الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسات نقدية
الدراسات النقدية
…
ولقد بقيت رحلة ابن بطوطة بعيدة عن كل نقد وعن كلّ تعليق- عدا ما حكيناه عن ابن الخطيب وابن مرزوق وابن خلدون- حتى قيض الله لها من بعض المستشرقين من قام بمتابعتها وتعقبها، وقد ابتدأت الدراسات النقدية في الواقع منذ اليوم الذي نشرت فيه الأطراف الأولى من الرحلة في بعض البلاد الأروبية.
ومن أشهر من تناولها بالنقد- بعد الناشرين الفرنسيين- السير هاميلتون گيب والعلّامة التشيكي إيفان هربك «1» والباحثان الفرنسيان فانسان مونطي وصطيفان ييرازيموس، وروس دان الاستاذ بجامعة ولاية سان دييگو واخرون غير هؤلاء وهكذا توفّرنا على دراسات نقدية أثرت رحلة ابن بطوطة وأثارت انتباه الباحثين اليها من سائر جهات المعمور وبكل لسان.
لقد تتبّعوا تلك المذكّرات من خلال عدد من المقاييس والمعايير، مثلا ضبط التّواريخ التي يوردها مقارنة بأسماء الأيام التي يذكرها: يوم الاثنين مثلا، وهل بالفعل يتطابق مع تاريخ اليوم السابع عشر من رجب الفرد سنة ثلاث وسبعمائة الذي ذكر تاريخا لميلاده؟
وهناك حديث ابن بطوطة عن شدّة البرد في شهر قمري: (شوال مثلا) في حين أن هذا الشهر كان يوافق يونيه أو يوليه الذي نعتاد فيه الحر.
وهم يتقّفون أثره وهو يجتاز بعض البلاد مثلا فلا يذكر تاريخا ليوم ولا لشهر ولا لسنة، وبذلك يتركنا في غموض من أمر التسلسل الزمني.
وقد حاسبوه على ذكر بعض الأحداث في غير محلّها، وأنه يحكى في الرحلة السابقة ما حصل له في الرحلة اللاحقة. على نحو ما حكاه عن الشريف أبي غرة وهو في النجف بينما سيسمع الحكاية عنه وهو في الهند، وما حكاه في زيارته الأولى عن الطاعون بدمشق.
وقد حاسبوه فيما روى عن بعض الشخصيات واتّصاله بها في حين كان يستحيل عليه ذلك! هذا إلى إهماله لذكر أسماء الحكام في بعض الجهات التي زارها مع أن عادته جرت على أن يعطي الأولوية لزيارة المتنفّذين والمسؤولين عن البلاد. ولم يتردد بعضهم في اتهام ابن بطوطة بأنه كان أحيانا" يصطنع" الرحلات ويتقمص شخصيات أخرى فينسب له ما كان لتلك الشخصيات
…
كل هذا إلى إهماله لذكر بعض المشاهد والمزارات التي كان من المفروض أن تكون مقصودة من لدنه، مثلا إغفاله لذكر مزارة الشيخ عبد القادر الگيلاني في بغداد!
وقد كان في صدر ما أثار انتباهنا حقا تلك الطّفرات والقفزات التي سجلت على الرجل في بعض المناطق التي كنا نصحبه فيها مرحلة مرحلة. كنا نشعر في بعض الأحيان وكأنه ركب طائرة ليحلّق فيها من محطة إلى أخرى بعيدا عن الأنظار، وكم بذلنا من جهد حتى نتعرف على خطوط سيره!! لقد انشغل عن تعداد المراحل عند ما انتقل من بغداد إلى تبريز عاصمة الإيلخان، ولعل مصاحبته للسلطان أبي سعيد كانت وراء اختفاء شخصيته، فانشغل بغيره عن نفسه، وكثيرا ما يحدث هذا ولا ينبّئك مثل خبير! وكذا كان حاله فيما بين ماردين وبغداد
…
ومن الوثبات المحيّرة التي لم نعرف لها طريقا الوثبة التي كانت له من جنوب الروسيا إلى شمال تركيا. هل وصل صحبة الخاتون عبر الصحراء أو عبر الدانوب؟ لقد اختفت شخصيته رفقة الاميرة أيضا. ومن ميلاس غربا جنوب الأناضول إلى قونية شرقي شمالها، ثم من أرز الرّوم شرقا إلى برگي غربا، لم نستطع تقفي أثاره، وهو في شرق إفريقيا أيضا، لم نستطع مصاحبته وهو يتحرك من كلوة إلى ظفار بحرا. «2»
وفي طريق ابن بطوطة من مكة صحبة الأمير البهلوان عن طريق المدينة حتى يصل للعراق عن طريق حصن فيد- وهو الحائل- انشغل أيضا عن تناول القلم والورق على نحو ما كان منه وهو يرافق ركب السلطان أبي سعيد من بغداد إلى تبريز، وركب الخاتون إلى القسطنطينية العظمى.
