الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيد يحيى القُرطْبِيّ
هو فيما بَلغني روضٌ مُخصِب ربيع، من وادٍ بالفضل مَرِبع.
مِن فُرُوعِ الدَّوْحَةِ العَليّة العلَوية، وثمراتِ تلك الشجرةِ النبوية، الباسِقة بما سقاَها من ماء الندى، والمُورقة المُثْمرة بالعلم والهُدَى.
فَخَارٌ لو أنَّ الشمسَ تُكْسى سَنائًهُ
…
لما غشِيَتْها المُظْلمِاتُ الدَّوَامِس
أسِر بالأنْدلس في وَقعةٍ أسَرَتْ أفراحَ القلوب، وشَقَّت قلوبَ المؤمنين قبل الُجْيوب، فأصبحَ في حالٍ تعُدُّ المَنايا أمانياَ، ويَرى لضَعْفِ الدّين الموتَ طبيبِاً شافيا.
إذ عَثُرتْ خيولُ الفِتَن والنّقَم، بَذوِى المروءةِ والنّعم، فأرسلَ قصيدةً نعَى بها الإسلام، ونادى ملوكَ الرُّوم وعلَماءها الأعْلام، فلم يجد بها صَفيِا، يقول له لقد أسْمَعْتَ لو ناديتَ حَيا، وذلك في عهد السلطان سُلَيمان، الذي دخل في خبركان، وهي هذه:
لكلّ شئ إذا ما تمّ نُقْصانُ
…
فلا يُغَرُّ بطيبِ العيش إنسانُ
هيَ الأمور كما شاهدُتَها دِوَلٌ
…
مَن سرَّه زمنٌ ساءتْه أزْمانُ
وعالَمُ الكونِ لا تْبقَى محاسنُه
…
ولا يدومُ على حالٍ لها شَانُ
يمُزَّقُ الدهرُ منَّا كلَّ سابِغةٍ
…
إذا نَبَتْ مَشْرَ فيَّات وخُرْصانُ
وينْتضَى كلَّ سيفِ للفناءِ ولو
…
كان ابن ذِى يَزِنٍ والغِمْدُ غُمْدانُ
أينَ الملوكُ ذوو التّيجانِ مِن يَمَنٍ
…
وأينَ منهم أكاليلٌ وتيِجانُ
وأين ما شادَه شَدَّادُ من إرَمِ
…
وأين ما سَاسَهُ في الفُرْس ساَسانُ
وأين ما حازَه قارونُ من ذهبٍ
…
وأين عادٌ وشَدّادٌ وقَحْطانُ
أتى على الكلَّ أمرٌ لا مَرَدّ له
…
حتى قَضَوْا فكأنَّ الكُلَّ ما كانُوا
وصار ما كان مِن مُلْكِ ومن مَلكِ
…
كما حكَى عن خَيالِ الطَّيْفِ وَسْنانُ
دار الزَّمانُ على دَارَا وقاتلِه
…
وأمَّ كِسْرَى فما آواهُ إيوَانُ
كأنّما العَّصْبُ لم يُسْهِل سَببٌ
…
يوماً ولم يَمْلكِ الدُّنْيا سُليمانُ
فَجائِعُ الدَّهرِ أنواعٌ مُنوَّعةٌ
…
وللزَّمانِ مَسرَّاتٌ وأحْزانُ
وللمصائبِ سُلْوانٌ يُهوَّبُها
…
وما لِماَ حلَّ بالإسْلامِ سُلْوانُ
دَهَى الجزيرةَ خَطْبٌ لا عَزائ له
…
هَوىَ له أحُدٌ وانْهدَّ ثَهْلانُ
أصابَها العينُ في الإسْلام فامْتُحنتْ
…
حتى خلَتْ منه أقْطارٌ وبُلدْانُ
فَسلْ بَلَنْسِيةً ما شأْنُ مُرْسَيةٍ
…
وأين قُرْطَبةٌ أم أين جَيَّانُ
وأين حِمْصٌ وما تحْويهِ من تُرَهٍ
…
ونهْرُها العذبُ فيَّاضٌ ومَلآْن
كذا طُلَيْطُلًةُ دارُ فكْم
…
من فاضلٍ قد سمَا فيها له شَانُ
وأين غَرْناطَةٌ دارُ الجهادِ وكمْ
…
أُسْدٍ بها وهُم في الحرْب عُقْبان
وأين حَمْراؤُها العَلْيا وزْخرُفُها
…
كأنَّها من جِنِان الخُلْدِ عَدْنان
قواعدُ كُنَّ أركانَ البلادِ فما
…
عسى البكاء إذا لم تَبْقَ أَرْكانُ
والماء يجْرِي بساحاتِ القصور بها
…
قد حَفَّ جدْولَها زَهْرٌ ورَيحْانُ
ونهرُها العذبُ يحكي في تَلسلهُ
…
سيوفَ هندٍ لها في لحوَ لمعانُ
وأين جامُعها المشهوُر كم تُليِتْ
…
في كلّ وقْتٍ به آيٌ وفُرْقانُ
