الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد الفشتالي
وزير مولاي أحمد
أديب فاس، وريحانة فضلائها الأكياس.
تقدم فيها متقلداً قلادة إنشائها، فائقا برسائله على سائر أدبائها.
وكان في عصره من أجل وزرائها، رافلا في حلل الحبور، تبسم له الدولة الأحمدية بثغور السرور.
وعاد إلى القسطنطينية رسولا من ملك الغرب والعود أحمد، معينا للسفارة وهل أحد أولى بالرسالة من محمد؛ لأنه ممن ألقى إليه مقاليد النهى البشر، وسلمت إليه يد التدبير مفاتيح الرأي والحذر.
وكان بها كثيرا ما يجلو على كأس أنسه، ويسامرني بليل سمره ونقسه، ونحن في مضمار المحاورة نتجارى، حتى مضى لنا معه أُويقات أقصر من إبهام القطاة والحبارى، وأقصر من عمر تلاقي الأحباب، بل سالفة الذباب؛ لأنه ممن أحكم عرى المجد، وجذب عنان الشعر وأحكم الحل والعقد.
فكنت إذا جاذبته أهداب الآداب، وأجلت في ناديه قداح الخطاب، كأني جاث بن الفرزدق أو جرير، لأنه بصير بعورات الكلام خبير.
ولما ورد الروم، كتبت له مهنئا بالقدوم:
قُدومٌ له هذِي الثُّغورُ بواسِمُ
…
وليس له غيرُ الزُّهورِ مَباسِمُ
مَسَّراتُ إقبالٍ وعزْمُ قوادِمٍ
…
عليها لِطَيْرِ رَفَّتْ قوادِمُ
على فَتْرةٍ وافيْتَ للرُّومِ مُرسَلاً
…
فضاءَتْ بنُورِ العلم منها المعالِمُ
فهل أهْدَتِ الأيامُ أعيادَها لناَ
…
ففي كلِّ وقتٍ مذ قدِمْتَ مواسِمُ
هذا هناء عرائسه على الألباب مجلوة، وآياته المحكمة بلسان الزمان متلوَّة، سرَّت به الليالي والأيام، حتى كأنه في فم الدنيا ابتسام.
ولعمري لقد أبان هذا الرسول من المرسل كماله، ولا غرو أن خص محمد في زماننا بالرسالة.
قدوم ذهب الأفق في البكر والآصال، وهبت على رياض مجده نسمات الإقبال وقد جريت في هذه التهنئة من الأدب على سننه، وأردت أن تحيى بها فرائض مذهبه ومؤكدات سننه.
فمن مولاي تجتنى ثمرات الألباب، وتطرز حال المعارف والآداب.
فهذا زمان طلعت فيه شمس الفضل من مغربها، فإن فتح مولانا كنوز فكره فالعبد أحق بمطالبها، والسلام.
فأجاب بقوله:
جُذيْلُ حِكاكٍ قد رمى بعظَيمةٍ
…
كثاَلثةِ الأثْفَى وهُنَّ عظائِمُ
وذكَّرنِي الظَّعْنَ الذي قد نسِيتُه
…
فتىً مُبْشِرٌ بل مُنْذِر لا يُقاوَمُ
كأنِّيَ بالفضلِ الذي هو أهلُه
…
يُغطَّى عِراقاً وهو بالنَّقْصِ عالِم
طالعت، أبقاكم الله، السحاة التي لو رآها الفتح لما انفتح له إلى الإحسان باب، ولو طالعها البديع ما ارتدى من مميسه بجلباب.
أقسم بتلك الفقر والقوافي، وهن القوادم في جناح الإحسان والخوافي، لقد سقتني من الأنس بعد الصحو كأسا دهاقا، وملأت فكري وهو المظلم بتنائي السكن إضاءة وإشراقا.
وإني لتارك لعتاب الليالي، إذ جمعتنا في هذه الديار بأمثالكم، لازلتم تقيمون رسوم المعالي، وتجمعون في المكارم بين المقدم والتالي، بمنه وطوله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وله ماء شعر تشربه أفواه الأسماع، ورياض منثور تغرد حمائم قوافيه بمطرب الأسجاع.
