الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما بدَّل الأمْنِيَّة بالمنِيَّة، وسقاه الدهرُ كأسَ المَنُون رَويّة، قام مقامَه:
أبو طالب
مترشَحا لأمرها، مترقّبا بعد موت ثَقَبة لاجْتلاء بدرِها.
وكان قبلُ لا يرِد مورداً من مناهل آمالِه، إلا وقد غَصّ بقّذَى رُقبائِه وعُذَّاله:
لم ترِدْ ماء حسنِك العينُ إلّا
…
شَرِقتْ قبل رِبّها برقيبِ
فأراد والدُه أن يقلّد بصارِمها، ويجعلَ هياكلَ جيِاده في أجْيادها مُقامَ تمائِمها، فأرسل الأميرَ بَهْرام، فَرَطاً يستسْقىِ له ماءَ المَرام، وهو منتِظرٌ لها انتظارَ ليلةٍ القّدْر، راجياً أن يُحلَّ منها محلَّ القلب من الصَّدر.
فنثَر على ذلك الرسول، جواهرَ الإحسان والقَبُول، وأهدى له مع كتاب العهد
خِلَعاً حِسان، أزهى توشَّحت به معاطفُ الكُتبان، وألبستْه عطايا الربيع قدودَ الأغصان: فكان كما قيل:
قرَّت عيونُ المجد والفخرِ
…
بخِلْعه الشمسِ على البدرِ
زَرَّ عليه الملكُ فَضْفاضَها
…
وإنما زَرّ على البحرِ
ما هو إنعامٌ ولكنَّه
…
ما خلعَ الغيُث على الزَّهرِ
فأفِيضَت عليه خِلْعةٌ مُعْلَمة، وأصبحت قلائدُ الجو في جِيد السَّيادة مُنظَّمة.
مما تقَرَ به عينُ الزَّهْرا، ويرفع الله به لآلِ البيتِ ذِكْرا.
وأمرُه بالدهر عابث، وأغصانُ المنابر بِاسْمِه مُورِقة أثائِث.
وأمطَر عليه عِهاد الكرَم وَسْمِيَّا ووَلْياً، وتلَى منشورَه المُعرِب عن أنه أصبح لأبيه وَليَّا.
فتبوَّأَ صدرَ الخلافةِ والجلالة، وورِثها عن أبيه حيَّا لا عن كَلالة.
فأقرّ بعْهدِه لساناَ السيفِ والقلم، ونُودِىَ هذا الذي تَعرِف البطحاءُ وطْأتَه والحِلّ والحرَم.
قام فطاف بالبيت شُكْراً لذلك الإنعْام الجسيم، فكاد يُمسِكه عِرفانَ راحتِه لما اسْتلم الرُّكنُ والَحطيم.
وصورة منشورِة، وهو مما أنشأْتُه بأمر رئيس الكُتّاب:)
الحمد لله الذي نشَر على الخافِقَيْن أعلامَ عدْلِه، وزيَّن حُلَل الوجود بجُوده وفضلِه.
ونشكره شكراً تطوف وُفود الإخلاص حولَ كعبِته، وتقصر الفصاحةُ بعد التَّحليق في افق البلاغة عن أن تكون مُزدَلِفةً من شُكْر نعمِته، وتسجد له الأفلام في كعبة الطّرْس المكسُوّ بسَواد مِدادِه، وتسعى للصَّفا في مواقف إصْدارِه وإيرادِه.
وصِلاتُ الصَّلاة المِكيَّة النَّسيم، العَنْبَريَّة الشَّمِيم، تَتَوالى توالِى القطر المُكرَّر على تلك الأقْطار، والمَثْوَى الذي تُرابُه إثْمِد البصائر والأبْصار:
حياكِ يا تُربةَ الهادِي الرسولِ حَياً
…
بمنطقِ الرعدِ بادٍ من فمِ السُّحُبِ
ضمَمْتِ أعظُمَ مَن يُدعَى بأعْظَمِ مَن
…
يسَعى إليه أخو فضلٍ ولم يخِبِ
وحُزتِ أوضحَ مَن يَهْدِي وأفصحَ مَن
…
يُبْدِي وأرجحَ مَن يُعزَى إلى نَسَبِ
محمدٍ المرسَل بكتاب تمسَّك بأهْداب سِحْر البلاغة والإيجاز، واستَوْثَق دون بُلغاءِ العرب بعُرَى الإعجاز، فرَمى قلوبَ المعارضين بجَمَراتِه، وكحَل بصائرَ المُطيعين بمِيل الهداية فأقرُّوا ببَينّات آياتِه.
