الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُشتغِلَا بالعلمِ مُستغرِقاً
…
أوقاتَه فيه وفي سَرْدِهِ
قد لزِمَ العُزْلةَ لكنه
…
لصَحْبِه باقٍ على عهْدِهِ
أقسمَ لا يبرَحُ من بيتِه
…
حتى يُوارَى في ثَرى لَحْدِهِ
إن مات لم يتْرُك له دِرْهما
…
يحوزُه الوارِثُ من بعْدِهِ
ولا أثاثاً لا ولا مَلبَساً
…
يصلُح للبيْع سِوى بُرْدِهِ
وفرْوةٍ جَرْداءَ من عِنْقها
…
أضلاعُه تَرعَدُ من بَرْدِهِ
وطَيْلسانٍ خَلَقٍ دمعُه
…
من عِتْقِه يجْرِي على خَدِّه
ولم يكن يترُك شيئاً إذا
…
فارَقَه يَأْسَي على فَقْدِهِ
غيرَ بقايَا كُتُبٍ رَثَّةٍ
…
أكثُرها قد مات في جِلْدِهِ
يُباعُ في تجْهيزِه بعضُها
…
والبعضُ وَقْفٌ لا على وُلْدِهِ
هذا لعَمْري عَرْضُ حالي على
…
مَن أجمعَ النَّاسُ على حَمْدِهِ
لا برِحتْ أعتابُه قِبلةً
…
يَؤُمُّها العارفونَ من وَفْدِهِ
ما هَطَلتْ أُنْمُلَةٌ بالنَّدى
…
من رَاحةٍ كالبحرِ في مَدِّهِ
تكملة في قوله) مستغرقا (إلخ فوائده
منها: أن الاسْتِغراق أصل معناه طلبُ الغرَق، ثم استعمله الناس في أخْذِ الشيء وتحْصيله، ومنه قولُ العامة) استغرق في الضَّحك (إذا أطالَه، وهو غلَط، وصوابه
في الضَّحك) استغرَب (، لا) اغتراب (أيضاً كقول البُحْتُرِيّ
وضحكْنَ فاغْترَب الأقاحي من نَدًى
…
غَضّ وسَلْسالِ الرُّضابِ بَرُودِ
قال الآمِديّ في كتاب) الموازنة (قوله) اغترب (يريد الضَّحك، والمستعمل) استغرب (في الضحك، إذا اشتدَّ فيه، و) أغرب (أيضا أخْذاً من غُروب الأسْنان، وهي أطرافُها، وغَرْب كلِّ شيء: حَدُّه، إذ المعنى امتلأ ضحِكاً. انتهى.
والسَّرد أصله نَسْج الدِّرع، وتتابُع الكلام وتَعْداد الأشياء، والعامة استعارَتْه لتتابُع نُعاس الجالس، وليس بعربيّ، وهو الذي أراد هنا، وهو كقوله:
لداودَ من بَرْشٍ كساءُ سَفاهةٍ
…
مُطرَّزةٌ من صُفْرةِ الوجْهِ والخدِّ
وما زال دِرعَ الكَيْدِ للصَّحْبِ ناسِجاً
…
ولو ناعِساً أمْسَى يُقدَر في السَّرْدِ
وقوله:) مات في جلده (استعمال معروف عامِّيّ، وجهُ اسْتعمالِه ركيك،
والبليغ قولُ العرب للمفْلوج:) سُجِن في جِلْدِهِ (، وحسَّن هذا وصفُ الكتابِ به، كما قال ابن نُباتَة المِصْرِيّ:
للهِ مجموعٌ له رَوْنَقٌ
…
كرَوْنقِ الحَبَّاتِ في عِقْدِهَا
كلُّ تصانيفِ الورَى عندَهُ
…
تموتُ للخَجْلةِ في جِلْدِهاَ
عوداً على بدءِ.
ومن شعره أيضاً:
مرحباً بالحِمام ساعةَ يطْرَا
…
ولو ابْتَزَّ منِّيَ العُمْرَ شِطْرَا
حبِّذا الارْتحالُ عن دارٍ سُوءِ
…
نحن فيها في قَبْضةِ لأسْرِ أسْرَى
وإذا ما ارْتحلْتُ يا صاحِ عنها
…
لا سقَى الله بعْدِيَ الأرضَ قطْرَا
وهذا كقول الأمير أبي فِراس الحَمْدَانِيّ، من قصيدة له:
أراكَ عَصِيَّ الدَّمْع شِيمتُك الصَّبْرُ
…
أما للهوى نَهْيٌ عليكَ ولا أمْرُ
الشاهد منها:
تعُلَّلنِي بالوَعْدِ والموتُ دَونهَ
…
إذا مِتُّ عَطْشاناً فلا نزلَ القَطْرُ
ونحوه قولي في مطلع قصيدة:
إن لم تُبِّرد لي الصِّبا غُلَّهُ
…
فلا شَفَى اللهُ لها عِلَّهْ
وله أيضاً:
ويُمكِن وصلُ الحَبْلِ من بعد قَطْعِه
…
ولكنه يبقَى به أثَرُ الرَّبْطِ
وأحسنُ منه قولي في بعض الرَّسائل:) أنت وإن وصَلتَ بعد التقطْع حبلَ المودَّة، ففيما بَقِيَ من أثرِ ذلك في القلبِ عُقْده (.
