الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومسجد ينسب «84» إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه ومسجد الفتح حيث أنزلت سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما.
وكانت إقامتنا بالمدينة الشريفة في هذه الوجهة أربعة أيام، وفي كل ليلة نبيت بالمسجد الكريم، والنّاس قد حلّقوا في صحنه حلقا وأوقدوا الشمع الكثير، وبينهم ربعات القرآن الكريم يتلونه، وبعضهم يذكرون الله، وبعضهم في مشاهدة التربة الطاهرة زادها الله طيبا، والحداة بكل جانب يترنمون بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، وهكذا دأب الناس في تلك الليالي المباركة، ويجودون بالصّدقات الكثيرة على المجاورين والمحتاجين.
وكان في صحبتي في هذه الوجهة من الشام إلى المدينة الشريفة رجل من أهلها فاضل يعرف بمنصور بن شكل «85» ، وأضافني بها، واجتمعنا بعد ذلك بحلب وبخاري، وكان في صحبتي أيضا قاضي الزيدية «86» شرف الدين قاسم بن سنان، وصحبني أيضا أحد الصلحاء الفقراء من أهل غرناطة يسمى بعلي بن حجر الأموي.
حكاية [الهاتف بالليل]
لما وصلنا إلى المدينة كرمها الله، وصلى الله على ساكنها أفضل الصلاة ذكر لي عليّ بن حجر المذكور أنه رأى تلك الليلة في النوم قائلا يقول له: اسمع مني واحفظ عني.
هنيئا لكم يا زائرين ضريحه
…
أمنتم به يوم المعاد من الرجس
وصلتم إلى قبر الحبيب بطيبة
…
فطوبى لمن يضحي بطيبة أو يمسي!
وجاور هذا الرجل بعد حجّه بالمدينة، ثم رحل إلى مدينة دهلى قاعدة بلاد الهند في سنة ثلاث وأربعين «87» فنزل في جواري وذكرت حكاية رؤياه بين يدي ملك الهند، فأمر بإحضاره فحضر بين يديه، وحكى له ذلك فأعجبه واستحسنه وقال له كلاما جميلا بالفارسية، وأمر بإنزاله وأعطاه ثلاثمائة تنكة من ذهب، ووزن التنكة من دنانير المغرب ديناران ونصف دينار، وأعطاه فرسا محلّى السرج واللّجام وخلعة، وعيّن له مرتّبا في كل يوم.
وكان هناك فقيه طيّب من أهل غرناطة ومولده ببجاية يعرف هنالك بجمال الدين المغربي فصحبه علي بن حجر المذكور وواعده على أن يزوّجه بنته وأنزله بدويرة خارج داره واشترى جارية وغلاما، وكان يترك الدنانير في مفرش ثيابه ولا يطمئن بها لأحد فاتفقا:
الغلام والجارية على أخذ ذلك الذهب وأخذاه وهربا، فلما أتى الدار لم يجد لهما أثرا ولا للذهب، فامتنع من الطعام والشراب واشتد به المرض أسفا على ما جرى عليه، فعرضت قضيته بين يدي الملك فأمر أن يخلف له ذلك فبعث إليه من يعلمه بذلك فوجده قد مات رحمه الله تعالى.
وكان رحيلنا من المدينة، نريد مكة شرفهما الله، فنزلنا بقرب مسجد ذي الحليفة الذي أحرم «88» منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، والمدينة منه على خمسة أميال، وهو منتهي حرم المدينة، وبالقرب منه وادي العقيق، وهنالك تجردت من مخيط الثياب، واغتسلت ولبست ثوب إحرامي، وصليت ركعتين وأحرمت بالحج مفردا «89» ولم أزل ملبيا في كل سهل وجبل وصعود وحدور إلى أن أتيت شعب عليّ عليه السلام «90» ، وبه نزلت تلك الليلة، ثم
رحلنا منه ونزلنا بالرّوحاء «91» وبها بئر تعرف ببئر ذات العلم، ويقال إن عليا عليه السلام قاتل بها الجن «92» ، ثم رحلنا ونزلنا بالصفراء «93» وهو واد معمور فيه ماء ونخل وبنيان وقصر يسكنه الشّرفاء الحسنيون وسواهم وفيها حصن كبير، وتواليه حصون كثيرة وقرى متصلة. ثم رحلنا منه ونزلنا ببدر «94» حيث نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما وأنجز وعده الكريم واستأصل صناديد المشركين، وهي قرية فيها حدائق نخل متصلة، وبها حصن منيع يدخل اليه من بطن واد بين جبال، وببدر عين فوّارة يجرى ماؤها، وموضع القليب الذي سحب به أعداء الله المشركون هو اليوم بستان وموضع الشهداء رضي الله عنهم خلفه، وجبل الرحمة الذي نزلت به الملائكة «95» على يسار الداخل منه إلى الصفراء وبإزائه جبل الطبول، وهو شبه كثيب الرمل ممتد، ويزعم أهل تلك البلاد أنهم يسمعون هنالك مثل أصوات الطبول في كل ليلة جمعة، وموضع عريش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان به يوم بدر يناشد ربّه جلّ وتعالى متصل بسفح جبل الطبول، وموضع الوقيعة أمامه، وعند نخل القليب مسجد يقال له مبرك ناقة النبي صلى الله عليه وسلم تسليما، وبين بدر والصّفراء نحو بريد «96» في واد بين جبال تطرّد فيه العيون وتتصل حدائق النخل.