وهو في الأردن سلك طريقه من الجيزة إلى بصرى الشام، وهو طريق غير مسلوك اليوم. ولو أنه سافر على الطريق المألوف لكان عليه أن يجتاز على عمان قصبة البلقاء، عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية حاليا على ما يؤكده الزميل الأستاذ الدكتور ناصر الدّين الأسد في بحثه المقدم إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورة 1996.
وقد لاحظ زميلنا الراحل السفير خليل الله خليلي وهو يتحدث عن ابن بطوطة في أفغانستان طفرة الرحالة من بلخ إلى أن وصل إلى هرات وتساءل أيّ طريق سلكه؟ هذا علاوة على وثبة بسطام إلى قندوز وبغلان «3» .
وعند ما عبر نهر السند مع علاء الملك إلى العاصمة لاهري من الحدود الشمالية الحالية وفي اتجاه جنوب البلاد، هناك لم يستوعب المحطات النّهرية التي كان يمر بها. وهو في شرق
الصّين ابتداء من مضيق فرموزة وعبر النهر الأعظم والنهر الأصفر وآب حياة
…
كان كسولا في تتبع محطات سيره ولكأنما كانت الصين صحراء قفراء. لا ذكر لبعض الأطعمة الصينية وأشربتها وفي صدرها الشاي الذي كان انتشر على ذلك العهد «4» . لكن الوثبات الكبرى هي التي سجلت عليه وقد قرر أن يعود إلى بلاده المغرب عندما أنهى زيارته للصين ورجع من حيث أتى دون تدقيق ولا تفصيل. فمن مدينة الزيتون حيث عشرات الجنوك
…
عبر الجاوة ثم طوالسى وسمطره حيث حضر أعراس الأمير ولد الملك الظاهر في الجاوة، ثم إلى ظفار، وفارس والعراق، ثم الحج السادس والأخير قبل أن يعود إلى المغرب
…
كان يمر سريعا وكأن وراءه ما يمنعه عن الاسترسال في الحديث.
وقد لاحظ گيب ومعه هربك أن أمير شيراز لا يمكن أن يكون عام 727- 1327 هو أبا إسحاق ابن محمد الذي إنما حكم من عام 1343 إلى عام 1357. وهكذا نجد مرة أخرى أن الرحالة المغربي يمزج مشاهداته عند الذهاب بمشاهداته عند الإياب
…
!
وعند ما يذكر ابن بطوطة أنه زار هرمز عام 731- 1331 يعقّب هربك أيضا بأن الرحالة المغربي إنما زار هرمز عند عودته من الهند والصين عام 1347! وعند ما وصل ابن بطوطة لمدينة (العلايا) أول بلاد الروم أمسك هربك بتلابيبه وضبط بالعدّ والحساب أنه زار 29 محلة في انطالية انطلاقا من العلايا حوالي فاتح ربيع الثاني 20 733- دجنبر 1332. وقد حاول العالم التشيكي أن يقوم هو بإعادة تمثيل خط السير فاصطدم بمصاعب وتناقضات
…
!!