وقلتُ من قصيدة:
يا واصِلينَ حِبالاً
…
كانتْ تَشدّ المودَّةْ
لا تقْطَعوها ببُعْدٍ
…
قد غيَّرَ النَّأْيُ عَهْدَهْ
فإن تقولوا وَصَلْنا
…
من بعدِ ذا القطْع شَدَّهْ
يبْقَى وحَقِّك فيها
…
مِن ذلك القطْعِ عُقْدَهْ
وهذه الاستعارة معروفة قديماً، وفي حديث العقَبة أن الأنصار قالوا:) إن بيْنَنا وبين القوم حِبالا، أتُراهم قاطِعيها (وقد حقَّقه في) الروض الأُنُف (.
وكتب للقاضي مَعروف، وقد أهدى له حُلَّة:
مخدومنُاً قاضي قُضاةِ مدينتِي
…
صَفَدٍ أحقٌّ الناسِ بالتَّفْضيلِ
العالمُ الحَبْرُ الذي معروفُهُ
…
تُزْرِي ببحْرِ النَّيلِ
أهْدي لنحوِي من مَخيط ثيابِه
…
جُمَلاً فأغْنانيِ عن التَّفصيلِ
والتفَّصيل في لسان العامة بمعنى قطْع الثِّياب الجديدة، ففيه تَوْرِية، كقول ابن نُبَاتَة المِصْرِيّ:
كم جُملةٍ وَصَلتْ لي من نَداك وكَمْ
…
تَفْصِيلةٍ ألْبسَتْني أجْمَلَ الحُلَلِ
حتى لقد غدَتِ المُدَّاحُ حائِرةً
…
بين التَّفاصيلِ من نُعْماكَ والجُمَلِ
وقوله أيضاً:
قد نكسَ الرَّأْس أهلُ الكِيِمياَ خجَلاً
…
وقطَّروا أدْمُعاً من بعد ما سَهِرُوا
إن طالعُوا كُتُباً للدَّرسِ بينهمُ
…
صاروا ملوكاً هم جَرَّبُّوا اْفتقرُوا
تعلَّقوا بحبال الشَّمس من طَمَع
…
وكم فَتًى منهمُ قد غرَّه القَمَرُ
وقوله في أحْدَب:) كان أُتْرُجَّةَ الظُّرفاء، وكُرَةَ اللَّهو بمَيْدان النُّدماء اللُّطَفاء (وكان أبو الفتْح يكرهه، ولم يعمل فيه بقول البَاخَرْزِيّ:
وصانعِ الدهرَ فكم دولةٍ
…
صاغَتْ من السَّلْحةِ أتْرُجَّهْ
فقال فيه:
إذا غفرَ اللهَ ذَنْبَ امرئٍ
…
فلا غُفِرتْ زَلَّةُ الأحْدَبِ
شديدُ النِّكايةِ مَعْ ضَعْفِهِ
…
قِياساً على إبْرةِ العَقْربِ
ومن ظُرفاء الحُدْبان القاضي الفاضل، وفيه يقول القائل:
لِلَّهِ بل للحُسْن أُتْرُجَّةٌ
…
تُذكِّر الناسَ بعهْدِ النَّعيمِ
كأنها قد جَّمعتْ نفسَها
…
من هَيْبِة الفاضلِ عبد الرَّحيمِ
وعلى نمطِه، وإن لم يكن من بابه قولُ ابن جلنِك لما امتدح القاضي الزَّمَلْكَانَّيَ فأجازه بخُبْزٍ، فكتب على حائطِ بُستانهِ:
لِلَّه بُستانٌ حلَلْنا دَوْحَهُ
…
في روضةٍ قد فَتَّحَتْ أبوابَهَا
والبانُ تحسَبُه سَنانيراً رأتْ
…
قاضِي القُضاةِ فنفَشَّتْ أذْنابَها
وهذا نمط عجيب، وقد بلَغنا أن بدرَ الدين بن مالك صنَّف) كراسة (في لطائِف هذه المقطوعة، ووُجوه بلاغتِها، ولم أرَها، وهو جَدِير بذلك.
ووَجهُ حُسْنِها أنه قصَد به تَشْبيَه زَهْر البان، وأدمَج فيه هَجْو القاضي؛ لأن السَّنانير إنما تنفُش أذْنابها إذا فَزِعت من الكلاب، فكأنه قال: إنها ظَنَّتْه كلباً، ونحوه ما مرَّ في القاضي الفاضل، والإيماء لحُدْبتِه.