فمما دار بيني وبينه من كؤوس المخاطبة، وجال من جياد القول في مضمار المكاتبة، وأنا مسجون بالروم، وليس لي غير القضاء والقدر سجان، في ديار ترى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان، قولي ملغزا في حبات الأحقاق، الملتفة تحت أغصان المعاطف على كثب الأرداف:
أيا رَوْضاً له ظِلُّ
…
وشمسُ معارفٍ تعلُو
ويا مَن قولُه فَصْلٌ
…
وعُنْصُر ذاتِه فَضلُ
أبِنْ لي ما مُقَيَّدةٌ
…
برِدفٍ مالَهُ وَصْلُ
بلا قلبٍ مُحجَّبةٌ
…
ومنها العَقْدُ والحَلُّ
على بابِ المسَرّةِ أو
…
على كنْزِ الهوَى قُفْلُ
ويحسنُ عَقْدُها لكن
…
إذا حلَّيْتَها تحْلُو
فأجاب، وأجاد:
وفِكْرٍ طَلُّهُ وَبْلُ
…
لنَدْبٍ فضْلُه أصْلُ
ونظمٍ أرْفَعُ الشُّهبِ
…
لأدْنِى قَدرِه نَعْلُ
لَهذِي فَتْكَةٌ بِكْرٌ
…
عَتَا في بَدْئِها نَصْلُ
وحُزْتُم قصَبَ السَّبقِ
…
فلم يَعُدْ لكم خَصْلُ
وفُزْتُمُ من ثناً جَزْلٍ
…
بما ليس له مِثْلُ
فلا زِلْتُمْ ولا زالَتْ
…
بكمْ ساعاَتُنا تَحْلُو
وكتبت له ملغزا أيضا:
أيُّها المفرَدُ الذي صار جمعاً
…
في المعالِي ورَقَّ لفظاً وطَبْعاَ
أيُّ شيءٍ لدى السَّمواتِ يُلْفَى
…
وهْوَ في الأرض بالجَرَاءةِ يَسْعَى
ذُو ثلاثٍ وأربعٍ إن عَدَدْنَا
…
وتراهُ إذا تحقَّقْتَ سبعاَ
فأجِبْنِي بجوْهرٍ من نِظامٍ
…
كي أُحَلِّي به لساناً وسَمْعاَ
فأجاب، وأجاد:
يا بديعاً حاز المحاسِنَ طَبْعاَ
…
وكريماً له المحامِدُ تَسْعَى
لِيَ لُغْزاً أهديتَه في برودٍ
…
من مَعانٍ كأنّضها وَشْيُ صَنْعاَ
حاكَه فِكْرُ ماهرٍ قد تنَاهَى
…
في ضُروبِ البيان أصْلاً وفَرْعاَ
خامسٌ من بُروجِ دائرةِ الشَّم
…
سِ وفي الغابِ بالضُّبارِمِ يُدْعَى
لميَادِن فِكْرِه تتَبارَى
…
سُبَّقٌ عندها السَّوابِقُ صَرْعَى
شُقْرُ ذاك اليَراع مع دُهْمِ نِقْسٍ
…
شُهْبُ طِرْسٍ يُرضِيه حُسْناً ووَضْعاَ
يُسعِد الكفّض ساعِدَها القوِيَّا
…
ن وما للطِّعانِ ضاعَفْتُ دِرْعاَ
والقوافي تمِيلُ مَيْلَ الغوانِي
…
للفتى حين يُشْبَعُ الشيخُ صَفْعاَ
إن عهْدِي بالرّميِ عهدٌ قديمٌ
…
أنْتَ أقْوَى على قِسِيِّكَ نَزْعاَ
وهذا يشير إلى قول أبي حية النميري:
رمَتْنِي وسِتْرُ اللهِ بيْني وبيْنَها
…
عَشِيَّةَ أحْجار الكناسِ رَمِيمُ
ألا رُبّض يومٍ لو رمَتْنِي رمَيْتُها
…
ولكن عهْدِي بالنِّضالِ قديمُ
وأنشدني قصيدة هنأ فيها بفتح، فمما اخترته منها قوله:
بُشْرَى تُزَّفُ من الزمان المُقْبِلِ
…
بمنَصَّةِ الجَذَلِ الذي لم يَرْحَلِ
يا نجلَ فاطمةٍ وكلّ مُفاخِرٍ
…
فهو المُفاخِر دُرَّكمْ بالجَنْدَلِ
لولا ضِياءُ المَشْرَفيَّة والقَنَا
…
ضلَّتْ كتائبهُم بليْلٍ ألْيَلِ
بعساكرٍ رمِدتْ بِعثْيَرِ نَقْعِهاَ
…
عينُ الغزالةِ في الرَّعِيل الأوّلِ
خطَبتْ سُيوفُك في منابرِ هامِهمْ
…
خُطَباً تُذيقُهُم نَقِيعَ الحَنْظَلِ
ومنها، في ختامها:
هاكُمْ أميرَ المؤمنين قوافياً
…
فاحَتْ مجامِرُها طِيبها بالَمنْدَلِ
بمديح أهْلِ البيتِ هزَّتْ مِعْطفاً
…
هُزْؤاً بمدْح جَرِيرهْم والأخْطَلِ
وقوله في جواب اللغز السابق:) حين يشبع الشيخ صفعا (من مزج الجد بالهزل.