وعند ما تحدث ابن بطوطة عن استشهاد الأمير عمر بك ابن سلطان يزمير، عقّب گيب على ذلك بأن الأمير قام بغزوته الأولى في الدردنيل عام 732- 1332، وقد لقي حتفه في شهر مايه 1348- محرم 749، وهكذا فإن ابن بطوطة لم يمكنه أن يعلم باستشهاده الّا عند العودة من سفره
…
وقد بيّن هربك أن ابن بطوطة- وهو في سوريا- ذكر أنه زار أكثر من عشرين موقعا خلال شعبان ورمضان 726 يوليه، غشت 1326
…
وهذا غير مقبول، ولا معقول! وهو الأمر الذي يؤكد أن الرحالة المغربي كان يخلط بين زياراته للأماكن في المرة الأولى والثانية.
وقد حاول بعض الباحثين أن يشكّك في أمر وصول ابن بطّوطة إلى اصطنبول لكن
معظم الذين اشتغلوا بالرحلة لا يرتابون إطلاقا في وصول الرحالة المغربي للقسطنطينية العظمى.
وعلى نحو ذلك شكك بعضهم، من أمثال الدبلوماسي الشهير كابرييل قيران، في زيارة ابن بطوطة للصين، إلا أن كثيرا ممّن عالجوا هذا الموضوع كانوا مقتنعين بأن الرجل زار فعلا تلك الدّيار، «5» وأن الصينيين أنفسهم لا يشكون في ذلك. وخلال المحاضرة التي ألقيتها هناك في جامعة پكين، قسم الدراسات الشرقية. صيف 1988 كنت أشعر بأنني أمام عدد من المثقفين الذين كانوا يدينون للرحالة المغربي بالكثير من المعلومات الأصيلة التي انفرد بها عما سواه ممن تحدثوا عن تاريخ الصين وأسطول الصين بمن في أولئك ماركوبّولو! وقد وضعوا خرائط لزيارته لبلادهم وهم يرددون اسمه على أنه رائد من روّاد الصّين الكبار
…
وتبقى هناك- مع هذا- بعض المواخذات التي تستوقفنا حقّا:
الأولى: قضية حضور ابن بطوطة لمجلس تقيّ الدّين ابن تيمية وهو بدمشق بعد أن كان وصلها يوم الخميس 9 رمضان 726- 9 غشت 1326 فقد أخبر أولا عن سجن ابن تيمية وإطلاق سراحه، ثم أخبر أنه وقع منه مثل ما استوجب سجنه أولا فسجن مرة ثانية وقال: إنه حضر يوم الجمعة وشاهد ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، وإنّ من جملة كلامه: أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء إلى آخر الحكاية
…
مع العلم أن ابن تيمية أودع في السجن منذ سادس شعبان
…
أي قبل وصول الرحالة إلى دمشق «6» !! فكيف يصحّ قول ابن بطوطة هذا مع تلك الفقرة التي نسبها لشيخ الإسلام في تفسيره لحديث النزول بما هو من قول المجسّمة المخالف لمذهب السلف الذي يعد ابن تيمية قطبا من أقطابهم؟
ونعتقد أن أحسن ما يمكن الجواب به عن هذا الانتقاد ما عقب به زميلنا الراحل الأستاذ عبد الله كنون رحمه الله من أن الخبر وقع فيه تزيّد من خصوم ابن تيمية فرواه رحالتنا على علاته
…
ولم يخف الأستاذ گنون شكوكه في صنيع الكاتب ابن جزي الذي يجوز أنه توهم حضور ابن بطوطة للواقعة المزعومة «7» .
وقد وقفت في كتاب نيل الديباج لأحمد بابا السوداني (ت 1032- 1623) عند ترجمة أبي زيد عبد الرحمن وترجمة أخيه ابي موسى عيسى ابنى الإمام البرشكي أنهما رحلا إلى المشرق وناظرا تقي الدين ابن تيمية الذي كانت له مقالات يحمل فيها حديث النزول على ظاهره، وقوله فيه" كنزولي هذا"، قال صاحب الديباج وهذه الزيادة أعني قول" كنزولي هذا" اثبتها ابن بطوطة في رحلته
…
«8»
الثانية: هي تلك التي أثارت الكثير من التعاليق: وهو سفره إلى مدينة بلغار التي سمع بها وهو بحضرة السلطان محمد أوزبك خان حتى يرى ما ذكر له عنها من تناهي قصر الليل بها وقصر النهار أيضا في الفصل المعاكس، وانه طلب إلى السلطان مساعدته للوصول إليها وكان بينها وبين محلة السّلطان مسيرة عشرة أيام.
