الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو الفتْح بن عبد السلام الِمالكيّ المغْرِبِيّ، نزيل الشام
نادِرة الفلَك، وهدية الزمان، ونُكتَةُ عُطارِد المُدوَّنة في صُحف الإمْكان، وبُرهان مَن قال من الحكماء بتعَدُّد نوع الإنسان.
وليس الغريبُ مَن تناءَتْ دارُه، بل مَن فُقِد من الكرامِ نُظراؤُه وأنصاره، وهو غريبٌ في فضْله ومجدِه، وإن ملَك من الأدبِ مُلْكاً لا ينْبغي لأحدٍ من بعدِه.
ولما أشرقَتْ بالمغْرِب شموسُ علمِه وآدابه، وزها نورها إذ جَرى في عودِه ماءُ شبابه، أسفَر وجْه صباحِه، وجَلَالَهُ الظَّفَرُ غُرَّة نجاحِه، فحلَّ عَقْد عزيمَتِه بالشام، كما حَلَّ الربيعُ نِقَابَه عن منْظرٍ بَسَّام:
والرِّيحُ تجْذِبُ أطْرافَ الغصونِ كما
…
أفْضَى الشَّقيقُ إلى تَنْبِيِه وَسْنانِ
فألقى بها عصَا تَسْيارِه، ونفَض عن بُرْدهِمَّتِه غُبارَ أسْفارِه، وبنَى أمرَه على السْكون وماضِيَ حالِه على الفتْح، وقد شدَتْ وُرْقُ فصاحتِه بها بأطْربِ تَرنُّمٍ
وصَدْح، فمضَى زمنٌ ونَوْرَ الأدب لا يُجْتنَى إلا من رِياض كلامِه، وسُورَة الفتْح بمُحَارِبِيها لا تُتْلَى بغيْرِ ألْسنةِ أقْلامهِ، وإثْمِد مَراوِدِها كُحْلُ البصائرِ، وتُحَف آثارِه يتلَقَّى رُكْبانها كلّ بادٍ وحاضر، حتى في نادي القضاء تربَّع واحْتَبى، وأصبح طِرازُ مذهبِ مالكٍ به مُذْهَباً.
وصار فيهم غريبَ الفضْلِ مُنفرِداً
…
كبيْتِ حسَّانَ في ديوانِ سَحْنُونِ
فأنار ليلَه الحالِك، وتصرَّف فيه تصرُّف مَالِك، بأخلاقٍ تُعْصَر منها شَمول الشَّمائل، وفضائلَ جَمَّةِ المآثرَ سَحْبانُ عندها بأقِل.
إلا أنه مع تملُّكِ جواهرِ العلوم، وتقَلُّد جِيد كمالِه بعُقود المنْثور والمْنظوم، عادَاه دهرُه، وصافاه فقْرُه، فظل يَمْترِي صُبَابة عيشٍ لو أنها نَوْمٌ ما شُعرتْ بها الاحْداق، ويتحمَّل من أثْقالِها ما يُوهِن القُوَى والأعْناق.
ولم يزل كذلك حتى غارَ ماءُ حياتِه، وانْغَلق على الفتْح بابُ قبرِه عند مماتِه، فانفتَحتْ له أبوابُ الجِنان، فسقاهُ اللهُ رَحِيقَ غُفرانِه بين رَوْحٍ ورَيْحان، ونزَّه عيونَ رجائِه، وأمَّلَه في رياضِ الجِنان، بين الحُورِ الحِسان.
