتهم في كراريس يرفعونها في أغلب الأحيان إلى الملوك. ونتيجة لذلك زخرت المكتبة المغربية أكثر من غيرها بعدد من الرحلات السّفارية التي أثرت الأدب المغربي علاوة على ما قدمته من معلومات جدّ قيمة عن البلاد التي زارها أولئك السفراء وعن الأحوال الدولية على ذلك العهد وعن التطورات التي تمرّ بها الأمم
…
وهكذا ظلت اخبار سفارة يحيى بن حكم الغزال (ت 250 هـ) التي راحت إلى بيزنطة ردّا على سفارة ثيوفيلوس (Theophilus) إلى الأندلس في اعقاب فتح عمّورية. وقد لخص أخبارها ابن دحية (ت 633 هـ) السبتي في كتابه" المطرب من اشعار المغرب"«10» ، أقول ظلت حديث المجالس الأدبية والسياسية بما تضمنته من طريف نكتة وجميل ظرف، وبخاصة فيما يتعلق بحديث السفير الأندلسي إلى ثيودورا زوجة إمبراطور القسطنطينية
…
وتعتبر رحلة يحيى الغزال أقدم من الرحلات التي قام بها أيام الدولة العباسية أحمد ابن فضلان إلى بلاد الخزر والروس، وأبو دلف إلى إيران والهند والصين في النصف الأول من القرن الرابع
…
وناصر خسرو علوي إلى الدّيار الحجازية بين عام 437 و 444
…
وبين أيدينا خروم من رحلة القاضي أبي بكر ابن العربي الأشبيلي صحبة أبيه عبد الله عام 489- 1097 إلى مدينة السلام، وقد بقيت هذه الرحلة حديث المجالس كذلك بما تضمنته من" مكتوب الخليفة المنقول في أيدي الناس" على حدّ تعتبر ابن خلدون «11» .
وإلى جانب الرحلات الحجازية والدراسية والعلمية والسّفارية نعيش مع نوع آخر من أنواع الرحلة وهي تلك الرحلات السياحية، التي تكون غاية واضعها من سفره مجرد السياحة والوقوف على الآفاق وعجائب المخلوقات والتعرف على أخلاق الشعوب وعوائدها.
وهذا النوع أيضا مما تزخر به المكتبة المغربية. ونذكر في صدر ما وصلنا من هذا الصّنف.
في النّصف الثاني من القرن السادس الهجري كتاب (تحفة الألباب) تاليف أبي حامد الأندلسي الغرناطي الذي يقول في مقدمتها:" ومنذ اغتربت عن المغرب الأقصى عام 557 شاهدت من الأيمة الكرام مالا يعدّ ولا يحصى، وأولاني الله عز وجل على ايديهم من أنواع النعم مالا يقدر على إحصائها إنسان".
وأبو حامد هذا هو الذي أشاد بمعاملة أهل الصين للتجار من المسلمين، وتمنى أن يقتدي ملوك المسلمين بمثل هذا السلوك
…
!! والطريف أن أبا حامد وصل بهذا إلى فهم ذكي للحديث النبوي الذي يقول: (الدّنيا سجن المؤمن) . فلقد أدرك أنّ معنى ذلك أن دنيا المسلم خالية في بعض الأحيان من العدل والاحسان! «12» " وهناك نوع من الرّحلات يمكن أن يطلق عليه اسم الرحلات الاستكشافية وهي غير الرحلة التي تكون أصلا لغرض السياحة وهي التي يقوم بها اصحابها من أجل اكتشاف بلاد جديدة والاطلاع على أحوالها.
