الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4) ابن بطّوطة
سيكفينا هذا الرجل أمر التعريف بنفسه من خلال ما حكاه هو عن سيرته الذاتية.
وهكذا فإننا لا نجد عنه شيئا سوى ما ورد عن لسان الدين ابن الخطيب (ت 776- 1375 1374) في الإحاطة من معلومات جدّ محدودة، على خلاف صنيعه مع ابن جبير الذي ينتمي لبلدته والذي خصص له لسان الدّين عشر صفحات كاملة!! وسوى ما ورد عن ابن خلدون (ت 808- 1405- 06) في مقدمته، وما ورد عن ابن حجر (ت 852- 1448) في الدرر الكامنة من معلومات أضافت بعض العناصر المفيدة على نحو ما قرأناه عن التمجروتي عام 997- 1589 في" النفحة المسكية"، والمقري (ت 1041- 1632) في" نفح الطيب
…
"
لكن ما دوّنه في رحلته كان كافيّا وحده ليعطي فكرة مدققة عن الرجل من نشأته بطنجة إلى أن استقبله بفاس السلطان أبو عنان، وإلى أن صحب ركبه وهو عائد من مراكش يحتمل شلو أبيه
…
فكرة مدققة عن صفاته، عن شخصيته، عن إبائه، عن حالته الاجتماعية.
وتبقى بعد هذا نحو ثلاث عشر سنة من حياة الرجل ظلت تفاصيلها غائبة عنا لم نعرف عنها شيئا، عن أهله وعن نسله سوى أنه يزاول القضاء في إقليم تامسنا الذي يعتبر من أوسع وأغنى الأقاليم المغربية في مملكة فاس «9»
…
لقد خفت صوته باختفاء وليّ نعمته السلطان أبي عنان.
وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن يوسف اللّواتي الطنجي الملقب في المشرق بشمس الدّين والمكنّى عندي بأبي أحمد لوجود ولد له يحمل هذا الاسم «10»
…
ومعلوم أن (لواتة) قبيلة واسعة الانتشار في مصر يؤكد المقريزي أنها عربية «11» .
ولد بطنجة يوم الاثنين 17 رجب 703- 24 يبراير 1304، ويبدو أن الأسرة تنسب إلى سيدة كانت تحمل اسم فاطمة: عادة معروفة من قديم تنسب الناس إلى أمهاتهم، وتتحول فاطمة في المشرق- تدلّلا- إلى بطة، ونحن نعرف عن ابن بطة العكبرى (ت 387) ، وتمسي بطّة في المغرب بطّوطة كسفّودة على ما في تاج العروس للزّبيدى (فصل الباء من باب الطاء) .
وبيت ابن بطوطة معروف على أنه بيت علم وقضاء
…
ونعرف أن طنجة نفسها كانت
مرفأ دوليا هاما يتوفر على كلّ مقومات الحضارة. وقد عرفنا عن استقبالها للشعراء أمثال أبي الحسن الحصرى صاحب القصيدة التي مطلعها: «ياليل الصبّ متى غده» كما عرفنا عن ابن سمجون اللواتي الطنجي الذي رحل إلى المشرق وعاد لطنجة ومات بها، وقد وقفنا في البرتغال على نص ملكية لبعض مخطوطات (قضاة قرطبة للخشني) : وهو هكذا" ملكه محمد بن محمد بن عبد الرحمن اللّواتي الشهير في طنجة بابن بطوطة" وسنقرأ حديث ابن بطوطة، وهو في رندة، عن ابن عمه أبي القاسم محمد بن يحيى قاضي المدينة
…
كما نعرف عن أسرة البطوطي التي وضع أحد أفرادها بفاس قطعة أسطرلاب فائقة الدقة «12» .
وبعد عودة ابن بطوطة إلى المغرب، وبعد إفلاته من اشاعة" تناجي" بعض المعاصرين حوله على ما أشرنا أمسى من جلساء السلطان أبي عنان الذي أصدر أمرا لكاتبه ابن جزيّ بتدوين رحلة ابن بطّوطة. قبل أن يتقلد هذا الأخير منصب قاضي إقليم تامسنا.