إن المسافة بين الموقعين ألف وثلاثمائة كيلوميتر، فكيف يصل إليها المرء في عشرة أيام؟ ولم يشفع لابن بطوطة ما نعرفه عن الإمكانات المادية للسلطان والتي من شأنها، كما خبرنا ذلك، أن تتجاوز المعروف عند الإنسان العادي، ولهذا أصر المعلقون على أن هذه المعلومة تحتاج إلى ما يدعمها
…
أما المؤاخذات الأخرى الباقية فكانت تتصل ببعض الحكايات التي تتسم بالمبالغات التي لا يقبلها العقل، ونذكر على سبيل المثال حكاية ابن بطوطة عن الغواصين الذين يبحثون عن اللؤلؤ في الخليج فيما بين ميناء سيراف والبحرين. فقد ذكر أن في الغواصين من يصبر الساعة والساعتين في الماء
…
مع العلم أنه لا يمكن تجاوز سبعين إلى مائة ثانية
…
وقد كان زميلي الراحل الشيخ عبد الله الأنصاري القطري يحكي لي- وهو ممّن زاولوا الغوص- أن الغواصين كانوا يتنافسون في مدى التحمّل وقد نبّهني إلى أن قصد ابن بطوطة ليس هو الغوص تحت الماء طوال تلك المدة ولكن القصد إلى أنّ عملية النزول إلى عمق البحر والصعود منه تستمر تلك المدة. وهذا ما وجدته في بعض الترجمات الجديرة بالثقة، وهو ما تؤيده شهادة السيدين، جمعة الماجد وسيف الغرير، وكانا أيضا من رجال الغوص
…
ولا بد أن نذكّر هنا بأن ابن بطوطة هو الذي كان بين الفينة والأخرى يشعر بأن بعض ما يرويه قد لا يقبل من لدن بعض العقول فيقول مثلا- وهو يتحدث عن مزاعم الناس حول شجرة (درخت روان) - «ولهم في شأنها أكاذيب يحيلها العقل» وقال عن مزاعمهم حول
مفعول أوراقها- وهي شجرة في سرنديب:" قالوا إن من تناولها عاد له الشباب وهو باطل!! وقال، وقد سمع الناس يتناقلون حديثا غريبا" لم أذكره خيفة مكذّب به". وقد سخر بعضهم من روايته لرؤية بعض النساء بثدي واحد بينما طالعتنا صور الأحداث اليوم بوجود إنات لهن ثلاثة اثداء!! ملاحظة أخيرة: كنا نشعر بوجوده في مكان ما من الأمكنة لكنه لسبب أو آخر يفقد قلمه ويعطل ذاكرته فلا يحفل بما كان ينبغي له أن يحفل به على ما أشرنا، وهكذا ففي أثناء وجوده بمصر أهمل ذكر جامع ابن طولون الذي تحدث عنه معظم الرحالة المغاربة ولا سيما وقد كان للمغاربة فيه" مأوى يسكنونه ويحلقون فيه حيث تجري النفقات عليهم في كل شهر" على حدّ تعبير ابن جبير
…
هذا إلى اهمال ذكر رواق المغاربة في الأزهر الشريف. ورواقهم- وهذا مهم- في القدس، وقد تحدث عنه علوي في كتابه (سفرنامه) ، ولم يتحدث وهو في سلا عن الجامع الأعظم في الوقت الذي تحدث فيه عن حسان التي لم يصعدها على نحو ما فعل في الكتبية.
وابن بطّوطة الذي تحدث عن الزيتونة والأزهر لم يلفت نظره جامع القرويين الذي كان كعبة لكبار العلماء وكذا عيون الطلاب الذين كانوا يسكنون في المدارس التي تحف به: مدرسة الصفارين والعطارين والمصباحية علاوة على إهماله البيمارستان الذي يسهر على علاج الناس والذي كان موجودا بفاس على ذلك العهد.