ويمكن أن ندرج في هذا النوع من الرّحلات ما قام به أحد عمالقة الأدب الجغرافي في تاريخ الاسلام، ويتعلق الأمر بالشريف الإدريسي السبتي الذي قدم إلينا «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» هذا الكتاب الذي يعتبر معلمة من المعالم التي يعتزّ بها العالم الإسلامي على الصعيد الدولي. فهو أي الإدريسي، ولو أنه لا يتعرض كثيرا للوقائع التي حدثت له أثناء أسفاره ولا يتعرض غالبا لشيء من أحواله الشخصيّة، لكنّ تاليفه ذو صلة قوية بموضوع الرحلات باعتباره يخطط المراحل للجوّالين والمسافرين، وباعتباره مصدرا اعتمد على الرحلات السابقة لغيره. «13»
ونذكر إلى جانب هذا، الرحلات الزيارية أي التي يقوم بها بعض بقصد زيارة أضرحة الأنبياء والصحابة ورجال الصّلاح. ولا شك أن هذا النوع من الرحلات يعتبر من أهم المصادر عن تاريخ الحياة الدينية والحركة الصوفية. وهذا يفيدنا في نفس الوقت من حيث الفنّ المعماري الخاصّ ببناء المساجد والمزارات والمشاهد.
ومن منّا ينكر فائدة كتاب" الإشارات إلى معرفة الزيارات". لأبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي وهو كتاب لا تستغني عنه مكتبة «14»
…
وقد أثار انتباهنا ونحن نقرأ عن تاريخ انتشار الإسلام في بلاد آسيا وفي تخوم إفريقيا الحديث عن نوع من الرحلة كان له الأثر الأكبر في دخول الإسلام في تلك المناطق النائية، لا عن طريق السيف ولا عن طريق الإكراه، ولكن عن طريق إعطاء المثل الحسن ونشر الفضيلة وتقديم القدوة. وكان الذين قاموا بمثل هذا العمل المتئد الرصين والحكيم هم
الذين كانوا يقومون بالرحلات التجارية إلى تلك الأصقاع. كلّ الذين أشادوا في الماضي والحاضر بظهور الإسلام هناك كانوا يقفون مشدوهين امام الأثر الحميد الذي خلفته الرحلة التجارية في نفوس أولئك الذين اقبلوا على الإسلام بكل ما يملكونه من حب.
وقد ذهب بعض المهتمين بأمر الرحلة إلى أبعد من هذا في استيعاب انواع الرحلة فتحدثوا عن الرحلة البرّية والبحرية، والخارجية والداخلية، والاختيارية والقسرية، والفردية والجماعية، والرحلة الخيالية والرحلة التي تتخد شكل المراسلات أو تهدف إلى إبرام المعاهدات «15» .
لكننا سنقف هنا لنترك الفرصة للحديث عن نوع أكثر شمولا وأوفر فضاء من كل تلك الأنواع التي تقدمت للرحلة
…
ذاك ما نعطيه اسم الرحلة العامة
…
ونقصد بها الرحلات التي جمعت الكثير من كل تلك الأغراض، ونذكر على الخصوص رحلة ابن بطوطة، فقد غادر بلدته طنجة في بداية الأمر عام 725 بقصد الحج. لكن بسبب تعذر الحج تلك السنة لما صادفه من اضطرابات بين البجاة والمماليك على ساحل البحر الأحمر اضطر للإنتظار سنة كاملة لحضور موسم الحج عام 726. وهنا أثناء هذا الفراغ نمت فيه الرغبة للقيام بحضور مجالس للدراسة، وفي التزوّج مرة أخرى! وفي القيام كذلك بزيارات سياحية على جانب كبير من الأهمية، وفي القيام برحلات داخل الرحلة. ولم يلبث أن عبر الدنيا وارتاد الأماكن البعيدة. وينبغي أن نقوم بجولة سريعة في المحطات التي مرّ بها لنجد أن ابن بطوطة كانت تتمثل فيه وتنطبق عليه صفات كلّ أولئك الرحالة. فهو حاج وهو دارس وهو سفير وهو سائح وهو مكتشف وهو زائر وهو داعية، وهو تاجر أيضا
…
وهو مبشّر بالمعنى الحقيقي للمبشر.