وعليه فأنظر قوله في النتف، التي سميتها) بالشهب السيارة (، وهو:
قيل إن كان في الشباب سرورٌ
…
فَبياضُ الوجوه خيرُ وَقارِ
قلتُ رُدُّوا الشَّبابَ لي واصْفَعوني
…
واجْعلوني سُخْريَّةً للصِّغارِ
والشيء بالشيء يذكر.
وأجاد التعاويذي في قوله:
وعُلُوُّ السِّنِّ قد
…
كسَّر بالشَّيْبِ نشاطِي
كيف سَمَّوه عُلوَّا
…
وهْوَ أخْذٌ في انحطاطِ
وقوله:) بعساكر رمدت (إلى آخره كقوله الأرجاني:
والشمسُ فَرْطُ سَناهُ أرْمَدَ عينَها
…
فكحَلْنها أيدي الجِيِادِ بإِثْمِدِِ
ومنه قوله في النتف أيضا:
وليلٍ زارَني والسعدُ وَافي
…
على رغمِ الُمنافقِِ والُمداجي
رَأَى ليليِ عيُونَ الشُّهْبِ رُمْدًا
…
فعصَّبَها بِمُسْوَدِّ الدَّياجِي
وأنشدني في قصيدة له، قالها وقد دعاه داعي النجاح، وأسفرت له شمس الظفر من خلف ستارة الفلاح، وأنشدته المسرة، قول شيخ المعرة:
ابْقَ في نعمةٍ بقاءَ الدُّهورِ
…
نافِذَ الأمر في جميع الأمورِ
وقد قدم من غزاة صدع بها شمل الكفر أي صدع، بعدما خط على صحف البسيطة سطور جيش متربة بالنقع، غض بعثيرها الوهاد، وسر بها الفضاء فتضمخ من دم الأعداء بالجساد، والربيع قد نقط تلك الصحف ووشاها، وخط في جانبها النبات وحشاها.
وكسا الأرض خِدمةً لك يامو
…
لايَ دون الملوكِ خضْرَ الحريرِ
وغَدت كلُّ رَبْوةٍ تشْتهي الرَّق
…
صَ بثوبٍ من النباتِ قصيرِ
فهْيَ تختالُ في زَبَرْجَدةٍ خْض
…
راء تُغْذَى بلُؤْلؤ منثورِ
فقدم له عن ذنوب الدهر صفح، والقلاع تعرب عن رفع عزمه بعدما بناها على الفتح، في يوم عده عيد السرور، قهل ملء العيون ملء الصدور.