فمن نظْمه الذي حشَا الأسْماع سِحْراً، وملأَ أفْواهَ الرُّواةِ دُرَّاً، قولُه:
بأبِي ألْعَسَ المراشِفِ ألْمَى
…
مائِسَ القَدِّ ناعِسَ الأجْفانِ
سرَق الجِيدَ واللِّحاظَ من الظَّ
…
بْيِ ولِينَ القَوام مِن غُصْنِ بَانِ
عطَفتْهُ الصِّبا إليَّ ومالي
…
بالصِّبا بعدَ ما تراهُ يدَانِ
فتحاشَيْتُ لَثْمه خِيفَة الْ
…
إثْمِ وأطْلَقتُ مُقلتِي ولِسانِي
آهِ لولا التُّقَى ومُعتَرَكَ الشَّ
…
يْبِ لطاوَعْتُ في الهوَى شيْطانِي
وله من قصيدة:
حاز الجمالَ بأسْرِه فُمحِبُّه
…
في أسْرِه لم يَرْضَ حَلَّ وَثاقِهِ
قسَماً بصُبحِ جَبينِه لو زارنِي
…
جُنْحَ الدُّجَى وسعَى إلى مُشْتاقِهِ
لفرَشْتُ خَدِّي في الطَّريق مُقبِّلاً
…
بفَمِ الجُفونِ مَواطئَ اسْتِطْراقِهِ
وصفَحْتُ عن زَلَاّتِ دَهْري كُلِّها
…
وعَنادِه فيما مضَى وشِقاقِهِ
وقول) بفم الجفون (إلخ، كقوله أيضاً في أرجوزتهِ المشهورة:
تكادُ من عُذوبةِ الألفاظِ
…
تشْربُها مسامِعُ الحُفَّاظِ
وهذا نوعٌ من البديع غريب، بيناه في) حديقة السحر (.
وله نظائرُ كثيرة، وهو على نَهجْ قوله تعالى:) وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ (كما أشار إليه في) الكشاف (.
وقد أوضحه الغَزِّي بقوله في بعض قصائده:
إن لم أمُتْ بالسَّيفِ قال العُذَّلُ
…
ما قيمةُ السَّيفِ الذي لا يَقْتُلُ
وتُغيُّيرُ المُعتادِ يحسنُ بعضُه
…
للوَردْ خَدُّ بالأنوفِ يُقَبَّلُ
ومنه ما أنشدَه لنا صديقنا الطالُوِيّ لنفسِه:
أَرُودُ بلَحِظي وَرْدَ خَدَّيْه والذي
…
جنَى وَرْدَ الخُدودِ فما أخْطَا
وأرشِفُ بالألْحاظِ خَمْرَةَ رِيقهِ
…
لأنِّي امرُؤ آلَيْتُ لا ذُقتُ إسْفَنِطَا
وهذه الخمرة لا يليق بها غير نقل البُحْتُرِيّ في قوله:
تُفَّاحُ خَدٍّ إذا احْمرَّتْ محاسِنُه
…
مُقَبِّلٌ اللَّحْظِ مَعْضوضُ
وقوله) معْضوض (بدل من قوله) مقبل (، وهو غيرُه وليس بدل غلَط. وأنظره؛ فإنه من سِحر البلاغة.
ومما نحن فيه قول ابن الرُّومِيّ:
بَدرٌ كأن البدرَ مقْ
…
رونٌ عليه كَواكبُ
عَذُبتْ خَلائِقهُ فكا
…
د من العُذوبةِ يُشْرَبُ
ولابن هِنْد في عُود البَخور:
رأيتُ العُودَ مُشتَقَّا
…
من العُودِ بإيقانِ
فهذا طِيبُ آنافٍ
…
وهذا طِيبُ آذانِ
ولابن المُعْتَزّ في فرس:
يكاد لولا اسْمُ الإله يصحَبُه
…
تأكلُه عوننا وتشرَبُه
وللشَّريف الرَضِيّ:
فأتَني أن أرَى الدِّيارَ بَطرْفيِ
…
فلعَلِّي أرى الدِّيارَ بسَمْعيِ
ومنه أخذ القاضي الفاضِل قولَه:
مَثْلَتْهُ الذِّكْرَى لِسَمعي كأنِّي
