الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنده، حين إقامتي معه من الصلاة. ولما أردت النوم قال لي: اصعد إلى سطح الزاوية فنم هنالك وذلك أوان القيظ، فقلت للأمير: بسم الله، فقال لي (وما منا إلا له مقام معلوم)«48» فصعدت السطح فوجدت به حصيرا ونطعا وآنية للوضوء وجرة ماء وقدحا للشرب. فنمت هنالك.
كرامة لهذا الشيخ
رأيت ليلتي تلك، وأنا نائم بسطح الزاوية كأني على جناح طائر عظيم يطير بي في سمت القبلة، ثم يتيامن ثم يشرق ثم يذهب في ناحية الجنوب ثم يبعد الطيران في ناحية الشرق وينزل في أرض مظلمة خضراء ويتركني بها فعجبت من هذه الرؤيا، وقلت في نفسي:
إن كاشفني الشيخ برؤياي فهو كما يحكى عنه! فلما غدوت لصلاة الصبح قدمني إماما لها، ثم أتاه الأمير يلملك فوادعه وانصرف. وودعه من كان هناك من الزوار وانصرفوا أجمعين من بعد أن زودهم كعيكات صغارا. ثم صلى سبحة الضحى، ودعاني وكاشفني برؤياي، فقصصتها عليه فقال سوف تحج وتزور النبي صلى الله عليه وسلم وتجول في بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك وبلاد الهند وتبقى بها مدة طويلة وستلقى بها أخي دلشاد الهندي، ويخلّصك من شدة تقع فيها، ثم زوّدني كعيكات ودراهم ووادعته وانصرفت، ومنذ فارقته لم ألق في أسفاري إلا خيرا وظهرت علي بركاته، ثم لم ألق فيمن لقيته مثله الا الولي سيدي محمد الموله، بأرض الهند.
ثم رحلنا إلى المدينة النّحرارية «49» وهي رحبة الفناء، حديثة البناء، أسواقها حسنة الرواء، وضبطها بفتح النون وحاء مهمل مسكن وراءين، وأميرها كبير القدر يعرف بالسّعدي وولده في خدمة ملك الهند وسنذكره، وقاضيها صدر الدين سليمان المالكي
من كبار المالكية «50» سفر عن الملك الناصر إلى العراق، «51» وولى قضاء البلاد الغربية وله هيئة وصورة حسنة وخطيبها شرف الدين السخاوي من الصالحين. ورحلت إلى مدينة أبيار «52» وهي قديمة البناء، أرجة الأرجاء، كثيرة المساجد، ذات حسن زائد، وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الباء الموحدة وياء آخر الحروف وألف وراء، وهي بمقربة من النّحرارية يفصل بينهما النيل وتصنع بأبيار ثياب حسان تغلو قيمتها بالشام والعراق ومصر وغيرها، ومن الغريب قرب النحرارية منها والثياب التي تصنع بها غير معتبرة ولا مستحسنة عند أهلها.
ولقيت بأبيار قاضيها عز الدين المليحي الشافعي وهو كريم الشمايل كبير القدر، حضرت عنده مرة يوم الركبة وهم يسمعون بذلك يوم ارتقاب هلال رمضان. وعادتهم فيه ان يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان «53» بدار القاضي ويقف على الباب نقيب المتعمّمين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة، فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه تلقاه ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلا: بسم الله. سيدنا فلان الدين! فيسمعه القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به، فإذا تكاملوا هنالك ركب
القاضي وركب من معه أجمعين وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والعبيد والصبيان وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال عندهم، وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب، وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس، ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون، هكذا فعلهم كل سنة.
ثم توجهت إلى مدينة المحلة الكبيرة «54» وهي جليلة المقدار، حسنة الآثار كثير أهلها، جامع بالمحاسن شملها، واسمها بيّن، وبهذه المدينة قاضي القضاة، ووالي الولاة، وكان قاضي قضاتها أيام وصولي إليها في فراش المرض ببستان له على مسافة فرسخين من البلد وهو عز الدين. بن خطيب الاشمونين «55» ، فقصدت زيارته صحبة نائبه الفقيه أبي القاسم ابن بنون المالكي التونسي، وشرف الدين الدميري قاضي محلة منوف «56» وأقمنا عنده يوما.
