الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي هذه السنة ذكر اسم السلطان أبي سعيد ملك العراق على المنبر وقبّة زمزم.
ذكر الانفصال عن مكة شرفها الله تعالى
وفي الموفى عشرين لذى الحجة «236» خرجت عن مكة صحبة أمير ركب العراق البهلوان «237» محمد الحويح بحاءين مهملين، وهو من أهل الموصل، وكان يلي إمارة الحاج بعد موت الشيخ شهاب الدين قلندر، وكان شهاب الدين سخيا فاضلا عظيم الحرمة عند سلطانه يحلق لحيته وحاجبيه على طريقة القلندرية، ولما خرجت من مكة، شرّفها الله تعالى، في صحبة الأمير البهلوان المذكور اكترى لي شقّة محارة «238» إلى بغداد، ودفع إجارتها من ماله، وأنزلني في جواره.
وخرجنا بعد طواف الوداع إلى بطن مرّ في جمع من العراقيين والخراسانيين والفارسيين والأعاجم لا يحصى عديدهم، تموج بهم الأرض موجا ويسيرون سير السحاب المتراكم، فمن خرج عن الركب لحاجة، ولم تكن له علامة يستدل بها على موضعه، ضلّ عنه لكثرة الناس.
وفي هذا الركب نواضح كثيرة لأبناء السبيل يستقون منها الماء وجمال لرفع الزاد للصدقة ورفع الأدوية والأشربة والسكر لمن يصيبه المرض، وإذا نزل الركب طبخ الطعام في قدور نحاس عظيمة تسمى الدّسوت، وأطعم منها أبناء السبيل ومن لا زاد معه.
وفي الركب جملة من الجمال يحمل عليها من لا قدرة له على المشي، كل ذلك من صدقات السلطان أبي سعيد ومكارمه «239» .
قال ابن جزى: كرّم الله هذه الكنية الشريفة، فما أعجب أمرها في الكرم! وحسبك بمولانا بحر المكارم ورافع رايات الجود الذي هو آية في النداء والفضل أمير المسلمين أبي سعيد ابن مولانا قامع الكفار، والآخذ للإسلام بالثأر، أمير المسلمين أبي يوسف، قدس الله أرواحهم الكريمة، وأبقى الملك في عقبهم الطاهر إلى يوم الدين «240» .
رجع، وفي هذا الرّكب الأسواق الحافلة، والمرافق العظيمة، وأنواع الأطعمة والفواكه، وهم يسيرون باللّيل ويوقدون المشاعل أمام القطار والمحارات، فترى الأرض تتلألأ نورا والليل قد عاد نهارا ساطعا، ثم رحلنا من بطن مرّ إلى عسفان، ثم إلى خليص، ثم رحلنا أربع مراحل ونزلنا وادي السمك، ثم رحلنا خمسا ونزلنا في بدر، وهذه المراحل اثنتان في اليوم: إحداهما بعد الصبح والأخرى بالعشى، ثم رحلنا من بدر فنزلنا الصّفراء وأقمنا بها يوما مستريحين، ومنها إلى المدينة الشريفة مسيرة ثلاث، ثم رحلنا فوصلنا إلى طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية وأقمنا بالمدينة، كرمها الله تعالى، ستة أيام واستصحبنا منها الماء لمسيرة ثلاث، ورحلنا عنها فنزلنا في الثالثة بوادي العروس فتزودنا منه الماء من حسيان يحفرون عليها في الأرض فينبطون ماء عذبا معينا.
ثم رحلنا من وادي العروس ودخلنا أرض نجد وهو بسيط من الأرض مدّ البصر فتنسمنا نسيمه الطيب الأرج ونزلنا بعد أربع مراحل على ماء يعرف بالعسيلة «241» . ثم رحلنا عنه ونزلنا ماء يعرف بالنقرة «242» فيه أثار مصانع كالصّهاريج العظيمة، ثم رحلنا إلى ماء يعرف بالقارورة «243» ، وهي مصانع مملوءة بماء المطر مما صنعته زبيدة ابنة جعفر، رحمها الله ونفعها، وهذا الموضع هو وسط أرض نجد، فسيح طيّب النسيم صحيح الهواء نقي التّربة معتدل في كل فصل، ثم رحلنا من القارورة، ونزلنا بالحاجر، وفيه مصانع للماء
وربما جفّت فحفر عن الماء في الجفار «244» . ثم رحلنا ونزلنا سميرة «245» ، وهي أرض غائرة في بسيط فيه شبه حصن مسكون، وماؤها كثير في آبار إلا أنه زعاق ويأتي عرب تلك الارض بالغنم والسمن واللبن فيبيعون ذلك من الحجاج بالثياب الخام، ولا يبيعون بسوى ذلك، ثم رحلنا ونزلنا بالجبل المخروق «246» ، وهو في بيداء من الأرض وفي أعلاه ثقب نافذ تخرقه الرّيح، ثم رحلنا منه إلى وادي الكروش، ولا ماء به، ثم أسرينا ليلا وصبّحنا حصن فيد «247» ، وهو حصن كبير في بسيط من الأرض يدور به سور، وعليه ربض وساكنوه عرب يتعيشون مع الحاجّ في البيع والتجارة، وهنالك يترك الحجّاج بعض أزوادهم حين وصولهم من العراق إلى مكة شرفها الله تعالى، فإذا عادوا وجدوه، وهو نصف الطريق من مكة إلى بغداد، ومنه إلى الكوفة مسيرة اثني عشر يوما في طريق سهل به المياه في المصانع.
