الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من المسلمين فالنصارى يضيفونه، وطعامهم الخبز والجبن والزيتون والخل، والكبر «147» ، وميناء هذه المدينة عليها سلسلة بين برجين لا يدخلها أحد ولا يخرج منها حتى تحطّ له السلسلة وهي من أحسن المراسي بالشام.
ثم سافرت إلى حصن المرقب «148» وهو من الحصون العظيمة يماثل حصن الكرك ومبناه على جبل شامخ، وخارجه ربض ينزله الغرباء ولا يدخلون قلعته وافتتحه من أيدى الروم الملك المنصور قلاوون، وعليه ولد ابنه الملك الناصر وكان قاضيه برهان الدين المصري من أفاضل القضاة وكرمائهم.
ثم سافرت إلى الجبل الأقرع «149» وهو أعلى جبل الشام، وأول ما يظهر منها من البحر وسكانه التركمان، وفيه العيون والهار.
وسافرت منه إلى جبل لبنان، وهو من أخصب جبال الدنيا، به أصناف الفواكه وعيون الماء والظلال والوافرة، ولا يخلو من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصالحين، وهو شهير بذلك. ورأيت به جماعة من الصالحين قد انقطعوا إلى الله تعالى ممن لم يشتهر اسمه.
حكاية الصالحين اللبنانيين وحمار الوحش
أخبرني بعض الصالحين الذين لقيتهم به قال: كنا بهذا الجبل مع جماعة من الفقراء أيام البرد الشديد، فأوقدنا نارا عظيمة، وأحدقنا بها. فقال بعض الحاضرين: يصلح لهذا النار ما يشوى فيها. فقال أحد الفقراء ممن تزدريه الأعين ولا يؤبه به: إني كنت عند صلاة
العصر بمتعبد إبراهيم بن أدهم، فرأيت بمقربة منه حمار وحش قد أحدق الثلج به من كل جانب، وأظنّه لا يقدر على الحراك، فلو ذهبتم اليه لقدرتم عليه، وشويتم لحمه على هذه النار.
قال: فقمنا اليه في خمسة رجال فلقيناه كما وصف لنا، فقبضناه وأتينا به أصحابنا وذبحناه وشويناه في تلك النار، وطلبنا الفقير الذي نبّه عليه، فلم نجده ولا وقعنا له على أثر، فطال عجبنا منه.
ثم وصلنا من جبل لبنان إلى مدينة بعلبك «150» ، وهي حسنة قديمة من أطيب مدن الشام، تحدق بها البساتين الشريفة والجنات المنيفة، وتحترق أرضها الأنهار الجارية، وتضاهي دمشق في خيراتها المتناهية، وبها من حبّ الملوك ما ليس في سواها، وبها يصنع الدّبس «151» المنسوب إليها، وهو نوع من الرّب يصنعونه من العنب، ولهم تربة يضعونها فيه فيجمد، وتكسر القلة التي يكون بها فيبقى قطعة واحدة، وتصنع منه الحلواء ويجعل فيها الفستق واللوز، ويسمون حلواءه بالملبّن ويسمونها أيضا بجلد الفرس «152» ، وهي كثيرة الألبان وتجلب منها إلى دمشق، وبينهما مسيرة يوم للمجدّ، وأما الرفاق فيخرجون من بعلبك فيبيتون ببلدة صغيرة تعرف بالزّبداني «153» كثيرة الفواكه، ويغدون منها إلى دمشق ويصنع ببعلبك الثياب المنسوبة اليها من الإحرام «154» وغيره ويصنع بها أواني الخشب وملاعقه
لقطة من اللاذقية- عن أرشيف بيرشم لقطة من بعلبك عن المكتبة الوطنية بباريز
التي لا نظير لها في البلاد، وهم يسمون الصحاف بالدّسوت «155» ، وربما صنعوا الصحفة وصنعوا صحفة أخرى تسع في جوفها وأخرى في جوفها إلى أن يبلغوا العشرة يخيل لرائيها أنها صحفة واحدة، وكذلك الملاعق يصنعون منها عشرة واحدة في جوف واحدة، ويصنعون لها غشاء من جلد ويمسكها الرجل في حزامه، وإذا حضر طعاما مع أصحابه أخرج ذلك فيظن رائيه أنها معلقة واحدة ثم يخرج من جوفها تسعا. وكان دخولي لبعلبك عشية النهار وخرجت منها بالغدو لفرط اشتياقي إلى دمشق ووصلت يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين «156» إلى مدينة دمشق الشام فنزلت منها بمدرسة المالكية المعروفة بالشرابشية «157» .
ودمشق هي التي تفضل جميع البلاد حسنا وتتقدمها جمالا وكل وصف وإن طال، فهو قاصر عن محاسنها ولا أبدع مما قاله أبو الحسين بن جبير «158» ، رحمه الله تعالى، في ذكرها قال: وأما دمشق فهي جنّة المشرق ومطلع نورها المشرق وخاتمة بلاد الاسلام التي استقريناها وعروس المدن التي اجتليناها. قد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسية من البساتين. وحلت موضع الحسن بالمكان المكين، وتزيّنت في منتصفها أجمل تزيين، وشرفت بأن أوى المسيح عليه السلام، وأمّه منها إلى ربوة ذات قرار معين، ظل ظليل، وماء سلسبيل «159» . تنساب مذانبه إنسياب الأراقم بكل سبيل. ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل، تتبرّح لناظريها بمجتلى صقيل وتنادينا هلموا إلى معرّس للحسن ومقيل. وقد سئمت أرضها كثرة الماء حتى اشتاقت إلى الظماء! فتكاد تناديك بها الصّمّ الصّلاب:
أركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب «160» . وقد أحدقت البساتين بها احداق الهالة
دمشق من أرشيف المكتبة الوطنية بباريز
بالقمر. والاكمام بالثمر. وامتدت بشرقيّها غوطتها «161» الخضراء على امتداد البصر. وكل موضع لحظت بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيد البصر، ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي تساميها وتحاذيها.
