الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
حَمداً لمن سرَّح عيونَ البصائر في رِياض النعِّم، رياض زهَت فيها رياحين العقول، وتفتَّحتْ بنسِيم اللطف أنوار الحِكَم، فاجْتنَت منها أيدي المُنَى فواكه الأرواح، واقتطفت شَقيق الشَّقيق من بين أقاحِي الصَّباح، والنَّدَى طرَّز برد النسيم ببَلالِه، لمَّا رأى مجامِرَ الزَّهْرِ تحت أذياله.
مَن قبل أن ترشِف شمسُ الضحى
…
ريقَ الغَوادي من ثُغُور الأقاحْ
وأشكره شكراً يطوِّق جيدَ البلاغة نظِيمُ عقوده، وينسِج ببَنان البيان لي مِنوال البراعة رقيقُ بُروده، على نِعمٍ لا تفنَى من معان الوجود جواهرُها، ولا تذوِي من خمائل الفصاحة أزاهرُها.
ونُهدِي صِلات الصَّلاة لناظم عقد الدين بعد نَثْره، المُؤيَّد بآياتٍ لا يزال يتلوها لِسانُ الدهر ولو طار نَسْر السماء من وَكره، وكَلَّت دونها ألسنةُ أَسِنّة الطَّاعنين، وحُمِيت حديقتُها بشوكة الإعجاز فلم تلمسْها يدُ أفكار المعارضين، فصار السابقون في حَوْمَة البلاغة، الماهرين في صناعة الصِّياغة، ما بين ساكتٍ أَلْفا، وناطقٍ خَلْفا، ومُشمِّرٍ ذيلَه، ومُدَّرِعٍ ليلَه تسرْبَل سابغةَ دُجى، قَتيِرُها نجومُ ليلٍ دجا، حتى اشتفَتْ نفسُ الإسلام من دائهم، وزال كلَب الكفر بما أُريق من دمائهم، فبيوتُهم خاوية، ونفوسُهم على أثر تلك البيوت قافية.
وعلى آلِه الذين تفتَّحت لهم كمائمُ المعاقل عن زهرة النَّصر، وتحلَّى بعقود عُهودهم جِيِدُ كلِّ عصر.
فجَنوا لهم ثمرَ الوقائع يانعاً
…
بالْغُرِّ من ورق الحديدِ الأخضرِ
لا زالت سُحُب الرَّحمة المُطَنَّبة بالقطر مخيَّمةُ على مراقدهم، ولا برحْت تَحايا المُزْن مُهينِمة بلسان الرَّعد على معاهدهم، ما سقى غديرُ المجرَّة روضةَ السماء، وزَها نَرجِس النَّجم تحت بَنَفْسج الظَّلماء.
هذا وإني كنت قبل أن تُشِيب منِّى الخطوبُ الذَوائبَ، وتصبحَ كبدي وأحشائي بلظَى النَّوائب ذوائبَ، والزمان ربيعٌ، ورَوْض الشباب مَرِيع، أعد الأدبَ عنوانَ صَحائفِ الشَّمائل، وبيْتَ القصيد في ديوان المآثر والفضائل، أُنْفِق نَقْد عمري في اقتنائِه واقتناصِ شوارده، وأملأُ صدَف المسامع مما يستخرج غوَّاصُ الأفكار من فرائدهِ، وأَشِيم بارقةَ السّحر من نفَثاتِه، وأشُمُّ عبِير السرور من أرْدَان نسماتِه، وأرتَشِف من طَبْعي ما يَنِمّ على سرِّ الزُّجاجة، وأشْتَفُّ منه ما أسْأرَتْه الجُدودُ من ذُؤابة خفاجة، صُبابةَ مجدٍ لم يكدِّرها في جامِ المشارب وِرْدُ الخطوب، واْزدِحامُ الشَّوائب.
