الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن إبراهيم الفاسي
نزيل مصر
شمس فصاحة طلعت في آخر الزمان من المغرب، لو رآه ابن سعيد لنسي بفكاهة مفاكهته) المرقص والمطرب (.
ما كنت أظن المغرب تنجب له بمثيل، إن الزمان بمثله لبخيل.
ارتحل لمصر، واختلط بناسها، وميز حال فصولها وأجناسها.
ولما قدم كتبت له خاطبا لعقائل وداده، جاليا كئوس المؤانسة على فؤاده:
أيا شمسَ أهلِ المغربِ شَرَّفْتَ مِصرَنا
…
وقلَّدتَه عِقداً نقيساً من الأُنسِ
فصار رَبيعاً باعْتدالِ قُدومِكم
…
ولا بِدْعَ فيما قلتُ في شرَف الشَّمسِ
وكانت حالي معه حالية، وموارد أنسي به من قذى الكدر صافية، أراضعه ثدى الآداب، وأتخذه ممن مودته تدخل بيت القلب بغير إذن وحجاب.
إلى أن أرتحل إلى المحلة، وجعل كرم قاضيها مقر أمله ومحله، وفارق إخلاءه وصحبه، لما كابده من صحبته الأمر بين الفقر والغربة، فانعطفت عليه أغصان المسرة وألهنا، وأقام في رياض المكارم تحت ظلال المنى.
إلى أن حالت الحال، وأذنت شمس حياته بالزوال، فجاد بنفسه، وغاب في مغرب رمسه، بعدما وقف على أطلال الهمم، باكيا على دارس رسوم الكرم.
وكان مغرما معي بالمزاح، لابسا للخلاعة وبرد الجد عنه غير مزاح.
وأنشدني له يوما قوله:
حكَيْتُ إبليسَ خَناً
…
وصُورةً مِن عَوَرِهْ
يا سابني عن العَمَى
…
عندِي نِصْفُ خَبَرِهْ
فقلت له: قد سبقك إلى هذا الباخرزي، في قوله:
فلا تحسَبُوا إبْليسَ علَّمني الخَنَا
…
فإنِّيَ منه بالفضائح أبْصَرُ
وكيفَ يرى إبْليسُ مِعْشارَ ما أرَى
…
وقد فُتِحتْ عَيْنايَ لِي وهْوَ أعْوَرُ
وهو من قول الآخر:
وكنتُ فتًى من جُنْدِ إبْليسَ فارْتَقَى
…
بِيَ الحالُ حتى صار إبْليسُ من جُنْدِي
ولو مات مِن قَبْليِ لأحْيَيْتُ بعدَه
…
طرائِقَ فِسْقٍ ليس يُحسِنُها بَعْدِي
وكان إذا أغار على معنى أغار، ولا يبالي بأنه يرى مغزاه إذا انجلى الغبار، تبعا لمذهب القائل:
فإنَّ الدرهمَ المضروبَ باسْمِي
…
أحَبُّ إليَّ من دينارِ غَيْرِي
كقوله:
يا تاركاً شُرْباً لقهوتِنا التي
…
تجلُو صدَا القلبِ الكئيبِ العاني
في ترْكِ مثلِك شُربَها لِيَ راحةٌ
…
توفيرُها وطهارةُ الفِنْجانِ
وهو من قول ابن الرومي:
يا لائمي في الرَّاحِ غيرَ مُقصِّرٍ
…
مازال ظنُّكَ سيِّئاً في الرَّاحِ
فأفَلُّ ما في تَرْكِ مِثْلِك شُرْبَها
…
توفيرُها وطهارةُ الأقْداحِ
ولم يزل باللهو معروفا، وبغزلان النقا مشغولاً مشغوفا، لاسيما إذا تفتح عن ورد الخدود أكمام العذار، وشاهد صنع الله الذي يولج الليل في النهار.
وقالُوا أتَتْ كُتْبُ العِذارِ بغزْلِهِ
…
فقلتُ لهم لا تعْجَلوا فبِها وُلِّى
ويقال أن هذا الأمر أذهب خبره وخبره، ومحا بيد الفنا عينه وأثره، حتى عصفت رياح المنية بروضه القشيب، وهصرت يد الردى يانع غصنه الرطيب، فاحتضر واحتضر، بأمر الملك المقتدر.