قال ابن جزي، قد نظم بعض شعرائها في هذا المعنى فقال:
إن تكن جنة الخلود بأرض
…
فدمشق، ولا تكون سواها!
او تكن في السماء فهي عليها
…
قد أمدّت هواءها وهواها
بلد طيب وربّ غفور «162»
…
فاغتنمها عشية وضحاها!
وذكر شيخنا المحدث الرحّال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر بن حسان القيسي الوادي ءاشي «163» نزيل تونس، ونصّ كلام ابن جبير، ثم قال: ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد، وتوّق الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد، هذا وإن لم تكن له بها إقامة، فيعرب عنها بحقيقة علّامة، ولا وصف ذهبيّات أصيلها، وقد حان من الشمس غروبها ولا أزمان فصولها المنوّعات، ولا أوقات سرورها المنبهات، وقد اختص من قال: ألفيتها كما تصف الألسن، وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الأعين.
قال ابن جزي: والذي قالته الشعراء في وصف محاسن دمشق لا يحصر كثرة، وكان والدي رحمه الله كثيرا ما ينشد في وصفها هذه الأبيات: وهي لشرف الدين بن عنين «164» رحمه الله تعالى:
دمشق بى شوق إليها مبرّح
…
وإن لجّ واش أو ألحّ عذول
بلاد بها الحصباء درّ وتربها
…
عبير وأنفاس الشمال شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق
…
وصح نسيم الرّوض وهو عليل
وهذا من النمط العالي من الشعر، وقال فيها عرقلة الدمشقي الكلبي «165» :
الشام شامة وجنة الدّنيا «166» ، كما
…
إنسان مقلتها الغضيضة جلّق «167»
من اسها لك جنة لا تنقضي
…
ومن الشّقيق جهنم ولا تحرق!
وقال أيضا فيها:
أما دمشق فجنات معجّلة
…
للطّالبين، بها الولدان والحور
ما صاح فيها على أوتاره قمر
…
إلّا يغنيه قمريّ وشحرور
يا حبّذا! ودروع الماء تنسجها
…
أنامل الريح إلا أنها زور
وله فيها أشعار كثيرة سوى ذلك: وقال فيها أبو الوحش سبع ابن خلف الأسدي «168» :
سقى دمشق الله غيثا محسنا
…
من مستهلّ ديمة دهاقها
مدينة ليس يضاهي حسنها
…
في سائر الدنيا ولا آفاقها
تود زوراء «169» العراق أنها
…
منها ولا تعزى إلى عراقها!
فأرضها مثل السماء بهجة
…
وزهرها كالزّهر في إشراقها
نسيم روضها متى ما قد سرى
…
افتكّ أخا الهموم من وثاقها
قد رتع الربيع في ربوعها
…
وسيقت الدنيا إلى أسواقها!!
لا تسأم العيون والأنوف من
…
رؤيتها يوما ولا استنشاقها!
ومما يناسب هذا للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني فيها «170» من قصيدة، وقد نسبت أيضا لابن المنير «171» :
يا برق هل لك في احتمال تحية
…
عذبت فصارت مثل مائك سلسلا
باكر دمشق بمشق أقلام الحيا
…
زهر الرياض مرصّعا ومكلّلا
واجرر بجيرون «172» ذيولك واختصص
…
مغنى تأزّر بالعلى وتسربلا
حيث الحيا الرّبعي محلول الحبا
…
والوابل الرّبعى مفريّ الكلا
وقال فيها أبو الحسن عليّ بن موسى بن سعيد «173» العنسى الغرناطي المدعو نور الدين:
دمشق منزلنا حيث النعيم بدا
…
مكمّلا، وهو في الآفاق مختصر
القضب راقصة والطير صادحة
…
والزّهر مرتفع والماء منحدر
وقد تجلّت من اللّذات أوجهها
…
لكنّها بظلال الدّوح تستتر
وكلّ واد به موسى يفجّره «174»
…
وكلّ روض على حافاته الخضر!
وقال أيضا فيها:
خيّم بجلق بين الكأس والوتر
…
في جنّة هي ملء السّمع والبصر
ومتع الطّرف في مرأى محاسنها
…
وروّض الفكر بين الرّوض والنّهر
وانظر إلى ذهبيات الأصيل بها
…
واسمع إلى نغمات الطّير في الشّجر
وقل لمن لام في لذّاته بشرا
…
دعني فإنك عندي سوقة البشر!
وقال أيضا فيها:
أما دمشق فجنّة
…
ينسى بها الوطن الغريب
لله أيام السّبوت
…
بها «175» ، ومنظرها العجيب
أنظر بعينك هل ترى
…
إلا محبا أو حبيب!!
في موطن غنى الحمام
…
به على رقص القضيب
وغدت أزاهر روضه
…
تختال في فرح وطيب