الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم سرنا إلى مدينة بيروت «56» وهي صغيرة حسنة الأسواق، وجامعها بديع الحسن، وتجلب منها إلى ديار مصر الفواكه والحديد. وقصدنا منها زيارة قبر أبي يعقوب يوسف الذي يزعمون أنه «57» من ملوك المغرب وهو بموضع يعرف بكرك نوح «58» من بقاع العزيز، وعليه زاوية يطعم بها الوارد والصادر، ويقال إن السلطان صلاح الدين وقف عليها الأوقاف وقيل السلطان نور الدين «59» ، وكان من الصالحين، ويذكر أنه كان ينسج الحصر ويقتات بثمنها.
حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور
يحكى أنه دخل مدينة دمشق فمرض بها مرضا شديدا وأقام مطروحا بالأسواق، فلما برئ من مرضه خرج إلى ظاهر دمشق ليلتمس بستانا يكون حارسا له فاستؤجر لحراسة بستان للملك نور الدين، وأقام في حراسته ستة أشهر فلما كان في أوان الفاكهة أتى السلطان، إلى ذلك البستان، وأمر وكيل البستان، أبا يعقوب أن يأتي برمان، يأكل منه
السلطان، فأتاه برمان، فوجده حامضا، فأمره أن يأتي بغيره ففعل ذلك فوجده أيضا حاوضا، فقال له الوكيل أتكون في حراسة هذا البستان منذ ستة أشهر ولا تعرف الحلو من الحاوض فقال: إنما استأجرتني على الحراسة لا على الأكل! فأتى الوكيل إلى الملك فأعلمه بذلك، فبعث اليه الملك وكان قد رأى في المنام أنه يجتمع مع أبي يعقوب وتحصل له منه فائدة، فتفرّس أنه هو فقال له أنت أبو يعقوب؟ قال نعم، فقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جانبه ثم احتمله إلى مجلسه فأضافه بضيافة من الحلال المكتسب بكدّ يمينه وأقام عنده أياما.
ثم خرج من دمشق فارا بنفسه في أوان البرد الشديد، فأتى قرية من قراها وكان بها رجل من الضعفاء، فعرض عليه النزول عنده، ففعل وصنع له مرقة وذبح دجاجة، فأتاه بها وبخبز شعير، فأكل من ذلك ودعا للرجل وكان عنده جملة أولاد منهم بنت قد آن بناء زوجها عليها، ومن عوائدهم في تلك البلاد أن البنت يجهزها أبوها ويكون معظم الجهاز أواني النحاس وبه يتفاخرون وبه يتبايعون، فقال أبو يعقوب للرجل هل عندك شيء من النحاس؟
قال: نعم، قد اشتريت منه لتجهيز هذه البنت، قال: ائتني به فأتاه به، فقال له استعر من جيرانك ما أمكنك منه، ففعل، وأحضر ذلك بين يديه، فأوقد عليه النيران، وأخرج صرة كانت عنده فيها الإكسير، فطرح منه على النحاس، فعاد كلّه ذهبا وتركه في بيت مقفل. وكتب كتابا إلى نور الدين ملك دمشق يعلمه بذلك وينبّهه على بناء مارستان للمرضى من الغرباء ويوقف عليه الأوقاف ويبني الزوايا بالطرق ويرضى أصحاب النحاس ويعطي صاحب البيت كفايته.
وقال له في آخر الكتاب «
…
وإن كان إبراهيم بن أدهم قد خرج عن ملك خراسان فأنا قد خرجت من ملك المغرب وعن هذه الصنعة والسلام
…
»
وفرّ من حينه، وذهب صاحب البيت بالكتاب إلى الملك نور الدين، فوصل الملك إلى تلك القرية واحتمل الذهب بعد أن أرضى أصحاب النحاس وصاحب البيت. وطلب أبا يعقوب فلم يجد له أثرا ولا يقع له على خبر فعاد إلى دمشق وبنى المارستان المعروف باسمه «60» الذي ليس في المعمور مثله.