وهذا النَّوع يُشبِه المدحَ بما يُشبِه الذَّمّ، وعكسَه، ففي صريحِه تشْبيه لطيفٌ، كنَى به عن هَجْوٍ قبيحٍ، وليست بلاغتُه من جَعْل التَّشبيه كنايةً عن معنى آخر؛ فإنه صرِيح، كما حقَّقه السَّيِّد في فن البيان، بل لأمور قصدَها، وليس هذا محلُّ تفصيلها، فإن أردْتَها فانظر كتابَنا) حديقة السحر (.
وله أيضاً يُذكِّر مَن وعَده بتَاسُومة، وهي نعل معروف كالمَدَاس:
رُبَّ تاَسُومةٍ بها قدْ وُعِدْنا
…
فإذا قُربُها من النَّجمِ أبْعَدْ
رَبِّ يَسِّرْ حصولَها لمحِبٍّ
…
عَلَّهُ للِكمال يَرقَى ويصْعَدْ
عملاً في الورَى بقوْلِ حكيمٍ
…
ضَع مكانَ السَّعيِدِ رِجْلَك تَسْعَدْ
وهذا مثل مشهور، بمعنى قول عليٍّ رضي الله تعالى عنه:) صاحِبْ مَن أقبلَ جَدُّه تَسْعدْ (.
وقد قلتُ في مثالِ نعْلِه صلى الله عليه وسلم:
لمِثالِ النَّعْلِ الشَريفِ لِطه
…
شَرفٌ قدرُه من النَّجم أبْعَدْ
وسمِعنا الأمثالَ قالتْ قديماً
…
ضَع مكانَ السَّعيِد رجْلَك تَسْعَدْ
وسعيدٌ مِن كان من قَبْل هذا
…
أو عليهِْ قد مرَّغ الوَجْهَ والَخْدّ
وما أحق هذا أن يُنشَد له قولُ أبي العَتَاهِيَة:
نَعْلٌ بعَثْتُ بها لتَلْبَسَها
…
قدَمٌ بها تَسْعَى إلى المجْدِ
لو كان يصلُح أن أُشَرِّكَها
…
خَدِّي جعلتُ شِراكَها خَدِّي
ولابن هَانِئ الأنْدَلُسِيّ في قَبْقاب وهو نعل يُصنَع من الخشب، وهو مُحْدَث بعد العصر الأول، ولفظهُ مولَّد أيضاً، لم يُسْمَع من العرب ما قاله الأزهَرِيّ:
كنتُ غُصْناً بين الرياض رطِيباً
…
مائسَ العِطْفِ من غِناءِ الحَمامِ
صِرْتُ أحْكي عِداكَ في الذُّلِّ إذ صِرْ
…
تُ بَرغْمِي أُداسُ بالأقْدامِ
وله يذكُر معاهِد نِيطَتْ بها تمائِمهُ، وغَرَّدت على أغصانِ شبابه حمَائمُهُ، يندُب إخوانَه، وينْعَى أوْطارَه وأوْطانه:
سَلُوا البَارِقَ النَّجْدِيّ عن سُحْبِ أجْفانيِ
…
وعمَّا بقلْبي من لَواعِج نِيِراني
ولا تسألُوا غيَر الصَّبا عن صّبابتي
…
وِشِدَّةِ إليكمْ وأشْجانِي
فما لي سِواهاَ مِن رسولٍ إليكمْ
…
سريعِ السُّرَي في سَيْرِه ليس بالوَانيِ
فيَا طالَ بالأسْحارِ ما قد تكلَّفَتْ
…
بإنْعاشِ محزونٍ وإيقاظِ وَسْنانِ
وتنْفيسِ كَرْبٍ عن كَئِيبٍ مُتَيَّمٍ
…
يحِنُّ إلى أهلٍ ويصْبُو لأوْطانِ
وتنْفيسِ كَرْبِ شَذَا نَسْمةِ الصَّبا
…
صباحاً إذا مرت على الرَّنْدِ والْبَانِ
فكم نحوكُمْ حمَّلْتُها من رسالةٍ
…
مُدوَّنٍة في شرحِ حالي ووِجْدانيِ
وناشَدْتُها باللهِ إلا تفضَّلتْ
…
لتبْليغِ أحْبابي السَّلامَ وجِيرانِي
وقد نَحَا نَحْو قول ابن مَلِيك الْحَمَويّ في قصيدةٍ له:
سَلُو فاترَ الأجفانِ عن كبدِي الحَرَّي
…
وعن دُرِّ أجْفاني سَلوا العِقْد والنَّحْرَا
مَليحٌ إذا ما رُمْتُ عنه تصبُّراً
…
يقول الهوى لن تسْتطِيعَ مَعَي صَبْرَا