وابن بطوطة في الأندلس أهمل ذكر الجامع الأعظم في رندة التي كانت عاصمة الأمير أبي مالك ابن السلطان أبي الحسن
…
لكنّ الحقيقة التي ينبغي أن نجعلها نصب أعيننا ونحن نتتبع تلك التعقيبات هي أن تلك" التقييدات" التي جمعها ابن بطوطة قرابة ثلاثين سنة قام ابن جزي" بتلخيصها" في أقلّ من ثلاثة شهور. ومتى كانت ثلاثة شهور كافية لتغطية تلك الأعوام واستيعاب ذلك العدد من الأسماء الجغرافية والأعلام الشخصية التي مرت بذاكرة الرحالة عبر تلك الأحقاب؟! يقوم أحدنا في العصر الحاضر برحلة في أمد معروف البداية والنهاية ولا يذكر بعد مرور بضعة أسابيع من رحلته بعض الأسماء التي مرت به فيأخذ في الاستنجاد برفاقه في الطريق!! وأعتقد أن ابن جزي كان مستعجلا أكثر مما ينبغي في أداء مهمته، وربما كان مشغولا بمشكل صحي طارئ عليه وهو الأمر الذي عرّضه للتصرّف، ودفع به إلى الاستغناء كلية عن بعض" التقاييد. ولا ندري هل كان ابن بطوطة يجلس إلى جانب ابن جزي ليراجع هذا" التلخيص" بعد تحريره ليعطي رأيه فيه؟ مهما يكن فإن بعض التّبعة تقع على الظرف القصير الذي حدد للقيام بالمهمة
…
وإذا ما أضفنا إلى استعجال ابن جزي عنصرا ثانيا قرأناه في أثناء الرحلة، وهو
الحسرة الجارحة التي كانت تحزّ في ابن بطوطة وهو يتحدث عن السّطو الذي تعرض له في الجزيرة الصغرى التي تقع بين هنور وفاكنور حيث سلبه القراصنة جميع ما عنده من جواهر ويواقيت، حتى الثياب والزّوادات، وبالرغم من القيمة المادية الهائلة لما افتقده في هذه الحادثة، فإنه نسى كلّ تلك الثروات وكلّ تلك التحف ولم يبق عالقا بذاكرته إلا" التقييدات" التي كان يودع فيها معلومات عن الشخصيات التي تعرف عليها وعن التصانيف التي ألفتها تلك الشخصيات! ولم ينتظر للتعبير عن حزنه على ضياع تلك المذكرات الظرف الزمني الذي وقع فيه الحادث، ولكنه. والمذكرات امر ذو بال يشغله- استعجل بذكر ذلك عند ما كان يتحدث عن علماء بخارى على ما سنرى
…
وينبغي أن نضيف إلى كل هذا أيضا مشاكل الترجمة التي لم يفته هو التنصيص على بعض أخطائها، فقد كان يتلقى أخبارا من المترجمين والمرشدين الذين يجدهم أمامه ليستعين بهم فيما يطلب من معلومات كان يرويها كما سمعها. فلقد قيل له- وهو في بيزنطة- عن النبي إلياس الذي ينطق به عندهم Elie فظنه عليّ
…
واستغرب هو من ذلك!! ولكن المهم بعد هذا وقبل هذا أن سائر الذين، تعقبوه وانتقدوا بعض مقاطعه وفقراته أجمعوا على إكباره وتقديره، وعلى براعته في طريقته لجلب القراء بما كان يختاره من بديع النكتة ودقة التعبير، وبما كان يتخذه شعارا له من الصراحة في القول مما قد لا يجرؤ أحدنا اليوم على الجهر به. فهو يواجه الأمراء بما قد لا يرضيهم، وهو ينصف المستحقين منهم ولو أنه كان بعيدا عنهم، وهو في الأخير متحفظ فيما يرويه إذا لم يكن مقتنعا به حيث نجده «يخرج عن العهدة بما يشعر من الألفاظ بذلك» على حدّ تعبير ابن جزى الذي عرفه حقّ المعرفة. لقد كانوا جميعا يتفقون على أن ابن بطوطة هو الرحالة الأمين الذي كانت مذكراته تتميّز عن غيرها بما يحسه القراء ولا يستطيعون التعبير عنه سواء أكانوا يعيشون في أروپاأو آسيا أو إفريقيا.