ثم وصلت إلى مدينة طرابلس «61» وهي إحدى قواعد الشام، وبلدانها الضخام، تخترقها الأنهار، وتحفّها البساتين والأشجار، ويكنفها البحر بمرافقه العميمة والبر بخيراته المقيمة، ولها الأسواق العجيبة، والمسارح الخصيبة والبحر على ميلين منها وهي حديثة البناء.
وأما طرابلس القديمة فكانت على ضفة البحر وتملّكها الروم زمانا، فلما استرجعها الملك الظاهر خربت، واتخذت هذه الحديثة، وبهذه المدينة نحو أربعين من أمراء الأتراك، وأميرها طيلان «62» الحاجب المعروف بملك الأمراء، ومسكنه منها بالدار المعروفة بدار السّعادة، ومن عوائده أن يركب في كل يوم اثنين وخميس، ويركب معه الأمراء والعساكر ويخرج إلى ظاهر المدينة فإذا عاد إليها وقارب الوصول إلى منزله ترجل الأمراء ونزلوا عن دوابهم ومشوا بين يديه حتى يدخل منزله، وينصرفون «63» وتضرب الطّبلخانة عند دار كل أمير منهم بعد صلاة المغرب من كل يوم، وتوقد المشاعل. وممن كان بها من الأعلام كاتب السر بهاء الدين ابن غانم «64» أحد الفضلاء الحسباء، معروف بالسخاء والكرم، وأخوه حسام الدين هو شيخ القدس الشريف، وقد ذكرناه «65» ، وأخوهما علاء الدين «66» كاتب السر بدمشق.
ومنهم وكيل بيت المال قوام الدين، ابن مكين من أكابر الرجال، ومنهم قاضي قضاتها شمس الدين ابن النّقيب «67» من أعلام علماء الشام.
وبهذه المدينة حمامات حسان: منها حمام القاضي القرمي وحمام سندمور «68» وكان سندمور أمير هذه المدينة، ويذكر عنه أخبار كثيرة في الشدة على أهل الجنايات منها أن امرأة شكت إليه بأن أحد مماليك الخواص تعدى عليها في لبن كانت تبيعه فشربه ولم تكن لها بيّنة، فأمر به فوسّط «69» ، فخرج اللبن من مصرانه! وقد اتفق مثل هذه الحكاية للعتريس «70» أحد أمراء الملك الناصر أيام إمارته على عيذاب، واتفق مثلها للملك كبك سلطان تركستان.
ثم سافرت من طرابلس إلى حصن الاكراد «71» وهو بلد صغير كثير الأشجار والأنهار بأعلى تل، وبه زاوية تعرف بزاوية الابراهيمي نسبة إلى بعض كبراء الأمراء ونزلت عند قاضيها ولا أحقق الآن اسمه.
ثم سافرت إلى مدينة حمص «72» وهي مدينة مليحة، أرجاؤها مؤنقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة الشوارع، وجامعها متميّز بالحسن الجامع، وفي وسطه بركة ماء، وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم، وبخارج هذه المدينة قبر خالد ابن
الوليد «73» سيف الله ورسوله، وعليه زاوية ومسجد وعلى القبر كسوة سوداء، وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشى «74» من أجمل الناس صورة وأحسنهم سيرة.
ثم سافرت منها إلى مدينة حماة «75» إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق تحفّها البساتين والجنات، عليها النواعير كالأفلاك الدائرات «76» يشقها النّهر العظيم المسمى بالعاصي «77» ، ولها ربض سمي بالمنصورية أعظم من المدينة، فيه الأسواق الحافلة والحمامات الحسان.
وبحماة الفواكه الكثيرة، ومنها المشمش اللوزي اذا كسرت نواته وجدتّ في داخلها لوزة حلوة «78» .
قال ابن جزي: وفي هذه المدينة ونهرها ونواعيرها وبساتينها يقول الأديب الرّحال نور
مدينة حماة نقوش من حماة
الدين أبو الحسن علي بن موسى ابن سعيد «79» العنسي العمّاري الغرناطي نسبة لعمار بن ياسر رضي الله عنه:
حمى الله من شطّى حماة مناظرا
…
وقفت عليها السمع والفكر والطّرفا
تغنّى حمام أو تميل خمائل
…
وتزهى مبان تمنع الواصف الوصفا
يلومونني أن أعصي الصّون والنّهى
…
بها، وأطيع الكأس واللهو والقصفا!
