الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المولى عبد الرحمن بن عِماد الدِّين الشَّامِيّ الْحَنَفيّ
وهو إذ ذاك مُفتِيها، وناشِرُ لواءِ الإفادة بنادِيها، ومُحي من رسومِ المدارس كلَّ دائِرٍ بها ودارِس.
إن جاد فجُودُة تَمِيمةً للعدم، أو وَعَد فوعْدُه للغِنَى سَلَم، مع صِدْق مقالٍ، تُعْقَد منه الأقوالُ بالأفعال.
إذا ذُكِر ما فيه من محاسِن الصِّفات، سجَدتْ له الخناصِر كأنه آياتُ سَجْدات، أو سُرِدَت نُعُوتُه فكلُّ نعتٍ مقطوع، وكلُّ وصفٍ تابِعٌ له، وهْو مَتْبوع.
وقد مُتِّعْتُ منه بما هو ألذُّ من نَيْل الوَطَر، وليس العَيان كالخَبَر، وهَبَّت عليَّ رِيحُ إقْبالِه قَبول وجَنُوب، وأطْربَتْني أنفاسُه والكريمُ طَروب، وصَرْفُ الزَّمان مغلولُ اليديْن، والزمانُ مُنقَادُ لجمْعِ الشَّمل، كأنه عليه دَيْن، فقِلْنا في ظِلِّه الظِّليل،
ولم نَرَ فيه نقْصاً سِوى أنه قليل، وناهِيكَ بطِيب عُنصُر لو رآه النَّظَّام أثْبتَ به الجوْهَر الفَرْد، مع لُطفِ طبعٍ هو شقِيق الروضِ المُخْجِلِ بلُطْفِه خَدَّ الورْد، وحُسنِ تقْريرٍ وتحْريرٍ يهتز طرباً له كلُّ غصنٍ نَضِير.
وبالجملة فهو في كلِّ كمالٍ مُفْرَد، مُستَغْنٍ عن التَّعريف بفضْلٍ له لا يُحَدّ، فإنه أصِيلُ عصْرِه، وعِمادُ دهرِه، كأنما عَناهُ مَن قال:
أرأيتُمْ في النَّاسِ ذاتَ لطيفٍ
…
يشرَحُ الصدرَ مثلَ ذاتِ العِمادِ
حَسبُها من لطافةٍ أنها لم
…
يخلُقِ الله مثْلَها في البلادِ
وقد دارتْ بيني وبينَه كئوس محاوراتٍ لها ثَغْر الحَبَاب باسِم، تُنْظَم منها في جِيد الآداب عُقودٌ لها بَنانُ البيان ناظِم، ولما قُوِّضَتْ خِيامُ المُقام، وَزُمَّتْ مطايا العزائم، كتبتُ له مُودِّعاً وشاكراً لما أفاضه عليَّ من سوابِغ المكارم قولي:
قسَماً بلُطفٍ مالكٍ لفُؤادِي
…
وبرَوضِ أُنْسٍ مُثْمرٍ لِودادِي
وبطَلعةٍ نزلَتْ لدى حرَمِ العُلا
…
وبسُدَّةٍ هي قِبْلةُ القُصَّادِ
أنِّى ارْتحَلْتُ وذكُركم أبداً على
…
طُولِ المَدى ماءِي النَّمِيرُ وزادِي
يا واحدَ الدُّنيا وبيتَ قصيدِها الزَّ
…
اهِي لدَى الإنْشاءِ والإنشادِ
يا ابنَ العِمادِ لأنت عُمْدةُ سادَةٍ
…
تُمتْاحُ في الإصْدارِ والإيرادِ
إرَماً غدَتْ أرْضُ الشَّآم لأنها
…
ذاتُ العِمادِ بكُمْ وأيّ عِمادِ
بل جَنَّةً فيها الثَّناءُ مُخَلَّدٌ
…
أتَرى لها بعد البِعادِ بعادِ
وحديثُ فضلِكمُ المُعَنْعَنُ مَجْدُه
…
أضْحى بأصْلِكَ عالِيَ الإسْنادِ
يُثْنى عليه رائحٌ أو غادِي
…
أبداً برغْمِ عشِيرةٍ أوْغادِ
واسْلَمْ ودمْ في عِزَّةٍ أيَّامُها
…
لِلِقائِه لبِستْ حُلَى الأعْيادِ
وبعد هذا الفصل: مولايَ، هذه نَفْثَةُ مصدُور، وغُلالةُ صُادٍ لولاك لم تُرْوَ بها الصُّدور، وبَدِيهَةُ غرِيبٍ من الأوطان والأحِبَّة مهْجُور، والطَّبع وإن كان في حَلْبتِه جَواد، فقد يكْبُو الجَواد، وقد يبْخل الجوَاد، ولكنَّني أقول كما قال ابن عَبَّاد:
أما لولاكَ ما رأتْنِي القَوافِي
…
في وِهادٍ من أرْضِها ونِجَادِ
إن خَيْرُ المُدَّاحٍ مَن مَدحَتْهُ
…
شعراءُ البلادِ في كلِّ نادِ
والسلام.
