الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه
[كلام ابن جزيّ]
قال الشيخ الفقيه الكاتب البارع الناظم أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الفقيه العالم المتفنن أبي القاسم محمد ابن جزيّ الكلبي الغرناطي عفا الله عنه «1» : الحمد لله الذي ذلّل الأرض لعباده ليسلكوا منها سبلا فجاجا، وجعل منها وإليها تاراتهم «2» الثلاث نباتا وإعادة وإخراجا، دحاها بيد القدرة فكانت مهادا للعباد، وأرساها بالأعلام الراسيات والأطواد، ورفع فوقها سمك السماء بغير عماد، وأطلع الكواكب هداية في ظلمات البر والبحر، وجعل القمر نورا، والشمس سراجا، ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد الممات، وأنبت فيها من كل الثمرات، وفطر أقطارها بصنوف النبات، وفجر البحرين عذبا فراتا، وملحا أجاجا، وأكمل على خلقه الإنعام، بتذليل مطايا الأنعام، وتسخير المنشآت كالأعلام، ليمتطوا من صهوة القفر ومتن البحر أثباجا، وصلى الله على سيدنا
ومولانا محمد الذي أوضح للخلق منهاجا، وطلّع نور هدايته وهاجا، بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، واختاره خاتما للنبيّين، وأمكن صوارمه من رقاب المشركين، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وأيده بالمعجزات الباهرات، وانطق بتصديقه الجمادات، وأحيا بدعوته الرّمم الباليات، وفجر من بين أنامله ماء ثجاجا، ورضى الله تعالى عن المتشرفين بالانتماء إليه أصحابا والا وأزواجا، المقيمين قناة الدين فلا تخشى بعدهم اعوجاجا، فهم الذين أزّروه على جهاد الأعداء، وظاهروه على إظهار الملة البيضاء، وقاموا بحقوقها الكريمة من الهجرة والنصرة والإيواء، واقتحموا دونه نار البأس حامية وخاضوا بحر الموت عجاجا، ونستوهب الله تعالى لمولانا الخليفة أمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين المجاهد في سبيل الله، المؤيد بنصر الله، أبي عنان «3» فارس ابن موالينا الأيمة المهتدين، الخلفاء الراشدين، نصرا يوسّع الدنيا وأهله ابتهاجا، وسعدا يكون لزمانة الزمان علاجا، كما وهبه الله بأسا وجودا لم يدعا طاغيا ولا محتاجا، وجعل بسيفه وسيبه «4» لكل ضيقة انفراجا. وبعد فقد قضت العقول، وحكم المعقول والمنقول، بأن هذه الخلافة العلية المجاهدة المتوكلية الفارسية «5» هي ظل الله الممدود على الأنام، وحبّله الذي به الاعتصام، وفي سلك طاعته يجب الانتظام، فهي
التي أبرأت الدين عند اعتلاله، وأغمدت سيف العدوان عند انسلاله، وأصلحت الأيام بعد فسادها، ونفّقت سوق العلم بعد كسادها وأوضحت طرق البر عند إنهاجها، وسكّنت أقطار الأرض عند ارتجاجها وأحيت سنن المكارم بعد مماتها، وأماتت رسوم المظالم بعد حياتها وأخمدت نار الفتنة عند اشتعالها، ونقضت أحكام البغى عند استقلالها، وشادت مباني الحق على عمد التقوى واستمسكت من التوكل على الله بالسبب الأقوى، فلها العز الذي عقد تاجه على مفرق الجوزاء، والمجد الذي جز أذياله على مجرّة السماء، والسعد الذي رد على الزمان غض شبابه، والعدل الذي مد على أهل الإيمان مديد أطنابه، والجود الذي قطّر سحابه اللجين والنضار، والبأس الذي فيّض غمامه الدم الموّار، والنصر الذي نفض كتائبه الأجل، والتأييد الذي بعض غنائمه الدول، والبطش الذي سبق سيفه العذل، والأناة التي لا يملّ عندها الأمل، والحزم الذي يسد على الأعداء وجوه المسارب، والعزم الذي يفلّ جموعها قبل قراع الكتائب، والحلم الذي يجني العفو من ثمر الذنوب، والرفق الذي أجمع على محبّته بنات القلوب، والعلم