وقد وجدنا في (نفاضة الجراب) للسان الدين ابن الخطيب رسالة موجّهة من هذا إلى القاضي ابن بطوطة. وكان ابن الخطيب قرّر عند ما التجأ إلى المغرب عام 760- 1359 أن يستثمر أمواله في منطقة نفوذ ابن بطوطة، وكانت تامسنا تابعة لمملكة فاس على ما يقوله الحسن ابن الوزان «13» .
وإذا كان مترجموه أهملوا الحديث عن ظروف وفاته، فإن الحافظ ابن حجر سالف الذكر في" الدرر الكامنة"(4، 100) يفيد أن ابن بطوطة بقي إلى سنة سبعين وأدركته وفاته وهو متول للقضاء يعني حتى عهد السلطان عبد العزيز بن أبي الحسن أخى السلطان أبي عنان مما يعني أنّ أجله أدركه بتامسنا التي كانت عاصمتها انذاك أنفا وليس بفاس ولا بطنجة «14»
…
ولله در مولانا جلال الدّين الرومي (672- 1273) عند ما يقول:" حينما نموت لا تبحثوا عن قبورنا في التّراب ولكن ابحثوا عنا في قلوب الناس!! " لقد كان رحله دائما على استعداد، وهو لا يفتأ متنقلا باحثا عما يضمن له الزاد في
خطاب لسان الدين ابن الخطيب لصديقه شمس الدين ابن بطوطة قاضي تامسنا- نسخة خاصة.
تامسنا الأمس قدر لها أن تكتسب اليوم هذه المعلمة الحضارية الكبرى" مسجد الحسن الثاني"
الحل والترحال
…
وقد كان يصدق عليه قول ابن زريق البغدادي في قصيدته:
ما آب من سفر إلا وأزعجه
…
رأى إلى سفر بالعزم يجمعه
كأنّما هو من حل ومرتحل
…
موكّل بفضاء الله يذرعه!
إذا الزمان أراه بالرحيل غنى
…
ولو إلى السّند أضحى وهو يزمعه!!
لقد قام ابن بطوطة برحلاته العديدة التي كان يستهدف فيها أحيانا لسائر أنواع الامتحان، ويتعرض للخطر في عدد من الحالات
…
، وحتى عند ما قام بزيارة الأندلس وبلاد السودان، لكنه نجا من جميع تلك الأهوال فكان لسان حاله ينشد قول الشريف الادريسي:
دعني أجل ما بدت لي
…
سفينة أو مطيّة
لا بدّ يقطع سيري
…
أمنة أو منية!!
وإن الذين يسمحون لأنفسهم بتحجيم ابن بطوطة والادعاء بأنه كان محدود الثقافة كانوا بعيدين عن الحقيقة
…
ولعل بعضهم ظلّل بما قرأه عن تكليف السلطان أبي عنان للكاتب ابن جزي بترتيب الرحلة
…
حيث وجد في ذلك ما يعبر- ربّما- عن" عجز" ابن بطوطة عن القيام بالمهمة
…
! وهذا خطأ" بيّن، تكشف لنا عنه أولا الصفة التي رشّحت ابن جزي للقيام بهذا العمل والتي أشار اليها المقري في (النفح) " بأنه أي ابن جزي، إن كتب أربى على ابن مقلة بخطّه
…
"
وثانيا ما أضفاه ابن جزي نفسه في المقدمة على ابن بطوطة من كل الاوصاف التي تؤكد عن عمق معارف الرحالة: فهو" الشيخ، وهو الفقيه وهو الثقة وهو الصدوق، وهو الذي باحث فرق الأمم، وسبر سير العرب والعجم، ولم أتعرض- يقول ابن جزي- لبحث عن حقيقة ما قال لأنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك
…
!