فأجاب:
هذِي درَارٍ نُورُها لِيَ هادِي
…
وشِهابُها رُجُمٌ على الأضْدادِ
أم رَوْضةٌ بسَمتْ ثغورُ زهورِها
…
أم حُلَّةٌ وْشِيتْ من الأبْرادِ
أم تلك أبياتٌ البِناَ
…
رُفِعتْ على عُمْدٍ رَفَعْنَ عِمادِي
بُنِيتْ بأيْدِي فِكْرِ قُسِّ خفَاجةٍ
…
تبَّت أيادِي فكرِ قُسِّ إيادِ
مولايَ يا فرْدَ الوجودِ فضائلاً
…
وشمائلاً يا أوْحدَ الآحادِ
قد كنتُ أسمعُ عن فضائِلِك التي
…
شنَّفْنَنِي من حاضرٍ أو بادَ
ولطالَما قد كنتُ أرجو المُلْتَقَى
…
وتُبَعِّد الآمالُ طولَ بِعادِي
حتى شهِدتُ جمالَكم فلِمِحْنتِي
…
جذَبتْ محبَّتُكم شِغافَ فُؤادِي
ودَنا الرَّحيلُ مُخِّلفاً قلبي لكمْ
…
وَقْفاً على الاتْهامِ والإنْجادِ
سِرْ بالهَنَا أمَّا خَيالُ كمالِكمْ
…
فهو السَّمِيرٌ لُمهْجتِي في النَّادي
واسْلَم ولا تَنْسَ العِمادِي إنه
…
لَيْعِّللُ الأحْشا بقُرْبِ بِعادِ
ومما أنشدني قولُه:
سأطْمِسُ آثاراً هَوايَ أثارَها
…
وأنفُضُ من ذَيْلِ التَّصابي غُبارَهَا
لقد آن صَحْوِي من سُلافِ صَبابةٍ
…
لقد طال ما خاَمرْتُ جَهْلاً خُمارَهاَ
هجْرتُ الهوى والزَّهْوَ حتى اشْتياقَه
…
وطيبَ لياليِ الَّلهْوِ حتى ادِّكَارَهاَ
وعفَّيْتُ سُبْلَ الهَزل بالجدِّ مُقلِعاً
…
وعِفْتُ مَسرَّاتٍ جنَيْتُ ثِمارَهاَ
أَثامٍ كُفِيتُ اليومَ بالتَّزكِ شرَّها
…
لعلَّي غداً في الحشرِ أكْفَى شَرارَهاَ
قَطَفْتُ أزاهيرَ الصَّبابةِ في الصِّبا
…
وقد صار عاراً أن أَشُمَّ عَرارَهاَ
فلو صائداتُ القلبِ أقْبَلْنَ كالْمَهاَ
…
وقبَّلْنَ رأسِي ما قِبلْتُ مَزارَهاَ
وقد كنتُ أوْدَعتُ الحِجاَ فاسْتَردَّهُ
…
إلى النَّفسِ شَيْبٌ قد أعاد وَقَارَها
وكان شَبابي شَبَّ نارَ صَبابتي
…
فمُذْ لاحَ نُورُ الشَّيْبِ أخمدَ نارَهاَ
تُرَى شيْبَتي ما عُذْرُها لشَبيبتَي
…
وقد صَبَغتْ قبل الكمالِ عِذارَهاَ
تبسَّمَ ثَغْرُ الشِّعرِ فيها تعجُّباً
…
لها إذْ رَأَى ليلَ السّبَالِ نهارَهاَ
فما زار وكْرَ الشّعر فيها غُرابُه
…
ولا دارَ حتى اسْتوطَن البازُ دارَهاَ
عسى الآن عمَّا قد عَثُرْتُ إنابَهٌ
…
يُقيلُ بها للنفسِ ربيِّ عِثارَهاَ
عسى رَحْمةٌ أو نَظْرةٌ أو عِنايةٌ
…
يَتِمٌ سُعوِدي في صُعودِ مناَرهَا
عسى نَفحةٌ من نُورِ نُورِ معارفٍ
…
تَهُبُّ فتَختارُ الفؤادَ قَرارَهاَ
ويشرحُ صدْرِي نورُ علم مُقدَّسٍ
…
يُرِينيَ أسرارَ العلومِ جهارَهاَ
وأُمْنح ألْطافاً من الانسِ أبْتَغِي
…
خَفاَها ويأَبْى إلا اشْتِهارَهاَ
وتُكْشَف عن عْينِ البصيرةِ حجْبُهاَ
…
بأنْوارِ عِرفانِ تُزِيل اسْتِتارَهاَ
فَيظهرُ لي سِرُّ الحقيقةِ مُسرِقاً
…
على ظُلَمِ الكون التي قد أنارَها
وأحْظَى بحالاتٍ من القُرْبِ أكْتَسِي
…