لازال جدثه روض من رياض الجنان، ولابرح مجرى لجداول الرحمة والرضوان.
فمن العنبر الذي أذكته مجامر فكره، وقذفته في سواحل المحاورة بحور شعره، ما أنشده لي من قوله مضمنا:
قلُ للقضيبِ ورَاحُ الريِّح تعطِفُه
…
أثْناءَ بُرْدٍ من الأزْهار مُنْتسِجِ
أشْبَهتَ قامةَ من أهْواهُ لو طلَعتْ
…
أعْلَاك شمسٌ وفُقتَ المِسْك في الأرَجِ
لك البِشارةُ فاخْلَعْ ما عليك فقدْ
…
ذُكِرتَ ثَمَّ على ما فيكَ من عِوَجِ
ولابن أبي حجلة مضمنا:
قل للهلالِ وغَيْمُ الأُفْقِ يسْترُه
…
حكَيْتَ طَلْعةَ من أهْواهُ بالبَلَجِ
لك البِشارةُ فاخْلَع ما عليك فقدْ
…
ذُكِرْتَ ثَمَّ على ما فيك من عِوَجِ
وأنشدني له أيضا مضمنا:
أأسْلُو في الهوَى طَعْمَ الهوانِ
…
ورَبْعُ الحسنِ مَأْهُولُ المغانِي
ومَن أهواهُ واصَلنِي جِهاراٍ
…
وصِرتُ من الَّقيبِ على أمانِ
وقد حلَّ العِذارُ بوجْنَتيْهِ
…
بمنْزلةِ الرَّبيعِ من الزَّمانِ
وأنشدني قصيدة، منها:
أتُسِلُ دمْعِي ثم تسألُ ما جرِى
…
عجباً لعَمْرِك ما رأيتُ وما أرَى
هذِي دِماَ نفْسٍ هواكَ أذابَها
…
فهَمَتْ على خَدِّي نجِيعاً أحْمرَا
ومنها:
مَن كان يقْبِضُه جلالُ الحُبِّ عن
…
بِسْطِ الجمالِ فلم يزَلْ مُتَحيِّرَا
فأنا جمَالِيُّ الغرامِ وهكذا
…
وِرْدُ الجمالِ لن تَراه مُكَدَّرَا
ومنها في حسن الختام:
وإليْكهاَ والحسنُ بعضُ صفاتِها
…
بِكْراً تُحاكِيها الملاحةُ منْظرَا
قد زََّفها فكْري إليك ومهْرُها
…
نَقْدُ القَبولِ وسقُّها أن تُمْهَرَا
حاشاكَ تُهمِلها ويعرِفُ قدرَها
…
من قد ترى بين الثُريَّا والثَرَى
ختَم البيانُ بها فكلُّ سليم طَبْ
…
عٍ صار من عَجَب بها مُتَحيِّرَا
وله في الهجاء مضمنا:
لقد قلتُ للِطُّورِيّ لمَّا بدَا لنا
…
كجُلمودِ صخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ من عَلِ
بوجْهٍ كليْلِ الهجْرِ أسْودَ طائلٍ
…
ألا أيُّها الليلُ الطَّويلُ ألا ابْخَلِ
ومما أنشدنيه لنفسه قوله:
ولمَّا دار بالخَدَّيْن نَبْتٌ
…
حكَى عصرَ الصِّبا قبلَ المشِيبِ
تيَّقنْتُ الوِصالَ وليس وَعْدٌ
…
هناكَ ولا خُلُوةٌّ ولا رقِيبِ
ولكن دَارَةُ القمرِ اسْتَتمَّتْ فدلَّتْنا على مطَرٍ قريبِ
وأنشدت له قولي في معناه:
على خَدِّه مُذ لاح نَبْتُ عِذارِهِ
…
جرَتْ أدمُعي في الخدِّ ذاتَ صَبِيبِ
إذا ما اسْتدارَتْ دَارَةُ البدْرِ حولَه
…
فإنَّ وقوعَ القَطْرِ غيرُ عجيبِ
ومما أنشدنيه قوله من لفظه مضمنا:
يا سالبَ الغُصْنَ حُسْنَ القَدِّ والمَيَلِ