إذا كان فيها النّهر عاص، فكيف لا
…
أحاكيه عصيانا وأشربها صرفا؟!
وأشدو لدى تلك النّواعر شدوها
…
وأغلبها رقصا وأشبهها غرفا
تئنّ وتذري دمعها، فكأنّها
…
تهيم بمراها وتسألها العطفا
ولبعضهم في نواعيرها ذاهبا مذهب التّورية
وناعورة رقّت لعظم خطيئتي
…
وقد عاينت قصدي من المنزل القاصي
بكت رحمة لي ثم باحت بشجوها
…
وحسبك أن الخشب تبكى على العاصي
لقطة من معرة النعمان، عن مؤسسة بيرشم- جنيف
ولبعض المتأخرين فيها أيضا من التورية:
يا سادة سكنوا حماة وحقّكم
…
ما حلت عن تقوى وعن إخلاصي
والطّرف بعدكم إذا ذكر اللّقا
…
يجري المدامع طائعا كالعاصي!
رجع، ثم سافرت إلى مدينة المعرّة التي ينسب اليها الشاعر أبو العلاء المعري «80» ، وكثير سواه من الشعراء.
قال ابن جزي: وإنما سميت بمعرة النعمان لان النعمان بن بشير الأنصاري «81» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي له ولد أيام إمارته على حمص فدفنه بالمعرة فعرفت به، وكانت قبل ذلك تسمى ذات القصور «82» ، وقيل إن النعمان جبل مطلّ عليها سميت به.
والمعرة مدينة حسنة أكثر شجرها التين والفستق، ومنها يحمل إلى مصر والشام، وبخارجها على فرسخ منها قبر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز «83» ، ولا زاوية عليه ولا
خديم له، وسبب ذلك أنه وقع في بلاد صنف من الرافضة «84» أرجاس يبغضون العشرة من الصحابة رضي الله عنهم ولعن مبغضهم، ويبغضون كلّ من اسمه عمر، وخصوصا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان من فعله في تعظيم عليّ رضي الله عنه.
ثم سرنا منها إلى مدينة سرمين «85» ، وهي حسنة كثيرة البساتين، وأكثر شجرها الزيتون، وبها يصنع الصابون الآجورى، ويجلب إلى مصر والشام ويصنع بها أيضا الصابون المطيّب لغسل الأيدي ويصبغونه بالحمرة والصفرة، ويصنع بها ثياب قطن حسان تنسب اليها. وأهلها سبّابون يبغضون العشرة «86» ، ومن العجب أنهم لا يذكرون لفظ العشرة وينادي سماسرتهم بالأسواق على السلع فإذا بلغوا إلى العشرة قالوا: تسعة وواحدا!! وحضر بها بعض الأتراك يوما فسمع سمسارا ينادي تسعة وواحد، فضربه بالدّبوس على رأسه، وقال: قل عشرة بالدبوس! وبها مسجد جامع فيه تسع قباب ولم يجعلها عشرة قياما بمذهبهم القبيح! ثم سرنا إلى مدينة حلب المدينة الكبرى، والقاعدة العظمى. قال أبو الحسين ابن جبير في وصفها: قدرها خطير، وذكرها في كل زمان يطير، خطابها من الملوك كثير، ومحلها من النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح، وسل عليها من بيض الصفاح، لها قلعة شهيرة الامتناع، باينة الارتفاع تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع، منحوتة الأرجاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، قد طاولت الأيام والأعوام، وشيعت الخواص والعوام، أين أمراؤها الحمدانيون، وشعراؤها «87» ؟ فني جميعهم ولم يبق إلا بناؤها! فيا عجبا للبلاد تبقى ويذهب أملاكها! ويهلكون ولا يقضى هلاكها وتخطب بعدهم فلا يتعذر إملاكها، وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها.