فإنِّي من العرب الأكرمين
…
وفي أوَّل الدهرِ ضاع الكرمْ
وما زلتُ على هذا الحال، منذ فارقني الحال، لا دأب لي إلا تلقى وفُودِه، لاسْتهداء تُحَفِ الأخبار التي هي ألطفُ من دمع الطَّلِّ في وجَنات الأزهار.
ومَن يسألِ الرُّكبانَ مَن كان نائيا
…
فلا بُدَّ أن يلْقَى بشيراً وناعِيِاَ
ومن أحاديث يُشفَى بها الغَليل، ويصِحُّ مِزاج النَّسيم العليل، تنْفتِح منها في رياض المُسَامَرة، مِن أجْفان الكمائِم عيونُ أنوارِها الزَّاهرة، ويحسُو فَم السَّمع منها ماءُ حياة يُطِيل عمرَ المسرَّة، وتكتحِلُ منها المآثرُ بما هو لعيونها قُرَّة، من كل من هو لتْشييد المجد أكرمُ بانِي، حتى تكفل الثَّناء له بعمر ثاني، يشِيب في وجه السماءِ حاجبُ القمرِ هلالا، ويشتعل رأسُ الشمس شيباً ولم يَرَ له مِثالاً.
إذا ما روَى الإنسانُ أخبارَ مَن مضى
…
فتحسَبُه قد عاش مِن أوَّلِ الدهرِ
وتحسَبه قد عاش آخرَ دهرِه
…
إلى الحشْر إنْ أبقْى الجميلَ مِن الذِّكرِ
فقد عاش كلَّ الدهر مَن عاش عالماً
…
كريماً حليماً فاغتنْمِ أطولَ العُمرِ
وسواءٌ تلفُّتُ المريض للطبيب، وفَرحةُ الأديب بِلقَا الأديب، لا سيَّما أهل العَصر، الهاصِري أغصانَ المُنَى ألطفَ هصْر، القائلين في رياضِها، الواردين نَمِيرَ حياضِها، فقد سرَتْ كلماتُهم مَسْرَى الأرواحِ في الأجساد، وأُثْنَى عليها ثناءَ نسيم الرياض على العُهَّاد، وقد انتصر لكلِّ عصرٍ مَن أحْيَا مَيْتَه، وعَمَّر من دارس عهودِه بيْتَه، كصاحب) اليتيمة (و) قلائد العِقْيان (و) المية (و) الذخيرة (و) عقود الجُمَانَ (، وحَمِيَّة المرء لعصرِه، وقيامُه على منابر نصْرِه، من آياتِ الفُتوَّة، التي هي على لسان الحميَّة متلُوَّة، فليس منَّا مَن لم يَغْتَذِ بِدَرِّ المجد في مِهادِه، ولم يفتخِرْ في المحافل بأُستاذِه وإسنادِه، إلا أن الأدبَ في هذه الأعصار، قد هبَّتْ على أطلالِه ريحٌ ذاتُ إعْصار، حتى أَخْلَقتْ عُرَى المحامد، واسترْخَى في جرْيِه عِنانُ القصائد، وتقلصتْ أذيالُ الظِّلال، وخطب البلاءُ على منابر الأطْلال، وعفَا رَسْمُ الكرام، فعليه منِّى السلام.
وممَّا أعان عليَّ الزمانَ
…
عَفافُ يدِي وعُلُوُّ الهِمَمْ
والرُّؤساء شعراء لا ينظِمون ولا ينثرون، وما فيهم مِن صفاتِ الشُّعراء إلا أنَّهم يقولون ما لا يفعلون، وإذا كذَب مادحٌ أحدَهم اهْتزَّ وطرِب، وجَازَى مِن سَراب وعدِه بكذِب على كذِب، وبالوعد القَطير لا يخَّمر الخَمِير.