…
مُلْبِسَ الشمسِ ثوبَ الحُزْنِ والخجَل
ما شاَن خدَّك نبْتُ بل صفاَ فترَا
…
ءتْ في سَناهُ ظِلالُ الهُدْبِ والمُقَلِ
فاثْبُتْ على حُبِّه يا قلبُ تَحْظَ بهِ
…
فهل سمعْتَ بظِلٍّ غيرِ مُنْتقِلِ
ومعنى البيت الثاني مما سبق إليه، كقول الأرجاني:
أعِدْ نظراً فما في الخدِّ نبْتٌ
…
حَماهُ اللهُ من رَيْبِ المَنُونِ
ولكن رَقَّ ماءُ الخدِّ حتَّى
…
أراكَ خيالَ أهْدابِ الجُفونِ
ومما قلته في معناه مضمنا:
صَقِيلُ خُدودِهِ مِرْآةُ قلبي
…
وماءُ الحسنِ رَقَّ به ورَاقاَ
تُحِيطُ به العيونُ إذا تَبَدَّى
…
وهل طَرْفٌ يُطِيقُ له فِراقاَ
فَخالُوا رِقَّةَ الأهْدابِ فيه
…
عِذاراً قد كساَ بدْراً مَحاقاَ
وظَلْنا نجْتلي منه مُحيَّا
…
كأنَّ عليه من حَدقٍ نِطاقاَ
وكان يهوى بمصر غلاما وقد دب ظل العذار على ورد خده، وجعل حارس الحسن بنفسجه سياج ورده، هام به هيام سعد بن أنيس بورده، ووهبه روحا لابسة حلل المودة، فكان لا يسر إلا إذا اصطبح من عذاره بالآس ثم لما أدركه الغرق من الوجد واليأس، عمل فيه مزدوجة لم يدركها مدرك، فكان ذلك سببا
لصده المهلك، فارتحل لافتضاحه للمحلة الكبرى، فكتبت له إذ ذاك قصيدة، لأجدد له الذكرى.
منها:
مَن لم يُدِمْ ذكرَ الحبيبِ النَّاسي
…
ومعاهداً فيها فليس بناَسِ
بِي مَن كساَ جسْمِي السِّقامَ وَعَلَّني
…
بمُدَامِ دمْعِي يالَهُ من كاسِ
في نُقْطةٍ من خالِه يرجُو الوفاَ
…
دمعٌ زيادتُه بغيْرِ قِياسِ
لمَّا خشِيتُ على الكرَى من مَدْمعِي
…
أوْدعتُه في طَرْفِه النَّعَّاسِ
يقْسُو علىَّ فؤادُه ياليْتَه
…
يَعْدِيه لِينُ قَوَامِه الميَّاسِ
تاللهِ ما حُبِّي لعارِضِ خدَّه
…
كالوَرْدِ بل حُبِّي له كالآسِ
ومنها:
يا جوهراً للمجْدِ صار مُجرَّداً
…
ما أنتَ إلا الرُّوحُ لْلأكْياسِ
لو لم تُحدِّثْ عن شمائِلِك الصَّبا
…
لم تكْتسِب ذا الطِّيبَ في الأنْفاسِ
يا راحلاً عنِّي ومُجْرِىَ أدْمُعِي
…
ما في وُقوفِكَ ساعةً من باَسِ
عِقْدٌ على جِيدِ الزَّمانِ مُنظَّمٌ
…
روْضٌ له ظِلٌّ على الجُلَاّسِ
لم أسْتطِعْ وصْفِي لهيبَ صَبابتِي
…
مَن يُودِعُ النِّيرانَ في القِرْطاسِ
ومنها:
فاسْتَجْلِها بِكْراً نتيجةَ ليْلةٍ
…
صَهْباءَ سالبِةً عُقولَ النَّاسِ
لا زال يا إنْسانَ عيْنِ العصرِ مِن
…
ذِكْرِي بسالفِ عْهدِكَ اسْتِئْناسِي
مولاي أما الشوق فقد اشتعل ضراما، وكاد عذابه أن يكون غراما، حتى قال فم الجفن: يا نار كوني بردا وسلاما.