وعلى آله وصحبِه، وجُندِه وحِزْبه، أولياء عهده، والخلفاءِ من بعده، ما جُرّدت صوارمُ البُروق من أغْماد الغَمائم، وسرَى نسيمُ نجد فابتسَمتْ له ثغورُ النَّوْر في الكمائم.
هذا، وقد أظهر الله عزَّ سلطانه كنزَ سرّه المكُنون، بقوله:) وَلَقدْ كَتَبنْاَ فيِ الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذَّكْرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِباَديَ الصَّالِحُونَ (، فعُلم به سِرُّ الأمْر، في قوله:) أَطِيُعوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولِى الأَمْرِ (.
فإنه ليس بعد النُّبوة والرّسالة إلا مراتبُ الصَّلاح، ولهذا كانت الرَّعايا بلا سلطان كالأجْسام بلا أرْواح.
وما الشَّريعةُ إلا روضةٌ زاهيةُ الثّمار، مُتفتّحة الأنْوار، تَجرى من تحتها الأنهار، والسلطان مُتعهّد لها بالحراسة، يحميِها من كل جَان بشَوْكة السّياسة.
وإذا كان ظلَّ اللهِ في أرضهِ، وشمسَه المتّضِحَ بأنوار سَنَن سُلته وفرْضِه، فعلى مَن طلَعت عليه الشمس أن يجنَحَ لِظله، ويَقِبل في دَوْحَة إحسانِه وفضلهِ.
فإنه الشمسُ الذي تضئُ بدورُ الكواكب بأنْاره، والبحرُ الذي تستمد جداولُ الأمراء من أنهاره.
والسماءُ الذي تتَمْنطق الجوازء لخِدمته، ويخافُ الأسدُ أن يَمُدّ إليها يدَ سَطْوته. والجنَّةُ التي تحت ظِلال السيُّوف، والمُتقرَّب إليه بمحاسن الأعمال، والمُستَجار به من الصُّروف.
والَحرمُ الذي يأمَن فيه الخائف، وكعبة اللَّطائف البادِية لكلّ طائف.
والربيعُ الذي اعتدلتْ أيامُه بالعَدالة، فصدَحْت حمائمُ الثَّناء على أغصانِها المّيَّادة الميَّالة.
وتهْتزُ أعوادُ المنابرِ باسْمِهِ
…
فهل ذكَرتْ أيْامَها وهْيَ أغْصانُ
وممَّا ينبغي أن يُرسمَ في صحائف الأفكار، ويُجعَل طِرازاً على كعبِة المحاسن والآثار، أنه من أهمّ ما يْهتمُّ به مَن جَعل الحِجا زِيَّه، خِدمة طِرازاً الطَّيّبة، ومكْة المُشرَّفَ بها سائرُ الأنوار المحَّمدية، ومظَهر الآثار العُلْوية العَلِيَّة.
ومْثَوى مَن شرَّف الله به نوعَ الإنسان، والأُنْموذَج الذي صاغَه الله تمْثالاً للِجنان، كما ورد في السُّنة:) مَما بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ الَجْنَّة (.
وكذلك أوَّلُ وُضِع للنّاس، وأسّس على التَّقوى منه الأساس.
كأنما هو مِغْناطِيسُ أنفِسنا
…
فحيثُما كان دارتْ نحوَه الصُّوَرُ
وكان أوْلَى ما يقلّدُه الإنسانُ عقودَ جواهر الإحسان، ويجتهد في تقليده، وتأْييد تأْييده، ويتُوَجُهُ بتاج التكْريم، ويُعّمُمه بحُلَل التَّبْجيل والتَّعظيم، ويخزِل الصّلةَ لجنابه الموصول، ويَضمِر له في القلوب القَبول، بدُورَ فلك السعادة، وصُدورَ مسنَد السيادة، السادة الأجلاء الأشراف، فخر آل عبد مناف.
وكيف لا يزدادون حُبَّا، بعد قوله:) قُلْ لَا أَسْئَلُكمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المْوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (.
كلُّ مَن لم يَرَ فرضاً حُبَّهمْ
…
فهْوَ في النَّار وإن صلَّى وصاماَ
وبالجملة، فإن مادحَهم كن قال للأسد: ما أشدَ شجاعتَك. وللبحر المحيط: ما أوسع ساحَتَك.
لا سيما طَوْدُ المجد الشَّامخ المُنيِف، المرفوعُ عَلمُ العِزّ والنَّسب الشريف.
تاجُ هامة بني الحسن والحسين الَجناب العالي، مَغْرِس ثَمَرات المعاني والمعالي.
العريق الحسيب، الأصيل النَّسيب.
