الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الشاعر، وإن لم يكن من أهل العصر، فإنه قريب العهد، فينْبغي ذكرُه هنا، فنقول هو:
علاء الدِّين بن مَلِيك الْحَمويّ
هذا شاعر حَماة، ومن كَلأَ سَرْحَ الأدب بها وحَماه.
رآه أبو الفتح المالِكي، وقد رَقي شرفَ عِلْمِه وسَمَا، وهو بحانوتٍ له يبيعُ الأقْسما، وأقلامُه قُضُب على جَداوِل الطُّروس ميَّالة، أسبلَ على وجْهِ دَوْحِها الزَّاهِي ظِلالَه، بل لواءٌ على مَلِك الكلام، أو عمودٌ نُصِب عليه من السِّحر خِيام، وهو يخْلِب الأسْماعَ بسِحْره، ويُريق حلوَ مائِه على صِناعة شَعْرِه.
ثم رفعَتْه حِرفةُ الأدب عن حَضِيض دُكَّانِه، إلى أن صار ملك الأدب بديوانِه، فنادى لسانُ قَرِيضِه النَّظيم: ما هذا مَلِيك بل مَلَك كريم
وقد وقفتُ على) ديوانه (فجَنَيْتُ من ثَمراتِ حُسْنِه وإحْسانه، قولَه من قصيدةٍ له:
ذُكِر الغَضَا فَحَنَتْ عليه أضْلُعِي
…
وبكَى العَقِيقُ فساقَطتْه أدْمُعِي
لِلَّه دَرُّ دُموعِ عيْني إنها
…
وقعَتْ مِن الأجْفانِ أحْسنَ مَوْقِعِ
مَن لي بقَلْبي يومِ كَاضِمةٍ وقد
…
ودَّعْتُهم لو خَلَّفوا قلبي مَعي
رحَلوا فكان القلبُ أوَّلَ راحلٍ
…
والصَّبرُ آخِرَ ظاعنٍ ومُودِّعِ
وقوله من أخرى:
طِرازُ ذاك العِذارِ من رَقَمَهْ
…
ودُرُّ دَمْعِي بفِيهِ من نَظَمَهْ
وخالُه فوق كَنْزِ مَبْسَمِهِ
…
بالمِسْكِ قُفْلاً عليه من خَتَمَهْ
مَن لي به ظالَم الجفُونِ سَطَا
…
ظُلْماً على صَبِّهِ وما رَحِمَهْ
وقوله من أخرى:
يا بريقاً بالحِمَى قد لَمَعَا
…
حَيِّ عنِّي البانَ والأَثْلَ معَا
فبذاك الحَيِّ لي غُصْنُ نَقاً
…
طائرُ القلبِ عليه وَقَعَا
يا لَه من غُصنِ بَانٍ يانِعٍ
…
صادِحُ الحَلْيِ عليه سَجَعَا
وقوله من أخرى:
أحْيَا الرَّبيعُ الأرضَ بعد مماتِهَا
…
وحَلَا بسَكْبِ القطرِ عُودُ نباتِهَا
والزَّهرُ قد ألقَى النَّثار كأنَّما
…
أدَّتْ كنوزُ الأَرضِ بعضَ زَكاتِهَا
وحكَتْ جداوِلُها خَلا خِيلاً وقد
…
أضْحى خَرِيرُ الماء من رَنَّاتِهَا
وقوله من أخرى:
سُقْياً لأرضٍ بعد كَوْثَرِ مائِها
…
ما اشْتاقَ قلبي للموارِد مَنْهَلا
لولا بقايَاهُ وحَقِّك في فمِي
…
ما قلتْ شِعراً في المسامِع قد حَلَا
وهذا من قول بلدِّية ابن حِجَّة من قصيدة:
ولولا بقاياَ طَعْمِهم في مذَاقَتِي
…
لما ظَهَرتْ هذِي الحَلاوةُ في شِعْرِي
ومن نُتَف له:
مدَحتُكُم طمَعاً فيما أُؤَملُه
…
فلم أنَلْ غيرَ حْمل الإثْمِ والنَّصَبِ
إن لم تكنْ صِلَةٌ منكُمْ لذِي أدَبٍ
…
فأجْرَةُ الخطِّ أو كَفَّارةُ الكَذِبِ
وقوله أيضاً:
يكادُ لرِقَّةِ أعْطافه
…
من الِّينِ يُعْقَد لْولَا الكَفَلْ
فإن قيل بدرٌ فقُلْ عبْدُه
…
وإن قيل شمسُ الضَّحَى قل أجَلْ
ونحوه قول ابن حَجَر:
حبيبيَ لا تحتَفِلْ بالعَذَلْ
…
وصِلْ مُغرماً للضَّناَ قد وَصلْ
وحَقَّك إن العَذلَ الأقَلّ
…
وأنْتَ الحياةُ وأنتَ الأجَلْ
ومن قصيدة له:
وفوقَ ظُهورِ الخْيلِ ماتُوا فأصْبَحوا
…
وفي كلِّ سَرْجٍ فوقَها لهُمُ قَبْرُ
وقد تواردَ في هذا المعنى مع ابن حِجَّة، في قوله من قصيدةٍ، وكنت لما طالعتُ في) ديوانه (لم أرَ له معنى ابتكَره غيره، وهو:
ماتُوا على تِلك السُّروجِ مخافةً
…
فكأنَّ هاتِيِكَ السُّروجَ مَقابِرُ
وهو تشبيهٌ لطيف؛ لأن هيئةَ دَفَّتَيِ السَّرج، كهيئةِ جانِبَيِ القبر المصنوع من الحِجارة في هذا الزمان.