بدُنيا وأُخْرى فضْلَها وفَخارَهاَ
ولُطْفُ إلهي قُطًبُ دائرِة المُنَى
…
فإنَّ عليه في العطاءِ مَدارَهاَ
وقال قُبَيل موتِه، رحمة الله:
قد شابَ فَوْدِيَ حين شابَ فؤادِي
…
فكأنما كاناَ على مِيعادِ
حُسْنَ الخواتِم أرتْجي من مُحْسِنٍ
…
قد مَنَّ لي قِدْماً بحُسْنِ مَبادِي
وعِمادِيَ التَّوحيدُ فهْوَ وَسِيلتي
…
في نَيْلِ ما أرْجُوه عند مَعادِي
إن قيلَ أيُّ سفينةٍ تَجْري بلَا
…
ماءٍ وليس لأهلها مِن زَادِ
قُلْ رَحمْةُ الرحمن مَن أنا عَبْدُهُ
…
تَسَعُ العبادَ فَمَن هو ابنُ عِمادِ
وكتب إليَّ وهو مريض، وقد سمع بعَوْدِي لمصر، ولم يلبَثْ بعدَه إلا قليلا، ما صورتُه:
أسْعَد الله تعالى طالِعَ مصر وما حولها من الأبصار، وأنجَد هذا العصرَ وما يلِيه
من الأعصار، وأبَّد عِزَّة العلومِ وأهْلِيها، وأيَّد دولَة الفضائل وطالبِيها، بدَوام سعادِة أيام عيْنِ أهلِ المعارفِ والمعالي، ووَاسِطة عِقْدهم الغالي، ونادِرةِ فلكِهم العالي، الذي هو صدْر العلماء وبَدْرُهم، ومَن يدور عليه أمرُهم، فكأنهم فلَكٌ هو قُطْبُه، أو جسد هو رُوحُه وقلبُه، علَاّمة العلومِ والمعارِف، وروضةُ الأدب الوَرِيقةِ وظِلُّها الوارِف، شمسُ عصْرِه، وعُزِيز مِصْرِه، جامع المزايَا والمناقِب، شهابُ الفضلِ الثاقبِ.
أُهدِي إلى حضرته العليِّة تُحَفَ التَّحِيّة، وطُرَف الأدْعية المرْضِيَّة.
وأُنْهى إليه شِكايةَ نِكايةِ الشَّوق، واسْتِطالةَ سُلطانِه، ومَدَّ مُدَّةِ البَيْن واسْتطالةَ زمانِه.
وأُهنِّيه برُتْبة الرِّياسة العِلْميّة، التي بعضُ صفاتِها ولايةُ مصر المحمية، جُزْءٌ من آلائِها وآلاتِها، حيث أتَتْ تسْعَى إليه، ومدَّ بالأمر الشَّريف رُواقَها عليه، على أن المولى أنْوَهُ قَدْراً، وأنْبهُ شأناً وذكراً، من أن يُهَنَّى بولايةٍ، وإن أمِرَ أمْرُها، وعلا بين أهل العُلا قدرُها.
ومنصِبُ مصر وإن عظُم موقعُه، فالمولى بحمْدِ الله وتعالى يرفعُه والمنصِب لا يرفُعه، وما شَرَفُه المؤثَّل المعلوم، إلا بفُنون الفضائلِ والعلوم.
وحين بلغنا وصولُه بالسَّلامة بتيْسِير المُيَسِّر، عجبْنا كيف رِكب البحرُ البحرَ، وسلك البَرَّ البَرَّ، وقلنا عاد قُسٌّ إلى عُكَاظِه، وقلنا عاد قيْسٌّ بحِفاظِه.
ولقد أحسن مولانا السلطان، إذ أنام الأنامَ في حِرْزِ العدل والأمان، بنَصْب فيْصَلِ حُكْمِه، وحُسام قضائه؛ لحَسْم مادَّة الظلم وانْتِضائِه، فتحَ بذلك باب دَوْلة العرب، ورَواج بضاعة العلم والفضْل والأدب، فخلَّد اللهُ دولةَ سعادتِه مدَى اللَّيالي والأيام، ونظَم أعوامَ مُدَّةِ سَلْطنتِه في سِلْك التَّأبِيد والدَّوام.
ونسأل الله لحضرتِكُم طول البقاءِ، ودَوام العزِّ والارْتقاء.