قلعة حلب
هذه حلب كم ادخلت ملوكها في خبر كان، ونسخت ظرف الزمان بالمكان! أنّث اسمها فتحلت بحلية الغوان، ودانت بالعذر فيمن دان، وتجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان، هيهات هيهات سيهرم شبابها، ويعدم خطابها، ويسرع فيها بعد حين خرابها! وقلعة حلب تسمى الشهباء «88» ، وبداخلها جبّان ينبع منهما الماء، فلا تخاف الظمأ، ويطيف بها سوران، وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء، وسورها متدانى الأبراج، وقد انتظمت بها العلاليّ العجيبة المفتحة الطيقان، وكلّ برج منها مسكون، والطعام لا يتغير بهذه القلعة على طول العهد «89» .
وبها مشهد يقصده بعض الناس يقال: إن الخليل عليه السلام كان يتعبد به. وهذه القلعة تشبه قلعة رحبة مالك بن طوق التي على الفرات بين الشام والعراق «90» ، ولما قصد قازان «91» طاغية التتر مدينة حلب حاصر هذه القلعة أياما ونكص عنها خائبا.
قال ابن جزي: وفي هذه القلعة يقول الخالدي «92» شاعر سيف الدولة:
وخرقاء قد تاهت على من يرومها
…
بمرقبها العالي وجانبها الصّعب
يجرّ عليها الجوّ جيب غمامة
…
ويلبسها عقدا بأنجمه الشّهب
إذا ما سرى برق بدت من خلاله
…
كما لاحت العذراء من خلل السّحب
فكم من جنود قد أماتت بغصّة
…
وذي سطوات قد أبانت على عقب
وفيها يقول أيضا وهو من بديع النظم
وقلعة عانق العيون سافلها
…
وجاز منطقة الجوزاء عاليها
لا تعرف القطر إذ كان الغمام لها
…
أرضا توطّأ قطريه مواشيها
إذا الغمامة راحت غاض ساكنها
…
حياضها قبل أن تهمي عواليها
يعدّ من أنجم الأفلاك مرقبها
…
لو أنّه كان يجري في مجاريها
ردّت مكايد أقوام مكايدها
…
ونصّرت لدواهيهم دواهيها
وفيها يقول جمال الدين علي بن أبي منصور:
كادت لبون سموّها وعلوّها
…
تستوقف الفلك المحيط الدّايرا
وردت قواطنها المجرّة منهلا
…
ورعت سوابقها النّجوم زواهرا
ويضلّ صرف الدهر منها خائفا
…
وجلا، فما يمسي لديها حاضرا!
ويقال في مدينة حلب: حلب إبراهيم «93» ، لأن الخليل صلوات الله على نبيّنا وعليه وسلامه، كان يسكنها، وكانت له الغنم الكثيرة فكان يسقي الفقراء، والمساكين والوارد والصادر من ألبانها فكانوا يجتمعون ويسألون حلب إبراهيم فسميت بذلك. وهي من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع وإتقان الترتيب واتساع الأسواق وانتظام بعضها ببعض، وأسواقها مسقفة بالخشب فأهلها دائما في ظلّ ممدود، وقيساريتها «94» لا تماثل حسنا وكبرا وهي تحيط بمسجدها، وكلّ سماط منها محاذي لباب من أبواب المسجد، ومسجدها الجامع من أجمل المساجد «95» ، في صحنه بركة ماء، ويطيف به بلاط عظيم الاتساع، ومنبرها بديع العمل مرصع بالعاج والأبنوس.
وبقرب جامعها مدرسة مناسبة له في حسن الوضع واتقان الصنعة تنسب لأمراء حمدان، وبالبلد سواها ثلاث مدارس، وبها مارستان «96» .
وأما خارج المدينة فهو بسيط أفيح عريض، به المزارع العظيمة وشجرات الأعناب منتظمة به، والبساتين على شاطىء نهرها، وهو النهر الذي يمر بحماة ويسمى العاصي «97» وقيل أنه سمي بذلك لانه يخيل لناظره أن جريانه من أسفل إلى علو، والنفس تجد في خارج مدينة حلب انشراحا وسرورا ونشاطا لا يكون في سواها، وهي من المدن التي تصلح للخلافة.