ومن عادة الركب أن يدخلوا هذا الموضع على تعبئة وأهبة للحرب إرهابا للعرب المجتمعين هنالك وقطعا لأطعامهم عن الركب.
وهنالك لقينا أميري العرب وهما فياض وحيار واسمه بكسر الحاء واهمالها وياء آخر الحروف وهما أبناء الأمير مهنّا بن عيسى «248» ومعهما من خيل العرب ورجالهم من لا يحصون كثرة، فظهر منهما المحافظة على الحاج والرّحال والحوطة لهم، وأتى العرب بالجمال والغنم فاشترى منهم الناس ما قدروا عليه.
ثم رحلنا ونزلنا الموضع المعروف بالأجفر «249» ويشتهر باسم العاشقين: جميل وبثينة «250» ، ثم رحلنا ونزلنا بالبيداء ثم أسرينا ونزلنا زرود «251» ، وهي بسيط من الأرض فيه رمال منهالة، وبه دور صغار قد أداروها شبه الحصن، وهنالك آبار ماء ليست بالعذبة، ثم رحلنا ونزلنا الثعلبية «252» ، ولها حصن خرب بازائه مصنع هائل ينزل إليه في درج، وبه من ماء المطر ما يعم الركب، ويجتمع من العرب بهذا الموضع جمع عظيم فيبيعون الجمال والغنم والسمن واللبن، ومن هذا الموضع إلى الكوفة ثلاث مراحل «253» ، ثم رحلنا فنزلنا ببركة المرجوم، وهو مشهد على الطريق عليه كوم عظيم من حجارة وكل من مرّ به رجمه، ويذكر أن هذا المرجوم كان رافضيا فسافر مع الركب يريد الحج فوقعت بينه وبين أهل السّنّة من الأتراك مشاجرة فسب بعض الصحابة فقتلوه بالحجارة، وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب، ويقصدون الركب بالسمن واللبن وسوى ذلك، وبه مصنع «254» كبير يعم جميع الركب مما بنته زبيدة، رحمة الله عليها، وكل مصنع أو بركة أو بئر بهذه الطريق التي بين مكة وبغداد فهي من كريم آثارها جزاها الله خيرا، ووفّى لها أجرها
…
ولولا عنايتها بهذه الطريق ما سلكها أحد.
ثم رحلنا ونزلنا موضعا يعرف بالمشقوق «255» فيه مصنعان بهما الماء العذب الصافي، وأراق الناس ما كان عندهم من الماء وتزوّدوا منهما، ثم رحلنا ونزلنا موضعا يعرف بالتّنانير «256» وفيه مصنع ممتلئ بالماء ثم أسرينا منه واجتزنا ضحوة بزمّالة «257» وهي قرية معمورة بها قصر للعرب ومصنعان للماء وأبار كثيرة، وهي من مناهل هذا الطريق، ثم رحلنا فنزلنا الهيثمين «258» ، وفيه مصنعان للماء ثم رحلنا فنزلنا دون العقبة المعروفة بعقبة الشيطان «259» ، وصعدنا العقبة في اليوم الثاني، وليس بهذا الطريق وعر سواها على أنها ليست بصعبة ولا طائلة، ثم نزلنا موضعا يسمى واقصة «260» فيه قصر كبير ومصانع للماء معمور بالعرب، وهو آخر مناهل هذا الطريق.
وليس فيما بعده إلى الكوفة منهل مشهور إلا مشارع ماء الفرات، وبه يتلقّى كثير من أهل الكوفة الحاجّ ويأتون بالدقيق والخبز والتمر والفواكه، ويهنئ الناس بعضهم بعضا بالسلامة، ثم نزلنا موضعا يعرف بلورة «261» ، فيه مصنع كبير للماء، ثم نزلنا موضعا يعرف بالمساجد «262» فيه ثلاث مصانع، ثم نزلنا موضعا يعرف بمنارة القرون «263» ، وهي منارة في بيداء من الأرض بائنة الارتفاع مجللة بقرون الغزلان، ولا عمارة حولها، ثم نزلنا موضعا
يعرف بالعذيب «264» وهو واد مخصب عليه عمارة، وحوله فلاة خصبة فيها مسرح للبصر.
ثم نزلنا القادسية «265» حيث كانت الوقعة الشهيرة على الفرس التي أظهر الله فيها دين الإسلام وأذل المجوس عبدة النار، فلم تقم لهم بعدها قائمة، واستأصل الله شأفتهم وكان أمير المسلمين يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكانت القادسية مدينة عظيمة افتتحها سعد رضي الله عنه وخربت فلم يبق منها الآن إلا مقدار قرية كبيرة وفيها حدائق النخل، وبها مشارع من ماء الفرات.
معركة القادسية كما تصورها أحدهم