وبأحْسَنْتَ لا يُباع الشَّعيرُ
وبرَعْد الوعد، لا يْسقَى غَرس الحمد
فلا تلوموه في وَعدِ يُردِّدُه
…
في وقتِ مدْحِي له علَّمْتُه الكذِباَ
ومع هذا، فكم هبَّتْ لهم أنفاسٌ معطَّرةٌ بالنجاح، مُزْرِية في وقتها بأنفَاس الصَّبا في الصَّباح، يُهزّ السَّماحُ هِيف معاطِفِه، وينشرُ تحت أقدامِها الزمانُ بِساطَ عواطفِه، تتمسَّك كف الشَّمال بأذْيالها، وتتفيَّأ العشَّاقُ في هجير الأشواق ضَافِيَ ظلالها، وترِدُ صافيَ زُلالِها، مِن كلِّ حديثٍ تَلِيد وطارِف، له وَشْيٌ كوَشْيِ المطارِف، تزهُو به الطُّروس على صفحاتِ الخدود المُحَسَّنات بالسَّوالِف، في كل ورَقةٍ منها خمائل، تسوغُ مياهُ فصاحتِها في لَهَواتِ الجداول.
تكادُ يدِي تنْدَى إذا ما لمستُها
…
وينبُتُ في أطْرافِها الورقُ الخضْرُ
مِن كل مَن ألحق المتأخِّر بالمتقدِّم في تطْبيق مفاصِل معانِيه، وإخراج مُخَبَّآتِ عِطْره من جُونَة مبانِيه، وإن تأخَّر عصرُه فلا بَاس، في تأخُّرِ النتيجة عن القِياس، والخدمُ تتقدَّم بين السَّادة، والسُّنَن أُمِر بتقيمها على الفروضِ في العبادة، وتقدُّم الآحاد، يرقي مرتبة الأَعداد.
أو مَا ترى أن النبيَّ محمداً
…
فاقَ البريَّة وهْو آخِرُ مُرسَلِ
فيا أدِلَاّء الهُدَى إني آنستُ من جانب الطُّور ناراً بها تَهْتدون، أو آتيكم بِشهاب قبسٍ لعلكم تصْطَلون، فإن لم يترُك الأوَّل شيئاً للآخِر، فخيرٌ من الكثير الغائب القليلُ الحاضر، ويا مَن هم في مُحَّيا الأيام حسَنة، لقد كان لكم في رسول اللهِ أُسْوة حسَنة، فلا يُزْرِ النَّورْ تأخُّرُه عن غِراس أغْصانِه، ولا يُكِلّ مَضاءَ السِّنان كونُه في أطْراف مُرَّانِه، على انه قد تتساوى الآصالُ والبُكُر، وتتشابه طُرَرُ العشِيَّات والسَّحر، وليس إلا للحسد رغِبتْ الطَّبائع، عن محاسنَ للعصرِ هي مِلءُ الأفواهِ والمسامِع.
وما شُكْرُهم للمَيْتِ إلَاّ لأنَّه
…
بما حلَّ في أيديهِمُ غيرُ طامِعِ
وللهِ دَرُّ ابن رَشِيق، في قوله:
أُولِعَ الناسُ بامْتداح القديمِ
…
وبذمِّ الجديدِ غير الذَّميمِ
ليس إلَاّ لأنهمْ حسَدُوا الحيَّ
…
فرقُوا على العظامِ الرَّميمِ
والحُرُّ وإن حلَّ تيهاً وَبادِية، فستغدُو محاسنُه على رغم الخمول بادية، ولنا في ذِمَّة الدهر ديونٌ بأوقاتها مرهونَة، فإذا جاء إبِّانُهَا فكَّ الزمانُ رُهُونه.
على أنِّي أستغفر اللهَ مِن دهرٍ كلَّت فيه مُرهَفاتُ الطِّباع، ونفَضت الآمالُ فيه يدها من غُبار الأطماع، وَافيْناه على الهِرَم، وقد قلع ضِرْسَ النَّدم، بعد ما أكل باكورةَ الكرماء، وشابتْ بالصباح لياليه الدَّهْماء، ودبَّ خَرِفاً على عصا الجوْزاء.