ونريد أن نقول، ونحن نقف إلى جانب من يقتنعون بالمركز العلمي الموموق للرحالة المغربي، نقول: إن القرار الذي اتخذه السلطان أبو عنان بالإعلان عن مصداقية الرحلة وأهميتها لم يكن قرارا ارتجاليا أو عاطفيا، ولكنه كان وليد استمزاج رأي أعضاء المجلس العلمي الذي اعتاد السلطان أن يركن إليه كلّ مطلع شمس، ذلك المجلس الذي كان بمثابة أكاديمية حقيقية يلجأ إليها العاهل عند الحاجة، وقد قرأنا فيما سجله الكاتب ابن جزي في مقدمة الرحلة أنه" لا تقع في مجلس أبي عنان مسألة علمية في أيّ علم كان، إلا حل مشكلها
وباحث في دقائقها واستخرج غوامضها واستدرك على علماء مجلسه ما فاته من مغلقاتها
…
فكانت مجالسه لا تخلو من مباحثات ومناظرات
…
وقد ذكر العلامة المؤقت أبو زيد عبد الرحمن الجاديري (ت 938- 1534) نقلا عن شيخه الرئيس أبي الوليد اسماعيل بن الأحمر (ت 807- 1405) في شرحه لقول البوصيري:
لعلّ رحمة ربي حين يقسمها
…
تأتي على حسب العصيان في القسم
ذكر ما يؤكد أن ابن بطوطة كان معدودا في صدر أعضاء ذلك" المجلس الأكاديمي".
وقد وقع الكلام بين يدي السلطان أمير المؤمنين أبي عنان
…
في مقعد ملكه من المدينة البيضاء من حضرة فاس بمحضر الفقهاء والعلماء والأساتذة والقضاة والشرفاء والخطباء وأصحاب العلوم
…
وأخذ الرئيس أبو الوليد يعددهم واحدا واحدا إلى أن قال: وشيخنا الفقيه القاضي الخطيب الحاج الكثير الجولة بالمشرق والمغرب وجميع البلاد محمد ابن بطوطة الطنجي العارف بالتاريخ
…
" على ما نذكره في الملاحق.
ومعنى هذا أن الرحالة المغربي كان معدودا في صدر رجالات الفكر والعلم والدولة جميعا «15» وللمتتبع لغضون الرحلة أن يقف بنفسه عند الخطوات الأولى للرجل، وهو يودّع طرابلس، عند ما تقدم على سائر رفاقه وفرض نفسه على بقية أعضاء الركب.
وإن ابن بطوطة، وهو ما يزال في بداية طريقه، في الاسكندرية أخذ عن الشيخ ياقوت تلميذ أبي العباس المرسي، فهو شادلي بالواسطة وقد حصل في دمشق على نحو من ثلاث عشرة إجازة، وفيمن أجازوه أم عبد الله زينب بنت الكمال المقدسية، ولقد كان حريصا على أن يذكر أسماء الذين أجازوه في أرض الشام، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على" انتساب" الرجل إلى بيت العلم والفقه والحديث
…
ولا بد أن نستمع إلى الانتقاد المر الذي وجهه الرحالة العالم لخطيب البصرة الذي لم يحترم قواعد النحو التي إنما عرفت ازدهارها ورواجها بين البصرة والكوفة «16» .
ولنتتبع زيارته لبغداد حيث نجده بالمدرسة المستنصرية يحضر مجالس الامام الشيخ أبي حفص القزويني الذي كان يتناول بالدرس مسند الدّارمي
…
لقد كان حاضرا في مثل هذه المشاهد بذاكرته وبحسه يعترض على ما يسمعه أحيانا إذا لم يقتنع، ويصحح ما يرى أن غيره جافى فيه الصواب.
وهو في بلاد فارس اغتنم الفرصة لاستجماع حصيلة كبرى من المعارف والاتصال بأكبر عدد من رجالات الحديث والفقه والتصوف. وقد كان يعرف كيف يتحبب الى الناس ويتقرب إليهم بما أوتيه، هو نفسه، من خصال العلماء وفضائل الفقهاء
…
وهكذا وجدناه يضيف إلى إجازاته في دمشق إجازات أخرى من بعض رجال العلم والفضل في إصفهان.
