الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمؤذن الزمزمي وبأعلى قبة زمزم يدعو له عند كل شوط على ما ذكرناه من عادته، فإذا طاف صلّى ركعتين عند الملتزم، وصلى عند المقام وتمسّح به وخرج إلى المسعى فسعى راكبا والقواد يحفون به والحرّابة «217» بين يديه ثم يسير إلى منزله. وهذا اليوم عندهم عيد من الأعياد ويلبسون فيه أحسن الثياب ويتنافسون في ذلك.
ذكر عمرة رجب
وأهل مكة يحتفلون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يعهد مثله، وهي متصلة ليلا ونهارا، وأوقات الشهر كلّه معمورة بالعبادة، وخصوصا أول يوم منه، ويوم خمسة عشر والسابع والعشرون فإنهم يستعدون لها قبل ذلك بأيام.
شاهدتهم في ليلة السابع والعشرين منه، وشوارع مكة قد غصّت بالهوادج «218» ، عليها كساء الحرير والكتان الرفيع، كل أحد يفعل بقدر استطاعته، والجمال مزينة مقلّدة بقلائد الحرير، وأستار الهوادج ضافية تكاد تمس الأرض، فهي كالقباب المضروبة ويخرجون إلى ميقات التنعيم، فتسيل أباطح مكة بتلك الهوادج، والنّيران مشعلة بجنبتي الطّريق، والشمع والمشاعل أمام الهوادج، والجبال تجيب بصداها إهلال الملبين، فترقّ النفوس وتنهمل الدموع، فإذا قضوا العمرة وطافوا بالبيت، خرجوا إلى السعي بين الصفا والمروة بعد مضيّ هزيع من الليل، والمسعى متّقد السرج غاصّ بالناس، والساعيات في هوادجهن، والمسجد الحرام يتلألأ نورا، وهم يسمون هذه العمرة بالعمرة الأكمية، لأنهم يحرمون بها من أكمة أمام مسجد عائشة رضي الله عنها بمقدار غلوة على مقربة من المسجد المنسوب إلى علي رضي الله عنه.
والأصل في هذه العمرة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما فرغ من بناء الكعبة المقدّسة «219» خرج ماشيا حافيا معتمرا ومعه أهل مكة وذلك في اليوم السابع
والعشرين من رجب وانتهى إلى الأكمة فأحرم منها، وجعل طريقه على ثنية الحجون إلى المعلّى من حيث دخل المسلمون يوم الفتح، فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة إلى هذا العهد.
وكان يوم عبد الله مذكورا أهدي فيه بدنا كثيرة، وأهدى أشراف مكة وأهل الاستطاعة منهم وأقاموا أياما يطعمون ويطعمون شكرا لله تعالى على ما وهبهم من التيسير والمعونة في بناء بيته الكريم على الصفة التي كان عليها في أيام الخليل صلوات الله عليه.
ثم لما قتل ابن الزبير نقض الحجّاج الكعبة وردها إلى بنائها في عهد قريش «220» وكانوا قد اقتصروا في بنائها «221» ، وأبقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك لحدثان عهدهم بالكفر، «222» ، ثم أراد الخليفة أبو جعفر المنصور أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير فنهاه مالك رحمه الله عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين لا تجعل البيت ملعبة للملوك، متى أراد أحدهم يغيره فعل! فتركه على حاله سدا للذريعة.
وأهل الجهات الموالية لمكة مثل بجيلة وزهران وغامد «223» يبادرون لحضور عمرة رجب ويجلبون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب واللوز فترخص الأسعار بمكة ويرغد عيش أهلها وتعمّهم المرافق، ولولا أهل هذه البلاد لكان أهل مكة في شظف من العيش، ويذكر أنهم متى أقاموا ببلادهم ولم ياتوا بهذه الميرة أجدبت بلادهم ووقع الموتان في مواشيهم، ومتى أوصلوا الميرة أخصبت بلادهم وظهرت فيها البركة ونمت أموالهم فهم إذا حان وقت ميرتهم وأدركهم كسل عنها اجتمعت نساءهم فأخرجنهم! وهذا من لطائف صنع الله تعالى وعنايته ببلده الأمين.