وكنتُ لما ذُيل بالنَّوى عيْشِي النَّضِر، وَلَيْت سِياحةَ الآفاقِ فَصِرت خليفةَ
الخَضِر، تهادتْني التَّنائِف، وقذفَتْنِي الأمانيُّ في لَهَوات المخاوِف، كأنِّي قَذَاة بأجفانِ الدهر، أو سَفَاة بوجْه نهر، أو كُرَة لاعب، أو سهم محارب، طَوْراً أُشَقِّق قلب الشرق كأنِّي أُفتِّش على الفجْر، وتارةً أُمزِّق كِيس الغرب حتى كأنِّي أُريد أن أُخرِج منه دينار البدْر، أُفلِّي لُمّةَ دجَا، شاب فوقَها فِرْقُ ابنُ جَلا، يُخَّيل لي أن البلادَ مَسامع أنا فيها مَرُّ الْمَلام، أو فكْرَ بليدٍ أنا حَوْله معنًى دقَّ أن تتصوَّره الأوْهام، غريبٌ في عيون الظُّنون، كأنِّي بيت حسَّان بن ثابت في ديوان سَحْنون، أو مُصحَفٌ في بيت زِنْدِيق، أو عابد في صَوْمعةِ بِطْرِيق، أو بِكرُ معنًى سار في مثَل، أو غَضٌّ عمرٍ جرى خلفَه رائدُ أجَل، أو خَبَر لم يصِحَّ له سنَد، فلم يقبلْهُ من الثِّفات أحد،
كأنَّ له دَيْناً على كلِّ مشرقٍ
…
مِن الأرض أوثَاراً لَدَى كلِّ مغربِ
أرِدُ مواردَ الحُوب، مُكدَّرة بغُصَص الخطُوب، فلم أُرِبّ ببَدْوٍ ولا حظَارة، كأنَّني من الشُّهب السَيَّارة، وقد قيل تنزِل الألقابُ من السَّما، فلكلٍّ من أسْمه نصيبٌ انْحطَّ أو سَمَا.
وطني حيثُ حطَّتِ العِيسُ رَحْلِي
…
وذراعِي الوِسادُ وهْيَ مِهادِي
فكل جوْلي بين إبْراقٍ وإرْعاد، وأمانيّ في مَهامِهِ الحيرة بين إتْهامٍ وإنْجاد، والزمان يُضمِر سَلْبَ ما أوْلاه بُخْلاً إن جَاد، وألسنةُ أبنائِه عن الإجابة صُمْت،
وآذانُهم عن صَرِيخ الاسْتغاثةِ صُمَّت، فقد خلَا من المكارم مَغْناها، وأصبح لا يجاوِب البُومَ إلَاّ صَداها.
لكنني مع أهواله، ودُروس رُسوم السرور في أطْلالِه، وإن توسَّدتُ ذراعَ الهمِّ في دياجيها، وقطعتُ ظُلمةَ الشَّدائد في سَنَا بدْرِ أمانيها، أتعلَّل بأن السيفَ لا يقطعُ في قِرابِه، والليثَ لا يصِل لغرض الفرائس في غابِه، ولولا مُفارقة القوس ما أصاب سهم، ولولا بُعْد الدُّرّ عن الصَّدف لم يَظفَرْ من الغِيد بأوْفَى سهم، فلذلك أُضَاحِك مباسِمَ الأمانِي، وأُغازِل عيونَ الآمال والتَّهاني، وأُنزِّه طَرْفي في رياض الدَّفاتر، ولم أَقِل مع السرور إلا في ظلِّ طائر، فزمان مسرَّاتي أقصرُ مِن عمر المكارم، وفؤادي لم يهْتَدِ إلى طُرْق سَلْوة المُدَام، في أُوَيْقات أثقل من السُّؤَّال، وأطول من عمر الآمال، أشْأمُ مِن وجه خَنَّاس، وأثقلُ من غريمٍ مُلِحٍّ على إفْلاس.