أكثر من هذا، استمعنا إليه يخبرنا عن تأليف له جديد، غير هذه الرحلة، وهو خبر طريف، ويتعلق الأمر بتصنيف طلب منه أحد الملوك في آسيا الصغرى: سلطان بركي: أن يؤلفه له حول الحديث الشريف
…
وما من شك في أن المرء لا يجرؤ على حمل القلم للتدوين في موضوع كهذا دون أن يكون متوفرا على زاد من العلم كبير
…
وقد قرأنا بعضا من قصيدته اللّامية في مدح السلطان وهو بالهند:
فلو أن فوق الشمس للمجد رتبة
…
لكنت لأعلاها إماما مؤهّلا
فانت الامام الماجد الأوحد الذي
…
سجاياه حتما أن يقول ويفعلا!!
وكان مما يدل على مكانة الرجل العلمية ما كنا نتحسسه من خلال مذكراته مما كان يعبّر فعلا على أنه أطروفة من أطاريف الزمان وأنّه ليس إمّعة يردد ما قاله الآخرون دون تمحيص. ولأضرب مثلا بما ينقله أحيانا عن ابن جبير من معلومات، فهو عند حديثه مثلا (201 ،I) عن فوائد مستغلات جامع دمشق في كلّ سنة، يقدر ذلك بنحو خمسة وعشرين ألفا دينار ذهبي من سكة بني مرين، وهكذا نجده يحول تقديرات ابن جبير البالغة خمسة عشر ألف دينار من سكة بني عبد المؤمن
…
وقد فعل ذلك لتيويم المعلومات أي جعلها مواكبة لعصره
…
وهو إذ يستأنس بابن جبير أيضا، نراه لا يردد ما أفاده سلفه من أن خطبة الجمعة تتضمن الدعاء للخليفة. وخلافا لذلك نجده يتحدث عن الدعاء لملك مصر لأنّ اليوم غير الأمس والحكام الحاليون ليسوا هم الحكام السابقين!!
وإذا كان ابن الخطيب في الإحاطة نسب اليه المعرفة بالطب فإنه مصيب في ذلك نظرا لما احتوته الرحلة من دلالات وشهادات
…
وابن بطوطة هو الذي لاحظ أنّ أهل الهند لا يجعلون بيت المال عاصبا عندما تستكمل حصص الوارثين على عكس ما يوجد عند المالكية الذين يعتبرون بيت المال عاصبا عند فقدان الوارث وهو ما كان يعتمده المغرب إلى عهد قريب.
وحديث ابن بطوطة عند التعزير عند الشافعية وأنه لا يتجاوز الحد. بينما نجد أن التعزير عند المالكية غير محدد، وان للإمام أن يجتهد فيه حسبما يراه ولو تجاوز الحدّ.
وقد رأيناه بين الفينة والأخرى يتحدث عن أن هذا الحكم يجري على مذهب الشافعية وذلك يجري على مذهب الإمام مالك الأمر الذي يجعل رحلته أيضا مصدرا من مصادر الفقه الإسلامي. وقد سمعناه يقول وقد عرضت عليه وظيفة سياسية هامة:" إن القضاء والمشيخة شغله وشغل آبائه"
…
وقد تحدث فعلا عن فقيه جليل هو أبو الحسن علي الأنجرى الذي كان يتردد على والد ابن بطوطة بطنجة التي عرفت مجالس أمثال الشيخ أبي سعيد «17» وما بالك بسائح يلقى مكانة رفيعة عند الحدود المصرية ويستضيفه" أستاذ دار" الذي يعهد إليه عادة بترصّد علية القوم واداء فروض الاحترام لهم.
