الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النقوش كمصدر لابن بطوطة
وأحب أن أثير الانتباه هنا إلى عنصر في الرحلة كاف وحده للتأكيد على جدّيتها وصدق أخبارها، ويتعلق الأمر بالنقوش التي كان يقف عليها مكتوبة على لوحة خشبية أو قطعة من حجر أو رخام، فكان يسجلها ويحفظها، وقد أمست بالنسبة إلينا اليوم بمثابة وثيقة حية تؤكد ما كان يرويه الرجل قبل نحو من سبعة قرون! فإن المؤرخ قد يتأثر بما حواليه وبمن حواليه بينما تبقى الوثيقة المعاصرة أمينة شاخصة. ولقد لذّ لي أن أهتم بهذا الجانب من الرحلة وأن أقف بنفسي على مروياتها باعتبارها، كما قلت، دليلا لا يقبل الطعن سيما وبعض تلك النقوش ما يزال شاخصا للعيان.
وهكذا فقد قرأ ابن بطوطة على شاهد قبر الشيخ أبي الحسن الشاذلي اسمه ونسبه متصلا إلى الحسن بن علي وفاطمة الزهراء عليهما السلام.
وقد كان فيما اكتشفه من خطوط ما قرأه على قبرية فاطمة بنت الحسين بن علي:
" هذا قبر أمّ سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه" بينما قرأ في لوح آخر:" صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر" وتحت ذلك ثلاثة أبيات
…
وعند ما زار ابن بطوطة قبر النبي هود عليه السلام شرقيّ مدينة تريم في حضرموت لاحظ أن القبر مكتوب عليه:" هذا قبر هود بن عابر صلى الله عليه وسلم"، وهو ما يعتمده الحضارمة إلى اليوم.
وفي هذا الإطار ما قرأه على قبرية سعد بن عبادة، وما سجله وهو بمكة عن معالمها التاريخية مما يعتبر فيه ابن بطوطة حجة، سيّما بعد اختفاء تلك الآثار، هذا إلى ما علق بذاكرة الرّحالة مما قرأه في دمشق وفي عسقلان ومدينة البصرة وبغداد وسوريا.
ومن المهمّ أن نسمع ابن بطوطة- وهو الحريص على توثيق تلك المنقوشات- نسمعه يتحسر لضياع مذكّراته على نحو ما وقع بالنسبة لمقيّدات الهروي أثناء احتلال الروم للأراضي المقدسة «1» ! ويخبرنا بأنه كتب على قبر البخاري:" هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري وقد صنف من الكتب" كذا وكذا
…
وكذلك كتبت على قبور علماء بخاري أسماؤهم وأسماء تصانيفهم." وكنت قيدت من ذلك كثيرا- يقول ابن بطوطة- وضاع مني في جملة ما ضاع لمّا
سلبني كفار الهند في البحر
…
" وقد اهتم- وهو في بلاد السند والهند- بتقصي المنقوشات باعتبارها الرائد الذي لا يكذب أهله، فأخبرنا بأنه قرأ على مقصورة الجامع في ملتان التي أمر السلطان غياث الدّين تغلق شاه بعملها، قرأ:" إني قاتلت التتر تسعا وعشرين مرة فهزمتهم فحينئذ سميت بالملك الغازي «2» " وقد اخبرنا كذلك بأنه قرأ على محراب الجامع الأعظم في مدينة دهلي تاريخ افتتاح المدينة من أيدي الكفار سنة 584 هـ- (1188 م)
…
وقد أمكنه أن يسجل ما نقشه جلال الدّين أحسن شاه على صفحتي الدينار: (سلالة طه ويس أبو الفقراء والمساكين جلال الدنيا والدّين الواثق بتأييد الرحمن، أحسن شاه السلطان) .
ومما يجري مجرى النقوش نذكر بعض النصوص التاريخية التي حرص على تسجيلها مما يعتبر اليوم لدى المهتمين بها حججا يعتمد عليها، ونشير مثلا إلى النص التاريخي لجواب سلطان الهند على رسالة إمبراطور الصين هيّونتي (Hyunti) الذي طالب بترميم معبد بودى عتيق بقرب جبل الهيملايا في الموقع المعروف بسمهل، حيث نجد أن العاهل الهندي يكتب إليه قائلا:" إن هذا المطلب لا يجوز في ملة الإسلام إسعافه، ولا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه، والسلام على من اتبع الهدى"«3» .
إلى غير هذا من الوثائق التي لم يغفلها بما فيها الكتابات باللسان الهندي على نحو ما قرأناه له وهو في مدينة تارنا الأثرية من بلاد السند.
وقد تعلقت نفسي بمتابعة هذه المعلومات في الرحلات التي قمت بها عبر الأنحاء التي زارها، وقد ذهبت بعيدا إلى جزر المالديف في المحيط الهندي لأعرف جليّة الأمر حول ما نقله ابن بطوطة في رحلته عما كان قرأه هناك" على مقصورة الجامع منقوشا في الخشب من أن سلطان هذه الجزائر أسلم على يد أبي البركات البربري المغربي" فعلا طلبت أن أقف على اللوحة المذكورة، فوجدت أنها نقلت من مكانها الأصلي وعوضت بقطعة حديثة حاولت أن تنقل ما كان في اللوحة الأصلية لكنها حرّفت كلمة أبي البركات إلى أبي الرّكاب! وكلمة البربري إلى التبريزي! ومن حسن الحظ أن اللوحة الأصلية
يحتفظ بها المتحف الوطني اليوم، ويمكن أن نقرأ فيها هذه العبارات بوضوح: ووصل في هذا البلد أبو البركات
…
البربري وأسلم السلطان على يده في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة «4» (يوليه 1153) .
والحديث عن علاقة المغرب مع المالديف بالأمس يسوقنا إلى التذكير بانعكاس تلك العلاقات على حاضرنا اليوم حيث شاهدنا لقاء فريدا من نوعه تسبّبه شهادة ابن بطّوطة «5» .