فأني ألقي إلي كتاب كريم، فاح منه شميم عرار نجد وما بعد العشية من شميم، فمتعت بما هو أحلى من الوصل بعد الهجر، ومن الأمن بعد الخوف، ومن البرد بعد السقم، ولم أدر أطيف منام، أو زائر أحلام، أم قرب نوى بعد البعاد، أم حبيب وافى بلا ميعاد، من أديب أشرق بدر مجده ساطعا، وألبسني برد المسرة أخضر يانعا.
أهُمُّ ببَسْطِ حِجْرِي لالْتقاطٍ
…
إذا حاضَرْتَ بالدُّرِّ النَّسيقِ
فحدانى أن أحث مطي الهمم، إلى نحو كعبة الفضل والكرم، فحركت مجمل الطبع حتى عبق عنبرا وندا، وهززت قضب اليراع على خدي الطرس فانتثر أقاحا ووردا.
وقد كنت ممن زجر عن هذه الصناعة طبعه، فإنها كما قيل كالياسمين لا يساوي جمعه.
ولسان التقصير، كما قيل قصير لاسيما والجود عبد أنت سيده، والفضل عقد أنت مقلده، والبلاغة سوار ليس لغيرك عليه يد، ورداء المعارف مستعار منك، وان كان لا يسترد، وللفصاحة ماء لا يجري في غير ناديك، وينبوعه لا يتدفق إلا من أياديك.
ولو صوَّرت نفسَك لم تزِدْها
…
على ما فيكَ من كَريِم الطِّباعِ
وزمان الأنس غابت عني أسراره، وطريق المجد أظلم دوني ليله ونهاره، وانطوى عني دجاه وضحاه، فسامرت نسره ونعائمه، ونفضت بعصا النسيار نجوده وتهائمه، وعود الهوى، قد يبس وذوى، وعهدي قديم بالنضال، وأني في السبق قد أثقلني قيد الكلال.
ولا ينكر من القرائح جمودها، ولا من نيران الذكاء خمودها، وقد غاض الكرام، وفاض اللئام، والحر لا يستعبد بغير الوداد، ولسان المرء من خدم الفؤاد.
ولولا ابتسام ثغر المنى، وامتداد خط الأمل لنا لمل كل قلب عاني، يقتات السوف والأماني.
فقد صرفت عن كل شيء وجه ميلي، لما نفر عني كل شيء حتى صبح ليلي، واستوحشت من كل شيء حتى ظلي، ومللت حتى الملل فقلت من لليلي ومن لي.
إنَّ دهراً يلُفُّ شملي بسعدي
…
لزمان يهم بالإحسان
وفي المثل:) أعطي العبد كراعا، فطلب ذراعا (.
فعسى أن تمنوا بسطور، هي سلالم يترقى بها إلى السرور.
لا زلت ترفل في ثوب بقاء بالصحة معلم، وتقيل في ربيع مسرة حماه عن الاكدار محرم، ألما الظلال عذبى المشارب، تسطر محامده بين دفتي المشارق والمغارب، ما حن صديق إلى صديق، وصرف بدارهم النجوم دينار الشمس الأنيق، والسلام.