ولم يكْفِ الدَّهرَ ما ورَّثنِيه من الحِرمان، حتى ابْتلاني بعد الإثْبات بالنَّفْي كأنِّي نِكْتُ أُمَّ الزَّمان، وأنا أستغفر الله جلَّ وعلا، ولا أرْتضى بمَعرَّة أبي العَلَا، في قوله:
إذا ما ذكرْناَ آدماً وفعِالَه
…
وتزْويجَه لابْنَيِهِ بِنْتيْهِ في الْخَنَا
علِمْناَ بأنَّ الخلقَ مِن نسلِ فاجرٍ
…
وأن جميعَ النّاسِ مِن عُنْصُر الزِّناَ
فإنه كفرٌ مِن وَسْوسة الشياطين، وغُلُوّ مِنْه في خَلْعِه رِبْقَهَ الدين، بل أقولُ ما قال ابن عُنَين:
أنْفُوا الُمؤذِّنَ مِن بلادِكُمُ
…
إن كان يُنْفَى كلُّ مَن صدَقاَ
وللحسن بن أبي عُقامة في الردِّ عليه، أي على أبي العلاء:
لَعَمْرِي أمَّا فيك فالقولُ صادقٌ
…
وتكذِبُ في الباقِين مَن شَطَّ أو دَناَ
كذلك إقرارُ الفتى لازمٌ له
…
وفي غيرِه لَغْوٌ كذا جاء شرْعُناَ
فلا سَمِير لي أجالسه، ولا نديمَ لي أؤانِسه، سوى أوراقٍ كنت خلعت عن مَنْكبِ الإقبال بُرْدَها الخلِيع، وجعلتُها كبَيْت العَرُوض ادِّخارُها للتّقطِيع، فوجدتُ فيها نُبذاً مِن المحاسن أسرَّها الدهرُ في خاطره، شاهدةً لقوْلِ مَعْدِن الحِكَم:) أمَّتِي كَالْمَطَر لا يُدْرَى الْخَيْرُ في أَوَّلِهِ أَمْ فِي آخِرِهِ، ممَّن جَرَّ عليه الزمنُ أذيالَ الفَنَا،
وأسكنه تحت أَطْباقِ الثَّرى، فحلَّ مُخَيَّمَ البِلَى، كأنه سِرٌ في صدرِه، ومِن باقٍ على هامةِ الليالي تعْبَق أنفاسُ الرُّواةِ بذكْرِه، ممَّن ركِبتُ لرُؤْياه مطايَا أُمِّ عمري، أو نابتْ عنِّي في مشاهدتِه أهلُ عصْرِي، فاجتلَوتُ مُحيَّاه، أو رأيتُ من رآه، حتى طرِبتُ على الاسْتماع، وعلمتُ أن الذِّكرَى طَيفُ الاجتماع، وإذا كان الحِبُّ مَنُوع، فالصَّبّ قَنُوع، يتعلَّل ببارق ثَنَّية، وتكْفِيه لمْحةُ إشارة لمحة إشارةٍ أو تحيَّة.