ورحلنا من بدر إلى الصحراء المعروفة بقاع البزواء «97» وهي برية يضل بها الدليل، ويذهل عن خليله الخليل، مسيرة ثلاث، وفي منتهاها وادي رابغ يتكون فيه بالمطر غدران يبقى
بها الماء زمانا طويلا، ومنه يحرم حجاج مصر والمغرب وهو دون الجحفة «98» .
وسرنا من رابغ ثلاثا إلى خليص «99» ، ومررنا بعقبة السّويق وهي على مسافة نصف يوم من خليص كثيرة الرمل، والحجاج يقصدون شرب السّويق بها ويستصحبونه من مصر والشّام برسم ذلك، ويسقونه الناس مخلطا بالسكر، والأمراء يملأون منه الأحواض ويسقونه الناس ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بها ولم يكن مع أصحابه طعام فأخذ من رملها فأعطاهم إياه فشربوه سويقا.
ثم نزلنا بركة خليص «100» وهي في بسيط من الأرض كثيرة حدائق النخل لها حصن مشيد في قنّة جبل، وفي البسيط حصن خرب وبها عين فوارة قد صنعت لها أخاديد في الأرض وسربت إلى الضياع، وصاحب خليص شريف حسني النسب، وعرب تلك الناحية يقيمون هنالك سوقا عظيمة يجلبون إليها الغنم والتمر والإدام.
ثم رحلنا إلى عسفان «101» وهي في بسيط من الأرض بين جبال، وبها آبار ماء معين تنسب إحداها إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمدرّج المنسوب إلى عثمان أيضا على مسافة نصف يوم من خليص، وهو مضيق بين جبلين وفي موضع منه بلاط على صورة درج وأثر عمارة قديمة، وهنالك بئر تنسب إلى عليّ عليه السلام ويقال إنه أحدثها.
وبعسفان حصن عتيق وبرج مشيد قد أوهنه الخراب وبه من شجر المقل «102» كثير.
ثم رحلنا من عسفان ونزلنا بطن مرّ ويسمى أيضا مرّ الظهران «103» ، وهو واد مخصب كثير النخل ذو عين فوارة سيالة تسقى تلك النّاحية، ومن هذا الوادي تجلب الفواكه والخضر إلى مكة شرفها الله تعالى.
ثم أدلجنا من هذا الوادي المبارك والنفوس مستبشرة ببلوغ أمالها، مسرورة بحالها ومآلها، فوصلنا عند الصباح إلى البلد الأمين مكة شرفها الله تعالى فوردنا منها على حرم الله تعالى ومبوّأ خليله ابراهيم، ومبعث صفيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلنا البيت الحرام الشريف الذي من دخله كان آمنا. من باب بني شيبة «104» ، وشاهدنا الكعبة الشريفة زادها الله تعظيما وهي كالعروس تجلى على منصة الجلال، وترفل في برود الجمال، محفوفة بوفود الرحمن، موصلة إلى جنّة الرّضوان، وطفنا بها طواف «105» القدوم واستلمنا الحجر الكريم، وصلّينا ركعتين بمقام ابراهيم، وتعلّقنا بأستار الكعبة عند الملتزم، بين الباب والحجر الأسود حيث يستجاب الدعاء، وشربنا من ماء زمزم، وهو لما شرب له، حسبما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تسليما، ثم سعينا بين الصفا والمروة ونزلنا هنالك بدار بمقربة من باب إبراهيم، والحمد لله الذي شرفنا بالوفادة على هذا البيت الكريم وجعلنا ممن بلغته دعوة الخليل عليه الصلاة والتسليم، ومتّع أعيننا بمشاهدة الكعبة الشريفة والمسجد العظيم والحجر «106» والحجر الكريم، وزمزم والحطيم.
ومن عجائب صنع الله تعالى أنّه طبع القلوب على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة، والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة، وجعل حبّها متمكنا في القلوب فلا يحلّها أحد إلا أخذت بمجامع قلبه ولا يفارقها إلّا أسفا لفراقها، متولّها لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناويا لتكرار الوفادة عليها، فأرضها المباركة نصب الأعين ومحبتها حشو القلوب حكمة من