الذي يجلو نوره دياجي المشكلات، والعمل المقيّد بالاخلاص والأعمال بالنيات. ولما كانت حضرته العلية مطمح الآمال، ومسرح همم الرجال، ومحط رحال الفضائل، ومثابة أمن الخائف ومنية السائل، توخّى الزمان خدمتها ببدائع تحفه، وروائع طرفه، فانثال عليها العلماء انثيال جودها على الصفاة، وتسابق إليها الأدباء تسابق عزماتها إلى العداة، وحج العارفون، حرمها الشريف، وقصد السائحون، استطلاع معناها المنيف، ولجأ الخائفون إلى الامتناع بعز جنابها، واستجارت الملوك بخدمة أبوابها، فهي القطب الذي عليه مدار العالم، وفي القطع بتفضيلها تساوت بديهة عقل الجاهل والعالم، وعن ماثرها الفائقة يسند صحاح الآثار كلّ مسلم، وبإكمال محاسنها الرائقة يفصح كلّ معلم. وكان ممن وفد على بابها السامي «6» ، وتعدّى أو شال البلاد إلى بحرها الطامي، الشيخ الفقيه السائح الثقة الصدوق جوّاب الأرض، ومخترق الاقاليم بالطول والعرض، أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن محمد بن ابراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة، المعروف في البلاد الشرقية بشمس الدين، وهو الذي طاف الأرض معتبرا وطوى الأمصار مختبرا، وباحث فرق الأمم وسبر سير العرب والعجم ثم ألقى عصا التّسيار بهذه الحضرة العليا، لما علم أن لها مزية الفضل دون شرط ولا ثنيا، وطوى المشارق إلى مطلع بدرها بالمغرب، وآثرها على الأقطار إيثار التّبر على التّرب، اختيارا
بعد طول اختبار البلاد والخلق، ورغبة في اللّحاق، بالطائفة التي لا تزال على الحق، فغمره من إحسانها الجزيل، وامتنانها الحفيّ الحفيل، ما أنساه الماضي بالحال، وأغناه عن طول التّرحال، وحقّر عنده ما كان من سواها يستعظمه، وحقق لديه ما كان من فضلها يتوهمه، فنسى ما ألفه من جولان البلاد، وظفر بالمرعى الخصب بعد طول الارتياد.
ونفذت الإشارة الكريمة بأن يملي ما شهده في رحلته من الأمصار، وما علق بحفظه من نوادر الأخبار ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار، وعلمائها الأخيار وأوليائها الأبرار، فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر، وبهجة المسامع والنواظر، من كل غريبة أفاد باجتلابها، وعجيبة أطرف بانتخابها، وصدر الأمر العالي لعبد مقامهم الكريم، المنقطع إلى بابهم، المتشرف بخدمة جنابهم، محمد «7» بن محمد «8» بن جزي الكلبي أعانه الله على خدمتهم، وأوزعه شكر نعمتهم، بأن يضم أطراف ما أملاه، الشيخ أبو عبد الله، من ذلك في تصنيف يكون على فوائده مشتملا، ولنيل مقاصده مكمّلا، متوخيا تنقيح الكلام وتهذيبه، معتمدا إيضاحه وتقريبه، ليقع الاستمتاع بتلك الطّرف، ويعظم الانتفاع بدرّها عند تجريده عن الصدف، فامتثل ما أمر به مبادرا، وشرع في منهله ليكون، بمعونة الله، عن توفية الغرض منه صادرا، ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضّحة للمناحي التي اعتمدها، وربما أوردت لفظه على وضعه فلم أخلّ بأصله ولا فرعه، وأوردت جميع ما قيده من الحكايات والأخبار، ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار، على أنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك، وخرج عن عهدة سائرها بما يشعر من الألفاظ بذلك، وقيّدت المشكل من أسماء المواضع والرجال بالشكل والنقط، ليكون أبلغ في التصحيح والضبط، وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء الأعجمية لانها تلتبس بعجمتها على الناس، ويخطئ في فك معماها معهود القياس، وأنا أرجو أن يقع ما قصدته من المقام