وعالِمٌ كان فيه للجَهُول هدًى
…
مُدرّسٌ وله في العِلمْ تِبْيانُ
وعابدٌ خاضعٌ للهِ مُبْتهلٌ
…
والدَّمعُ منه على الخدَّيْنِ طوفانُ
وأين مَالَقَةٌ مَرْسَى المراكِبِ كمْ
…
أرْسَتْ بشاحتِها فُلكٌ وغِرْبانُ
وكم بداخِلها من شاعرٍ فَطِنٍ
…
وذِى فُنونٍ له حِذْقٌ وتِبْيانُ
وكم بخارِجها من مَزْهٍ فرجٍ
…
وَجَنَّةٍ حولَها نهرٌ وبُسْتانُ
وأين جارتُها الزَّهْرَاء وقبَّتُها
…
واين يا قومُ أبْطالٌ وفُرسانُ
وأين بَسطةُ دارِ الزَّعْفرانِ فهلْ
…
رأى شبيهاً لها في الحُسن إنْسانً
وكم شجاع زعيمٍ في الوغَى بطَلٍ
…
بدَا له في العِدى فَتْكٌ وإمْعانُ
كم جَنْدلتْ يدُه من كافرٍ فَغدا
…
تبْكيهِ من أرْضِه أهلٌ ووِلدانُ
ووَادياً مَن غدَتْ بالكفر عامرةً
…
ورُدَّ توحيدُها شِرْكٌ وطُغْيانُ
كذا الْمَرِيةُ دارُ الصّالحين فكمْ
…
قُطْبٍ بها عَلمٍ غَوْثٍ له شانُ
تبْكِى الحنيفَّيةُ البيْضاء من أسَف
…
كما بكَى لفِراق الإلْفش هَيْمانُ
حتى المحاريبُ تبْكى وهْىَ جامدةٌ
…
حَّى المنابرُ تبكى وهىْ عِيدانُ
على ديارٍ من الإسْلام خاليةٍ
…
قد أقْفَرتُ ولها بالكفر عمرْانُ
حيثُ المساجد قد أمْسَت كنائسَ ما
…
بهِنَّ إلا نَواقيسٌ وصلْبانُ
يا غافلاً وله في الدَّهرِ موعِظةٌ
…
إن كنتَ في سِنَةٍ فالدهرُ يْقظانُ
وماشياً مرِحاً يُلْهِيه موطِنهُ
…
أبَعْدَ حِمْصٍ تَغُرُّ المرْءَ أوْطانُ
تلك المصيبةُ أنْتْ ما تقدَّمَها
…
ومالَها مَعْ طويلِ الدَّهْر نِسيْانُ
يا راكبينً عتِاقَ الخْيل ضامِرة
…
كأنَّها في مجالِ السَّبْق عِقْبانُ
وحاملينَ سُيوفَ الهنْدِ مُرهَفةً
…
كأنَّها في ظلام الليلِ نِيرانُ
ورائعينَ وراء النهَّرِ من دَعَةٍ
…
لهم بأوْطانِهم عِزٌ وسُلطانُ
أعندكُمْ نَبَا من أمْر أندْلس
…
فقد سَرَى بحديثِ القومِ رُكبانُ
كم يْستغيثُ صنادِيدُ الرّجالِ وهُمْ
…
أسْرَى وقْتلى فلا يهتزّ إنْسانُ
ماذا التقاطُع في الإسْلام بينكمُ
…
وأنُتُم يا عبادَ اللهِ إخْوانُ
إلا نُفوسٌ أبيِاَّتٌ لها هِممٌ
…
أمَا على الخيرِ أنْصارٌ وأعْوانُ
يا مَن لنُصْرةِ قومٍ قُسَّموا فِرقاً
…
سطَا عليهم بها كفرٌ وطغْيانُ
بالأمسْ كانوا مْلوكاص في منازِلهمْ
…
واليومَ هم في قُيودِ الكفرِ عُبْدانُ
فلو تراهمْ حيَارى لا دليلَ لهمْ
…
عليهمُ من ثيابِ الذُّلّ ألوانُ
فلو رأيتَ بُكاهُمْ عند بَيْعِهمُ
…
لهالَكَ الأمرُ واسْتَهْوتكْ أحْزانُ
يا رُبّ طفلِ وأم حيلَ بينهُما
…
كما تفُرَّق أرواحٌ وأبْدانُ
وغادةٍ ما رأتْها الشمسُ بارزةً
…
كأنَّما هيَ ياقوتٌ ومَرْجان
يقودُها مِلجُ عند السَّبْي صاغِرة
…
والعينُ باكيةٌ والقلبُ حَرَّان
لمثْل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ
…
إن كان في القلب إسْلامٌ وإيمانُ
هل للجهادِ بها من طالب فلقدْ
…
تزَخْرفَتْ جَنَّةُ المأوى لها شَانُ
وأشرفَ الحورُ والولدانُ مِن عُرَفٍ
…
فازَتْ لعَمْرِى بهذا الخيْر شُجْعانُ
ثُمَّ الصَّلاُ على المختارِ من مْضَر
…
ما هبَّ رِيح صَباً واهتز أغصانُ