وما بالك بفقيه لم يتردد في استنكار ركوب الشيخ هود علي محفّة تحملها أكتاف فتيانه وكأنهم الحيوانات عوض أن يركب متون الخيل التي كانت تمشي مع الموكب مجنوبة؟! ولقد كانت آخر وظيفة له كما قلنا أن كان قاضيا في (أنفا) عاصمة تامسنا التي احتضنت عددا كبيرا من رجال العلم والمعرفة ممّن ترجمت لهم كتب التاريخ من أمثال أبي الحسن ابن الرقاص الذي كان يقرئ بمدرسة أنفا التي بناها السلطان أبو عنان بالجامع الأعظم «18»
…
وإذا كان ابن بطوطة إنما اشتهر بالرحلة التي توجد بين أيدينا، فإن صاحب كتاب:
" دليل مؤرخ المغرب الأقصى" يذكر أن لابن بطوطة تأليفا آخر يحمل اسم (الوسيط في أخبار من حلّ تمنطيط)«19» ، تكلم فيه على رجال المدينة المذكورة التي تقع في إقليم توات، وكانت
اهلة بالعلم في القرنين السادس والسابع الهجري ويقع التأليف في مجلد ضخم على ما أخبره به بعض علماء الإقليم
…
وقد كان مما لفت النظر في الرحلة أنّ ابن بطوطة- بالرغم مما تقلب فيه من وظائف وما مرّ به من ظروف- لم ينس المغرب الذي ظل أمام مخيلته وبين سمعه وبصره.
وحتى نعرف درجة الحسّ الوطني للرجل لا بد أن نلاحظ تصيّده الفرصة لذكر المغرب، فهو يفيدنا أن المغاربة شاركوا ضد هجوم القرامطة على الكعبة، وهي الحقيقة التي نجد لها صدى في المصادر القديمة للتّاريخ الدّولي للمغرب
…
ولم ينس أن يقارن بين (الصقورة) في المغرب وبين (سيربيدار) في فارس
…
ولم ينس أن يقارن بين نظام" الفيلات" في الصين ومثيلاتها في سجلماسة!! بل وبين قطع الأسطول والأجفان بالمغرب وعددها في الصين
…
سواء منها الغزوية او السّفرية، أو الحربية والتجارية بالمصطلح الحديث.
ولقد علقت بمخيلته صور الأودية الكبرى بالمغرب، فهو يقارن وادي سلا، بنهر مدينة إصطنبول
…
ولا يفوته أن يذكر بأنه يدّخر مذكراته التي يكتبها ليفيد بها مواطنيه بالمغرب
…
وعند ذكر الطيور وعند حضور الأسماك، وعند رؤيته للأواني الخزفية التي تقدم إليه، لا بد أن يعتزّ بالخزف الذي تصنعه الأيادي المغربية. وحتى في شكل الخصومات والمرافعات نجده يقارن بين شكلها ونوعها في بلاده الأصلية وفي الأماكن التي كان يتجول فيها
…
ويلاحظ أن الرجل كان في مستوى ما تنعم به بلاده من ذكر جميل ولا بد أن نحضر معه ذات يوم خروجه للأسواق ليقتني الملابس المناسبة لرحلة صيد دعاه إليها السلطان. إنه كان يريد" أن يظهر القوة والهمة"
…
لقد كان حريصا على أن يمثل بلاده أحسن تمثيل إذ كان عظيم الاعتزاز بهويته المغربية في البلاط الهندي. وهو الأمر الذي ما يزال مثقفو الهند يذكرونه إلى اليوم، لقد كان يعلم أن بلاده، في ذلك العهد، كانت على وضع ممتاز، وأحسن على كلّ حال من وضع تلك الجهات، ولذلك فإنه كان يجيب عند ما يسأل عن أصله: بأنه ينتسب إلى بلد أصيل اثيل وفي هذا الصدد لابد أن نلفت النظر إلى نوع من المقارنات الطريفة والدالة على الحسّ الاقتصادي والتجاري الذي كان يتوفر عليه، والذي يعبر عن شمولية شخصيته واكتمالها: قضية تتبّعه للأسعار وتتبّعه للمكاييل والمعايير والموازين، وقيمة العملات حتى لكأنك مصحوبا بجريدة تطلعك على أسعار ما يجري في السوق. وهكذا لم يكن الرحالة رجل فقه وأحكام وأوراق، ولكنه رجل مطلع على كل شيء.