فأجاب بقوله:
أسَقِيطُ طَلًّ في حديقة آسِ
…
أم ذا حبابٌ دار فوق الكاسِ
أم دُرُّ ثَغْرِ الأُقْحُوانةِ باسِمٌ
…
أم دمعُ طَرْفِ النَرْجِس النَّعَّاسِ
أم جَنَّةٌ جُنَّ النَّسيمُ بحُسنِها
…
أغْصانُها من ذاك في وَسْواسِ
أم هذِه زُهْرُ النجومِ تزيَّنتْ
…
منها السماءُ هِدايةَ للنَّاسِ
أم ذا هو السِّحرُ الحلالُ حَلَا أم الْ
…
عذبُ الزُّلالُ وكلُّ عُضْوٍ حاَسِي
أم رُقعةٌ رفَعتْ لواءَ بيانها
…
فأتى البديعُ لها ذليلَ الرَّاسِ
نطقَتْ بكلِّ فضيلةٍ ظلَّتْ لها الْ
…
أحداقُ بين مُحقِّقٍ أو خاَسِي
الشِّعرُ فاخَر أنْجُمَ الشِّعْرَى بها
…
والجَوُّ قال الفضْلُ للِقرْطاسِ
مَن ذا يُطاوِلها ومطْلَعُ نُورِها
…
أفُقُ الشَهابِ وظُلمةُ الأنْقاَسِ
وافَتْ فما وفَّيْتُ بعضَ حقوقِها
…
إَلا ببَذْل النَّفُسِ والأنْفاسِ
طار الفؤادُ لها وَقارُها
…
ما في وقوفِكِ ساعةً من باَسِ
جاءتْ تُحدِّثُ عن محاسنك التي
…
شُدَّت إلى حُسنِ الثَّناَ بِمِراسِ
أمَّا الفصاحةُ صَحَّ أنَّكَ قُسُّهاَ
…
بالرَّغم من غِمْرٍ حسودٍ قاسِي
ِللهِ دَرُّ عَقِيلةٍ أبرَزتَها
…
عقَلتْ بِبَهْجتِها عقولَ النَّاسِ
مِن كلِّ بيتٍ كاد يُشبِه لفظُه
…
معناه كلٌّ دَقَّ عن إحْساسِ
شَرحَتْ ليَ الوُدَّ القديمَ وذكَّرَتْ
…
قلباً فَديْتُك لم يكنْ بالنَّاسِي
ما أخطأتْ رَشَداً وإن تكُ أبْطَأتْ
…
خيرُ اللِّقا ما كان بعدَ الْياَسِ
فالحُبُّ أن أرْضى بما تَرْضى وها
…
حُبِّي وحَقِّك راسخٌ بأساسِ
كُنْ كيفَ شئْتَ فشِيمَتيِ حِفْظُ العهُو
…
دِ وإننِّي طَوْدُ الوفاءِ الرَّاسي
يا مَن زهاَ حُرُّ القرِيضِ بلفْظِه
…
وغَنِي به الإنْشاءُ من إفْلاسِ
ومَن اسْتَنَارتْ منه مصرُ وأُفْقُها
…
لَّما كساها الفضلُ خيرَ لِباسِ
ومَن انْمَحَى ذنبُ الزَّمانِ لأجْلِه
…
وغَدَتْ به الأيامُ كالأعْراسِ
دُمْتَ المُقدَّمَ في المجادةِ والإجا
…
دةِ والإفادة والنَّدى والباَسِ
وإلَيْكهاَ وهي الملاحةُ نَفْسُها
…
والحسنُ بالأنْواع والأجْناسِ
فإذا أصاخَ لها الحسودُ حسِبْتَه
…
ما بين كأس أو ظِباءِ كِناس
عذْراءُ تبسطُ عُذْرَ تقْصيري ومِن
…
داءِ التطاوُل فهْيَ نِعْمَ الآسِي
أنَّى لمْثلِي أن يجيءَ بِمثْلِ ما
…
تأْتِي وأين الشَّمسُ مِن نِبْراسِ
لكنَّهاَ ردُّ السَّلامِ سلكْتُ فيهِ الطُّولَ قدْرَ زيادةِ اسْتِئْناسِ
فعلَيْكَ من أوْفَى السَّلام أَبَرَّه
…
مَّمن يُكابِد بُعْدَه ويُقاسِي
حَلَّ المْحَلَّةَ جسمُه والقلبُ في
…
مصرٍ لديكَ وأهلُه في فاسِ
بعد تقبيل ثريا ذلك الثرى، الذي عبق في المشام عنبرا، وقلد جيد الزمان دررا.
لا زال منبع البيان، ومنتجع الأعيان، ولبرح جوهر حصبائه يفضله العيان، على قلائد العقيان.
هذا، وقد وصل إلى، وصل الله لك أسباب العلا وألبسك رائق الحلى، كتابك الخطير في رقعة من محاسن لفظك الرائق الجلباب، المزري برونق ريق الشباب، وبهجة من بدائع خطك المستوقف للناظر، المخجل بحسنه الوشي الفاخر، والروض الناضر، فأجناني ثمر البر يانعا، وجلى على وجه الود لأبيض ناصعا.
وأراني كيفَ انِقيادُ القَوافِي
…
في زمامِ البيانِ سَمْعاً وطَوْعاَ
وفتح للمخاطبة بابا، طالما كنت له هيابا، ورفع حجابا، ترك القلب وجابا.