فإن تمنُعوا ليلى وحُسنَ حديِثها
…
فلن تمنُعوا مِنِّي البُكا والقوافِيِاَ
فهلَاّ منعتُمْ إذ منعتم حديثَها
…
خَيالاً يُوافِيِني على النَّأْيِ هاديَا
فجمعتُ منها ما هو لطَرْف الدَّهر حَوَر، ولجِيد الأدب عِقْد يبْسَم منظومُه هُزْؤوا بعِقد الدُّرَر، ولكاس الأدب خِتام، ولعِقْد حُبَابه نِظام، تُذكِّر العهودَ والمودَّة وتطلع في وَجْنة الوفاة ورْدَة، وتندُب من ألْقى للبَلاء قِيادَه، وتُلبِس عليه وجْهَ الطِّرس حِدَادَه، وتسجُد الأقلام في محراب طِرسها الذي هو المحاسن جامِع، ويَودُّ كل عضو إذا تُلِيتْ أحاديثُها لو أنه مسامِع، وهي وإن كانت عِقْداً منتثراً دُرُّه، وأُفُقاً تبدَّد بيد الصباح زُهْرُه، ونَوْرّاً نشرتْه كفُّ الشَّمال، فانتظم على ترائِب الماءِ السَّلْسال، فلرُبَّما نُثِر العِقْد المُفصَّل، ليعود أحسنَ في النِّظام وأجْمل.
فهذه ذخائرُ من) خبايا الزَّوايا، فيما في الرِّجال من البَقايا (تنفَّس الدهرُ بها عن
نفْحةٍ عنْبَريَّة، وهبَّتْ بها أنفاسُه النَّدِيةُ نَدِيَّة، تنفُّسَ الروض في الأسحار بأفواه العبير عن أفْواهِ النَّوْر والأزهار.
يَسْرِي على رَيْحانِها نفَسُ الصَّبَا
…
سحَراً فُيوهِم أنه ذِكْراهَا
فلذا سمَّيْتُها:) ريحانة الألِبَّا، وزهرة الحياة الدنيا (فإني شمَمْت بها روائحَ الشَّباب، ونظرتُ في مِرآتها وُجوهَ الأحباب، وتذكَّرتُ غابِرَ الأيَّام، إذ العيش غضٌّ والزمان غُلام، مِن أعلام شم الأنُوف إن دعي بهم بوّ الصغار تشَّمخ، في غُرَر أيامٍ تُقام بها مواسمُ الدهرِ وتُؤرَّخ.
وجعلتُ مِسْك الخِتام، ذكَر سادةٍ من العلماء الأعلام، فإنَّ بصَبا أنفاسهم ينْقشِع غَمامُ الغُمَّة، وبذِكْرِهم في نادِينا تنزِلُ الرَّحْمَة.
فإن عَذُبت مواردُها، فَلْتُقرَن بالدعاء فرائدُها، فإن عُثِر منها على كَبْوة، فليَبذُل لها اللبيبُ عفوَة.
على أنَّني راضٍ بأن أحملَ الهوَى
…
وأخلُصَ منه لا عَلَيَّ ولا لِياَ
وها أنا ذا أُمتِع الأسماع، بربيع أحْوَى الظِّلال الْمَى التِّلاع، فإذا رأيتَ كلاماً لأهل العصر لم تترنَّح أعطافُه لهذا النَّسيم، فتمتَّع من شَمِيم عَرارِ نجدٍ فما بعدَه من شَمِيم، فليس مِن ليْلِى ولا سَمَره، ولا مما يُهدَى لنا من الأدب باكورةُ ثَمرِه، فكم من أشعار، للبُخل فيها أعذار:
تَا اللهِ ما بخِل الكرامُ وإنَّما
…
لِبُرودةِ الأشعارِ قد جَمُد النَّدَى
فما كل مُرتفِع نَجد، ولا كل وادٍ يُنبِت الشِّيحَ والرَّنْدِ، وما كل سَوْداء تَمْرة، ولا كل صَهْباء خمرَة ولا كل بيْضاء شَحْمة ولا كل حمراء لَحْمة ولا كل نبْتٍ يعلو بنَمَائِه، ولا كل بَرْقٍ يجود بمائِه.
اللهم بحُرمةِ سيِّد الأنام، كما يسَّرتَ الابتداء يَسِّر الاختتام، صارفاً عنا سُوءَ القضا، ناظراً إلينا بعيْنِ الرِّضا.