وسمعت منه، وقد جرى ذكر الصالحين، أن على مسيرة يوم من المحلة الكبيرة بلاد البرلس 5»
ونسترو «58» ، وهي بلاد الصالحين وبها قبر الشيخ مرزوق صاحب المكاشفات، فقصدت تلك البلاد ونزلت بزاوية الشيخ المذكور، وتلك البلاد كثيرة النخل والثمار والطير البحري، والحوت المعروف بالبوري، «59» ومدينتهم تسمى ملطين «60» وهي على ساحل البحيرة
المجتمعة من ماء النيل وماء البحر المعروفة ببحيرة تنّيس «61» ونسترو بمقربة منها، نزلت هنالك بزاوية الشيخ شمس الدين الفلوي من الصالحين، وكانت تنّيس «62» بلدا عظيما شهيرا وهي الآن خراب.
قال ابن جزى: تنّيس بكسر التاء المثناة والنون المشددة وياء وسين مهمل، وإليها ينسب الشاعر المجيد أبو الفتح بن وكيع وهو القائل في خليجها.
قم فاسقني، والخليج مضطرب
…
والريح تثني ذوائب القصب
كأنها والرياح تعطفها
…
صبّ قنا. سندسية العذب
والجوّ في حلّة ممسّكة
…
قد طرزتها البروق بالذّهب
ونسترو، بفتح النون وأسكان السين وراء مفتوحة وواو مسكن، والبرلّس بباء موحدة وراء وآخره سين مهمل، وقيده بعضهم بضم حروفه الأول الثلاث وتشديد اللام، وقيده أبو بكر بن نقطة بفتح الاولين، وهو على البحر. ومن غريب ما اتّفق به ما حكاه أبو عبد الله الرّازي عن أبيه أن قاضي البرلّس، كان رجلا صالحا، خرج ليلة إلى النيل فاسبغ الوضوء وصلى ما شاء الله أن يصلي فسمع قائلا يقول:
لولا رجال لهم سرد يصومونا
…
وآخرون لهم ورد يقومونا
لزلزلت أرضكم من تحتكم سحرا
…
لأنكم قوم سوء لا تبالونا!
قال: فتجوزت في صلاتي وأدرت طرفي فما رأيت أحدا ولا سمعت حسا فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى.
رجع، ثم سفرت في أرض رملة إلى مدينة دمياط «63» وهي مدينة فسيحة الأقطار متنوعة الثمار، عجيبة الترتيب، آخذة من كل حسن بنصيب، والناس يضبطون اسمها بإعجام الذال، وكذلك ضبطه الإمام أبو محمد عبد الله بن علي الرشاطي، وكان شرف الدين الامام العلامة أبو محمد عبد المومن ابن خلف الدمياطي «64» امام المحدثين يضبطها بإهمال الدال، ويتبع ذلك بأن يقول: خلافا للرشاطي وغيره، وهو أعرف بضبط اسم بلده.
ومدينة دمياط على شاطىء النّيل وأهل الدور الموالية له يستقون منه الماء بالدلاء، وكثير من دورها بها دركات ينزل فيها إلى النيل وشجر الموز بها كثير يحمل ثمره إلى مصر في المراكب، وغنمها سائمة هملا بالليل والنهار، ولهذا يقال في دمياط: سورها حلوى، وكلابها غنم! وإذا دخلها أحد لم يكن له سبيل إلى الخروج عنها إلا بطابع الوالي، فمن كان من الناس معتبرا طبع له في قطعة كاغد يستظهر به لحراس بابها، وغيرهم يطبع على ذراعه فيستظهر به! والطير البحري بهذه المدينة كثير متناهي السمن. وبها الألبان الجاموسية التي لا مثل لها في عذوبة الطعم وطيب المذاق، وبها الحوت البوري يحمل منها إلى الشام وبلاد الروم ومصر، وبخارجها جزيرة بين البحر والنيل تسمى البرزخ «65» ، بها مسجد وزاوية لقيت بها شيخها المعروف بابن قفل وحضرت عنده ليلة جمعة ومعه جماعة من الفقراء الفضلاء المتعبدين الأخيار قطعوا ليلتهم صلاة وقراءة وذكرا.
ودمياط هذه حديثة البناء والمدينة القديمة هي التي خرّبها الافرنج «66» على عهد الملك