الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصالح، وبها زاوية الشيخ جمال الدين السّاوي «67» قدوة الطائفة المعروفة بالقرندرية «68» وهم الذين يحلقون لحاهم وحواجبهم، ويسكن الزاوية في هذا العهد الشيخ فتح التكروري.
[لحية الشيخ جمال الدين]
حكاية، يذكر أن السبب الداعي للشيخ جمال الدين الساوي إلى حلق لحيته وحاجبيه أنه كان جميل الصورة حسن الوجه فعلقت به امرأة من أهل ساوة وكانت تراسله وتعارضه في الطرق وتدعوه لنفسها وهو يمتنع ويتهاون، فلما أعياها أمره دست له عجوزا تصدت له إزاء دار على طريقه إلى المسجد وبيدها كتاب مختوم، فلما مر بها قالت له يا سيدي: أتحسن القراءة؟ قال نعم، قالت له: هذا الكتاب وجهه اليّ ولدي وأحب أن تقرأه علي، فقال لها: نعم، فلما فتح الكتاب قالت له: يا سيدي إن لولدي زوجة وهي باسطوان الدار، فلو تفضلت بقراءته بين بابي الدار بحيث تسمعها: فأجابها لذلك، فلما توسط بين البابين غلقت العجوز الباب «69» وخرجت المرأة وجواريها فتعلقن به وأدخلنه إلى داخل الدار. وراودته المرأة عن نفسه، فلما رأى أن لا خلاص له، قال لها: إني حيث تريدين فأريني بيت الخلاء، فأرته إياه فأدخل معه الماء وكانت عنده موسى حديدة فحلق لحيته وحاجبيه وخرج عليها فاستقبحت هيئته واستنكرت فعله! وأمرت بإخراجه، وعصمه الله بذلك فبقى على هيئته فيما بعد وصار كلّ من يسلك طريقته يحلق رأسه ولحيته وحاجبيه.
كرامة لهذا الشيخ
يذكر أنه لما قصد مدينة دمياط لزم مقبرتها وكان بها قاض يعرف بابن العميد فخرج يوما إلى جنازة بعض الأعيان فرأى الشيخ جمال الدين بالمقبرة فقال له أنت الشيخ المبتدع؟ فقال له: وأنت القاضي الجاهل تمرّ بدابتك بين القبور وتعلم أن حرمة الانسان ميتا كحرمته حيا! فقال له القاضي: وأعظم من ذلك حلقك للحيتك!! فقال له: إياي تعني؟
وزعق الشيخ ثم رفع رأسه فإذا هو ذو لحية سوداء عظيمة، فعجب القاضي ومن معه ونزل
إليه عن بغلته ثم زعق ثانية فإذا هو ذو لحية بيضاء حسنة ثم زعق ثالثة ورفع رأسه فإذا هو بلا لحية كهيئته الأولى، فقبل القاضي يده وتلمذ له وبنى له زاوية حسنة، وصحبه أيام حياته، ثم مات الشيخ فدفن بباب الزاوية حتى يكون كل داخل إلى زيارة الشيخ يطأ قبره! وبخارج دمياط المزار المعروف بشطا «70» بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة، وهو ظاهر البركة يقصده أهل الديار المصرية، وله أيام في السنة معلومة لذلك، وبخارجها أيضا بين بساتينها موضع يعرف بالمنية «71» فيه شيخ من الفضلاء يعرف بابن النعمان قصدت زاويته وبت عنده.
وكان بدمياط أيام إقامتي بها وال يعرف بالمحسني «72» من ذوي الإحسان والفضل، بني مدرسة على شاطىء النيل بها كان نزولي في تلك الأيام وتأكدت بيني وبينه مودة.
ثم سافرت إلى مدينة فار سكور «73» وهي مدينة على ساحل النيل، والكاف الذي في اسمها مضموم، ونزلت بخارجها ولحقني هنالك فارس وجّهه إلى الأمير المحسني، فقال لي إن الأمير سأل عنك وعرف بسيرتك فبعث إليك بهذه النفقة، ودفع اليّ جملة دراهم جزاه الله خيرا. ثم سافرت إلى مدينة أشمون الرّمان «74» ، وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الشين المعجم، ونسبت إلى الرّمان، لكثرته بها، ومنها يحمل إلى مصر، وهي مدينة عتيقة كبيرة على خليج من خلج النيل، ولها قنطرة خشب ترسو المراكب عندها، فإذا كان العصر رفعت تلك الخشب وجازت المراكب صاعدة ومنحدرة. وبهذه البلدة قاضي القضاة ووالي الولاة «75» .
ثم سافرت عنها إلى مدينة سمنّود «76» وهي على شاطىء النيل كثيرة المراكب حسنة
الأسواق وبينها وبين المحلة الكبيرة ثلاثة فراسخ، وضبط اسمها بفتح السين المهمل والميم وتشديد النون وضمها وواو ودال مهمل، ومن هذه المدينة ركبت النيل مصعدا إلى مصر ما بين مدائن وقرى منتظمة متصل بعضها ببعض، ولا يفتقر راكب النيل إلى استصحاب الزاد لأنه مهما أراد النزول بالشاطئ نزل للوضوء والصلاة وشراء الزاد وغير ذلك، والأسواق متصلة من مدينة الاسكندرية إلى مصر ومن مصر إلى مدينة أسوان «77» من الصعيد.
ثم وصلت إلى مدينة مصر هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد «78» ، ذات الأقاليم العريضة، والبلاد الأريضة المتناهية في كثرة العمارة، المتباهية بالحسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر، ومحط رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم وجاهل وجادّ وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم، على سعة مكانها وإمكانها «79» ، شبابها يجدّ على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح منزل السعد، قهرت قاهرتها الامم، وتملكت ملوكها نواصي العرب والعجم، ولها خصوصية النيل التي جل خطرها، واغناها عن ان يستمد القطر قطرها، وأرضها مسيرة شهر لمجد السير، كريمة التربة، مؤنسة لذوي الغربة.
قال ابن جزي: وفيها يقول الشاعر:
لعمرك ما مصر بمصر وإنما
…
هي الجنّة الدّنيا لمن يتبصّر
فأولادها الولدان والحور عينها
…
وروضتها الفردوس، والنيل كوثر.
وفيها يقول ناصر الدين بن ناهض:
شاطىء مصر جنّة
…
ما مثلها من بلد
لا سيما مذ زخرفت
…
بنيلها المطرد
وللرّياح فوقه
…
سوابغ من زرد
مسرودة ما مسّها
…
داودها بمبرد
سائلة هواؤها
…
يرعد عاري الجسد
والفلك كالافلاك بين
…
حادر ومصعد
مصر القاهرة عن المكتبة الوطنية بباريز رقم C 61657