فقد بدا مهتما بقضايا الصرف والمقارنة بين العملة في المغرب وغيره، عند ما كان بمصر والبصرة، وتركيا
…
والهند، وكذلك المقارنة بين الرطل بالمغرب والمنّ في الجهات
الأخرى، والأوقية والدينار المغربي وما تعرف عليه هناك مما سماه التّنكة
…
ولم يفته، وهو يتحدث عن دور ضرب السّكة في الصّين أن يذكر دور السكة في بلاده المغرب. إن أسعار الخيول هناك غيرها في المغرب
…
وإن أسعار الفراء في أرض الظلمة ترتفع إلى مبلغ هائل لا يتصوره شخص نشأ في أرض لا ترتدي الفراء.
وقد رأيناه أحيانا يربط بين المعلومات المتعلقة بآسيا والمعلومات المتصلة بإفريقيا السوداء
…
ومن هنا اعتبرت الرحلة في العصر الوسيط دليلا تجاريا للذين تهمهم الدراسات الاقتصادية على ذلك العهد على ما أشرنا إليه «21» ومن الملاحظ أن الرجل كان يتأقلم بسرعة زائدة، فهو يتعلم اللّغة التي يتكلم بها القوم الذين ينزل بساحتهم
…
وقد بدأ يفهم اللغة الفارسية قبل أن يتعلم التركية، لأن الفارسية كانت منتشرة في المنطقة كلّها حتّى في بلاد الصّين ويكتب اللّغتين بحروف عربية على ما كان عليه الحال
…
وحتى إذا لم يحسن الكلام باللسان فان اذانه تلتقط ما يصلها من جمل وكلمات، ومن هنا وجدناه يردد بعض الكلمات التي تطرق سمعه بالفارسية والتركية «22»
…
وفي سائر الحالات فانه لم يكن يشعر بمركّب نقص وهو يستعين بترجمان ينقل عنه ما يريد أن يقول، وفي هذا الصدد ساق بعض النكت التي وقعت له مع بعض التراجمة من الذين يدّعون أنهم يحسنون اللغة! ومن تأقلمه وجدناه يتناول التنبول منذ وصوله إلى دمشق وأثناء مقامه بمكة المكرمة وبافريقيا الشرقية وطول مقامه بالهند
…
إن سائر الأشياء كانت بالنسبة إليه مقبولة ما دامت ترضي من يوجد حواليه شريطة أن لا تخالف مبادئه.
ولم يفت ابن بطوطة أن يتعرف على جنسيات السفن التي كان يمتطيها للقيام برحلته، بل لم يفته أن يشيد بمن يستحق الاشادة إنصافا وعدلا، ويندد بمن كان سلوكه لا يرتضى، لا فرق عنده بين مسلم ونصراني على نحو ما كان يفعله الرّحالة ابن جبير والرّحالة أبو حامد الأندلسي الغرناطي
…
ولقد أخذنا فكرة عن الحركة البحرية على عهده، كما عرفنا عن الأساطيل التجارية التي كانت لها الهيمنة على ذلك العهد، فقد كان يتنقل مع السفن الجنوية والصّينية واليمنية والعمانية والكطلانية
…
ومن الملاحظ أنه أي ابن بطوطة لم يتحدث- وهو عائد إلى المغرب- عن السفن أو المراكب المغربية، مع العلم أن السلطان أبا الحسن المريني كان في تونس يتوفر على عدد من قطع الاسطول المغربي، ولكنه أي ابن بطوطة فضّل أن يعود، كما نعلم، عن طريق أحد المراكب القطلانية حتّى لا يحرج أحدا بمطلب
…
!
والحديث عن المراكب يسلمنا إلى الحديث عن الرياح الطيبة وتحكّمها في مواعد السفر، وهذا موضوع من الأهمية بمكان، وقد أصبح ابن بطوطة من العارفين بالرياح والقنباص.