ذُخْرُ الأنام، فخرُ اللَّيالي والأيام.
زهرة الشَّجرة العَلَويّة، فرع الدَّوْحة النَّبويّة.
إذا وجههُ أو رأْيُه أو فِعالُه
…
تبلَّجْنَ في ليلٍ تجلَّتْ غياهِبُهْ
صارمُ الخليفة المُغْمَد في رقاب أعدائِه، ورحمتُه الُمْمطِرة دُرَرَ سحابِها على أوليائِه.
الحسنُ الذٌات والصّفات، أبو المحاسن حسن بن أبي نُمَىّ بن برَكات، أيَّده الله بنصرٍ لا يْبَلى جديدُه، ول تْنتِثر بيد الحواديث عقودُه، آمين.
وقد ورد من جانبه رسول، تلقَّاه من سُدَّتنا نسيمُ القَبول.
إذ جاب الفَيافَى من حَزْنها وسْهلها، وأدَّى الأماناتِ إلى أهلها.
وكان كالِميل سلَك بين الجُفون فأجاد، ومتَّع العيونَ بإنمِد الصَّلاح والسداد.
ومعه مَنشور أرق من نسيم السحر، معرب عن العين بالأثر.
فأخبر أن مرسله أراد الفراغ، وما على الرَّسولِ إلا البلاغ.
وتضَّمن مْنشورُه المذكور، أنه أراد الاستراحة من نَصَب المناصب، والتَّقاعدَ عما بها من المراتِب، رغبةً عن زُخْرف الحياة، إلى خدمة سيَّده ومولاه.
وأن نجَله النجيب الجليل، الحسيب الأصيل.
النَّاشئ في الشَّرف الباهر، المُسَتخرَج من أكرم العناصر.
لَيْثَ غابِة بيِض الصّفاح، وسُمْرِ العسَّالة الرّماح.
عليه أمارةُ الإمارة، ومخابِلُ والصَّدارة:
بلغ السّيادةَ في ابْتداءِ شبابهِ
…
إن الشَّبابَ مَطِيَّةٌ للسُّؤدَدِ
وسأل أن نقلّدَه صارمَ إمارة تلك الديار، وما يْتبعُها من البُلدان والأقطار.
على ما جرَتْ عليه عادةُ سَلِفه الذي سَلَف، وقانونُ خَلْفَهم من الخَلَف.
فأجْبناه إلى مَرامِه ومُرادِه، وأمددْناه بإسْعافِه وإسْعاده، لأنه إنما نزَع صارِمَها من يدِه الأخرى، وجعل خاتَمَها بعد يُمْن اليُمْنَى في يَسار اليُسْرَى.
فسارت الإمارة من حَرمَ إلى حرَم، ولم تخرج من جيرانِ نجْدٍ وذِي سلم.
فعليه، بعد ما خلعنا عليه حللا تأنق واشيها، ورقت على وحده حواشيها، ونظْنا إليه بنَظَرنا الذي هو إكْسير، أن يحُسِن في العمل والتَّدبير.
وينظرَ إلى الرَّعاية بْعين الرّعاية، ويصونَها عن أهل الضَّلالة والغِوَاية.
ويُؤمّن من تلك المناسِك، ويحرسَ تلك المسالِك.
ويختارَ من قومه مَن يحرُس أطرافَها من الأعداء ويحمِيها من كل قاصرٍ في فعله تَعدَّى.
ويبطلَ ما فيها المكُوس والمظالم، ويقيمَ الحدودَ على مستحقّيها من كلّ باغٍ وظالم.
لُخلَّد في صحائِف تلك البلاد الحسَناتِ، ويمحُوَ ما فيها من آثار السَّيئات.
ويتصرَّفَ في بَنْدر جُدَّة على العهد القديم، ومَن جاور ذلك المقامَ
فليسْعِفْه بالنَّعيم المقيم،) وَمَن يُرِدْ فيهِ بإلْحاَدٍ بِظُلمٍ نُذقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيمٍ (.
ويحرسً الوافدين إلى ذلك البلد الأمين، لإقامة شعائر الدَّين.
ويحِمىَ بحمايتهِ وَرَد أو صَدَر، ويحرسَ مواردَهم الصافيةَ من الكَدَر.
ويلاحظَ ما للخليل عليه الصلاة والسلام من صالح الدَّعَوات، في قوله:) رَبّ اجْعَلَ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أهْلَهُ مَنَ الثَّمَرَاتِ (.
ثم لْيَعلمْ كلُّ من كَحل بصرَه بان مِد منشورنا الكريم، وشَنَّف مسامَعه بلآلئ لفظِه النَّظيم.