قال ابن جزي: أطنبت الشعراء في وصف محاسن حلب وذكر داخلها وخارجها وفيها يقول أبو عبادة البحتري «98» :
يا برق أسفر عن قويق مطالبي
…
حلب، فأعلى القصر من بطياس «99»
عن منبت الورد المعصفر صبغه
…
في كلّ ضاحية ومجنى الآس!
أرض إذا استوحشت ثم أتيتها
…
حشدت عليّ فأكثرت إيناسي
وقال فيها الشاعر المجيد أبو بكر الصنوبري «100» :
سقى حلب المزن مغنى حلب
…
فكم وصلت طربا بالطّرب
وكم مستطاب من العيش لذ
…
بها إذ بها العيش لم يستطب
إذا نشر الزّهر أعلامه
…
بها ومطارفه والعذب
غذا وحواشيه من فضّة
…
تروق وأوساطه من ذهب
وقال أبو العلاء المعري «101» :
حلب للوارد جنة عدن
…
وهي للغادرين نار سعير
والعظيم العظيم يكبر في عي
…
نيه منها قدر الصغير الصّغير
فقويق في أنفس القوم بحر
…
وحصاة منه مكان ثبير!
وقال فيها أبو الفتيان بن حيّوس «102»
يا صاحبيّ إذا أعياكما سقمي
…
فلقّياني نسيم الرّيح من حلب
من البلاد التي كان الصّبا سكنا
…
فيها، وكان الهوى العذريّ من أربي
وقال فيها أبو الفتح كشاجم «103» :
وما أمتعت جارها بلدة
…
كما أمتعت حلب جارها
بها قد تجمّع ما تشتهي
…
فزرها فطوبى لمن زارها
وقال أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي العنسي:
حادي العيس، كم تنيخ المطايا
…
سق بروحي من بعدهم في سياق
حلب إنها مقرّ غرامي
…
ومرامي وقبلة الأشواق!
لا خلا جوشن وبطياس وال
…
عبد من كلّ وابل غيداق «104»
كم بها مرتع لطرف وقلب
…
فيه سقي المنى بكأس دهاق
وتغنّي طيوره لإرتياح
…
وتثني غصونه للعناق
وعلوّ الشّهباء حيث استدارت
…
أنجم الأفق حولها كالنّطاق.
رجع، وبحلب ملك الأمراء أرغون الدّوادار أكبر أمراء الملك الناصر «105» ، وهو من الفقهاء موصوف بالعدل لكنه بخيل. والقضاة بحلب أربعة للمذاهب الأربعة، فمنهم القاضي كمال الدين بن الزّملكاني «106» شافعي المذهب عالي الهمة كبير القدر كريم النفس حسن الأخلاق متفنن بالعلوم، وكان الملك الناصر قد بعث إليه ليولّيه قضاء القضاة بحضرة ملكه فلم يمض له ذلك، وتوفى ببلبيس وهو متوجه إليها، ولما ولى قضاء حلب قصدته الشعراء من دمشق وسواها وكان فيمن قصده شاعر الشام شهاب الدين أبو بكر محمد ابن الشيخ
المحدث شمس الدين أبي عبد الله محمد بن نباتة القرشي الأموي الفارقي، «107» فامتدحه بقصيدة طويلة حافلة، أولها:
أسفت لفقدك جلّق «108» الفيحاء
…
وتباشرت لقدومك الشّهباء
وعلا دمشق وقد رحلت كابة
…
وعلا ربا حلب سنا وسناد
قد أشرقت دار سكنت فناءها
…
حتّى غدت ولنورها لألأء
يا سائرا يبغي المكارم والعلى
…
ممّن يبخّل عنده الكرماء
هذا كمال الدين لذ بجنابه
…
تنعم؟ فثمّ الفضل والنّعماء
قاضي القضاة أجلّ من أيامه
…
تغنى بها الأيتام والفقراء
قاض زكا أصلا وفرعا فاعتلى
…
شرفت به الآباء والأبناء!