…
أتمشَّى هناك بالأحْداقِ
وأجاد أيضاً، حيث قال:
الجودُ أمْدَح ممَّن قام يمدَحُهُ
…
فالنَّاسُ ما نَطَقُو إلَاّ مِن النَّظَرِ
وقوله ابن خَفاجة المغْربيّ الأندَلُسِيّ، وهو مَن رَماهُ الْحَدَق:
وأهْيَفٍ قام يسْعَى
…
والسُّكرُ يعطِفُ قَدَّه
وقد ترنَّح غُصنْاً
…
واحْمرَّتِ الكأسُ وَرْدَهْ
وألهبَ السُّكرُ خَدِّا
…
أوْرَى به الوَجْدُ زَنْدَهْ
فكاد يشرَبُ نفْسِي
…
وكِدتُ أشربُ خَدَّهْ
ولناصح الدين الأرَّجَانِيّ:
ورشَفْنا مُدامَ نظمٍ ونثره
…
مِن كئوسٍ تُذاقُ بالآذانِ
وقلتُ أنا:
نَرجِسُ الروض قد زَها لِعُيونِ
…
لا أرَى المشْيَ فيه للطُّرَّاقِ
قلتُ لمَّا أتيْتُه لخليلي
…
امْشِ يا صاحٍ فيه بالأحْداقِ
والشيءُ بالشيءِ يذكر، هذا في معنى قولي قديماً مُضمِّناً:
يا صاحِ إن وافَيْتَ روضةَ نَرْجسٍ
…
إيَّاك فيها المشْيَ فْهو مُحَّرَّمُ
حاكَت عُيونَ مُعذِّبِي بذُبولِها
…
ولأجْل عينِ ألفُ عينٍ تُكرَمُ
ولصاحب الترجمة من قصيدةٍ، مدح بها العلامة عَلِياَّ الحنَّائيّ، وعاتَبه على قطعِ مرتَّب له:
أن قطعَ السَّيِّدُ عن عبْدِه
…
ما كان قد رَتَّب من رِفْدِهِ
فالعبدُ لم يقطَعْ دُعاءَ له
…
رتَّبه كالجُزءِ من وِرْدِهِ
ولا ثناءَ حسَناً نَشْرُه
…
كالمِسْكِ والعنْبرِ في نَدِّهِ
أو كرياضٍ رَاضَها وَابِلٌ
…
فابْتسمَ اليانِعُ من وَرْدِهِ
وانتظَمتْ من نَشْرُ أزهَارِها
…
جواهرُ الأنْداءِ في عِقْدِهِ
وهْوَ غنيٌّ عن ثَناءِ إمْرئٍ
…
ظلَّ كَلِيلَ الذِّهنِ من فَقْدِهِ
إذ مهَّد الحقُّ له رُتْبةً
…
عظيمةً مُذْ كان في مَهْدِهِ
ونال ما شاءَ من المجدِ لا
…
بسَعْيِ إنْسانٍ ولا كَدِّهِ
فهْو عَلِيٌّ لا بمَدْح الوَرَى
…
له ولكن بسَناَ سَعْدِهِ
وإنما أَوْجبَ مدْحِي له
…
تتابُعُ النَّعماءِ من عِنْدِهِ
وما حَباهُ الحقُّ سبحانَه
…
من العُلا الزائدِ عن حَدِّهِ
والعلمُ والتَّحقيقُ والفهمُ والت
…
وفيقُ والتَّدقيقُ من قصْدِهِ
والشُّكرُ للمنعِم فرضٌ به
…
يأمَنُ ذُو الإيمانِ من طَرْدِهِ
وفيه لا شكَّ مَزِيدٌ لمن
…
لازَمَه والكلُّ من عنْدِهِ
هذا وإن العبدَ يْبغِي الرِّضا
…
في قُرْبِه الأقْرَبِ أو بُعْدِهِ
ومالَه في غيرِه رَغْبَةٌ
…
والعبدُ مَحْمُولٌ على قَصدِهِ
وليس ذَا حُزْنِ لما فاتَ مِن
…
دُنْياهُ مُذ سِيق إلى رُشْدِهِ
سِيَّانِ فَقْرٌ وِغِنًي عندَه
…
لما هُو المعهودُ من زُهْدِهِ
وما تصَدَّى لصَدَى آلةٍ
…
قبيحةٍ تُقْضِي إلى صَدَّهِ
سوِى لزُومِ البيْتِ مُستوحشاً
…
من الورَى حتى ذَوِى وُدِّهِ