مازلت أغازلها أملا، فلا أطيق لها عملا، وألاحظها أمدا، وأذوب دونه كمدا.
وفي تَعَبٍ من يحسُدُ الشمسَ نورَها
…
ويزعُم أن يأْتي لها بضَرِيب
لا جرم أنه اقتضاني خالص ود، وصحيح عهد، لم يلتفت مني إلى معذرة، ولم يكلآني إلى ما في الوسع من المقدرة، وقد يعود على علمك بحر القريحة ثمدا، وحسام الذهن معضدا فتكلفتها بحكم هذا الغرام تحت حصر، ونازح بصر، فإن سمحت بالإغضاء، وسامحت في الإقنضاء، سلمت لك اليد البيضاء، وظهرت لشكرك بالقضاء.
وأما العذر الذي توخيت - ولا عدمت - شرحه، وحميت بقوة الكلام سرحه، فأنت غني عن تكلفات إيضاحه، ومد أوضاحه، فالذي يثبت في النفوس، من الود المصون المحروس، لا يخشى عليه من تسلط الطموس والدروس.
ولا أقول إن ودي لك كالتير، إذ لا يصفو ما لم يشبه لهيب الجمر، ولا كالراح، حيث يفتقر في الرفة إلى مر المساء والصباح.
بل أقول: إن ودي لك - أبيت اللعن - كالفرات العذب، يشفي غليل القلب، ويطفي لهيب الصب، يحل بالأرض الميتة فيحيها، ويمر بالروضة الذابلة فيتوجها بالأزهار ويحليها.
وأنت - أعزك الله - لا تثريب عليك إذ كل يعمل على شاكلته، ويجري في أموره على مقتضى مرتبته، فإن حنو السيد - وأنت ذاك - يستكثر قليله، وإخلاص العبد، وهو أنا، يستحقر، كما علمت جليله، والحق أغلب، ومعرفي المرء نفسه أصوب.
وإن تفضلت بالاستفسار عن أحوال العبد، فالحال في خير، والمآل يعلمه الله تعالى.
وبالجملة، فسهم المصيبة إن سدده الدهر فعلى مثله وقع، والتألم بمثل هذه الحالة قد ارتفع.
ولم أرَ مثل الصَّبْرِ أما مذاقْهُ
…
فحُلْوٌ وأما وجهُه فجميلُ.
وكذلك كل من دعا الصبر لما شاء أجاب، وأراه من نشره الأفق المنجاب، وأقامه بين مبرات وألطاف، وأعطاه مما أحب جني قطاف.
ولله در القائل:
يعيشُ المرءُ ما استغْنَى بخْيرٍ
…
ويبْقَى العًودُ ما بَقِيَ اللَحاءُ
وهو الدهْرُ لا يُرَدّ عن مراده، ولا يصادر في إصداره وإيراده.
فيومٌ عليناَ ويومٌ لناَ
…
ويومٌ نساءُ ويومٌ نُسَرُ
على أن طول الغيبة ليس لشيء، علم الله آثرته على لقياكم، إذ استبدله طوعا لكنه ارتكاب للأخف من الضررين، واختيار للأهون من الشرين.
عسى غلطاً يُثْنِى الزمانُ عِنانَه
…
بدَوْرِ أمورٍ والأمورُ تدورُ
فتُدرَك آمالٌ وتُقْضى مآرِبٌ
…
ويحدثَ من بعدِ الأمور أمورُ
فلذلك قدمت من البحر بالوشل، وسرحت في رياض المنى بين عسى ولعل، فقد قيل إذا دار الفلك، فعليك أو فلك، ولله في خلقه أمر لا تدرك العقول حكمته،) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَينْشُرُ رَحْمَتَهُ (.
وما اجتليته في كتابك الخطير، وروض كتابك المطير، استدعي شيئا من نظم العبد ونثره، والتنويه بذلك من خامل ذكره.
فلا عدمت منك مولى على الإحسان مثابرا، وحكيما لكسر إكسير الخاطر جابرا.
مع تشتيت الحال لبعد مزارك، ونأي داري عن دارك.