وقد سبَق إليه ابن نُبَاتَة، في مَرثِيَّة له:
وما الناسُ إلا راحلٌ بعد راحلٍ
…
إذا ما انْقَضَى عصرٌ مضى بعدهَ عَصْرُ
تَبدَّت لدَى البَيْدا مطاياَ قُبورِهمْ
…
ليعلم أَهلُ العقلِ أنَّهمُ سَفْرُ
ثم رأيتهُ في أشعار المتقدِّمين، لكن هذَّبه، فإن أبا نُواس قال في قصيدته، التي أولها:
أجارةَ بيْتَيْنا أبوكِ غَيورُ
…
وميْسورُ ما يُرْجى لدَيْكِ عَسِيرُ
ومنها:
إليك أتَتْ بالقوْم هُوجٌ كأنَّمَا
…
جَماجِمُها تحت الرِّحالِ قُبورُ
قال الصُّولِيّ: أي إبلٌ كأن بها هُوجاً لنشاطٍ في سيْرِها، وهذا التَّشبيه بالقبر حسَن، لكنه أخذَه من قول الوليد:
كأنَّ هاماتِها قبْرٌ على شَرَفٍ
…
يْمدُّ للسَّيْرِ أوْصالاً وأصْلابَا
انتهى.
وها هنا أمرٌ نفيس، ينبغي الإصغاء له، لأن الجماجِم الرؤُس، ولو شَبَّه أسْنِمتَها أو الرِّحال التي عليها بالقبور، لكَان مِن المعاني التي لا نَظِير لها. فاسْتِحْسان الصُّوِلِي ليس بحسن، وكان المتأخِّرين إذ كانوا رأَوْه تنبَّهوا لهذا، وهذا من حُسْن الظَّن بالسَّلف، وإلا فللْمقال مجَال.
فإذا فطِنْتَ لما قُلناه، وفهِمتَه علمتَ أن هذا كلَّه لا يصل في الحُسن إلى درجةٍ من درجات قوِلي، من قصيدةٍ لي:
إذا جئتُ داراً قبل لُقيايَ أهلِها
…
أُلاقِي قُبوراً للكرامِ أولي المجدِ
عليهْا لقد حطُّوا رِحلاً بمنْزلٍ
…
وكم هَوْدجٍ من بينهما مُر تَخِي الشَّدِّ
لينْتَظِروا مَن خَلفَّوه بدُورِهم
…
ليلْحقَهم قبلَ القِيامِ بلا جَهْدِ
يقولون جِدُّوا في الرَّحيلِ فإن مَن
…
تَبَقَّى أُناسٌ أُرضِعُوا اللُّؤمَ في المْهَدِ
وقولي:) قبل لقياي (إلخ، إشارة إلى أن قبور كلِّ بلدة خارجُها، فكل قادم لا بد أن يُلاقيها أولاً.
والى هذا المعنى أشار القاضي الفاضلُ في قوله:
المُدْنُ إن رجَع المُسا
…
فرِ أو إذا خرجَ المُسافِرْ
ما استَقْبَلَتْه ووَدَّعته
…
هْهُ بغيرِ هاتِيكَ المقابِرْ