الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأهل دمشق لا يعملون يوم السبت عملا، إنما يخرجون إلى المنتزهات وشطوط الأنهار، ودوحات الأشجار، بين البساتين النضيرة، والمياه الجارية، يكونون بها يومهم إلى الليل، وقد طال بنا الكلام في محاسن دمشق فلنرجع إلى كلام الشيخ أبي عبد الله.
ذكر جامع دمشق المعروف بجامع بني أمية
وهو أعظم مساجد الدّنيا احتفالا، وأتقنها صناعة وأبدعها حسنا وبهجة وكمالا، ولا يعلم له نظير ولا يوجد له شبيه، وكان الذي تولى بناءه وإتقانه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان «176» ، ووجه إلى ملك الروم بقسطنطينية يأمره أن يبعث اليه الصناع، فبعث اليه أثنى عشر ألف صانع، وكان موضع المسجد كنيسة فلما افتتح المسلمون دمشق دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه من إحدى جهاتها بالسيف فانتهى إلى نصف الكنيسة، ودخل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من الجهة الغربية صلحا فانتهى إلى نصف الكنيسة فصنع المسلمون من نصف الكنيسة الذي دخلوه عنوة مسجدا وبقى النصف الذي صالحوا عليه كنيسة «177» ! فلما عزم الوليد على زيادة الكنيسة في المسجد طلب من الروم أن يبيعوا منه كنيستهم تلك بما شاءوا من عوض، فأبوا عليه فانتزعها من أيديهم، وكانوا يزعمون أن الذي يهدمها يجنّ، فذكروا ذلك للوليد فقال: أنا أول من يجنّ في سبيل الله! وأخذ الفأس وجعل يهدم بنفسه فلما رأى المسلمون ذلك تتابعوا على الهدم وأكذب الله زعم الروم.
وزيّن هذا المسجد بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء «178» تخالطها أنواع الأصبغة الغريبة الحسن، وذرع المسجد في الطول من الشرق إلى الغرب مائتا خطوة، وهي
دمشق- الجامع الأموي، المحراب
ثلاثمائة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة وخمس وثلاثون خطوة، وهي مائتا ذراع، وعدد شمسات الزجاج الملونة التي فيه أربع وسبعون، وبلاطاته ثلاثة مستطيلة من شرق إلى غرب، سعة كل بلاط منها ثمان عشرة خطوة، وقد قامت على أربع وخمسين سارية، وثماني أرجل جصّيّة تتخللها وست أرجل مرخّمة مرصعة بالرخام الملوّن، قد صوّر فيها أشكال محاريب وسواها، وهي تقل قبة الرصاص التي أمام المحراب المسماة بقبّة النسر «179» كأنهم شبهوا المسجد نسرا طائرا والقبة رأسه، وهي من أعجب مباني الدنيا، ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر ذاهبة في الهواء منيفة على جميع مباني البلاد، وتستدير بالصحن بلاطات ثلاثة من جهاته الشرقية والغربية والجوفية، سعة كل بلاط منها عشر خطا، وبها من السواري ثلاث وثلاثون، ومن الأرجل أربع عشر، وسعة الصحن مائة ذراع، وهو من أجل المناظر وأتمها حسنا، وبها يجتمع أهل المدينة بالعشايا، فمن قارىء ومحدث وذاهب، ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة، وإذا لقى أحد كبرائهم من الفقهاء وسواهم صاحبا له أسرع كل منهما نحو صاحبه وحطّ رأسه.
وفي هذا الصحن ثلاث من القباب: إحداها في غربيّه وهي أكبرها، وتسمى قبة عائشة أم المؤمنين، وهي قائمة على ثمان سواري من الرخام مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة مسقفة بالرصاص يقال إن مال الجامع كان يختزن بها.
وذكر لي أن فوائد مستغلات الجامع ومجابيه نحو خمسة وعشرين الف دينار ذهبا في كل سنة «180» ، والقبة الثانية من شرقي الصحن على هيئة الأخرى إلا أنها أصغر منها قائمة على ثمان سواري الرخام وتسمى قبة زين العابدين «181» ، والقبة الثالثة في وسط الصحن،
وهي صغيرة مثمنة من رخام عجيب محكم الإلصاق قائمة على أربع سواري من الرخام الناصع وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاس يمجّ الماء إلى علو فيرتفع ثم ينثنى كأنه قضيب لجين، وهم يسمونه قفص الماء، ويستحسن الناس وضع أفواههم فيه للشرب، وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى مسجد بديع الوضع يسمى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله «182» عنه، ويقابله من الجهة الغربية حيث يلتقى البلاطان الغربي والجوفي موضع يقال: إن عائشة رضي الله عنها سمعت الحديث هنالك.
وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى «183» التي يؤم فيها إمام الشافعية، وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة فيها المصحف الكريم الذي وجهه أمير المومنين عثمان بن عفان «184» رضي الله عنه إلى الشام، وتفتح تلك الخزانة كلّ يوم جمعة بعد الصلاة فيزدحم الناس على لثم ذلك المصحف الكريم، وهنالك يحلّف الناس غرماءهم ومن ادعوا عليه شيئا، وعن يسار المقصورة محراب الصحابة، ويذكر أهل التاريخ أنه أول محراب وضع في الإسلام، وفيه يؤم إمام المالكية، وعن يمين المقصورة محراب الحنفية وفيه يؤم إمامهم، ويليه محراب الحنابلة وفيه يؤم إمامهم.