فقام بين السماطين، وهو إذا رأس كتابه، وناظم عقود الجوهر في سلك خطابه، مهنئا ومنشدا، وفي رياض ناديه مغردا، بقوله أيضا:
قَسَماً بالجفون في سَطوةِ المُلْ
…
كِ وقد أُيِّدتْ بحُسن الفُتورِ
وظُباها التي بها تحْتمِي في
…
حَوْزةِ الصَّوْن بارقاتُ الثُّغورِ
وبخدٍّ يُكْنى أبا لهب تذ
…
كي يد الحسن ناره في الضميرِ
وبرَوضٍ تدِبُّ شوقاً إليهِ
…
عَقْربُ الصُّدْغ في ليالي الشُّعورِ
لَهَجرْنا المنامَ حتى تناسَتْ
…
نحوَنا للخيالِ طُرْقُ المَسِيرِ
يا ظِباءَ سَنحْنَ مُلتفِتاتٍ
…
مُتْلِعاتٍ أجْيادَها للنُّفورِ
أمَّن اللهُ رَوْعَكنَّ فإني
…
أرْتجي وَقفْةً بوقْتً يَسير
ومنها:
نَسْمةٌ في باب الإمالةِ تُبْ
…
دي عِلَلَ اليِّن في القضيبِ النَّضير
ما عهِدْنا رِيمَ الفلا وغصوناً
…
يُشرِقُ الحسنُ في بُرودِ البُدورِ
رافضاتٍ عهْدَنا هلْ لوصْلٍ
…
مِن رجاءٍ يطْفي لقلْبي الَحرُورِي
ذابَ شوقاً وأنفق العمرَ سَعْياً
…
في رِضاكُمْ وماله من شُعورِ
كان خدِّي مَجْرَى السَّوابق شُهْباً
…
بادِياتٍ في لونِها المُستنيرِ
فاسْتحالَتْ حُمْراً وتكمُن طوراً
…
من أخاديدِ جَريِها في حَفِيرِ
باعْتكافٍ يحْكي جهادَ جِيادِ
…
مُدمِناتٍ على السُّرَى والبُكُورِ
ومن مديحها:
ياَ نَسِيباً أنت المُقدَّم في المدْ
…
حِ فلسنا نَرى لكم من نَظيرٍ
كم نَظْمتُمْ للحقِّ عِقْدَ اعْتزازٍ
…
ونَثَرْتُم بالحَلِّ نظْمَ الفُجورِ
وبضَرْبِ الهِنديّ كم قد طرَحْتُم
…
من ضُروب العِدى بجَمْعِ الكُسورِ
وأدَرْتُم عليهمُ للمنَايا
…
أكؤُساً لم تزَلْ بكفِّ المُديِرِ
دام في العزِّ مُلكُكمْ وبيُمْنَي
…
عزْمِكم للفتوحِ سيفٌ الظُّهورِ
ما جرَتْ أفْرُسُ الدَّرارى بِمضْما
…
رٍ مَيادِينُها بِطُوِل الدُّهورِ
قوله:) يا نسيباً (إلخ، كقول بعضهم مضمنا من قصيدة نبوية:
له النَّسبُ العالي فيا ما دِحَ الورَى
…
إذا كان مَدْحٌ فالنَّسيبُ المُقدَّمُ
ولله در إبن خفاجة، في قوله:
مَلِيكُ تبسَّم بِشْرُ المُنَى
…
بمَرْآهُ وإمتدَّ خَطْوُ الأمَلْ
فلم أدْرِ والحسنُ صِنْوٌ له
…
أأَبْدأُ بالمدحِ أم بالغَزَلْ
وكتب إلي وقد أصابته الحمى فاقتصد، يذكر إشتياقه، ويشكو ما منعه من ملاقاتي وعاقه.
أنا في غربتي وعلتي، ونا خليل لم تبل بملاقاته غلتي، لا أظن نسيان الإخوان، وأعتذر لتقصير الزمان.
كأنَّ زماني خاف لَحناً فلم يكُن
…
ليجمَعَ بين السَّاكِنَيْنِ بأوْطانِ
فكتبت له:
كفاك اللهُ ما تخْشَى وغطَّى
…
عليك بظلِّ نِعْمتِه الظَّليلِ
أعز الله تعالى أنصار الكرم الفياض والحسب، وحفظ بحمايته معالم الفضل العامرة بالأدب، ببقائك محروسا من هجوم الخطوب، محفوفا بسور منيع من إحاطة القلوب، وأصوات جرس الدعاء به مرفوعة، وسدته بحجاب الصنائع ممنوعة، وله من عطر الثناء نشر وانتشر، فلا يمل حتى يمل نسيم السحر.
والدهر وإن كان ذا غير، من تفكر فيه واعتبر، فكيف يتسلط عليه بآلامه، وهو لا يتسلط على أيادي إنعامه، فإن هم به ونعمه سابغة عليه، فقد ورد:) اتق شر من تحسن إليه (.
أتُهْدِي له الأيامُ سُقْماً وإنما
…
مساعِيهِ في أعْناقِهنَّ قَلائِدُ
فإن اعتل فإنما اعتل الكرم والكمال، وإن مرض فقد مرضت الأماني والآمال، والقلوب والأرواح، وإن دعونا له فإنما ندعو لأنفسنا بالصلاح، ورب