منّ الإله على بني حلب به
…
لله وضع الفضل حيث يشاء
كشف المعمّى فهمه وبيانه
…
فكأنّما ذاك الذّكاء ذكاء
يا حاكم الحكّام قدرك سابق
…
عن أن تسرّك رتبة شمّاء
إنّ المناصب دون همّتك التي
…
في الفضل دون محلّها الجوزاء
لك في العلوم فضايل مشهورة
…
كالصّبح شقّ له الظلام ضياء
ومناقب شهد العدوّ بفضلها
…
والفضل ما شهدت به الأعداء!
وهي أزيد من خمسين بيتا، وأجازه عليها بكسوة ودراهم وانتقد عليه الشعراء ابتداءه بلفظ أسفت.
قال ابن جزي: وليس كلامه في هذه القصيدة بذلك، وهو في المقطعات أجود منه في القصائد، وإليه انتهت الرياسة في الشعر على هذا العهد في جميع بلاد المشرف وهو من ذرية الخطيب أبي يحيى عبد الرحيم بن نباتة منشئ الخطب الشهيرة، ومن بديع مقطعاته في التورية قوله:
علقتها غيداء حالية العلى
…
تجني على عقل المحبّ وقلبه
بخلت بلؤلؤ ثغرها عن لاثم
…
فغدت مطوقة بما بخلت به!
رجع، ومن قضاة حلب، قاضي قضاة الحنفية الامام المدرس ناصر الدين ابن العديم «109» حسن الصورة والسيرة، أصيل بمدينة حلب.
تراه إذا ما جئته متهلّلا
…
كأنك تعطيه الذي أنت سائله «110» !
ومنهم قاضي القضاة المالكية لا أذكره، كان من الموثقين بمصر وأخذ الخطة عن غير استحقاق، ومنهم قاضي قضاة الحنابلة لا أذكر اسمه وهو من أهل صالحية دمشق. ونقيب الاشراف بحلب بدر الدين ابن الزهراء «111» . ومن فقهائها شرف الدين ابن العجمي 11»
وأقاربه هم كبراء مدينة حلب.
ثم سافرت منها إلى مدينة تيزين «113» وهي على طريق قنّسرين «114» ، وضبط اسمها بتاء معلوة مكسورة وياء مدّ وزاي مكسورة وياء مد ثانية ونون، وهي حديثة اتخذها التركمان، وأسواقها حسان، ومساجدها في نهاية من الاتقان، وقاضيها بدر الدين العسقلاني، وكانت مدينة قنسرين قديمة كبيرة ثم خربت ولم يبق الا رسومها.
ثم سافرت إلى مدينة أنطاكية، «115» وهي مدينة عظيمة أصيلة، وكان عليها سور محكم لا نظير له في أسوار بلاد الشام، فلما فتحها الملك الظاهر هدم سورها، وأنطاكية كثيرة العمارة، ودورها حسنة البناء كثيرة الأشجار والمياه، وبخارجها نهر العاصي، وبها قبر حبيب النجار «116» رضي الله عنه، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر، شيخها الصالح المعمّر محمد بن علي، سنّه ينيف على الماية، وهو ممتع بقوته، دخلت عليه مرة في بستان له وقد جمع حطبا ورفعه على كاهله ليأتي به منزله بالمدينة، ورأيت ابنه قد أناف على الثمانين إلا أنه محدودب الظهر لا يستطيع النهوض، ومن يراهما يظن الوالد منهما ولدا والولد والدا!! ثم سافرت إلى حصن بغراس «117» وضبط اسمه ببناء موحدة مضمومة وغين معجمة مسكنة وراء وآخره سين مهمل، وهو حصن منيع لا يرام، عليه البساتين والمزارع، ومنه يدخل إلى بلاد سيس «118» ، وهي بلاد كفار الارمن، وهم رعية للملك الناصر يؤدون إليه مالا، ودراهمهم فضة خالصة، تعرف بالبغلية «119» ، وبها تصنع الثياب الدبليزية «120» ، وأمير هذا الحصن صارم الدين بن الشيباني، وله ولد فاضل اسمه علاء الدين وابن أخ اسمه حسام الدين فاضل كريم يسكن الموضع المعروف بالرّصص بضم الراء والصاد المهمل الأول «121» ، ويحفظ الطريق إلى بلاد الأرمن.