وقد كوّن لديه الوضع الاجتماعي للمرأة ومركزها عند الأمم التي زارها أفكارا لا تخلو من إراف وإتحاف، وقد تحدث عن النساء المتجملات المتعطرات في مكة
…
إذا قامتا تضوّع المسك منهما
…
نسيم الصبّا جاءت بريّا القرنفل!
وتحدث عن عفة المرأة وشفقتها وهو في خراسان، كما تحدث عما تبلغه المرأة من مكانة سامية في بلاد الترك والتتر حتّى أن القرارات لا تصبح نافذة إلا إذا صدرت عن أمر الخواتين إلى جانب السلاطين!! وحتّى بلاد السودان والصحراء عند ما تتمتع السيدة بحريتها في التعامل الشريف.... وعند ما تتميز باستظهار القرآن في هنور من بلاد الهند! انّ الرحلة مع ابن بطوطة في عالم المرأة يجعلك تشعر بأن الرجل نموذج للصراحة والبراءة معا، فهو رجل مقروء مفتوح، وهو يسمّي الأشياء بمسمّياتها بدون لفّ ولا دوران، فكان يعبر بذاك عن قوة شخصية عند ما يحكي عمّا تخفيه مكامنه
…
لم يجد أيّ حرج في الحديث عن الخصومة التي شبّت بينه وبين صهره لزوجته الأولى الصفاقسيّة
…
ولم يجد ما يمنعه لكي يقترح توقيف ركب الحاج في الجبل الأخضر حتى يحتفل بعرسه على سيدة فاسية كانت ترافق والدها إلى مكة
…
!
ولم تكن هذه (الفاسية) هي الثانية والأخيرة في حلقات السلسلة الطويلة لزوجاته التي قد تكون بدأت من طنجة! فقد تزوج بدمشق عند زيارته الأولى حفيدة لمكناسي كان مقيما هناك، وقد عرفنا من أسماء زوجاته الأسيويات (مباركة) و (الحور نسب) ، أما اللاتي لم نعرف عن اسمهن فعددهن كثير وكثير!.
ويتأكد أن قلّة السّراج الذي يساعد على السّمر هو الذي كان وراء الرحالة المغربي في البحث عمن تعوضه عن الحديث والسراج! وكما سنرى فإنه لم يشعر بأي خجل في المقارنة بين هذه أو تلك، ليس فقط من حيث الأخلاق والسلوك والعشرة ولكن من حيث إرضاء الرغبات الجنسية كذلك!
ولم ينس ابن بطوطة في كل مناسبة أن يهتم بكلّ ما يقوي الباءة ويساعد على المضاجعة!! فهو يتحدث دوما عن الوصفات الطبّية التي تقوّي الظهر، ولا شك أن مثل هذه الشهادات مما يزيد في صدق المقولة السائرة بأن العرب يتميّزون عن غيرهم فيما يتصل بهذه الحقول!! وفي هذا الصدد أيضا لم يغفل ابن بطوطة عن التّنويه بالسّيدات المهرتيات (Les mahrattes) اللّاتي" كان لهنّ من طيب الخلوة والمعرفة بحركات الجماع ما ليس لغيرهن".
وقد شغله أمر اهتمام السلطان بالملكة (طايطو غلي) وحظوتها عنده دون سائر الخواتين حتى اهتدى للسرّ الذي حاول أن يصل إلى حقيقته!! ولا شك أن هذا الحديث يتبعه الحديث عن الذّرية التي خلّفها ابن بطوطة في تلك الجهات ومن غير أن نعتبر أن هذا ممّا يدخل في اطار حياته الخاصة كما يقولون اليوم. فإن ما عرفناه من تلك الذرية هو اسم أحمد الذي تركه حيّا بالهند عند الامير غياث الدّين والذي قال عنه: إنه لم يعرف ما فعل الله به! في حين تحدث فيه عن بقية أولاده بما نعرفه
…