مِمَّن في دَارَةِ تلك الدّيار، أو هالةِ تلك الأقْطار، وانتظم في سِلْك سُكَّان القُرَى والأمصار.
مِن السَّادات الكرام، والقُضاة والُحكَّام، ووُلاة الأمور والأعْيان، والوافِدين على تلك الديار والسُّكان.
أنَّ إمارة تلك المعاهد وما فيها من العساكر، وما أحاطَتْ به من الأصاغر والأكابر، وسائر الوظائف والمناصب، والجِهات والمراتِب، مُفوَّضةٌ إلى السيد السَّنَد أبي طالب.
ناظراً بعين الإنصاف، مُتجنَّبا سبيلَ الاعِتساف.
مُصرَّفا جميع المستحّقين بُحسنْ التّصرِيف، صارفاً من لا يستحق برأْيه الشريف.
وقد أقْمناهُ مقامَ نفسِنا في ذلك المقام، وفوَّضنا إليه النَّقْض والإبْرام.
والعلَامة السُّلطانية حُجَّةٌ لما فيه مَرْقوم، مُحقّقُة لما فيه من منطوقٍ ومفهوم.
فلْيتحقق من وقف على هذا الخطاب، ومَن عنده عِلمٌ من الكِتاب، من أهل مكة زادها الله شرفا وما في جوارها، وَطيْبة الطّيبة طيَّب الله ثراها وسائر أقطارها، وبقَّيِة الثُّغور، الباسِمة لدولتنا بمياسِم السرور، من حاضرها وباديها، أنَّا أعطيْنا القوسَ بارِيها.
فلم تكُ تصلحُ إلَاّ لَهُ
…
ولم يكُ يصلحُ إلَاّ لَهَا
سدّد الله سِهامَ رأْيه في أغْراض الصَّواب، وفَتح له بمفاتحي السُّمْر كلَّ مُغَلقٍ من الأبواب.
ما سقطتْ من كفّ الثُّريّا الخواتِم، ورقَتْ على منابر الأغصان خُطباءُ الحمائِم والسلام (.
وإذ انتهينا إلى هذا المقام، فأصْغِ لم نقُصُّه عليك من عجائب الأيام، فإن المصْدورَ لا بدّ له من نَفْثه، ومَن جهِده المسيُر يطلب على الطَّريق مُكْثَة.
فاعلم أننا رأيْنا كل ملُك له مُبْتَدا تظهر فائدتهُ وعائدتهُ في خَبَره، وانتهاء يقف السَّعدُ بعد وِرْده عند صَدْر صَدَره.
ثم يرجع ما جرَى إلى قَراره، فُينذِر الإقْبال بإدْباره، ويعود تدْميرُه في تْدبيره ويُقدّر صانعُ القدرَ أديَمه على مِقدار تقديره.
وإلى الله ترجع الأمُور، وعلى بحُور الإرادة يجْرى الفلك ويدُور.
وقد تظهر قبل آخرِه فيه قُوّة، فيُظِهر فرِعْونُ طغيانَه وعُتُوه، وللشمس زوَال إذا ارتفعتْ، وللسمر سقوط إذا زَهَت وأيْنعتْ.
وقد يزيدُ قبل الانطفاء نورُ المِصباح، ويحصل للمريض إفاقةٌ يُسَمع بعدها الصّياح.
وتسمى هذه الأطِباء النعْشَةَ الأخيرة، فكم من نَعشْتة تقُرّب من السَّقيم نَعْشهُ، وهذا في غير الخلافة النبوَّية، فإنها بالحيّ الذي لا يموت مَحْميّة.
وقد كان انتهاء صُعود الشَّرف في الحجاز بالسيد حسن وفي المغرب بمولاي أحمد، وفي الرُّوم بالسلطان مراد، ونحن الآن لا ندْرِي ما يريد ولا ما يُريد، فقد ذهب سليمانُ وانْحَّلت الشياطين، ووقف الرَّجاء على شَفَا جُرفٍ هارٍ بين قومِ مجانين، فالجواد دون الحمار المِصْرى، وأبو جهل وعَظ الحسنَ البصْري:
فقُلْ بعده للدهرِ يأْتي بصَرْفِهِ
…
وقلْ لليالي: أفْعل ما بدا لَكِ
وقلت:
قد جُنَّ شَيْخي وفي الأمثال من قِدَمٍ
…
إن الشبابَ جُنونٌ يُرْؤُه كِبَرُهْ
يا ربَّ فاعقِدْ بقُولَنْجٍ له دُبُراً
…
حتى يعودَ عليه بعد ذا ضَرَرُهْ