ولهذا المسجد ثلاث صوامع إحداها بشرقيه، وهي من بناء الروم «185» ، وبابها داخل المسجد وبأسفلها مطهرة وبيوت للوضوء يغتسل فيها المعتكفون والملتزمون للمسجد ويتوضؤون، والصومعة الثانية بغربيّه وهي أيضا من بناء الروم «186» ، والصومعة الثالثة
بشماله وهي من بناء المسلمين «187» وعدد المؤذنين به سبعون مؤذنا، وفي شرقي المسجد مقصورة كبيرة فيها صهريج ماء وهي لطائفة الزّيالعة «188» السودان، وفي وسط المسجد قبر زكرياء عليه السلام «189» ، وعليه تابوت معترض بين أسطوانتين مكسو بثوب حرير أسود معلّم فيه مكتوب بالأبيض:" يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى «190» ، وهذا المسجد شهير الفضل، وقرأت في (فضايل دمشق) عن «191» سفيان الثوري «192» أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة، وفي الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يعبد الله فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة، ويقال إن الجدار القبلي منه وضعه نبي الله هود عليه السلام وأن قبره به، وقد رأيت على مقربة من مدينة ظفار اليمن بموضع يقال له الأحقاف بنية فيها قبر مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عابر صلى الله عليه وسلم «193» .
ومن فضايل هذا المسجد أنه لا يخلو عن قراءة القرآن والصلاة إلا قليلا من الزمان، كما سنذكره، والناس يجتمعون به بعد صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية «194» يقرءون
فيها من سورة الكوثر إلى آخر القرآن، وللمجتمعين على هذه القراءة مرتبات تجرى لهم، وهم نحو ستمائة انسان، ويدور عليهم كاتب الغيبة فمن غاب منهم قطع له عند دفع المرتب بقدر غيبته «195» ، وفي هذا المسجد جماعة كبيرة من المجاورين لا يخرجون منه، مقبلون على الصلاة والقراءة والذّكر لا يفترون عن ذلك ويتوضأون من المطاهر التي بداخل الصومعة الشرقية التي ذكرناها، وأهل البلد يعينونهم بالمطاعم والملابس من غير أن يسألوهم شيئا من ذلك.
وفي هذا المسجد أربعة أبواب: باب قبلي يعرف بباب الزّيادة، وبأعلاه قطعة من الرمح الذي كانت فيه راية خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولهذا الباب دهليز كبير متسع فيه حوانيت السقاطين وغيرهم، ومنه يذهب إلى دار الخيل «196» ، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين وهي سوق عظيمة ممتدة مع جدار المسجد القبلي من أحسن أسواق دمشق، وبموضع هذه السوق كانت دار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه «197» ودور قومه، وكانت تسمى الخضراء فهدمها بنو العباس رضي الله عنهم، وصار مكانها سوقا، وباب شرقي وهو أعظم أبواب المسجد ويسمى باب جيرون وله دهليز عظيم يخرج منه إلى بلاط عظيم طويل أمامه خمسة أبواب لها ستة أعمدة طوال «198» ، وفي جهة اليسار منه مشهد عظيم، كان فيه رأس الحسين رضي الله عنه، وبإزائه مسجد صغير ينسب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وبه ماء جار.
وقد انتظمت أمام البلاط درج ينحدر فيها إلى الدهليز، وهو كالخندق العظيم يتصل بباب عظيم الارتفاع تحته أعمدة كالجذوع طوال، وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت
عليها شوارع مستديرة فيها دكاكين البزّازين وغيرهم، وعليها شوارع مستطيلة فيها حوانيت الجوهريين والكتبيين وصناع أواني الزجاج العجيبة.
وفي الرحبة المتصلة بالباب الأول دكاكين لكبار الشهود: منها دكانان للشافعية، وسائرها لأصحاب المذاهب، يكون في الدكان منها الخمسة والستة من العدول «199» والعاقد للأنكحة من قبل القاضي، وسائر الشهود مفترقون في المدينة، وبمقربة من هذه الدكاكين سوق الورّاقين الذين يبيعون الكاغد والأقلام والمداد، وفي وسط الدهليز المذكور حوض من الرخام كبير مستدير عليه قبة لا سقف لها تقلها أعمدة رخام وفي وسط الحوض أنبوب نحاس يزعج الماء بقوة فيرتفع في الهواء أزيد من قامة الانسان يسمونه الفوارة «200» ، منظره عجيب.
وعن يمين الخارج من باب جيرون وهو باب الساعات: غرفة لها هيئة طاق كبير فيه طيقان صغار، لها أبواب على عدد ساعات النهار، والأبواب مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصفرة، فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهرا والظاهر الأصفر باطنا، ويقال: إن بداخل الغرفة من يتولى قلبها بيده عند مضي الساعات «201» .
والباب الغربي يعرف بباب البريد، وعن يمين الخارج منه مدرسة للشافعية، «202» ، وله دهليز فيه حوانيت للشماعين، وسماط لبيع الفواكه، وبأعلاه باب يصعد اليه في درج له أعمدة