وأقسم أني صممت عن التغافل عن الجواب، وهو الأولى بالصواب، إذ ليس بلبيب من يقيس الشبر بالباع، والجبان بالشجاع، وكيف لا، وكل من تكلف فوق طاقته، افتضح لساعته، ولكن عدم الامتثال محذور، والملجأ إلى ما لا يطاق معذور.
فتكلفت لما يعرض عليك من المسمطات، سوى القصيدة المشار إليها بذكر بعضها، فإنها متقدمة على ورود مشرفتكم.
فمثلك من سد الخلل، وتجاوز عن الزلل.
والله يبقيك، ومن كل سوء يقيك، والسلام.
قوله في القصيدة:) حلٌ المَحلَّة (الخ، كقول ابن الخازن:
يوماَ بحُزْوَي ويوماً بالعقِيق ويو
…
ماً بالعُذَيْبِ ويوماً بالخُليْصاءِ
ولأبي تمام:
بالشَّام أهْليِ وبغداد الهوَى وأنا
…
بالرَّقْمَتَيْن وبالفُسْطاطِ إخْوانِي
وللأمير أبي فراس الحمداني:
يا هل لصَبٍ بِكَ قد زِدْتَه
…
على بَلايَا أسْرِه أسْرَا
قد عدِمَ الدنيا ولذَّاتِها
…
لكنَّه ما عدِمَ الصَّبْرَا
فهْوَ أسيرُ الجسم في بلدةٍ
…
وهْوَ أسير القلبِ في أُخْرِى
ولابن عبد ربه الأندلسي صاحب) العقد (:
الجسمُ في بلدٍ والرُّوحُ في بلدِ
…
يا وَحْشةَ الروح بل يا غُرْبَةَ الجسَدِ
إن تَبْكِ عيناك يا من قد كلِفْتُ به
…
مِن رحمةٍ فهما سهْمانِ في كَبِدِي
ولابن الفارض:
كيفَ يلْتَذُّ بالحياةِ مُعنًّى
…
بين أحشائِهِ كوَرْىِ الزِّنادِ
في قُرَى مِصْرَ جسمُه والأُصَيْحا
…
بُ شَاماً والقلبُ في بغدادِ
وقلت أنا في مثله:
شُتِّتَ النَّوْمُ والأحَّبةُ عني
…
مع تأْليفِ أدْمُعِي ووُلوعِي
أنا في بلْدةٍ وأهْلي بأُخْرَى
…
وحبيبي بغير تِلكَ الرُّبوعِ
فكأن الزَّمانَ مني اشْتَرى الصَّفْ
…
وَبنَقْدٍ أسالَهُ من دمُوعِي
وقوله في المنثور:) وُدِّي لك (الخ، كقول أبي محمد بن سفيان من شعراء) القلائد (: كتبت وما عندي أصفى من الراح، وأضواء من سقط الزند عند الاقتداح.
وقول أبي محمد بن القاسم الوزير في جوابه:
كتبت عن ود لا أقول كصفو الراح، فإن فيها جناحا، ولا كسقط الزند فربما كان شحاحا، ولكن أصفى من ماء الغمام، وأضواء من القمر ليلة التمام.
فراجعه بقوله: كتبت - دام عزك - عن ود كمء الورد نفحه، وعهد كصفائه صفحه، ولا أقول أصفى من ماء الغمام فقد يكون معه الشرق، ولا أضواء من قمر التمام، فقد يدركه النقص ويمحق.
وليس ما وقع فيه الاعتراض مختصا بصفو الراح، ولا بسقط الزند عند الاقتداح، فإن أمور هذا العالم هذا سبيلها، وجياد الكرم تجود كيفما أرسلها مجيلها.
وعلى ذكر القصة قلت:
إن الصفَّي الذي كنتُ أعهَدُه
…
عند المُلَّماتِ ذُخْراً للوداد مُذِقْ
وقد يغَصّ بخيْر الزْادِ آكلُه
…
وقد يكون من الماء الزُّلالِ شَرَقْ
وقلت أيضا:
إن كنتَ تُوجعني بالّلوم في زَللِي
…
وظَلْتَ تُبْرِيءُ من الدّاءِ بالدَّاءِ
فقد يسوغُ بضَرْبِ الظَّهر غُصةُ مَن
…
قد اسْتغاثَ فلم يُنْجِدْه بالماءِ